رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والرابع و الخمسون
لم تبد سيرين بصمت يائس كأنها قطعة حرير واستسلمت لرياح لا تهدأ. وصلت إلى قاع الصبر وقررت أن تصمت كي لا تكسر.
أقول لك هذا
لكن صوته لم يبلغها... لم يكن سوى صدى بعيد كأن العالم من حولها تحول إلى فيلم صامت... كانت نظرتها زجاجية تائهة في بعد آخر لا يرى فيه ظافر إلا صورة باهتة من ماضيه.
حمدت ربها أنها لا تسمعه لأنها لا تريد. فكان الصمت في هذه اللحظة نعمة كمن يغمض عينيه بغير إرادته مرحبا لئلا يرى الحقيقة.
كرر ظافر سؤاله لكن خيبة الصدى جعلته يدرك الحقيقة المروعة... لم تكن تتجاهله... لقد... فقدت سمعها.
في لحظة من فقدان السيطرة التي كان قد حل وثاقه من هول ما يرى ثم همس بارتباك يكسوه رجاء مبطن
هل لديك دواء شيء تضعينه في أذنك!
لكنها لم تجب... لم ترتجف.. لم تهز رأسها فقط ظلت جامدة كتمثال من رماد... حينها أدرك أن عليه التصرف... فانطلق بها إلى المستشفى وقلبه يرتجف كمن يحاول إنقاذ امرأة يغرق فيها لا معها.
في غرفة الطوارئ غمر السكون جدران المكان ولم يكسره سوى خروج الطبيب
سمعها... لم يعد يعمل.
في داخل الغرفة لم تنطق سيرين بحرف... لم تبك... فقط جلست هناك وعيناها تحدقان في الفراغ كأنها تسمع صراخا قادما من الداخل لا من العالم الخارجي... كذا لم تشعر بوجوده عندما امتدت يده تدير مقبض الباب بقلب مكلوم فوجدها شاردة تحرك ببطئ متوجس يعد لها كوب ماء ووضع فيه الدواء.
.. واقترب منها بحذر يناولها الكأس فلم تتحرك.
حينها أخرج هاتفه وكتب على الشاشة
تناولي الدواء!
رفع الجهاز أمام وجهها فقرأت... فرمشت عينها... ثم شحب وجهها... إذ كانت تلك الكلمات كتذكرة عبور إلى زمن بعيد زمن لم يكن فيه سوى الطفلة الصغيرة التي انهارت وتنمر بعض الأصدقاء وسقطت حينها أذناها في صمت مرعب فلم تجد صوتا يطمئنها سوى رسالة مكتوبة على هاتف صغير من طفل واحد فقط... كان اسمه ظافر.
رفعت نظرها إليه... هو... هو نفس الوجه لكن الروح التي كانت تضيئه اختفت تحول من فتى دافئ إلى رجل تائه بين الغضب والندم والذنب.
وحدها سيرين أدركت الحقيقة أن بعض الندوب لا تشفى... وبعض الصمت... لا يكون اختيارا.
خير بين أن يبقى ساكنا أو يهرب على حافة الجفاف وهمست بصوت خفيض كأنه يصدر من قلبها لا من حلقها
لا بأس... مرت سنوات طويلة... الدواء لن يجدي نفعا الآن. لم يكن الألم ظاهرا لكنه كان حقيقيا ساكنا يحرق داخله كما تفعل الذكرى حين تهجم دون استئذان.
أمسك الهاتف وكتب بإلحاح يحاول أن يخفي ارتباكه
من قال لك إن الدواء لن يجدي نفعا!
رفعت نظرها إليه بعينين مطفأتين من فرط الانتظار ثم تمتمت دون تردد
الطبيب...
كان اسم الطبيب في تلك اللحظة كختم نهائي على الندم لكن ظافر لم يشأ أن يعترف بالهزيمة... لم يشأ أن يستمر في الحديث عبر شاشة باردة وبدلا من ذلك مد يده بكوب الماء وضغطه برفق كما لو أنه يجبرها على بلع
الحياة من جديد حتى وإن لم ترد.
كانت طريقته حادة لا تشبهه... أو بالأحرى لا تشبه من كان عليه في تلك الليلة التي اختنق فيها الزمن وتوقفت فيه الحياة.
تلك الليلة... حين تعطلت سيارتهما وسط اللاشيء وانقلبت عجلة العالم رأسا على عقب حيث جلسا معا داخل المركبة وبينما كانت ترتجف كطفلة ضائعة في حقل من الخوف كتب لها على هاتفه ليبدد هلعها كلمة بكلمة حتى نامت بين الحروف كما ينام طائر في الحرف الأول من كلمة أمان.
أما الآن... فهي نفس اليد لكن مبللة بالتوتر... نفس العيون لكنها مثقلة بالعتاب.
أخذت سيرين الماء ببطء كمن يعرف أن لا جدوى لكنها تشرب لتكذب ضعفها... ثم ارتشفت الماء كله دفعة واحدة كأنها تبتلع ألما لا دواء ثم استدارت في السرير لتدير له ظهرها دون كلام... دون حتى إيماءة.
أما ظافر فقد تراجع إلى الشرفة كمن يهرب من نفسه.. وكل نفس يسحبه كان بمثابة محاولة لإخماد شيء لا يطفأ في صدره... وفجأة قد تسلل السكون إلى الغرفة كقط خائف وتملكت اللحظة رهبة ما بعد العاصفة.
في هذه الأثناء كانت سيرين قد غفت أو على الأرجح هربت من الواقع إلى اللاوعي... لكن نومها لم يكن ملاذا بل امتدادا للكوابيس.
رأت نفسها داخل سيارة وحدها... المقود بين يديها والهواء من حولها كثيف ثقيل كالحزن كالذنب.
كانت السيارة تندفع نحو شيء لا يرى لكنها لم تستطع التوقف... ظلت تصرخ تصرخ دون صوت وكأن أذنيها لا تسمعان ولسانها لا يترجم
الرعب. تضيق الخناق شيئا فشيئا
وصوت بعيد مألوف
يتمتم باسمها مرارا...
لكنه لا يصل.
استيقظت بفزع.. تفرج عن أجفانها بتثاقل كأنها تفتح نافذة تؤدي إلى عالم كانت تهرب منه ثم التفتت برأسها ببطء لتصطدم عيناها بوجه مألوف كظل تسلل دون استئذان... كان ظافر هناك وملامحه الهادئة تخفي صخبا ما لكنها لم تتذكر متى أتى... وكيف وصل
همس بصوت منخفض يقطر قلقا
هل تسمعينني الآن
عبست سيرين تغلف وجهها بنقاب من اللامبالاة وتظاهرت بأنها لم تسمع... ولم تفهم... ولم تع شيئا... لما لم يجبه
ماذا سأفعل بك
بعد صمت طويل كانت الدقائق فيه كشبح هائم يمشي حافيا فوق جرحها وسألته بصوت خافت ناعم كرماد
هل تعرف أي يوم هو اليوم
سؤالها .. فقد أرادت أن تختبر ذاكرته... أن ترى إن كان ما يهمها يهمه.
ألقى ظافر نظرة مشوشة نحوها كأن ذهنه يتوه بين الساعات ولكنه لم يحصل شيئا وارتسمت الدهشة على ملامح وجهه متسائلا... ما أهمية التاسع من يوليو ومن ثم قال ببطء متوجس
ما الأمر
مر السؤال كرمح مصقول في صدرها... لا شيء... لا تذكار... ولا أثر... ولا تاريخ محفور في ذاكرته سوى ما يخص مواعيد عمله وجداول سلطته... هو لم يفهم... ولن يفهم أبدا.
ابتلعت مرارتها وتكورت على نفسها مثل ورقة ذابلة في مهب رياح باردة تقول بخيبة
لا شيء... كنت أسأل فقط. فهو لم يعد يعرف كيف يقرؤها.. ولكنه يشعر ببعدها بل أبعد ما تكون كأنها تسير في الاتجاه المعاكس على
جسر واحد يجمعهما لكنه ينهار بينهما حجرا... بعد حجر.