رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والخامس و الخمسون
تحت ضوء القمر الخافت الذي بدا وكأنه شاهد صامت على ما تبقى من الحب وقفت سيرين تحدق في ملامح الرجل الذي احتل نصف عمرها واحتكر كل ما تبقى من قلبها.
صوتها خرج ضعيفا مهتزا كأن الحروف كانت تنتزع من حنجرتها ببطء مؤلم
سيد ظافر... ألم يكن بيننا اتفاق
كلماتها لم تكن مجرد سؤال بل كانت صفعة ناعمة محملة بالخذلان كأنها استحضرت كل الوعود القديمة ونثرتها بينهما كأشلاء ذكرى.
تجمدت يد ظافر وكأنها تحاول احتواء ارتجافها... عيناه تلاقتا بعينيها الصافيتين كعيني طفلة لكن خلف صفائهما كان هناك إعصار صامت واستعداد للبكاء عند أول ذرة وجع.
لحظة... فقط لحظة واحدة كانت كفيلة بأن تغير كل شيء.
لم يفهم ما الذي اجتاح قلبه لكنه شعر بمرارة تحترق في عمقه مرارة أشبه بابتلاع رماد وعد لم يوف به.
سحب يده التي خذلته ببطء ثم نهض من السرير كمن يهرب من نفسه... وغادر الغرفة دون أن يلتفت.
خارج الغرفة وقف كجدار مهمل يحاول أن يزيح عن ذاكرته نظرتها الأخيرة... تلك النظرة التي لم تكن له وحده بل كانت للعمر الذي ضاع دون معنى.
جلس في سيارته يشعل سيجارة ونفث دخانها لأعلى كأنما يحاول إخراج كل ما يؤلمه من صدره... ثم أمسك هاتفه واتصل بماهر وتسائل بصوت مثقل بالشرود
ما هو اليوم
كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل... ماهر الذي استيقظ على رنين غريب تلعثم قليلا من وقع السؤال نظر إلى الساعة بارتباك ثم هم بتفقد جدول اليوم... لم يكن هناك ما يستدعي القلق لا صفقات ولا اجتماعات ولا مناسبات تذكر..
. إذا لم يتصل رب عمله في هذا التوقيت! لكن عينه سقطت على شاشة الحاسوب وتوقف الزمن للحظة.
عيد ميلاد سيرين.
عيناه اتسعتا بدهشة وكأن الذكرى صفعت الذاكرة ومن ثم سارع بالاتصال مجددا بظافر الذي أغلق المكالمة بوجهه عندما لم يأته الرد السريع وقال ماهر بنبرة متقطعة
س.. سيد ظافر... إنه عيد ميلاد السيدة تهامي.
ذاكرة مهترئة تلك التي لا تحفظ تاريخ امرأة مثل سيرين... ولولا أن ماهر كان قد دون كل شيء بدقة حتى زواج ظافر منها لما أدرك تلك الليلة أهميتها.
ظافر لم يقل شيئا... لم ينبس بحرف... صمته كان أكثر فتكا من أي رد... هو لم يتذكر عيد ميلادها... وهذا وحده كان كافيا لفهم غضبها وصمتها وجمودها... وكأن العالم كله كان يعيد تشكيل الأحداث ليلا حتى عودة كارم لم تكن مصادفة... وهذا ما كاد أن يمزق أحشاءه غيرة وسخط من هذا الكارم الذي حضر ليشارك امرأة ظافر نصران ذكرى ميلادها.. تمتم ظافر من بين شفاهه المزمومة يقول بغل هامسا وهو يضرب على المقود بكلا قبضتيه في غضب مكتوم
اللعنة عليك يا كارم.
قطع ماهر الصمت المتجمد بسؤال مرتبك
هل ترغب أن أحضر هدية سيدي
لم يفق ظافر إلا حين لسعته السيجارة حتى أطراف أصابعه فقذفها بلا مبالاة وأجاب بهدوء مميت
لا بأس.
ثم أغلق الهاتف... ولم يتحرك من مقعده بل ظل جالسا هناك في قلب العتمة والسيارة تحولت إلى زنزانة من الذكريات
بينما دخان السيجارة الأخيرة ظل يتلوى حوله كأنه شبح يؤنسه في ليل حالك.
في صباح خجول أطل ظافر برأسه من خلف زجاج الغرفة حيث تشقق الضوء على
أرضية المشفى وكأنه يبحث عن أمل ضائع.
أتى الطرق خفيفا أشبه بنداء قدر يستأذن الدخول... فرفعت سيرين عينيها فوجدت ظافر واقفا أمام الباب تقف في عينيه كلمات كثيرة لم يقلها ويغص قلبه بما لا يمكن نطقه.
اقترب منها بخطوات رزينة وقال بصوت هادئ يحمل دفءا يحاول تغليف صقيع الداخل
هيا بنا أرغب في أخذك إلى مكان ما.
نظرت إليه بدهشة خفيفة حائرة كأن عقلها يبحث عن خريطة لنبرة صوته.
إلى أين سألت وعيناها تنبش في ملامحه كما لو كانت تحاول قراءة النوايا بين سطور وجهه.
ابتسم ابتسامة مشوبة بشيء من الغموض وقال
لطالما أردت لقاء ابنك أليس كذلك
كأن شرارة من الأمل لمعت في أعماق عينيها المنهكتين ولكنها شرارة تصطدم بجدار المرارة... حاولت أن
تشكره ولكن الكلمات تهاوت على لسانها وتعثرت
شكرا لك
لكن قلبها ذاك الذي مزقه من قبل لم يسعفها على إتمام الجملة فهو ذاته من أخذ نوح ذات يوم.
قال بهدوء بارد كأن الأمر لا يعنيه
لا تذكري ذلك.
كلامه كان كصفعة مغلفة بالهدوء كأنه يذكرها بأنه لا يندم أو لا يعترف بالندم.
انطلقت السيارة... ولكن الرحلة بدت أقل توترا عن ذي قبل كأن شيئا ما تغير أو مات.
وفي الجهة الأخرى من المدينة
في أحد أجنحة قصر الغابة كان نوح يعيش حياة مريحة
طعام منتظم رعاية فائقة ولكن
الحنين لا يسكت بجدران ذهبية.
كان الطفل الصغير يتكئ على نافذته يعد الغيمات ويمحوها بخياله ثم التفت نحو مربيته وسأل بصوت ناعم مملوء بالفضول
آنسة وسام متى سيعود السيد ظافر لزيارتي
رمشت
وسام ببطء كأن السؤال أعادها إلى توترها الداخلي... فمنذ الزيارة الأخيرة وما خلفته من فوضى لم تعد تثق بأن هذا اللقاء سيتكرر قريبا.. فأجابته بابتسامة مجهدة
أخشى أنني لا أعلم يا نوح.
تنهد نوح بصوت يحمل مزيجا من الملل والبراءة
هل يمكنني الاتصال بالسيد ظافر
ثم أردف وهو ينظر إلى طبقه الممتلئ دون رغبة يتمتم بصوت غير مسموع يخفي حس المؤامرة بداخله
تناول الطعام كل يوم أصبح أمرا مملا أريد أن أعبث قليلا مع أبي اللقيط...
تصلبت وسام للحظة وارتبك وجهها...
ليس لدي إذن بالتواصل معه. ثم أضافت بلغة مبسطة
في الحقيقة... لا أملك رقمه أصلا.
قال نوح بدهاء طفولي وهو يمثل أنه فهم لتوه
أوه! سأطلب رقمه في المرة القادمة ويمكنك حفظه حينها ما رأيك
رقم ظافر
حينما ورد اسمه في ذهن وسام تفتحت أمامها أحلام كانت نائمة لمجرد أن تذكرت وجهه الساحر وثروته الطائلة.
كأنها وجدت مفتاح الفردوس.
قالت وسام بسعادة عارمة
هل يمكنك فعل ذلك حقا
وفي داخلها كانت تبني قصرا كاملا باسمها
وسام نصران زوجة الرئيس التنفيذي.
لكن نوح الذي لمح بحدسه البريء شرارة الطمع قرر أن ينفجر بقنبلته الخاصة وقال بهدوء متعمد
آنسة وسام لدي سر هل تريدين معرفته
انحنت وسام وابتلعت ريقها بشوق
بالطبع! ما هو
قال نوح بجدية ساحقة
السيد ظافر لا يهتم بالنساء.
تجمدت وسام في مكانها وفتحت عينيها كما لو أنها صعقت.
كأن حلمها قد انهار فجأة تحت وطأة صدمة
لا تصدقها.
كادت تقع لا من الصدمة فقط بل من وهم بنت عليه كل شيء.