رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والسادس و الخمسون
لم تصدق وسام ما سمعته... وأخذت حدقت في وجه نوح بدهشة كأنما الكلمات التي نطق بها كانت شبحا مر أمامها فجأة.
همست وسام بشك خافت وقد تراقصت الحروف
حقا...
أومأ نوح برأسه وملامحه غارقة في ضباب غامض كمن يحمل في صدره أكثر مما يفصح عنه... وقال بصوت خفيض كالماء المنحدر من صخرة عالية
لم تظنين أن السيد ظافر
تذبذبت أنفاس وسام... ففي عالمهم في ذلك المجتمع الذي يتنفس التكبر كما يتنفس الهواء كان غريبا بل وشبه مستحيل لذا بدا لها سؤال نوح كصفعة من المنطق.
تنهدت وسام ثم ابتسمت ابتسامة باهتة تميل للإعجاب ولكنها مشوبة بخيبة الأمل تقول
نوح... عزيزي يبدو أنك تعرف أكثر مما تبوح به.
ضحك الاثنان بخفة ضحكة عابرة كنسمة في أول الخريف غافلين عن الزمن... غافلين عن أن من تسكن ذكريات
قبل وقت لاحق كانت سيرين تراقب الطريق بعينيها تنقش تفاصيله في ذاكرتها كأنها تخشى أن تمحى... تجلس بجواره لكن عقلها يسبق خطواتها وعندما لمح ظافر تركيزها لم ينبس ببنت شفة... فقط اكتفى بمراقبتها بصمت كأنما يختبر مقدار ما تستطيع الاحتفاظ به من تفاصيل... فهو يعلم... حتى لو حفرت سيرين الطريق في ذهنها
فلن تنجح في اقتلاع نوح من قبضته.
وما إن توقفت السيارة
في تلك اللحظة وصل الخبر إلى وسام
ظافر وصل.. فلم تتردد وسام وأخبرت نوح على الفور.
توقف قلب نوح لوهلة إذ تدفقت صورة دينا إلى ذهنه تلك المرأة التي لم يرها سوى على الشاشات والتي حفرها الإعلام في وعيه كشبح بعيد... فقد ظن بل كان متأكدا أن تلك القادمة لا يمكن أن تكون سواها.
لكن الباب فتح... ولم تدخل دينا... بل دخلت هي... سيرين... أمه.
تجمدت اللحظة وكأن الزمن ذاته توقف ليمنح الطفل لحظة إدراك.
تسمرت نظرات نوح وغامت عيناه بدموع لم يعرف لها طعما منذ جاؤوا به إلى هذا المكان. وهمس صوت خرج من أعماق أعماقه كأنه يستخرج من سنين من الحزن
أمي...
وفي اللحظة التالية هرعت سيرين نحوه
قالت سيرين بصوت خنقته الدموع
نوح!
بادلها نوح العناق بحرارة الفقد يقول بصوت مختنق بالعبرات
أمي... لقد افتقدتك كثيرا!
وأنا... أنا افتقدتك أكثر مما تتخيل... ... فقط أم وولدها يعيدان بناء قلعة من رماد الحنين.
على الجانب الآخر من الغرفة كانت وسام تحدق بدهشة صامتة في المرأة التي وقفت كطيف خرج من قصص الخيال إذ لم يخطر ببالها للحظة
أن تلك السيدة الفاتنة ذات الملامح التي تنحتها الدهشة هي والدة نوح...
كيف يكون الطفل بهذا الاتزان والتهذيب وتلك الوسامة ثم تأتي أمه فتبدو وكأنها النسخة الأبهى منه كأنها الأصل الذي خرجت منه روحه!
أما عن ظافر فقد تسمر عند الباب لا يتحرك لا يتنفس كأنما عقارب الزمن قد فقدت قدرتها على التحرك... عيناه كانتا ترصدان اللقاء كمن يشاهد حلما لم يعرف أكان يتمناه أم يخشاه.
ثم بصوته المجرد من العاطفة أمر وسام بهدوء
دعيهما بمفردهما.
أطاعت وسام دون تردد وخرجت تغلق خلفها بابا ثقيلا بدا وكأنه يحبس العالم خلفه... والآن أصبحت الغرفة تنبض بهما وحدهما
سيرين ونوح... أم وولد وقلبان تكسرا مرارا وأمل يرمم ما أفسدته السنوات.
جلست سيرين أمام ابنها تحدق فيه كما لو كانت تحاول أن تحفظ ملامحه من جديد كأنها تخشى أن يستيقظ هذا اللقاء ويذوب.
أمسكت بذراعه الصغيرة عينيه لون وجهه كل ما طرأ عليه من غياب
هل شعرت بالمرض مؤخرا همست بصوت مرتجف كأنها تخشى أن تسمع الإجابة.
هز نوح رأسه بابتسامة خفيفة لكن عينيه لم تضحكا
أنا بخير يا أمي... أعيش هنا في راحة تامة.
ثم خفض صوته وكأنه يريد أن ينقل
سرا من عالم آخر وقال بابتسامة خبيثة تخفي ألما
لكن دعيني أخبرك شيئا... السيد ظافر رجل أحمق حقيقي... فهو يعطيني كل ما أطلب
اتسعت عينا سيرين وتجمدت ملامحها.
نوح! ماذا تقول ما الذي حدث بالضبط
نظر إليها نوح وتلك الطفولة التي تحاول أن تتشبث بالقوة انهارت في نظراته... وبدأ يروي... لا بل يفرغ قلبه يرسم المشهد كما رآه
كيف أرعبه ظافر بنظراته الجامدة وبصمته المخيف وكيف شعر ببراءته... بخوفه.
لقد أخافني وأنني لن أراك مجددا يا أمي... كنت مذعورا
أمي اشتقت إليك كثيرا وكنت خائف جدا عليك...
بقلب ينوح بعينين تنسكب منهما الحسرة على كل ثانية ضاعت منه.
لقد عرفت ذلك الخوف... عرفت كيف يكون نوح هشا من الداخل رغم مظهره الذكي الراسخ.
طفلها... طفلها الذي اعتاد كتم الرعب
لم تستطع تخيل وحدته ولا تلك الليالي التي تاه فيها في بيت بارد لا يعرف ملامحه ولا نوايا من احتجزه.
همست
لا بأس يا صغيري... السيد ظافر معجب بك ولذلك أحضرك إلى هنا لتلعب... سأعيدك إلى البيت عما قريب.
لكنها كذبت... كانت تعلم أنها تكذب... لم تكن تملك أي خطة لكنها لم تعرف أن ذكاء نوح . قال
فجأة بجدية غير متوقعة
أنا خائف منه...