رواية ترانيم في درب الهوى الفصل السادس عشر
وقف سلطان أمام غريب، والشرار يتطاير من عينيه، كأنما يتحداه. أومأ برأسه موافقاً، لكن صوته خرج كالرصاص ذاته من بين أسنانه:
"أتكلّم بسمعك."
حرك غريب رأسه بالرفض، عازماً على عدم الاستسلام، وكأنه كان يتأهب لصد هجوم غير متوقع. قال بنبرة جادة، محاطاً بأجواء من التوتر:
"مش هنا، الكلام مينفعش هنا."
كان واضحاً أنه كان يحاول حماية ما تبقى من الأسرار التي لا ينبغي أن تُفصح في مكان كهذا، وقد اجتاحت مشاعر الحذر والقلق عقولهم جميعاً.
نظر سلطان إلى ترنيم بتعبيرات تدل على تشتت تفكيره، ثم تحدث بصوت غاضب وكأنه يفرض أمره، وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة:
"اركبي عربيتي وروحي على شغلك."
كانت لهجته محملة بالقلق والتهديد، وكأنما يحاول حمايتها من ما هو آتٍ، لكنه لم يكن يدرك أنه بدلاً من حمايتها، قد كان يرغمها على اتخاذ قرارات قاسية.
تكلمت ترنيم بسرعة، وهي تمسك بيده بقلق يملؤه الخوف:
"لا يا سلطان، مش هسيبك، هروح معاكم."
كانت عينيها تبحثان في عينيه عن الإذن، ولسانها يتفتت تحت وطأة القلق، لكنها كانت قد اتخذت قرارها، رافضةً الاستسلام لشعور العجز.
رد سلطان بغضب شديد، ونفاذ صبره واضح في نبرته، كما لو كان يتحدث إلى شخص غير مدرك لعواقب الأمور:
"تروحي معانا فين؟ هو احنا طالعين رحلة؟ اسمعي الكلام، أحسنلك، وامشي."
لهجته كانت تجمع بين الأمر والإشفاق، لكن في قلبه كان هنالك صراع مرير حول ما يجب أن تفعله، وكيف يحميها من العواقب المحتملة.
لكن غريب، بنبرة جادة وأمر حازم، قال:
"هتيجي معانا، ترنيم لازم تكون موجودة."
كان قراره حاسماً، وكأنه يشعر بمدى أهمية وجودها في هذه اللحظة المليئة بالتحولات، حيث كانت تتصاعد المخاطر في الأفق مع كل كلمة تقال.
ضغط سلطان على أسنانه بغضب، واحمرت عينيه وكأنهما تنذران بطوفان قادم، أضاف مهدداً بحدة، وكأنما يضرب على وتر عواطفهم:
"اسم ترنيم ميجيش على لسانك، لاحسن أقطعهولك، فاهم؟"
ثم نظر إلى ترنيم، مخاطباً إياها بغضب موجه وكأنما يحاول أن يجعلها ترى الحقيقة:
"اسمعي الكلام وامشي، أحسنلك."
كان في حديثه مزيج من الحب والغيرة، مرتبطاً بمصيرها ومصيره في نفس الوقت، وكأن كل لحظة تأخير قد تقربهم من كارثة أكبر.
وفي تلك اللحظة، شعر سلطان بشيء صلب على رأسه، وفقد وعيه فجأة. كانت الأمور قد زادت تعقيداً، وبدت وكأنها تدور بسرعة غير عادية، حيث كانت الأحداث تتصاعد بشكل غير متوقع.
اتسعت عيني ترنيم بصدمة عندما ضرب غريب سلطان بظهر المسدس على مؤخرة رأسه، جلست بجواره، وصرخت بقلق شديد، وكأن صراخها قد يكون صرخات إنقاذ:
"أنت عملت إيه يا مجنون؟ سلطان، يا سلطان! رد عليا! سلطان، فوق بالله عليك."
لقد كانت لا تعرف ما حدث، لكن غريزتها كطبيبة كانت تدفعها للاهتمام به، والخوف عليه من أي شيء قد يهدد حياته.
نظر إليها غريب بضيق، كأنه رأى في عينيها مزيجاً من الخوف والضعف، ثم أمسك بذراعها وأرغمها على التحرك معه في خطوة متهورة. اتجه نحو السيارة، دفعها داخلها بإلحاح، وكأنما كان يسعى للفرار من فوضى لا يمكن السيطرة عليها، ثم أغلق الباب بقوة بعد أن تأكد من دخولها.
بعد ذلك عاد إلى سلطان، مال بجسده وأمسك بذراعيه، ثم بدأ بسحبه عند باب السيارة، وضعه على المقعد، وأغلق الباب. صعد هو أمام المقود، ونظر إلى إنعكاس صورة ترنيم في المرآة، فوجئ بأنها تبكي بحرقة، وكأن كل دموع العالم تتدفق من عينيها. تحدث بنفاذ صبر، محاولاً تهدئتها وكأنما لا يدرك حجم الصدمة:
"ممكن تسكتي؟ متخافيش عليه، الضربة مش هتأثر عليه، انتي دكتورة وعارفة هو إغمى عليه، مش أكتر."
كانت كلماته تلقي بظل من الهدوء على الموقف المتوتر، لكنه يبدو أنه لم يدرك تماماً كم كانت عاطفة القلق تحت سطح المشهد.
نظرت له بدموع في عينيها، وكأن كل مشاعر القلق والخوف تتجمع في نظرتها، وسألته بصوت متقطع:
"إنت بتعمل ليه كده معانا؟ عايز مننا إيه؟"
ظل غريب يحدق بها نظرة معلق عليها لفترة، كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة، يتصارع مع مشاعر مختلطة بين القلق والبرود. ثم أدار السيارة وتحرك بها سريعاً نحو وجهة لا تعلم ماهيتها. تساءلت في داخلها:
"إلى أين يأخذنا؟ وما الذي يخبئه لنا؟"
كانت الأفكار تتقافز في عقلها مثل طيور مذعورة، بينما كانت الشوارع تمر من جانبها بسرعة، مما جعل كل شيء يبدو غريبًا وبعيدًا. في تلك اللحظة، لم يكن مجرد طريق، بل كان رحلة نحو المجهول، مجهول يحتوي على الكثير من المخاطر المحتملة. كان قلبها يخفق بشدة، يسألها إذا كانت ستخرج من هذه التجربة سالمة، أم ستخسر شيئًا أكثر من مجرد ذكريات.
**************************
بدأ سلطان يحرك رأسه بألم شديد، وكأن صراعاً داخلياً يحتدم في عقله. فتح عينيه بصعوبة ليجد ترنيم تنظر إليه بخوف وقلق، عينيها تلمعان بالدموع التي كانت تقاوم الانهمار. تذكر ما حدث منذ قليل، العينان الجاحظتان التي كانت تتوعده، وأصابته قشعريرة من الخوف والقلق الذي اجتاحه فجأة، كالعاصفة التي تثيرها رياح هوجاء في مساء غائم. انتفض في مكانه وكاد أن يتفوه بكلمات تخفف من وطأة الموقف، ولكن ما خرج منه كان عبارة مختصرة محملة بالقلق:
"أنتي كويسة؟"
أومات ترنيم برأسها برفق وكأنها تريد أن تطمئن قلبه، ولكن الدموع التي تنساب من عينيها كانت تخبره بقصة أخرى مليئة بالخوف والاستسلاب. في تلك اللحظة الحرجة، سمع صوت غريب يتحدث إليه من زاوية الغرفة، وكان جالساً على المقعد وممسكاً بكأس المشروب، فنبرة صوته كانت تتسم بالهدوء المربك:
"متقلقش أنا مش جايبكم هنا عشان أذيكم، بس لو نشفت دماغك وحاولت تظهر أبو الرجولة هتشوف وش تاني خالص مش هيعجبك."
اقترب سلطان منه وكاد أن يوجه له ضربة، كالغضب المتأجج الذي يهدد بالانفجار، لكن يد غريب كانت الأسرع، فتلك اللكمة التي أصابته في بطنه كانت كفيلة بإسكات أي رد من سلطان، وتحدث بهدوء حذر وكأنما يتعامل مع قنبلة موقوتة:
"قولتلك متتهورش عشان متندمش، ارجع اقعد مكانك."
أمسك سلطان بطنه بألم كما لو أنها تعكس الجراح الداخلية التي لا تُرى. نهضت ترنيم من على مقعدها برغبة في المساعدة، أمسكت بيده وأعانته على الجلوس، وكأنها تمثل الشعاع الوحيد من الأمل في هذا الظلام. ثم نظرت إلى غريب، وتحدثت بثقة مبهتة:
"ممكن تخلص بقى وتقول عايز مننا أيه؟"
وضع غريب قدمه فوق الأخرى، وتحولت ملامحه إلى شبه غضب، يفيض بانفعال متوتر:
"أنا مطلوب مني أصفيك أنت وعبد الرحمن وابنه تامر."
اتسعت عينا ترنيم في صدمة، وكأنها تسمع صدى كلمات ترتجف من وقعها، وتحدثت بنبرة مهتزة تحمل مزيجاً من الخوف والدهشة:
"تصفيهم يعني أيه؟ قصدك تقتلهم؟"
نظر غريب إلى ترنيم وظل عن كثب، وبدا وكأنه يقرأ أفكارها، في حين بدأ سلطان يتحدث بغضب متأجج:
"تعرفي تخرسي وتحطي لسانك في بوقك."
ثم نظر لغريب وملامحه تمتلئ بالتحذير والتهديد:
"لو عيونك جات عليها هخزقهم ليك، فاهم؟"
كانت الكلمات تقطر غضباً، وكأن الأجواء المحيطة قد امتلأت بطبقات من التوتر، تتصاعد كما تتصاعد الألسنة النارية في ليل دامس.
نظر إليه غريب بهدوء يعكس ما يدور داخله، متحدثاً ببطء وكأن كل كلمة يخرجها تحمل وزن العالم:
"عبد الرحمن وابنه أخدوا بضاعة بملايين، وطبعا اسمك معاهم لأن الشغل ده كان بيتهرب في بضاعتك. فأنا المفروض دلوقتي أخلص عليك بس مش هعمل كده، وكمان ممكن تساعدني نخلص على رأس الأفعى اللي مدسوس في بيتكم بقاله سنين وانتوا متعرفهوش."
كانت نبرة غريب قد اتسمت بمزيج من التهديد والنداء الغامض، كما لو أنه يحاول العبور بحذر بين خيوط من المؤامرات. تكلم سلطان بعدم فهم، رافعاً حاجبيه بتساؤل:
"قصدك على مين؟"
كان قلبه ينبض بتوتر، ولا يريد أن يصدق ما سمعه. رد عليه غريب بعدما ارتشف المشروب دفعه واحدة، وكأنه يحتاج إلى الشجاعة لإكمال ما بدأه:
"عبد الرحمن مسمهوش عبد الرحمن، اسمه رجب عطالله، أكبر تاجر سلاح. اتجوز خالتك علشان يبقى قريب منك وكان بأمر من المعلم حافظ اللي أنت خليته موت نفسه من كام يوم."
كان كلامه مثل سكين يقطع حبل الأمان الذي كان يربط سلطان بحياته الطبيعية. تابع غريب:
" كانوا شغالين مع بعض وبيهربوا الشغل في بضاعتك، وكمان شغل ابنه تامر معاه." تداخلت التفاصيل في ذهن سلطان، ورأى كيف أن عائلته قد تكون متورطة في عالم مظلم لم يتخيل أن يكون له فيه أي ارتباط. إلا أن غريب لم يتوقف عند هذا الحد، بل واصل:
"من حوالي شهر هجموا على الرجالة في عرض البحر واخدوا منهم البضاعة، وبلغوك إن قراصنة البحر هما اللي عملوا كده. لكن الجماعة مدخلش عليها الكلام ده وعرفوا إن هما اللي ورا اللي حصل ده، وطلبوا مني تصفيتكم. هتقول أنت مالك، هقولك رجب أو عبد الرحمن زي ما أنتوا تعرفوا قال إنك شغال معاهم ومشترك في اللي حصل ده."
شعور من الخيانة والخطر يتسلل إلى عروق سلطان، وأحس وكأن كل شيء يعتمد الآن على خياراته القادمة.
حركت ترنيم رأسها بعدم تصديق، وكاد الحزن يخنق صوتها وهي تتحدث بدموع:
"مستحيل عمو عبده وتامر أخويا يبقوا بالبشاعة دي وكمان كدابين مستحيل." كانت مرارة الكلمات تترك أثرًا في قلبها، فكيف تحولت عائلتها التي كانت تمثل الأمان والمحبة إلى قلوب مظلمة تسعى للإيذاء؟ نظر سلطان إلى غريب بغضب، وتضاربت المشاعر داخل صدره، حيث كانت صرخات قلبه تطالب بالثأر ولكن عقله خائف على ترنيم. قال بصوت مختنق: "وأيه مطلوب مني؟"
أجابه غريب وهو ينظر إلى ترنيم بعينيه التي أظهرت تصميماً غريباً:
"هتجوز ترنيم."
انتفضت ترنيم على صوت سلطان الذي خرج من حنجرته كأنما كان عاصفة تهب، وأجابت بنبرة وقحة تدل على تحدٍ غير عادي:
"طيب ما تجوزني أمك انت."
تردد صداها في المكان بينما نهض غريب بغضب في نفس الوقت الذي نهض فيه سلطان، ووجدوا أنفسهم على وشك الاصطدام، لكن صوت ترنيم كان كخيط إنقاذ، أوقفهم عندما قالت:
"بس كفاية منك ليه."
اقتربت منهم، وعيناها تشعان بالاستفهام والتحدي، ووجهت حديثها إلى غريب باهتمام كبير:
"يعني لو اتجوزتني هتخلصنا من عبد الرحمن ده وتحمي أخويا وسلطان من الناس التانية؟"
أومأ برأسه بالتأكيد، وكان صوته يحمل ثقل القرارات الكبرى:
"أيوه، وخلي بالك، أنا كده هكسر قاعدتهم وممكن كمان يطلبوا تصفيتي."
كانت تلك الكلمات بمثابة شمعة أضاءت طريقها وسط الظلام، لكن الشك والخوف تلاعبا بفكرها، فهل ستطأ خطتها الأعزل نحو مخرج من هذا الجحيم؟
أمسكها سلطان بغضب من يدها، وأرغمها على التحرك معه إلى الباب، لكن رصاصة خرجت من سلاح غريب أوقفتهم مكانهم. أخرج سلطان سلاحه ووجهه إلى غريب وقال:
"لو فاكر نفسك هتخوفني باللعبة اللي معاك دي، تبقى أهبل. أنا المعلم سلطان، أمحيك من على وش الأرض، وأياك تفكر تقرب منها."
اقترب غريب منهما ونظر إلى سلطان وقال بنبرة كفحيح الأفعى:
"ترنيم هتجوزها برضاك أو غصب عنك، وإنت هتكون متكتف ومش قادر تمنع اللي بيحصل، علشان اللي غريب ضرغام بيحط عينه عليها، بياخدها رغم عن الكل."
اقترب سلطان منه أكثر حتى الالتصاق، وتكلم بنبرة غاضبة:
"حتى لو في قبري، مش هسمحلك تقرب منها يا ننوس عين امك."
أنهى كلامه وعاد مرة أخرى إلى ترنيم، أمسكها من يدها وخرجوا من هذا المكان.
نظر غريب إلى أثرهم، وارتسمت ابتسامة ذات معنى على شفتيه، كأنما كانت تلك اللحظة هي النصر الوحيد الذي استطاع تحقيقه. لقد شعر بشيء من الغضب يشتعل في صدره، لكن الابتسامة التي تلا ذلك كانت تعكس قدرته على الاستمتاع باللحظات الصغيرة وسط العواصف. تحرك باتجاه زجاجات المشروب المصفوفة على الطاولة، فتح إحدى الزجاجات بحركة متقنة، وسكب السائل الذهبي في الكأس بطريقة تضمن أن يترك أثرًا وسط فوضى المشاعر التي تسيطر عليه. ثم ارتشفه على دفعة واحدة، شعر بطعمه الحار يمتزج بجذور يأسه، مما جعله يتنفس بعمق ويشعر بشيء من الهدوء. حالما لمح الكأس بين أنامله، طبق بيده بقوة على الكأس، وكأنما كان يحاول كسر تلك القيود التي فرضها عليه الواقع. في تلك اللحظة، علم أنه في رحلة طويلة، لكنه لم يكن الوحيد في هذه المسيرة المتعرجة؛ كان هناك الكثير من العوائق أمامه، لكنه كان مستعدًا لمواجهتها بكل ما أوتي من قوة.
*************************
وصل سلطان إلى الحارة بسيارته، وكانت السيارة تنبض بصوت المحرك القوي، في الوقت الذي كان الغضب يتأجج في داخله مثل نار مشتعلة لا يمكن إخمادها. بقي صامتاً طوال الطريق، بينما كانت ترنيم تتابعه بقلق مستمر، تشعر بدفء عواطفه المتأججة، ولكن في الوقت نفسه، تخاف من بطشه الوشيك. كانت تشعر بأن ثورة قادمة، وكأنها قد شعرت ببوادر عاصفة في الأفق، وهي تفكر في عواقب الأمور، وتتساءل كيف يمكن أن يتصاعد الوضع أكثر من ذلك. عندما ترجل من السيارة، تحرك في الاتجاه الآخر وفتح الباب، لتجد نفسها مجبرة على التحرك معه كطفل ضائع في عاصفة. شعرت بألم شديد من قبضة يده القاسية، حيث كانت تعبر عن مقاومة ضعيفة للموقف، فتكلمت بصوت مختنق، يحمل في طياته القلق واليأس:
“اه يا سلطان دراعي وجعني، انت بتتعصب عليا انا ليه؟ وانا ذنبي ايه في اللي حصل.”
أدخلها إلى المنزل بحركة سريعة، وعلق ظهرها على الحائط بزاوية قاسية، ونظر إليها بغضب شديد، كأن عينيه تسلطان عليها ضغط العالم بأسره، قائلاً بلهجة حادة:
“عايزه توافقي عليه؟ ده أنا أهد الدنيا فوق دماغه وفوق دماغ أي حد يجرؤ يبص ليكي. انتي بتاعتي، أناااا فاهمه؟ متحاوليش تلعبي بالنار.”
وكأن دموعها بدأت تترقرق، وبدت كعطر منتشر في الأرجاء، فقالت بصوت يكاد يُسمع، مكسوراً حيث حرصت على عدم إظهار الضعف:
“أنا مش عايزه اتجوزه حبا فيه يا سلطان، أنا خايفه عليك وعلى تامر أخويا. هتجوزه علشان احميكم من شره.”
تنهدت بعمق، محاولة أن تُعبر عن مشاعرها المعقدة بأسلوبٍ واضح. لقد شعرت بقلق متزايد يسيطر عليها، فالصراعات التي تحيط بهم بإصرار تكاد تكون مُدمرة.
ضغط بغضب على ذراعه قائلاً بوقاحة:
“انتي مش شيفاني قصادك خ** علشان استنى مرا تحميني. أنا أحميكي انتي وبلدك كلها. اطلعي انتي من الموضوع ده، وأنا هخلصه بطريقتي. ومن النهاردة مافيش خروج من البيت نهائي، ومش هتنامي في شقتكم، هتنامي في اوضي القديمة لحد ما أخلص من ابن الكلب ده. وهعرفه أزاي يدخل بيت المعلم سلطان ويبقى واحد مننا وهو يغدر بيا في ضهري.”
كانت كلماته قاسية، لكنها تحمل عاطفة قوية. نظرت له بعمق، ومرت بأذهانها صور كل التهديدات التي تعرض لها ولفكرة أن تفقد عائلتها في اللحظة التي تستطيع فيها حمايتهم. كان صراخه كالسهم الذي يطعن في قلبها، لكن ما حز فيها أكثر هو استبعاد سلطانه لقواها. لقد شعرت بأنها ليست بحاجة لأن تكون ضحية، بل تود أن تكون جزءًا من الحل.
نظرت له بدموع، ثم تكلمت بقلق:
“بس انا خايفه على تامر اخويا يا سلطان، اخد رجله معاه في السكة دي.”
لكن سلطان، الذي كان لديه طريقة خاصة لطمأنة من حوله، مسح دموعها بأنامله وتحدث بتوعد:
“اخوكي متخافيش عليه، أنا هعيد تربيته من أول وجديد، وهحميه.”
كان صوته يحمل ميراثا من القوة والحزم.
أومات برأسها وتحدثت بتساءل:
“طيب انت كده همنعني انزل الشغل خالص؟”
رد عليها بتوضيح:
“لحد ما أخلص من الموضوع ده، وبعد كده هرجعك تشتغلي تاني.”
كانت ترنيم تنظر إليه بعيون مليئة بالاستفهام، وكأنها تأمل أن يفتح لها باب الأمل في العودة لحياتها الطبيعية، لكن القلق كان يعتصر قلبها. رفعت رأسها إليه ونظرت في عينه، وقالت:
“سلطان، ابعد حد يشوفنا واحنا كده، ولا مراتك تنزل صدفة في وقت زي ده.”
مع كل كلمة، كان الخوف يتعاظم في داخلها، خوفاً ليس فقط على ما يشوب علاقتهم، بل أيضاً على ما قد يترتب على ذلك من عواقب. اقترب أكثر منها وتحدث بنبرة هامسة، وكأن الكلمات التي كان ينطق بها تتطلب أجواء من السرية:
“قولتلك تعالى نتجوز، على الأقل كان زمان باب مقفول علينا وبنعمل اللي احنا عايزينه.”
نظرت له بحزن وتحولت نبرتها إلى صوت مختنق، وكأنها تتحدث من خلف جدران عاطفية شيدتها بنفسها:
“تاني يا سلطان! قولتلك مستحيل ده يحصل. مش أنا اللي أخد راجل من مراته وبنته حتى لو روحي فيه.”
مال برأسه قليلاً، وعيناه تتأملان وجهها بعمق، وتحدث بهمس مغوي أمام شفتيها:
“بس أنتي مش لسه هتخديني منهم يا ترنيم، انتي مستحوذة على كل حاجه فيا ومش قادر اشوف غيرك.”
تراكمت مشاعر متضاربة في قلبها، وبينما كانت تهمس له بخوف، كان إحساسها وكأنه يجول بفكرها على شواطئ منوعة من الحب والشغف والندم. هل يمكن أن تكون العواطف المتشابكة بينهما كافية لتجاوز ما هو مكتوب لهم؟
في تلك اللحظة، اندفع باب المدخل بشكل مفاجئ، مما جعل ترنيم تنتفض بخوف شديد كأنها رأت شبحاً. عواطفها المشتتة تلاشت لحظة دخول رجال الشرطة. كأن العالم قد انقلب رأساً على عقب، على الرغم من محاولتها التظاهر بالهدوء، ركبها الخوف الشديد فعاجلت بالركض خلف سلطان، وتمسكت به بقوة وكأنها تحاول أن تأخذه معها إلى بر الأمان. حاربت الدموع التي كانت تريد أن تتساقط، لكنها لم تستطع، فشعرت بالفزع يتسرب إلى قلبها.
نظر سلطان إليهم مستغرباً، ثم نظر إلى عينيها اللتين امتلأتا بالدموع، وكأنها تنقل إليه كل مخاوفها وتوجساتها:
“الشرطة!! خير بتعملوا ايه في بيتي؟”
كانت نبرته تعبر عن خيبة الأمل وعدم الفهم، وكأن حياة بأكملها قد تتلاشى في لحظة.
رد الضابط بصوت جاد، يحاول أن يظهر الأحكام الواضحة خلف عينيه:
“معايا إذن بالقبض عليك.”
تمسكت ترنيم به أكثر، والدموع تنهمر من عينيها بخوف لا يوصف، وكأن كل جزء من روحها يتوسل له أن ينجو.
سأل سلطان بعدم فهم، وكأنه يطلب من الجميع أن يوضحوا له ما الذي يحدث بالفعل:
“إذن بالقبض عليا أنا! ليه خير؟”
كان يقرأ القلق المرسوم على وجه ترنيم، مما زاد من شعوره باليأس والارتباك.
أجاب الضابط وهو يعطي إشارة للعسكري بالقبض عليه، وبعد نظرة أخيرة على ترنيم:
“هتعرف كل حاجه هناك في القسم.”
كأنه يتحدث عن أمر روتيني بينما كان قلب ترنيم يتحطم.
نظر سلطان إلى ترنيم ثم أمرها بشكل قاطع، رغم التوتر الذي يثقل الأجواء:
“اطلعي فوق وادخلي شقة أمي، متخرجيش منها مهما حصل، فاهمه؟ وأنا ساعه بالكتير وراجع.”
كانت كلماته تحاول أن تمنحها بعض الأمل في هذا الموقف المأساوي.
رد الضابط بنبرة حادة:
“معتقدش أنها ساعه. ممكن نقول شهور أو سنين.”
كلمات تضرب كالسهم في قلب سلطان، بينما كان الخوف يسيطر على مشاعر ترنيم.
التفت سلطان ونظر إلى الضابط بغضب مكبوت، ثم نظر إلى ترنيم، التي كانت الدموع تتساقط بغزارة من عينيها كأنهار لم تفقد مجراها. قال لها بحزم:
“اسمعي الكلام واعملي زي ما قولتلك، وأياكي تخرجي من البيت، فاهمه؟ وخلي بالك من رنيم.”
كأن هذه الكلمات تمثل أخر بصيص أمل لها، بينما كان مصيره غير معروف.
أومات برأسها، والدموع تتسابق على خديها كأنها تفقد كل شيء. ثم تحرك سلطان مغادراً، يتبع رجال الشرطة إلى مصير غامض يملؤه الغموض والخوف.
صعدت ترنيم الدرج سريعاً، وكأنها تحاول الهروب من الواقع الذي يحيط بها، ودلفت إلى غرفة سلطان، حيث ارتمت على السرير وظلت تبكي بخوف شديد مما هو آت. الأضواء الساطعة في الغرفة بدت باهتة، وكأنها تشاركها حزنها، بينما كانت تفكر في مستقبل يبدو مظلماً بلا أمل.
***************************
بالمساء...
استمعت ترنيم إلى صوت ضجيج بالخارج، فخرجت تركض من الغرفة، لتجد مجموعة من الرجال يقفون مع امرأة تنظر إليهم بكراهية شديدة. كان الجو مفعمًا بالتوتر، حيث كان من الواضح أن هذه الزيارة ليست ودية. اقتربت منهم، وعبرت عن غضبها قائلة:
"انتوا مين وبتعملوا ايه هنا؟"
التفتت إليها تلك المرأة، ونظرت إلى أحد الرجال قبل أن تتحدث بطريقة استنكارية، كأنها تستفزها أكثر:
"هي دي مرات المحروس؟"
أجابها الرجل بصوت أجش، يتخلله فحيح القوة، مما زاد في توتر الموقف:
"لا يا ست حسناء، مراته وبنته دي."
وأشار إلى فريدة، التي تمسكت أبنتها بها بخوف، عيونهما مليئة بالقلق. تكلمت ترنيم بنفاذ صبر، قلبها ينبض بشدة:
"ما تقولوا انتوا مين وازاي تدخلوا بيت المعلم سلطان وهو مش موجود؟"
نظروا إليها بعدم اهتمام، كأنها مجرد صوت في زحام المحنة، ثم أشارت حسناء إلى فريدة وقالت بأمر لا يقبل النقاش:
"شوفوا شغلكم معاها."
اقترب الرجال من فريدة الخائفة، وألقوا بها على الأرض في محاولة للاعتداء عليها. تصاعدت حدة الموقف، وكأن كل شيء يدل على خطورة ما يحدث. اندفعت ترنيم نحوهم، تحاول صدهم، لكنها لم تستطع. ركضت بسرعة إلى شقة والدتها، وطرقت الباب بخوف، وهي تصرخ:
"الحقينا يا ماما، الحقنا يا تامر، افتحوا."
ردت والدتها من الداخل بصراخ مروع، وكأنها تعبر عن حيرة عميقة:
"اخوكي وعمك عبده قافلين عليا الباب ومش راضين يخرجوني يا بنتي، أنا مش عارفه فيه أيه اللي بيحصل."
عادت ترنيم إلى الداخل بسرعة، وأخذت رنيم ودخلت بها إلى غرفة سلطان، حيث نظرت إليها بأنفاس متلاحقة، قائلة:
"اهدي يا حبيبتي، متخافيش، خليكي هنا، وأنا هجيب ماما ليكي."
تذكرت سلاح سلطان الآخر الذي وضعه في خزانة الملابس. ركضت بسرعة إليه، وأخذته، ثم خرجت من الغرفة وأغلقت الباب خلفها. أمسكت حسناء وأشارت بالسلاح بالقرب من رأسها، قائلة بغضب:
"ابعدي رجالتك عنها، أحسن ما أفرغ السلاح ده كله في راسك."
نظرت حسناء إلى رجالها، وأعطتهم إشارة بالابتعاد عن فريدة. لكن ترنيم لم تكن لتثق بهم، كانت تدرك أن هذه اللحظة قد تحدد مصيرهم. نهضت فريدة سريعًا، وركضت إلى غرفة سلطان حيث ابنتها، وأغلقت الباب خلفها وهي ترتعش خوفًا.
ابتعدت عنها ترنيم، وضعت السلاح أمامها، وتحدثت بغضب شديد، صادقًا:
"انتي مين وعايزه مننا ايه؟"
تحدثت حسناء بغضب، وعيونها تشتعل كرها، كأن كل أحقاد العالم تجسدت فيها:
"أنا مرات المعلم حافظ اللي سلطان مسح بكرامته الأرض، وبعد كده خلاه موت نفسه."
تذكرت ترنيم ملامحها وأومأت برأسها، عودة الذاكرة إلى حادث مؤلم:
"آه، افتكرت، وسلطان مظلمش حد. جوزك اللي بدأ الشر معاه من الأول وأذى حتى بعد موته، خدي اللي معاكي دول وغوري من هنا. وخليكي متأكدة، أن سلطان لما يرجع ويعرف اللي حصل ده مش هيعدي بالساهل."
تعلت ضحكات حسناء الشريرة، وواصلت السير نحو الباب مع رجالها، قائلة:
"بعد عمر طويل إن شاء الله، أصله لابس شوية قواضي ياخد فيهم مؤبد. واه، البيت ده كله تخرجوا منه، أصل محتاجة البيت ده والمكتب."
أنهت كلامها وغادرت المنزل، وكأنها تترك خلفها بقايا معركة لم تنتهِ بعد.
جلست ترنيم تلتقط أنفاسها، وضعت السلاح على الطاولة، والدموع تسابقت على خديها، تلك الدموع التي تحمل آلامًا لا تُعد ولا تُحصى. رفعت شعرها إلى الأعلى، محاولاً التفكير في مخرج من هذه الورطة، بينما كان صوت الصراخ في ذهنها يذكرها بمدى الضعف الذي قد يصل إليه الإنسان. وفي هذا الوقت، خرجت فريدة تحتضن ابنتها، وجسدهما يرتعش، وكأنهما يتشاركان في خوف لا يفتر.
نظرت ترنيم إليها، وتحدثت بصوت مختنق، عاجزًا عن احتواء العواطف:
"خالتوا صباح وسميه فين؟"
أجابت فريدة بصوت مرتعش، وقلقها كان يتسلل إلى كل كلمة تنطق بها:
"عند سلطان في القسم."
تنهدت ترنيم بوجع، ونظرت إلى الطفلة الخائفة، قائلة بصوت مكتوم، محملة بالمشاعر:
"اطلعي شقتك، واقفلي بابك عليكي انتي وبنتك، ومتخرجيش منه مهما حصل، شكل الموضوع هيطول وكل التعابين هتخرج من جحرها بعد حبس سلطان."
ركضت فريدة بسرعة وصعدت إلى شقتها، وأغلقت الباب عليها وعلى ابنتها، واخذتها داخل أحضانها، وظلت تبكي بخوف، كأنها تبحث عن الحماية في عناقها.
نهضت ترنيم من المقعد، واتجهت إلى الشرفة، ونظرت منها، لتجد رجال سلطان مكبلين بالأرض، والدماء تسيل منهم وكأنهم كانوا داخل حلبة مصارعة. افتقرت للراحة، وتأكدت من المخاطر التي سيتعرضون لها في ظل اختفاء سلطان. تذكرت والدتها، فتوجهت إلى الباب وطرقت عليه بغضب، قائلة:
"افتحوا الباب ده، افتحوا بقولكم."
فتح الباب، وتفاجأت ترنيم بوالدتها تنزف الدماء من أنفها، دليلاً على عنف ضدها. اقتربت من عبد الرحمن، وتحدثت بغضب، والشعور بالقلق يعصف بها:
"آه يا واطي، يا زبالة، أخيرًا ظهرت على حقيقتك. مفكر الجو خلا ليك بعد حبس سلطان، بس ورحمة الغاليين، ما هعديلك اللي انت عملته في أمي ده بالساهل."
أمسكها تامر بغضب، متحدثًا بصوت مرتفع يهيمن على الموقف:
"لمي لسانك ده يا روح أمك، بدل ما أكسرك يا بت."
ردت ترنيم بغضب:
"انت كده مفكر نفسك راجل يعني لما تستقوى على أمك وأختك. فوق يا تامر، الطريق اللي انت ماشي فيه ده آخرته سودا."
صفعها عبد الرحمن بغضب، قائلًا:
"اخرسي يا ف***، ليكي عين تتكلمي؟ ده انتي يا بت مقضياها مع ابن خالتك في أوضة، واحنا شايفين ده وساكتين. بس خلاص، من هنا ورايح ليكي أهل، هما أولى بيكي، أهل أبوكي يشيلوا ليلتك."
تكلمت وفاء بدموع، قائلة بترجي، وكأنها تحاول إقناعهم بالتوقف:
"أبوس إيدك يا عبد الرحمن، سيبها في حالها، أعمل فيا أنا اللي انت عايزه."
ردت ترنيم بغضب من أعماق قلبها:
"مش البيه طلع اسمه رجب عطالله، مش عبد الرحمن."
اقترب منها، وأمسكها من شعرها بقوة. من شدتها سقطت على الأرض، وبدأ يجرها من شعرها وهو يقول بغضب:
"حلو أوي كده. ومدام عرفتي الحقيقة، يبقى اللعب على المكشوف، وهوريكي وش رجب الحقيقي."
أنهى كلامه بدفعها داخل الغرفة وإغلاق الباب من الخارج، ثم نظر إلى تامر، قائلاً:
"اتصل بأهل أبوها، وقولهم يجوا يخلصوا زي ما كانوا عايزين يعملوا."
أومأ تامر برأسه بالموافقة، وأمسك الهاتف وبدأ في تنفيذ كلام والده، كأنهما يخططان لمستقبل مظلم.
مالت وفاء على قدمه بترجي، قائلة، وكأن عجزها أمامه أوقعها في دوامة من الخوف:
"أبوس رجلك، بلاش يا عبد الرحمن، بترجاك."
دفعها بقدمه بقوة بعيدًا عنه، وجلس على مقعده، قائلًا بصوت عابس:
"جهزي نفسك علشان الشقة دي، أنا هخدها، وباقي البيت هتخده مرات المعلم حافظ. وانتوا بقوا ابقوا شوفوا مكان في الشارع، ناموا فيه."
حركت وفاء رأسها بدموع، وظلت على هذا الوضع حتى أغمي عليها، كما لو أن الدموع قد استهلكت كل طاقتها. نظروا إليها بعدم اهتمام، وواصلوا ما كانوا يفعلونه بلا رحمة أو شفقة، كانت أقدامهم تحطم بقايا الأمل في قلوبهن.
**************************
جلس سلطان على المقعد، تتلاعب به أمواج الغضب والقلق في آنٍ واحد، فكانت مشاعره كالعواصف التي تتجمع في السماء، ثم تحدث بصوت مختنق يكاد يخنقه الألم:
“مكنتيش تعبتي نفسك وجيتي يا أما المشوار تعب عليكي.”
تحدثت صباح وكأن كلماتها تتساقط كدموع المطر على وجنتيها، فكان صوتها محملاً بالحنان والخوف، قائلة:
“تعب ايه بس يا ابني؟ لو مكنتش جيت واطمنت عليك بنفسي، مكنتش هرتاح رغم وجودك هنا وبعدك عني مفهوش راحة.”
نظر إليها بحزن عميق، كأنما ينظر إلى أمل فقده، ثم تحول بنظره إلى حسام بقوة وعزيمة، قائلاً:
“حسام، أنا سايب مكاني راجل، خلي بالك على أهل بيتي لحد ما أطلع من هنا. وشغل المكتب والشركة، معلش خلي بالك منهم. وسميه هتساعدك، أنا بثق فيك أكتر من نفسي، أياك تخذلني يا حسام.”
رد حسام بنبرة جادة وقلبه مفعم بالإخلاص، كأنه يعده بوعد غير قابل للكسر:
“متخافش يا معلم سلطان، رقبتي سدادة وأهل بيتك في رعايتي لحد ما تخرج لينا بألف سلامة. والشركة والمكتب هيمشوا وكأنك موجود بالظبط، حتى لو الأنسة سميه مقدرتش تساعدني.”
وضعت سميه رأسها على صدر سلطان، والشعور بالفقد يزحف نحوها، ودموعها تتساقط كالمطر، قائلة:
“أنا مش مصدقة نفسي إنك هتفضل في مكان زي ده، أنا خايفة أوي يا سلطان. طول عمري بنام مطمنة، لأني عارفة أنك موجود في البيت. حتى لما كنت بتسافر أو تروح عند مراتك، كنت نايمة ومتأكدة أن مستحيل حد يفكر يمس شعرة مننا، لأنهم هيخافوا منك. إنما دلوقتي ضهري اتكشف، حاسة بالخوف والرعب من فكرة أننا هنكون لوحدنا وأنت متقيد كده.”
حرك يده برفق على وجنتها، كأنما يريد أن يمحو آثار الحزن، وتحدث بنبرة هادئة حنونة، قائلًا:
“يا بت متخافيش، أنا هفضل احميكم حتى لو آخر يوم في عمري، وحتى لو مقفول عليا مليون باب. وبعدين حسام مكاني، وأنا واثق أنه هيقدر يحميكم.”
تعالت شهقاتها وتمسكت به أكثر، شأنها شأن طفل يخاف من الظلام، وظلت تبكي بحرقة، وكأن الألم يبدو ثقيلاً على صدريهما. أبعدها عن حضنه بلطف وكوب وجهها بين يديه، مُحدثاً بنبرة حنونة، كأنه يحاول أن ينقل لها قوة الأمل:
“أخت المعلم سلطان، متعيطش مهما حصل، خلي راسك مرفوعة لفوق. إن شاء الله هخرج من هنا قريب أوي، وهسلمك لجوزك بأيديا دول.”
ثم أزال عبراتها بأصابعه برفق، مُستخدمًا لمسة تفيض بالحنان التي نقلت لمسة من الأمل في قلبها، قائلاً:
“يلا روحوا بقى ترنيم في البيت لوحدها، خليكم جنبها، هي محتاجة وجودكم دلوقتي أكتر من أي وقت فات.”
وقفت صباح وساعدها حسام على ذلك، ثم نظرت إلى سلطان، محملة بكلمات لم تُقال بعد، وتحدثت بصوت حزين لكن عميق:
“أنا واثقة فيك يا ابني، وعارفة أن اللي خلف مماتش. وزي ما كان أبوك مثال للشرف والأمانة، أنت كمان كده. بدعيلك يا حبيبي يبعد عنك ولاد الحرام، ويحبب فيك خلقه. قادر يا كريم على حمايتك.”
اقترب سلطان منها، مقبلاً رأسها بحب، قائلاً بابتسامة حزينة لكن تحمل في طياتها وعوداً:
“متخافيش يا أما، أنا عمري ما أمشي في السكة دي، أبويا علمني يعني إيه الأمانة والشرف، وحياتك عندي، هدفع كل واحد تمن غدره بيا، بس أخرج من هنا بس.”
تحركت صباح وسميه إلى الباب، وتابعهم حسام بعزم، لكن أوقفه صوت سلطان، صوت يحمل في نبراته الحاجة للأمان:
“نعم يا معلم سلطان.”
نظر له نظرة مطولة، محملة بمعاني أعمق من الكلمة، ثم قال بعمق:
“اصبر، عايزك.”
***************************
جلست ترنيم في غرفتها، أسندت ظهرها على الباب، وضمت قدميها إلى صدرها، بينما تساقطت دموعها بألم ووجع، وكأن كل دمعة تحمل معها ذكريات مؤلمة. كانت الغرفة محاطة بصور قديمة تجمعها مع سلطان، تلك اللحظات السعيدة التي تعكس الضحك والبهجة، ولكن ذلك لم يكن كافيًا لتخفف من حدة الألم الذي يشعر به قلبها. تفكرت في سلطان، ذلك الشخص الذي كان يحميها ويدللها، والذي كان دائمًا موجودًا في كل لحظة صعبة، لقد كان بالنسبة لها هو السند والملجأ، وكان وجوده يمنحها القوة والشجاعة لتجاوز كل الصعوبات.
لكنها الآن شعرت أنها في الرمال المتحركة، كلما حاولت الهروب زاد الأمر سوءًا. انهمرت الدموع بغزارة، وتمنت لو أنها تستطيع الاستيقاظ من هذا الكابوس، لاسترجاع أيام كانت فيها حياة خالية من الألم، أيام احاطة سلطان لها والأمان الذي كان يشعرها به.
لكن، وفجأة، استرجعت بعض القوة. شعرت بشيء بداخلها، دفعة من الإيمان بنفسها، فمسحت عينيها بظهر يدها، وتكلمت بصوت مليء بالعزيمة والإصرار، كان كأنه يخرج من أعماق قلبها:
"لا، مش ترنيم اللي تقعد وتحط إيديها على خدها وتعيط. أنا تربية سلطان، ودلوقتي بقى هتظهر التربية دي على أرض الواقع."
استقامت بجسدها ، وكأنها استعادة قوتها بالكامل، وتحركت نحو الشرفة، حيث أخذت تتأمل المشهد من حولها. كان هناك نسيم عليل، يرفرف بشعرها، ولكن لم يكن ذلك كافيًا ليمحو شعور الخوف الذي يعتمل في داخلها. نظرت إلى الأسفل، ورأت الطريق الذي شهد الكثير من الصراعات والألم، ثم تسلقت على السور بحذر، وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تبدأ في القفز، حتى هبطت إلى الأرض بنعومة، وكأن عزيمتها التي استعادتها جعلتها تطير لحظات. ركضت بسرعة، تحاول الهروب من قيد عائلتها الظالم، لكن أخاها تامر وقف في طريقها كحائط صد. نظر إليها بغضب واضح، وقد تجلي في عينيه عاصفة من المشاعر المتناقضة، ثم قال:
"رايحة فين يا حلوة؟ ناوية تطفشي."
دفعت تامر بقوة من صدره، كانت كلماتها محملة بكل ما عانته في هذا المنزل المعتم، وصرخت:
"ابعد عن سكتي يا تامر، بلاش شر أبوك يسيطر عليك. سيبني أروح عند سلطان."
أمسك تامر بشعرها بعنف، وكأنما أراد أن يثبت لها أن أي محاولة للهرب لن تنجح، وأرغمها على التحرك معه، وهو يقول بصوت خشن:
"هو أنتي لسه شوفتي شر؟ أنا هشرب من دمك، وأبقى وريني سيد الرجالة هيجي ينقذك مني إزاي."
في تلك اللحظة، كانت في قلبها تتصاعد مشاعر الغضب والقلق، فدفعت يده عن شعرها وصفعته بغضب على وجهه، وكلمته بصراخ قوي:
"فوق يا تامر، فوق قبل فوات الأوان."
كان تامر ينظر إليها وكأنه أمام كائن من عوالم غريبة، ضغط على أسنانه بعزيمة، وازدادت قوة قبضته على شعرها، ثم جرها باتجاه مدخل المنزل كما لو أنها خرقت كل قوانين العائلة، وكأنها خائنة. صعد بها إلى الأعلى، وهو مكمل عملية التجريد من حريتها، ودفعها إلى الداخل لتسقط على الأرض، وقلبه يتخبط بين الغضب والحيرة. نظر إلى والده، الذي كان بقوة سلطة في عينيه، ثم قال باحتقار:
"الهانم كانت ناوية تهرب لولا أني شفتها ولحقتها."
نهض رجب من مقعده، حيث كان يجلس بملامح مظلمة تعكس الغضب العارم الذي كان يجتاحه، واقترب منها بخطوات ثقيلة، فأمسك بشعرها بطريقة مؤلمة، مما جعلها تشعر بألم شديد وشعور بالإذلال. وقال بصوت مملوء بالحقد:
"يا بنت الكلب، عايزة تهربي؟ ده أنا هكسرك رقبتك."
ردت عليه، رغم الخوف الذي كان يتملّكها، بصراخ مكتوم له صدى في أرجاء الغرفة:
"أبويا مش كلب، انت اللي ابن ستين كلب، بابا ضفره برقبتك يا معفن."
في لحظة الغضب تلك، صفعها بقوة على وجهها، وانفجرت دماؤها من أنفها كدليل صارخ على قسوة فعله. نظر إليها بعينين مشحونتين بالتحدي، ثم قال لها بغضب:
"أنا هعرفك تطولي لسانك عليا إزاي، ولا تامر هات الحزام من جوه."
جلست وفاء، بجسدها الهزيل الذي يعكس ألمها النفسي والجسدي أمام ابنتها، وهي تشعر بالعجز عن حمايتها. بدأت تبكي بعمق، بيدين مرتجفتين، وتترجى وتستجدي محطمّة القلب:
"لا، لا، أبوس رجلك، متعملش فيها كده. بترجاك، أعمل فيا اللي انت عايزه، بلاش بنتي."
دفعها رجب بقوة، وكأنه كان مستعدًا لتجاوز كل الحدود الإنسانية، وأبعدها عن ترنيم، كأنه يمثل دور الجلاد الذي لا يرحم، ثم أخذ الحزام من يد تامر الذي كان واقفًا مترددًا، وبدأ يعاقب ترنيم بعنف يعكس انحرافه الأخلاقي.
أغلقت ترنيم عينيها باحثة عن ملاذ من الآلام التي كانت تتوالى عليها، وبدأت دموعها تتسابق على خديها كأنها تريد أن تعبر عن أكثر مما يحتمله قلبها. تحدثت بصوت ضعيف، عميق من داخل جراحها، وقالت:
"أنا متأكدة أن سلطان هيدفعك التمن على كل اللي بتعمله ده. متفرحش أوي بحبسته دي،"
نطقت ترنيم الكلمات بصوت مخنوق، تمامًا كما كانت دموعها تسيل بغزارة على وجنتيها. كانت تعرف في أعماقها أن للظلم ثمنًا، وأن من يزرع الشر سيجني البؤس يومًا ما. شعرت بشيء من القوة وهو يشتعل بداخلها، وقد رأت نفسها في عيون والدتها، التي دائمًا ما كانت تحذرها من العواقب المترتبة على الطغيان والكراهية.
ضربها بقوة أكثر، وصرخ بغضب:
"أبقى وريني هيجي سبع الرجال ينقذك مني إزاي يا ف***،"
تألمت بشدة، وبدأت تظهر على جسدها علامات زرقاء من ضربة الحزام الجلدي، مما أضاف الشعور باليأس إلى وضعها المأساوي. لكن الجروح، سواء كانت ظاهرة أو خفية، لم تتمكن أبدًا من كسر روحها. كانت تأمل في أن يأتي يوم يتحقق فيه العدل وينتهي فيه الأمر الظالم. وفي تلك اللحظة، اندفع الباب بغضب ودخل غريب ضرغام، نظر إلى رجب بغضب شديد، وكأن عينيه كانت تمطران الغضب بينما اقترب منه وانهال عليه بالضرب، في محاولة لتحرير ترنيم من براثن هذا الظلم.
حاول تامر الهروب، لكن غريب صوب سلاحه نحوه، وكاد أن يطلق عليه رصاصة، لكن لحظة عصيبة انهالت برؤوسهم. وقفت ترنيم سريعًا أمامه، وحركت رأسها بدموع، قائلة:
"بلاش تأذي، أرجوك."
كانت تلك الكلمات صادقة، إذ كانت تعرف بأن العنف لن يحل الأمور، بل قد يعقدها أكثر. رأت في عيون غريب الحيرة.
نظر إليها لفترة طويلة، ثم أمسك بيدها وأرغمها على التحرك معه. شعرت بالضوء في نهاية النفق، وها هي تستشعر الأمل يتجدد. وعندما وجدها تتألم، مال بجسده وحملها بين ذراعيه، وتحرك بها إلى سيارته.