رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة و الثانى و الستون 162 بقلم اسماء حميدة

 

 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة و الثانى و الستون


في الزاوية الهادئة من المطعم حيث تعزف الموسيقى بنعومة تشبه همسات القلب جلس كارم إلى جوار سيرين كأنهما يهربان معا من ضوضاء العالم إلى عزلة مؤقتة تشبه الحلم المؤجل كلا منهما في عالمه.
أما عن كارم كان قد طلب مسبقا من الشيف إعداد كل ما تحب الأطباق التي لطالما تذوقتها بعينها قبل فمها تلك التي تحفظها ذاكرتها لا معدتها... وحين وصلت الأطباق قال وهو يمعن النظر في تفاصيل وجهها الذي بدا كزهرة فقدت لونها تحت الشمس
لقد فقدت من وزنك كثيرا... ينبغي أن تأكلي يا سيرين.
قالها بنبرة يغلفها حرص عميق كأنه يخشى أن تتلاشى من بين يديه دون أن يراها تمضي.
ابتسمت سيرين ابتسامة باهتة ثم التقطت أدوات المائدة ببطء يشبه التردد قبل اتخاذ قرار مصيري لكن الشهية كانت غائبة كما لو أن الطاولة رغم امتلائها لم تحمل إلا فراغا يشبه الذي يسكن صدرها.
رفعت نظرها نحوه وسألت بهدوء ظاهر يخفي وراءه زوبعة من الفضول
بالمناسبة... عم تحدثت مع ظافر
لم يرفع كارم رأسه بل تناول

القليل من الطعام ووضعه برفق في صحنها كأب يطعم طفلته بإصرار حنون ثم قال
لا شيء مهم... كلها أمور متعلقة بالعمل ليس إلا.
لكنها لم تقتنع فهي تعرفه عن ظهر قلب لذلك أعادت السؤال وقد اشتدت نبرتها قليلا
هل صعب ظافر الأمر عليك
توقف للحظة ثم رفع بصره إليها وفي عينيه بريق من المزاح الطفولي الذي يختبئ دوما خلف قناعه الجاد وقال مبتسما
هل تظنين أنني فتى صغير كيف له أن يصعب الأمور علي
كانت تلك طريقته المفضلة لمداعبتها... إثارتها بالكلمات ومراوغتها بلطف لا يستفز.
لاحظت سيرين كما في كل مرة أن هذا الرجل الذي يبدو للعالم حازما صارما شديد الوقار... يتحول أمامها إلى شخص آخر.
أمامه موظفون وحلفاء ولكن معها فقط معها يظهر ذاك الطفل المختبئ في زاوية قلبه يعبث بالكلمات ويشاغب بالعينين.
قالت بإصرار لم يخلو من دفء المحبة
أنا جادة كارم... إن كان يضايقك أو يضغط عليك فعليك أن تخبرني... أستطيع مساعدتك.
رمقها بنظرة مطولة كأنها خيط نور يتسلل إلى فجوة مظلمة في داخله
ثم ابتسم بسخرية رقيقة وقال في سره
لماذا أفعل ذلك أنا رجل اعتاد أن يواجه العواصف وحده.. هل سأدعك تتصدين لظافر عني كيف أسمح لنفسي أن أكون سبب قلقك
لكنه لم يقل شيئا من هذا بل اكتفى بأن يعيد ملء صحنها وهو يقول بمزاح يخفي الكثير
توقفي عن الكلام وابدئي بالأكل لقد جعلتني أشعر وكأنني أطهو لك بيدي.
كان يحاول أن يشتت قلقها... أن يحول الحوار من ساحة مواجهة إلى مائدة دافئة أن يبعد عنها شبح ظافر ولو لساعة... فقط ساعة يشبه فيها وجوده الأمان ويشبه وجهها الوطن.
لم يكن أمام سيرين مهرب من الطعام سوى الاستسلام كأنها تأكل لا لتشبع جوعا بل لتخدع العالم أنها بخير.
التقطت الملعقة بتردد وخفضت رأسها بينما كانت يداها تتحركان بآلية باردة فوق أطباق لم تعد تغري حواسها.
لكن كارم بعين تشبه عدسة كاميرا لا تفلت تفصيلة لاحظ ما هو أعمق من فطور مهمل... لاحظ قميصها ذو الياقة العالية وأكمامه الطويلة التي كانت تغلف ذراعيها كوشاح ثقيل لا يليق بجو خانق كهذا.
المكيف يعمل.
.. نعم... لكن ليس إلى درجة تجمد أطرافك.
قال بنبرة رقيقة كمن يتلمس المعنى من وراء الكلمات واستكمل بقلق حقيقي
هل كنت مريضة مؤخرا... البرد يؤثر عليك سريعا أليس كذلك
رفعت رأسها قليلا وواجهت عينيه بنظرة خافتة مشبعة بالحذر ثم هزت رأسها
وقالت باقتضاب مرتبك
لا... مكيف المكتب فقط مرتفع جدا.
كانت الإجابة جاهزة... مرتبة سلفا في درجها العلوي تماما كأوراقها لكن عيناه لم تصدق ما قالت.
ابتسم كارم ابتسامة خفيفة كمن لا يشتري القناع الذي ترتديه ثم قال
في المرة القادمة ارتدي سترة خفيفة... هذا القميص يخنق رقبتك.
توقفت عن المضغ وابتلعت ريقها قبل اللقمة... همهمت بكلمة غير واضحة ثم خفضت رأسها من جديد كما لو أنها تحتمي بالظل من نور يفضح ما تحت الجلد... كانت تخشى أن يرى... أن يلاحظ ما تحاول طمسه.
تلك العلامات التي لا تصدر عن مرض بل عن ندم... ووجع.
وما لم تكن تعلمه... هو أن ظافر من بعيد كان يراها أيضا... لا بجسده بل بعينيه المتسللتين من خلف الشاشات.
في غرفة
أخرى من ذات المطعم كانت الكاميرات
 
تنقل إليه ما يكفي لتشبع رغبته في السيطرة وما يكفي أيضا لتغلي الدماء في عروقه كما تغلي المرارة في الحلق.
أشار ظافر إلى إحدى النادلات وهمس في أذنها بعض الكلمات ثم مال للخلف في مقعده يراقب.
بعد لحظات تقدمت النادلة إلى الطاولة الخاصة بسيرين وكارم ثم قالت بابتسامة رسمية
مساء الخير سيدي وسيدتي... هذه زجاجة نبيذ نقدمها كهدية من المطعم.
لم تنتظر ردا... بل تقدمت بخطى ثابتة نحو سيرين وشرعت في صب الكأس لها.
لكن كارم وبحدة اختلطت فيها الحماية بالرفض قال
لا داعي لذلك. نحن لا نشرب.
كانت لهجته واضحة... نهائية.
هو يعرف سيرين يعرف تماما أنها حين تشرب تصبح امرأة أخرى...
امرأة لا تسيطر على نفسها ولا على شظاياها.
ارتبكت النادلة للحظة فارتجفت يدها...
وفي طرفة عين كأن الزمن تعثر فيها سكب الكأس بالكامل فوق سيرين.
تجمد الهواء وقد تناثرت على قميصها الفاتح كدم يفضح... شهقت النادلة بتفاجئ مصطنع ومدت يدها بمناديل وهي
تلهث ندما أجادت استحضاره قائلة
أنا آسفة آسفة جدا! لم أقصد أقسم...
لكن سيرين كمن اعتاد امتصاص الكوارث قالت بصوت خافت لا يخلو من ارتباك متماسك
لا بأس... سأفعل ذلك بنفسي.
كانت تنقذ النادلة من الخجل وتنقذ نفسها من الانكشاف لكن في داخلها كانت تشعر وكأن لم تسكب على جسدها بل على روحها العارية التي كان ظافر يراقبها... ويضحك في الظل بمكر فقد نجحت خطته وكشف المستور فبينما انسكب النبيذ الأحمر على عنقها مخلفا أثره كخيط دم نازف فوق بشرتها البيضاء هرعت النادلة المتآمرة تفك أزرار ياقة قميص سيرين في محاولة عبثية لتدارك الموقف... وبالرغم من تواطئ النادلة إلا أن أصابعها كانت ترتجف وكأنها تخشى أن تلامس السر المخبأ تحت تلك القماشة حتى بعد أن أخذت ثمن تمثيليتها تلك.
نهض كارم من مكانه ببطء مريب كسرب دخان يتسلل من فتحة موقد وسار نحوها بملامح محايدة تخفي عاصفة وما إن اقترب حتى وقعت عيناه على عنق سيرين... هناك عند مفترق
الظل والنور تجلت علامات حمراء كالوشم تحاكي آثار متوحش نقشت .
ثبت نظراته للحظة ثم أشاحها عنها كمن يهرب من اعتراف موجع وهو يمد يده للنادلة ببطاقة ائتمان دون أن يعلق وقال بصوت رتيب تغلفه نبرة الآمر العطوف
اذهبي... واشتري للآنسة ثوبا جديدا.
أومأت النادلة برأسها كأنها طفلة أمسكتها المعلمة متلبسة بالخطأ وتمتمت بصوت خفيض
أجل سيدي...
ثم غادرت كمن يفر من ذنبه.
أما سيرين فبقيت واجمة لا تدري أأميط اللثام عن سرها أمامه أم لا... لم تكن تعلم أو ربما تظاهرت بالجهل أن عينيه رأتا ما كان عليها أن تخفيه.
تصنعت التماسك وقالت وهي تتهرب من تلك اللحظة المعلقة بين الشك واليقين
سأذهب إلى الحمام...
أجاب كارم بهدوء يخفي وجع الاكتشاف
سأطلب من النادلة أن تأتيك بالملابس إلى هناك.
أومأت سيرين برأسها لكن خطواتها كانت أسرع من الكلمات... كانت تهرب.
وفي الممر الطويل المؤدي إلى الحمام المشترك حيث تعكس المرايا وجوه الهاربين من
أنفسهم توقف الزمن فجأة.
كان هناك... يقف منتصبا كتمثال من رخام أسود يتربص كالذنب الذي لا يغفر.
وبذراع واحدة أمسكها ظافر من معصمها وسحبها إلى الداخل قبل أن تلتقط أنفاسها وأغلق الباب خلفهما بقوة كأنه يعلن بدء محاكمة بلا شهود.
تراجعت سيرين خطوة يملؤها الذهول وتلاطمت الأسئلة في رأسها كأمواج بحر هائج ثم همست بصوت متكسر
ما الذي تفعله هنا كيف...
لم يجبها في البداية بل اكتفى بأن يحدق في عنقها... هناك حيث كانت آثاره ما تزال دافئة.
ثم تنفس كمن يبتلع خيبته وقال بتهكم مر
مجرد صدفة يا سيرين... صدفة جعلتني أكتشف كم أن زوجتي تعرف كيف تستلذ بالعشاء مع رجل غيري.
بصق كلماته الأخيرة كما يبصق لغما انفجر في صدره بينما عيناه لا تفارقان آثار على بشرتها... كأنها صارت خريطة تقوده إلى الهاوية.
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1