رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والسابع و الخمسون 157 بقلم اسماء حميدة

    



 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والسابع و الخمسون



لاحظ **نوح** أن ملامح والدته لا تشبه تلك التي عرفها قبل دقائق...
كانت تحدّق في الفراغ كأن عقلها يحلّق في سماءٍ لا يطولها وعيناها تسبحان في بُعدٍ آخر... فاقترب منها وقد أشرقت في صوته حنيةٌ أكبر من عمره وهمس وهو يمدّ إصبعه إلى خدّه:

— «أمّي... هل نسيتِ شيئًا؟»

انتفضت **سيرين** من شرودها وقد أعاد نداءه لها نبض القلب بعد تيهٍ لحظي.

— «ماذا؟» تمتمت وعقلها لا يزال في مكانٍ آخر.

ابتسم نوح بخبثٍ طفولي وأشار إلى خدّه مجدداً يقول بنفاذ صبر مصطنع:

— «القبلة.»

ضحكت سيرين بخفةٍ بها شجنٌ دفين ثم انحنت عليه وزرعت قبلة دافئة على خده كأنّها تختم بها وعدًا أبدياً بالعودة، كأنّها تترك شيئًا منها ليسكن فيه حتى اللقاء القادم.

سألته بحنانٍ يذيب الصخور:

— «هل كلُّ شيءٍ بخير الآن؟»

أومأ نوح وهو يُطلق صوتًا خافتًا من الرضا:

— «مممم!»

في تلك اللحظة غمرها شعورٌ غريب... كما لو أن نوح قد أضاء داخِلها بقنديلٍ دافئ فأنار ظلمةً كانت قد استوطنت قلبها منذ زمن... أحسّت بدفءٍ لم تشعر به حتى حين كانت تُرضعه

وكأنّ هذا اللقاء محى عنها غبار الغياب واستخرج من قلبها تنهيدةً قديمة لم يُفسح لها الزمن من قبل.
مرّت الساعات بينهما كأنّ الزمن اختلسها من أعين الجميع، دقائق تنسلّ كالماء بين الأصابع لكنها تُغرق القلب في سعادةٍ مؤقتة.

وحين اقتربت الشمس من الزوال وأخذت الظلال تتمدد كأنّها تجرّ الوقت معها بدأت **سيرين** تذكّر **نوح** بأشياء مختلفة، توصيه وتهمس له وكل كلمة منها كتعويذة حماية... الغريب هذه المرة أن نوح لم يُبدِ اعتراضًا... لم يصرخ... لم يُلقِ بنفسه أرضًا كما كان يفعل... لم يُعلن تمرّده الصغير الذي اعتادته سيرين كلما همّت بالمغادرة... ففي السابق كان البُكاء وسيلته الوحيدة لمقاومة الرحيل... كان يُمسك بثيابها كأنّه يُمسك بآخر حبل يربطه بالعالم... وكانت تقضي وقتًا طويلًا في تهدئته وإقناعه وتبرير غيابها.

لكن اليوم... بدا كأنه كبر فجأة، كأنّه أصبح يحفظ في صدره وجع الفقد فاختار أن يصمت حتى لا يزيدها مرارة.

جلست سيرين في السيارة بصمتٍ ثقيل... لم تنطق... فقط كانت تحدّق في مرآة الرؤية الخلفية كأنّها

تأبى أن تسمح لعينيها بأن تُفلت ملامحه... تراقب القصر يتلاشى تدريجيًا حجرًا حجرًا، ظلًا ظلًا، حتى لم يبقَ منه شيء... وفقط عندما اختفى تمامًا أنزلت عينيها... كمن فقد شيئًا مقدسًا خلفه.
بقى **ظافر** جالسًا إلى جوارها وبينهما صمتٌ كثيف كالغبار الذي يتراكم على رفوف النسيان.

كان ينوي الحديث... أن يُخبرها بشيء أن يتسلل إلى داخلها بكلمة خفيفة تبدأ من عند "عيد ميلادها" وتنتهي إلى ما لا يُقال... لكنه لم يفعل... بل بلع الكلام كمن يبتلع غصّة وتظاهر بالبساطة، قائلاً وهو يتحمحم:

— «ماذا ترغبين أن نتناول لاحقًا؟» سألها بصوت مكسوٍّ بطبقة خفيفة من اللامبالاة المدروسة.

رفعت رأسها إليه، وعيناها خاملتان كأنّ الشهية فارقتهما منذ زمن:

— «لا شيء... كل شيء بخير.»

لكن لا شيء كان بخير... كانت تجلس بجسَد، وقلبها لا يزال هناك عند بوابة القصر التي غادرته منذ لحظات حيث ودّعت جزءًا من روحها يُدعى **نوح**.

قال ظافر كمن يُنقذ الموقف من الانهيار:

— «سنتناول شيئًا على أي حال.»

ثم أدار وجهه إلى السائق وأمره أن يأخذهما

إلى مطعمٍ اعتاد ارتياده... مكان يعرفه جيدًا يحفظ فيه تفاصيل كثيرة عن وحدته وربما كان يتوهّم أنّه مناسب لهذا اليوم.
لكن الطاولة لم تحمل إلا الصمت.

**سيرين** لم تأكل... كانت تحدّق في الطعام كما لو أنه طيفٌ غريب لا ينتمي إلى هذا الزمن حتى **ظافر** رغم محاولاته بدا كمن فقد شهيته للحوار وللفرح وحتى للحياة في تلك اللحظة.

وعلى طريق العودة أرسل كعكة...
هكذا، كأنّه يُجبر اللحظة على أن تبتسم رغماً عنها... وعندما دخلت **سيرين** إلى القصر لم تكن تتوقع أن تجد الكعكة على الطاولة...

كانت هناك وسط الصالة قطعة من السكر تُعلن عن عيدٍ لم يُحتفل به وكأنّها شاهدة على احتفال لم يُولد ورغبة لم يتم الإفصاح عنها.

توقّفت **سيرين** أمامها وحدّقت فيها طويلاً... لم تبتسم، لم تدمع، فقط شعرت أن هناك شيئًا ثقيلًا يستقر فوق صدرها.

هل كانت الكعكة محاولة اعتذار؟ أم ذنباً مغلفاً بالسكر؟ أم صمتًا آخر تُرجم على هيئة احتفال خافت؟

أما **ظافر** فلم ينبس بكلمة...
لم يقترب، لم ينظر حتى.
اتجه بصمتٍ مستقيمٍ كالسيف إلى غرفة مكتبه

وترك وراءه طيفًا من كلماتٍ لم تُقل، ومشاعر لم تخرج من شرنقتها.

 
في تلك اللحظة سحبت **سيرين** هاتفها من حقيبتها وكأنّ شيئًا ما استيقظ فجأة في أعماقها… وحين نظرت إلى الشاشة فوجئت بسيلٍ من المكالمات الفائتة كانت كلها من **كارم** و**كوثر**.

لم تكن قد شعرت بأي شيء آنذاك فقد كان هاتفها صامتًا تمامًا كحياتها في الآونة الأخيرة ولأن القلق بدأ ينهش أطراف تفكيرها ضغطت أولًا على اسم **كوثر**.

ما إن سُمع صدى الاتصال حتى جاءها صوت كوثر محمّلاً بقلقٍ كاد ينفجر:

— «سيرين! أخيرًا! أين كنتِ؟ لماذا اختفيتِ فجأة؟ هل أنتِ بخير؟»

أجابت سيرين بصوت متهدّج كمن يُخفي الحطام خلف ابتسامة شاحبة:

— «اضطررتُ للمغادرة بسبب شيءٍ ما حدث البارحة... لم أسمع الهاتف، كان في وضع الصامت.»

سمعت تنهدًا مرتجفًا على الطرف الآخر كما لو أنّ كوثر أسقطت عبئًا كان على كتفيها، تتمتم براحة:

— «الحمد لله… كنت قلقة عليكِ.»

دامت المكالمة لدقائق معدودة ومن ثم أنهت سيرين معها الحديث سريعًا قبل أن

تغرق في شلال الأسئلة.
ثم ضغطت اسم **كارم** بأطراف أصابعٍ مرتجفة كما لو كانت تفتح بوابة سرٍّ مدفون.

روَت له كل ما حدث بأنفاس متقطعة كمن يكتب اعترافًا غير مكتمل على صفحة ممزّقة من ضميره.

صمت **كارم** للحظة ثم قال بنبرة تنضح بالحسم:

— «أخبريني أين نوح... سأرسل من يُخرجه.»

ردّت وهي تلتقط أنفاسها الثقيلة:

— «ذهبتُ إلى هناك اليوم… الحراسة مشددة، وكأنّه محاط بأسوار من حديدٍ لا تُرى... كما أنني… لستُ حاملًا بعد... إن أخذته الآن سيشعر **ظافر** بالخطر وسيُحكم قبضته أكثر.»

صمتٌ ثقيلٌ انسكب بينهما تبعه صوت **كارم** هادئًا ظاهرياً، لكنه يقطر قلقًا وغيرة:

— «حسنًا… أخبريني عندما تحين اللحظة... وسأبحث عن طريقة أخرى لإخراجه.»

كان وجود **كارم** في البلاد هشًّا كظلّ في مهبّ العاصفة... جاء متذرّعًا بإدارة مشاريع لكنه يعرف كما تعرف هي أن هذا ليس إلا غطاءً مؤقتًا... فالزمن يضغط والفرص تتآكل.

— «تمام»،

همست بها سيرين كأنها تخشى أن تُسمع... وأنهت المكالمة.
وقفت على الشرفة وابتلع صدرها نفسًا طويلًا كأنها تستجلب به الحياة من بُعد آخر.

لفح النسيم وجنتيها كهمسة من ماضٍ لم يُطوَ بعد بينما الشمس كانت تموت ببطء خلف الأشجار مثل فكرة جميلة لم تكتمل.

توجّهت إلى الداخل لتستحمّ… لتغسل ما التصق بروحها.

لكنها وقبل أن تخطو تجمّدت.

**ظافر**…
كان واقفًا خلفها كمن خرج من جدار الصمت ينظر إليها بنظرة لم تستطع فك شيفرتها… فيها شيء من الاستفهام، شيء من الشك، وشيء من شيء لا اسم له.

أخفت هاتفها بسرعة كمن يُخفي جريمة.

— «هل هناك أمر ما؟» سألت في محاولة منها أن تبدو هادئة لكن الكلمات خرجت باردة كأنها ترتجف من الداخل.

ردّ ظافر دون أن يرفع صوته ولكن بعينين تقرّان ما سيقال لا تستفسر:

— «هل كنتِ تتحدثين مع كارم؟»

— «نعم.» قالتها بهدوء... لم تُنكر... ولم تُدافع.

ارتسم على ثغر ظافر شيء أقرب إلى شبح ابتسامة

وسأل بنبرة تحمل في طياتها غيمة تهديد:
— «هل تعلمين لماذا عاد كارم هذه المرة؟»

نظرت إليه وقلبها يخبط في صدرها كمروحة معطوبة:

— «ماذا تقصد؟»

اقترب خطوة، ونبرة صوته هبطت إلى برودة تُشبه الجليد، يقول بضغينة مبطنة:

— «هو يسير الآن على سطحٍ هشٍّ من الجليد... وإن أردت يمكنني تحطيم ذلك الجليد بكلمة واحدة... فقط سأوقف مشاريعه هنا وسيتحوّل إلى رجل بلا ظل... وإن نجح وعاد إلى هناك... فلن يعود سالمًا.»

كانت الكلمات أشبه بطلقاتٍ صامتة تخترق جدار أمانها وكل ما استطاعت أن تفعله… هو....

ترى هل استمع ظافر إلى حديث سيرين ونوح؟! والأهم مكالمتها مع كارم!!

وهل يعني ظافر ما قال بشأن تهديداته لكارم أم كانت طلقات فارغة في الهواءِ؟

وترى هل تلك التهديدات ستلقى صدى لدى سيرين ويتهاوى جدار تماسكها وتعترف له بكل شيء؟

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1