رواية من بعد خوفهم الفصل العشرون بقلم حمدى صالح
جرّت زينب خُطاها عائدةً للبيت بإرهاقٍ بارز أسفل جفونها، أُزيلت المِفتاح بهدوءٍ مُلقيةً السلام باحثةً عن شيءٍ هربًا من والدها، استقبلها بملامحٍ غاضبةٍ:
-هل ينقصكِ شيئًا؛ كي تعملين لوقتِ العشاء؟
-ينقصني نفسي التي أُهدرت منذ رحيل أمي تاركةً فتاة تعاني من تصرفاتك مع أخي الذي بَدل تعاملهُ معك مِن أجلي، أنا ألحيتُ عليه ووثقتُ بك، لكن ردك أفزعني حينما صرختُ على زوجتك الأولى من أجل شيئًا أُريدهُ لنفسي، لِيِّ ولطريقي، تخيلتُ غدرها بيّ لكنك طعنتني برحيلك، هل عملك ينتهي لوقتِ الفجر يا أبي؟! لم تسأل نفسك كيف نعيش بدونك! فقط سويعات تنام بها ثُم تمارس عملك تاركةً ابنتك، هل احتضنتني؟! هل اهتميتُ بي؟ أنت تسأل رهف، لمَ لم تحملين طفلًا! تتدخل في أمور أخي الذي تهاون على نفسه حتى، ما هذا التغير المفاجيء يا أبي!
دلفت زينب لحجرتها وهي تُلملم ثيابها بحقيبةٍ كبيرةٍ، خُذلت مِن والدها وتهشَّمت علىٰ خيباتها، غادرت لمنزل أخيها رغم ما بها، لم يتمسك أباها بها وكأنها خطيئةً في عالمهِ، روت ما حدث لرهف التي ضمَّتها بحنوٍ تحت مراقبة ياسر، وهو يجذبها للمرحاض، طفلتهُ المفضلة تنهر نفسها!
مسد على شعرها متمتًا برفقٍ:
-لن يضرك شيئًا، منزلي منزلك، ستكونين بخير، أخوكِ هنا لن يمسكِ سوءًا.
أكملت رهف:
-أردتُ الثرثرة معكِ وحيث ذلك ستبقين هنا حتى تصبحين قوية ومتعجرفة، فالطيبة في بعض الأحيان تضع الإنسان في استغلالٍ دائمٍ، تتعب صاحبها، وتتهالك الروح هباءًا، ستصبحين خالةً أيتها البلهاء!
تلاشت حزنها فور كلماتها الأخيرة وهي تلامس بطنها بحنوٍ:
-ولمَ لم تخبريني، تعلمين ما يحدث معي!
-لا أحد يعلم يا حبيبتي، كما أنَّني أرهقتُ بالشهر الأول، شقيقك بشكلٍ خاصٍ خبئتُ عنه في الأيام الأولى، انظري لنظراتِه الشريرة يا شرير.
ضحك وهو يقترب من حجرةِ عمله:
-تدللين فأنتِ تستغلين حملك عليِّ، سأريكما الشر فيمَ بعد!
-أخي! أنا لا أعلم زوجتك، مَن أنتِ يا امرأة، أنا حبيبتك الصغرى وطفلتك يا ياسر تنصت لهذهِ الأنثى المتكبرة!
تعالت ضحكاتهم رغمًا عنهم؛ ليتشاركوا الحديث سويًا، ليالٍ من الألم في صورة سعادة وحب.
ــــــــــــــــــ
تعتلي فراشها بحجرتها مُغلقةً المصباح بعد ليلةٍ طويلةٍ، تتكور عنود كالجنين بعد تبديل الشراشف بواسطة مؤيد، تضم بطنها في صمتٍ تامٍ، لم يتحدث معها بل يرمقها بنظراتهُ الحادة، تناولها للدواءِ ثُم ثورانها بالمشفى، أحسَّت بغدرِها لهُ كُلمَ تلاطمت الذكريات علىٰ رأسها من كتمان أمور أمها ثُم تجاهلها خوفًا عليها من نفسه ومشاعرهُ، استندت على الكومود واقفةً علىٰ قدميها في ضعفٍ تامٍ.
صوت المياه يصدر من المرحاض وبينما يرتدي سترتهُ العلوية وجدها واثبةً أمام الباب، تجاهل نظراتها عائدًا للحجرة الصغيرة التي صنعها خصيصًا لهوايته، فضل السكوت؛ كي لا يدمرها أكثر بل فوجيء بحديثها وهي تطرق الباب:
-أنا آسفة، أنت صدقت في حديثك، أنا مثل أمي وطفلك سيعاني بسببي!
تمتم مؤيد بداخلهِ:
-استغفر الله العظيم واتوب إليك، هدئني يا ربّ.
أزال القفل بعد وقتٍ متحركًا لها، تُلملم الثياب المتسخة بالسَبتِ،ضوء المطبخ مشعلًا تغسل الصحون، رسم الجدية مُردفّا:
-أتناولتين الدواء!
صمتت ملتقطةً الدواء ثُم تناولت فاكهةً صغيرة، اقترب مغلقًا الصنبور.. يرفع رأسها لمستواه:
-لمَ!
-خفتُ.. خفتُ منك، من لمساتك، من روحي، لم تشفى ندوبي، أنا توقفتُ عن العلاج منذ فترةٍ وجيزة ونسيتُ القاءهُ بالقمامة، أنت اكتشفتُ فعلتي حينها تناولتُ قرصًا وعندما عدتُ حدث ما حدث، لم أقصد قتل طفلي بيدي، لا تغادر بسببي يا مؤيد، سامحني لم أقصد جرحك.
الخوف هو بداية الكارثة في شتىٰ الأمور، شيءٌ واحدٌ يعجزك، يجعلك تائهًا كطفلٍ شاردٍ في دجى الليل!
نظر لعينيها مبتعدًا قليلًا:
-أنتِ طعنتي كرامتي ولن أعذرك؛ لأنّكِ لم ترِ مني شيئًا سيئًا، أنا دافعتُ عنكِ في كُل مصيبة تحل علينا، وأنتِ.. أنتِ زرعتِ الخوف بداخلك ورسم الشيطان تفكيرك الخاطيء، أنا متأسفٌ على كلمة (مثل أمك).. ولكن أسفك لن أقبلهُ، كدتِ قتل الجنين بيديكِ في لحظةٍ غاضبةٍ، أنا بجوارك ولكن لن أعطي الثقة لكِ، سأخبر عمي بأنَّكِ مرهقةً ولن تستطعين مساعدة لدن في عقد قرانها مثلما أمرتك الطبيبة.. اذهبي لغرفتك ولا تفعلين شيئًا يرهق جسدك وابني..اذهبي!
أجابت بملامحٍ باهتةٍ:
-هل ستهجرني حتى أضع طفلنا؟! لا تكن قاسيًا عليِّ، على العموم أنا أخبرتُ أختي بما حدث ولم ترفض.. أما أنا سأهلك نفسي حتى أفقد روحي وترتاح من مصائبي..
جذبها بعنفٍ لصدرهِ قبل أن تفعل شيئًا بنفسها، شهورٌ وحيدةٌ بالشقة لم تتعافى من حزنها، حملها برفقٍ للفراش وهو يضع الغطاء عليها، أمسكت يديه قبل أن يفر:
-أتمَّنى أن أحمل صبيًا يستلهم خِصالك الطيّبة لا أمًا تعقدهُ من الدنيا.
لم يعقب عليها مغادرًا المكان بألمٍ على ما توصل بعلاقتهما، هل سيكتمل هذا الحمل؟ هل سيصبح الأمر حقيقيًا أم أحلامًا؟!
ــــــــــــــ
شهرٌ مرَّ عليهم دون حدوث شيئًا سوى زواج شمس المفاجيء الذي صدم الجميع؛ فقد أمرهُ والدها بعقد القران في نفس أسبوع زواجهما، أسئلةٌ يستقبلها حسين بضيقٍ متجاهلًا الردَّ، لم يخبر أحدًا بشأن تِلك العلاقة سوى ياسر الذي ساهم في هذا الزواج رغم رفضهُ التام في التسرع، لم يكد التعافي من أفعال أبيه؛ فيقع حسين نفس الأيام وكأنها تُعاد على ثقلهما.
أحسَّت شمس بالتوهان في اقتناء منزلها الجديد فعاونتها زينب على الشراء في أيام عطلتها بينما والدتها منشغلةً بأمورٍ بعيدة عن ابنتها، ما تعلمهُ هو تحولها الفائق من فتاةٍ عزباء لواحدةٍ أخرى.. متزوجة من آخر إنسان تتمناه.
بأيامها الأولى استغربت الوضع؛ فقد انفرد بغرفةٍ صغيرة يستكمل بها دراسته والعمل في الصباح ثُم يضع الحاسوب علىٰ الطاولة؛ لتفعل ما تحب ليلًا، هادئًا، يمارس رياضتهُ بالحجرة، يتناول لقماتٍ خفيفةٍ ثُم يرجع كما كان.. يعطيها الأموال الخاصة بالمنزل وأشيائها في شكلٍ جدي بعد أنْ بدأت التحلي بالمسئولية برفقة لدن، محل والدهُ يخططن لهن ثُم يشتريا الخامات معًا، متجاهلين فكرة كريم لوقتٍ قصيرٍ.
لم يختلف الأمر كثيرًا عن لدن؛ فقد عُقد قرانها علىٰ أدهم في هدوءٍ تامٍ ثُم أخذها لمحل الذهب لاقتناء خاتمًا صنعهُ لها رغم اعتراضها، ساعدها في عدة أشياء بعد أن أعطاها بطاقة الائتمان؛ لتفعل ما تُحب، يكفي فرحتها بكونها مسؤولةً عن شيءٍ أحبتهُ ومِن رائحة والدهُ، ما يزعجها هو سفر والدها على فتراتٍ لأنَّه موظفًا بأحد الشركات المعمارية.
ــــــــــــــــــــــ
ضرب الجرس بقوةٍ؛ لتننفض لدن للبابِ بملامحٍ نائمةٍ:
-مَن الطارق!
-عفريتٌ يدعى أدهم، ألا تعرفينهُ؟ افتحي يا غيبوبة!
أزالت القفل على مضضٍ، مردفةً على المقعد بمقطٍ وهي تتثائب:
-ماذا تُريد أيها العفريت في الصباح الباكر هكذا، جدتي نائمة ولن أيقظها مِن أجل طلباتك.
ضحك علىٰ هيئتها، قائلًا بنبرةٍ جدية:
-لأنَّني ذاهبٌ للعمل وجئتُ لزوجتي لا من أجل أحدًا، اشتريتُ هذا وسآتي ليلًا لآخذك لشراء أجهزة البيت.
-انتظر!
كلمةٌ واحدةٌ خرجت منها وهي تهرول للمرحاض تضع المياه الدافئة على وجهها، ارتدت نظارتها تحاول استيعاب الأمر كُليًا، ثُم فرغت محتويات الكيس، هاتفٌ من الطراز الحديث مع مشتملاته، باغتتهُ بإستفهامٍ:
-لمَن هذا!
-لكِ، رجاءً لا تبكين، أنا قصدتُ سعادتك، وتمَّنيتُ شراء الشيء الثاني ولكن لم يحالفني الحظ في ذلك الحين.
ظلّت صامتةً لثوانٍ وهي تضع يديها علىٰ عينيه تخبيء دموعها المكتومة منذ فترةٍ، ضاقت عليها فلم تبلغ والدها باحتراق حاسوبها الخاص بالعمل؛ فاعتذرت للجميع وابتعدت عن أشيائها المفضلة، لم يكفيها هذا فحسب بل اصدمت برؤية هاتفها المكسور علىٰ حين غرةٍ، لم تبرز حزنها أمامهم بل ادَّعت عدم الاهتمام بهذا الأمر عكس داخلها، تبكي كُل ليلةٍ وهي تدعو الله بأنّ يرزقها خير الأمور.
قبل جبينها، مُردفًا:
-فرج الله واسع يا لدن.
-الحمد لله علىٰ ما كُتب، سعادتي لا توصف وأنا أحمل شيئًا خاصًا بي أنا،
شكرًا لك يا أدهم.. حققت حلمًا صعبًا ولكن (يا رب) تزيل كل العوائق.
ردَّ أدهم في حزمٍ:
-أنا لا أرَ مشاعر بحديثك يا لدن، حاولتُ مرارًا تكذيب نفسي ولكن عينيك تخبرني بالكثير، لم تنتبهين أنَّ عطلتي اليوم، لا تتحدثين مثل الماضي، إلى متى سيكون هذا العقاب ساريًا عليِّ؟! ألا ترين نفسك! شهرٌ تعامليني هكذا، أقترب منكِ بالعمل وأحاول.. أنتِ قاصدة!
غادر قبل أن ينفجر بها، مشاعرٌ مكتومةٌ لم تبوح رغم محاولاتهُ المستدامة في إصلاح أمورهما، أحسّت بتيهٍ ينجرف بداخلها؛ فلا رجل يحاول هذه المحاولات إلا الأوفياء، والآن نفذ رصيدهُ من أفعالها!
ــــــــــــــــــــ
عاد مؤيد كَكُل ليلةٍ يطمئن عليها في رسميةٍ تامةٍ، أزال المفتاح من الباب، الأضواء خافتةً علىٰ غير العادة، أجواءٌ رومانسيةٌ، الشموع الحمراء والورود مزينةٌ بطريقةٍ رائعةٍ، أشعل المصباح؛ ليجدها بمنامةٍ قصيرة حاملةً صندوقًا صغيرًا، رفع حاجبيه قائلًا:
-مَن أمركِ بفعل هذا!
أجابت عنود في ثباتٍ تامٍ:
-أنا، أنت ستعود إن عدتُ كما كنت..أو لأجل طفلك القادم لا من أجلي!
فَهم ما ترمى إليه مُضيئًا الأضواء، اقترب منها آخذًا الصندوق وما إن فتحه.. وجد مدونات فارغة لكتابته بالإضافة لعطرٍ يحبه ثُم ملابس للصغير مدوَّن عليها اسم (مؤمن)، أغمض عينيه بألمٍ؛ فكان اتفاقهما على الاسم قبل زواجهما وها هي تبكي لمجرد اهتمامهُ البالغ من أجل طفلهما، استمع لشهقاتها المكلومة جاذبًا إياها، مسد على شعرها الحريري بحنوٍ:
-أنتِ أولًا بالنسبة لي، وما حدث لم يكن إلا عقابًا يوم تخليتِ عن روحك، مشكلتك معي هو إهمالي لكِ غصبًا عني، في الواقع لقد عاقبتُ نفسي لمجرد كلماتي الطائشة، أنتِ ملكة البيت بدونك أشعر بالتيهِ، لو تعلمين تلك الليلة المشئومة خوفًا عليكِ وفقدانك، لم أصدق الطبيبة في حديثها حتى ورغم هذا تبدين جميلةً عكس آلالامك!
التفت في ثوب نومها وهي تتلاشى نظراتهُ خجلًا مِن فعلتها، كم كرهت كلمات الألم، الحزن، الفقدان، لعنت نفسها بمجرد التفكير في إيذاء نفسها من أفعال أمها، تلاشت العِبرات من عقلها وهو يلبسها خاتمًا مطبوعًا باسمه واسمها يوم زواجهما، لم ينسَ عصبيتها حينما انشق خاتم زواجهما بشكلٍ مفاجيء، وعدها بشراء غيره وادّعى النسيان، باغتها باستفهامٍ:-
-أين المياه!
ضحكت بخجلٍ وهي تتعلق برقبته:
-لا تكن خبيثًا أيها الكاتب، أم أصبحتُ بطلة روياتك!
-أنتِ قلمي وما تسطرهُ النقوش أقوى!
سحبها لعالمهُ الخاص المزركش بالأزهار البيضاء، يقسم بداخلهِ أن يشفيها من جوارحها رغم ظنونها الكاذبة وخوفها منهُ في بعض الأحيان من تهورهِ المستمر، تلك مَن أوصدتْ قلبهُ واحتلت عقلهُ من أنوثتها و رِقة أفعالها في اقتناء ما يُحب والآن هي الحياة حتى وإن تعركلا معًا في مشكلاتهم، تلوح ذكرياتهما يوم زواجهما، يوم أن لامست عنود أحلامها في مؤيد وكأنهُ يستلهم الحب من عينيها الفاتنة.
ــــــــــــــــــ
-(أنا أحبك، ثقي بي لمرةٍ واحدة).
رسالةٌ جديدة تحتفظ بها شمس مِن قبل حسين وهي تسلك طريق الرحيل للبيت، تنفست باختناقٍ وهي تقوم بغلق هاتفها مجددًا، لم يمل عن اثبات هويتهُ الجديدة في كُل يومٍ يشرق به، يتمنى لثانية أن تكُف عن البعد رغم بغضها الدائم لرؤيتهُ منذ الزواج منهُ، يوم عقد قرانها قُتلت بمشاعرها؛ فلم ترفض طلب والدتهُ الطيبة، لم ترَ منها سوءًا بقدر احترامها لها في كل شيء وكأنها اقتبست طباعها منها، خرجتت من صمتها علىٰ رنين كريم المستمر:
-أين أنتِ! أنا أكره هاتفك الصامت هذا يا أختي!
-وهل البيت تسكت به! أنت تزعجني يا كريم! ماذا تريد يا أخي؛ فأنا مختنقة..لا أودَّ الصراخ بك!
ردّ بحبٍ:
-أريدك أن ترتاحي؛ فاليوم سأطلب طعامًا لنا بدلًا من الطهي، تعلمين حبي للحم والدجاج في الخبزِ.
أغلقت الهاتف بوجهِ وهي تزيل دمعتها الحارقة، النيران تلتهب بصدرها كلمَ لامس حسين يداها أو اقترب من الجلوس بجوارها، ربما الخير الوحيد في الأمر هو السكن مع والدته، ألقت السلام سرًا قبل أن تنفجر من البكاء بحجرتها، تتمنى زوالها من الدنيا؛ وكأنهُ عِقابها، فشعور المرأة في كرامتها المهدورة من قِبل الجميع مُهلك، مستديم في استنزاف الروح.
عادت لأيامها الماضية وهي تخطو بقلمها علىٰ ورقة الزواج، يوم تجرد شعورها من الحب، والدها يجلس مقابل حسين، رهف تحاول بث الأمن بداخلها؛ لتتذكر ما حدث منذ اتفاق والديها معهُ..
جالسةً بجوار أخيها يتفق مع أبيها علىٰ أمور الزواج دون نقـاش، بل عزمت شمس علىٰ وجود ياسر؛ لتنفرد رهف بها، تعلم شروطها رغم عِلمها ببغض شخصيتهُ؛ ولكنها أصرّت علىٰ رضاء والديها، رضاء الجميع من أجل نظرة واحدة من الحب بأعينهم، شعرت بكبرياءها حينما نطق ياسر من فوه بأعين ثاقبة:
-ما تأمر به شمس مجيب إن سمحتم؛ فهي العروس وواجب الإنصات إليها.
-أريد الانفراد أنا وهو إن سمحتم!
قالتها شمس بثقلٍ علىٰ كاهلها قبل أن تتركهم متجهةً لحجرة الصالة، لحق بها بحذرٍ وقبل أن يغلق الباب، استمع لصوتها الحاد :
-لا توصد شيئًا، أنت خططت لهدفك وتزوجتني؛ فلا تفرح يا حسين، لن أكون ملكك ولو قُتلت بدماءك البخسة؛فاقتناء خاتم الزواج مجرد شيئًا سأفسدهُ يومًا، لن تلمس شعره واحدة مني، أفهمت!
ضحك بسخريةٍ:
-لطالما ترين هذا فحاضر، لن أرفض شروطك، اعلمِ جيدًا أنَّني تغيرت وسترين هذا بعينيكِ أيتُها العروس التعيسة!
عادت بذاكرتها علىٰ صوت الجرس المتكرر، وضعت خِمار الصلاة على رأسها تزيل القفل، شقيقها يحمل الطعام، حملت الأكياس بغيظٍ وهو يهرول للمرحاض من أجل الصلاة، طرق حسين بثقلٍ وهو يشعر بمعركةٌ ثقيلة يودُّ كسبها، بينما هي تتعركل في خوفها المرير، وعقلها التائه، انسحب لإحدى الغرف مُتخذًا وضعية الصمت رافضًا مشاركتهما رغم إلحاح كريم معهُ في كسر خطهم، لم ينسَ شجاره معه من أجل العيش معهم؛ كي لا يشعر بالوحدة بل يساعدهُ في دراسته دون مقطٍ.
باليوم التالي..
توترت قليلًا وهي تزيح باب الغرفة بعدما طرقت باسمه، نائمًا لا يشعر بشيءٍ، الشرفةٌ مفتوحةٌ علىٰ مصراعيها، أوصدت الباب خلفها تتطلع لهاتفها وهي تشعل الضوء بعينيه..!
مسح حسين وجه يُهدأ روعهُ مِن الأحلام المفزعة ناطقًا بعينين مغلقتين:
-اخرجي، أنا أشعر بالنوم.
-ولكنك نائمًا منذ الباكرة! ووالدتك بالأسفل أرسلتني لك.
قالتها شمس وهي تتحسس وجنتيه لأول مرة منذ زواجهما، جسدهُ مرتعشًا ولا يثور كعادتهِ، أسندتهُ برفقٍ للمرحاض تضع المياه على رأسه ثُم بدّلت سترتهُ العلوية وهي تدير رأسها خجلًا قبل أن تتركه بالفراش غارقًا في ثباتٍ لا يدرِ عنه شيئًا، جلستْ على المقعد المجاور تاركةً الباب مفتوحًا لساعتين، تشعر باختناقٍ بقدر رؤيته لملامحهِ الباهتة مُنذ آخر مرةٍ، تودُّ الاعتراف بأنّهُ تغير؛ لتعاند نفسها بألا تفتح لهُ طريقًا وتتعلق بكائنٍ تعلم هوّيتهُ جيدًا!
تشعر بالغرق في ليالِ الدجي المؤلمة وكأنها مقيدةٌ بأصفادِ الحديد التالف، انتبهت لصوتهِ الواهن:
-مَن بَدل ثيابي؟
غَيّرت الحديث سريعًا وهي تُلملم حقيبتها:
-والدتك تُريدك الآن؛ فقد أخبرتُها بإرهاقك وأمرتني بالبقاء هُنا حتى تفق.
وقف حسين بصوتٍ حادٍ:
-حسنًا، غادري ولا تعودين هُنا مُجددًا ولو متُ حتى، غادري!
صرخةٌ قوية خرجت منهُ قبل أنْ يسقط مُصطدمًا بالكومود أمامها! اقتربت بحذرٍ صارخةٍ من الشرفةِ علىٰ أخيها؛ ليهرول إليها، الدماء تتساقط من رأسهِ وهي بركنٍ بعيدٍ، دنى منها يطمئنها؛ لتأتي لدن تضمّها برفقٍ وهو يضمد جراح حسين، بقي جميعًا بجوارهِ بينما هي تنظر برعبٍ لبقعة الدماء أزالتها لدن رغم ارتيعابها من الدم.
غمغم حسين بكلماتٍ غير مفهومة وهو يمسك رأسه مِن شدة الألم، مُتطلعًا إليهم بتعبٍ بارز :
-شكرًا لك يا كريم ولكن خُذهن وغادر الغرفة، أودُّ الراحة.
هدر كريم بإنزعاجٍ:
-وهل تناولت شيئًا منذ يومين يا حسين أم لم تشتكِ بطنك من الجوع!
سننزل لآسفل حتى تتناول طعامك تحت مراقبة زوجتك، هيا يا لدن سيعلقنا أدهم، وأنتِ لا تصرخين مُجددًا، فقدتِ عقلك حقًا!
ذهبا سريعًا؛ لتُعد شمس الحساء والأرز في أطباقٍ علىٰ طاولةٍ صغيرة أمامهُ، جسدها المرتعش، دموعها المكتومة، لم تقدر على الوقوف بقدر خوفها عليه مِن طريقتهِ في الآوانة الأخيرة، هرولت للمرحاض باكيةً بغزارةٍ، تتذكر سخطها عليه وكرامتهُ المهدورة بسبب حديثها المستديم، شهقت بذعرٍ وهو يشّدها للخارج موصدًا الباب بقوةٍ:
-هل صرختُ عليكِ؟!
هزّت رأسها؛ ليكمل رغم ما به:
-ولمَ تفزعين هكذا؟!
-رؤية الدم تفجعني، هل تناولت طعامك؟
-نعم، سلمتْ يداكِ شكرًا، يُمكنك النزول فقط أغلقين الشقة، حتى تنهي عملكِ.
-أنا أنهيتُ عملي، إن أردت شيئًا أخبرني سأذهب لغرفتي، عن إذنك.
انسحبت بهدوءٍ؛ ليفتح التلفاز على القرآن مستلقيًا على الأريكة نائمًا في ثباتٍ تامٍ من شِدة الألم، قاوم حتى أرهق من التفكير في العمل، حياته المفككة، أمورها، حمل علىٰ كتفيه نوائب كُثرة فبات يتأذى من أقل شيء، لا يشعر بأحدٍ ولا حديثها بقدر اشتياقه للراحةِ ولو لبضع أيامٍ يستعيد روحهُ مجددًا؛ فمِن المؤلم علىٰ الإنسان تحمل أفعال البشر والصبر دون بث كلمة واحدة، لا يعتذروا على الحديث ولا يعترفوا بأخطائهم، الضحية الوحيدة في هذا الأمر هو أنت، تتهالك حتى تفقد سيطرتك ونفسك مِن كثرة السكوت.
رنين هاتفهُ المستمر أفزعه من النوم؛ ليردَّ متجاهلًا الاسم:
-مَن؟
-الوسادة تحدثك، مَن سيكون غيري يا حسين!
استرسل ياسر بجديةٍ:
-هل يمكنك السفر للقاهرةٍ بدلًا مني، العميل يريد تسليم الشيء في غضون شهرين وأخبرتهُ بك، هل مِن مانعٍ؟
أجاب باستفهامٍ: -متى السفر؟
-بعد يومين، ما به صوتك!
-موافق، جُرحتُ برأسي.. لا يهم الأمر.
ردّ بحزمٍ:
-ستأتي غدًا مع أُبيِّ دون نقاش يرهقني منك؛ لنرى ما بك!
ــــــــــــ
وقفت لدن أمام البنيّة بعد إنهاء لامساتها الأخيرة، تغلبت على خوفها وهي تزيح باب شقة أدهم؛ فمِن عادته ترك الباب مفتوحًا بعد وفاة أبيه، ألقت السلام علىٰ خالتهِ مردفةً:
-عذرًا إن قطعتُ عليكِ شيئًا ولكن أنهيتُ عملي..أين أدهم؟
-تتأسفين وأنتِ زوجة أدهم وحبيبتي، ادخلي لهُ.. ربما يكون نائمًا.
توترت قليلًا وهي تلج للغرفة باحثةً عنهُ، تحركت ناحية الشرفة.. واثبًا في هدوءٍ تامٍ، حمحمت بنبرة خافتةٍ:
-أدهم..!
تعجب من وقفتها فهي في حالتها الطبيعية لا تدخل الشقة، بآخر مرةٍ رفضت تناول الطعام معهم بمنزلهِ! تمتم بعصبيةٍ:
-ما الأمر المُهم؛ كي تدخلين لغرفتي هكذا يا لدن!
أمسكت دموعها وهي تولي ظهرها:
-أردتُ تسليم المفتاح لك، سأضعهُ هنا وأغادر، آسفة لاقتحام غرفتك دون إذن.
هرول أدهم تجاه الباب موصدًا إياه: -لدن!
-لا تقترب مني، افتح الباب الآن!