رواية من بعد خوفهم الفصل الواحد و العشرون بقلم حمدى صالح
هرولت بذعرٍ بعدما صرخ عليها، يشعر بالذنب تجاهها، لم يقصد إفزاعها بهذا الشكل؛ فقد تخطى ليلة أمسٍ بصعوبةٍ حينما اعتذر لها عن شراء شيءٍ وها هو ينهرها، ولج أُبيِّ لغرفته ليجدهُ مطأطأ الرأس لا ينظر لهُ.. فقط يلهو بيديه، جذب المقعد إيزاءهُ متمتًا:
-لمَ تركتها هكذا!
ردَّ بكسرهٍ:
-أنت صدقت يا أخي لن أتحمل عقابها، لم أقصد أقسم لك، تعلم مشكلة العمل والظُلم الذي يحدث معي، اليوم تلقيتُ عقابًا من مديري ودفعتُ النقود، لقد لعب أحد الموظفين وأصبحتُ كبشًا لهم، حسبي الله ونعم الوكيل، يشهد الله أنَّني بريء.
-سيحلها الله يا أدهم، ارتدي ثيابك واذهب لها، رُبما أتت لك أنت وتحججت بالمفتاح؛ فهي بالعادة تقذفهُ من الداخل، سآتي معك، ابتسم يا عفريت!
التقط هاتفهُ متجهًا معهُ لمنزلها؛ فقد التصق أُبيِّ به كُلمَ ذهب لها، يجلس مع جدتها ويثرثر معها تعويضًا عن غربتهُ، استغرب شقيقهُ شراء أكياس البطاطس الكثيرة وحلوى(الكاندي) المفضلة للفتيات، ولجا كلاهما للعمارة ليصدر جرس الباب ضجيجًا بينما هي توصد حجرتها دون الالتفات لزينب وجدتها منذ عودتها قرابة العصر، ألحتْ زينب عليها ومع رفضها التام ارتدت عبائتها ثُم وضعت حجابها الطويل، أزاحت الباب وهي تشير ناحية حجرة جدتها؛ ليدلفا سويًا.
ولجت سريعًا للمطبخ تصنع أكواب الشاي عائدةً لهم:
-تفضلا.
هدر أُبيِّ بإنزعاجٍ:
-أنا لا أحب الشاي، أريد عصير الليمون!
لكزهُ بغيظٍ لينطق أدهم:
-أنت شربت بالشقة، ماهذا الغيظ! لا تفعلين شيئًا يا زينب هو كائن مزعج.
قطعت حديثهم نظرات الجدة؛ ليصمتوا جميعًا:
-اذهب لزوجتك وابعد عن إثارة غيظي يا فتى، لا تتدخل في أمور أخيك، يطلب ما يريد وسأفعلهُ أنا، هل يمكنك صنع العصير إليه يا صغيرتي؟
هزَّت رأسها بإيجابٍ، نظر لهُ بغضبٍ متجهًا لغرفتها، وجدها متكورةً بالأرض تضم قدميها، حمحم بهدوءٍ:
-أتيتُ بالبطاطس والحلوى؛ فهل تسمحين بالجلوس معكِ؟
قبل رأسها وهو يضع الحلوى أمامها مكملًا:
-أنا بمشكلةٍ ولم أقصد حقًا الثوران عليكِ، لم أنسى خوفكِ من الصوت العالي، حقك عليّ، أنتِ غالية وجئتُ إليكِ؛ كي تنامين براحةٍ.
-أنا كبرتُ الموضوع، آسفة على ما صدر مني، أردتُ عقابك على أفعالنا واليوم عفوتُ عنك، جئتُ إليك كي نتكلم بشكلٍ طبيعي، أنت لا تستحق مني هكذا وجئتُ على كرامتك كثيرًا منذ عقدنا، حتى في اقتناء الخواتم كنتُ عنيدةً، ولكن مشاعري أخفيتها بداخلي حتى تلاشت!
ابتسم برفقٍ:
-لا أريد اعترافاتٍ الآن، أنا جائع أريد طعامًا ساخنًا، هل تتناولين معي؟
أومأت بثباتٍ متجهةً للمطبخ تضع الطعام بالصحون ثُم حملتها زينب بحجرة الضيوف، جلس أدهم بجوار حسناء تسرد قصصها عليهم وهي تشعر بالسعادة لمجرد التجمع على طاولةٍ، كَبرت على افتراق أولادها بعد وفاة زوجها؛ لتُربي اثنان في أفضل صورةٍ، لم يهمها التنقل في منزلهم بقدر سعادتها، وها هي بين أحفادها، عائلتهم تكبر كل يومٍ، وترشدهم في علاقتهم، ثرثر أُبيِّ وهو يحتسي المياه:
-كيف حال دراستكما؟
لتجيب لدن:
-جيدة نوعًا ما.. خير يا أُبيِّ.. هل ستعود للجامعة!
توقف الطعام بحلق زينب تلعن حظها من عودتهِ مجددًا، تدخل أدهم قبل أن ينفلتُ لسانها؛ فمنذ جلوسه يزعجها بتصرفاته:
-نسيتُ أن أُخبرك بشيءٍ يا أخي، ياسر يريدك في الحال، هلمَّ هلمَّ.
شَدَّهُ بقوةٍ وهو يدفعهُ على السلمِ من حركاته التلقائية:
-منذ متى تحب العصير؟! وما تِلك الأفعال يا أخي! الفتاة لم ترد عليك حتى وتغيظها في كل مرةٍ! ألا تلاحظ نفسك في الآوانة الأخيرة!
سكت أُبيِّ، يسير بتفكيرٍ علىٰ حالهِ، لا يحب إزعاج أحدًا وفي رؤيتها يحب تشتيت ذهنها وغضبها على أتفه الأمور، يودُّ سخطها عليه لكنها ثابتة بقدرٍ كبيرٍ، لا تجيب، لا تسأل، أحس بتلعثم شديدًا ولا يدري أفعالهُ المبالغة، صورتها وهي تنهر حسين، تتعمد التجاهل في أمورها الشخصية،
تنفس بصعوبةٍ متجهًا للصالة الرياضية يحاول طرد أفكارهُ الكاذبة، هو عملي ومثابر لا ينشغل بأمورِ النساء، لمَ يفكر بها؟ تخشب كُليًا وهو يستمع لكلماتِ الشباب حول مراوغة الإناث والضحك عليهن ثُم هجرهن كأنهن بضاعةً بخسةٍ لا تُرد مهرولًا من المكان كله، سخط أُبيِّ على نفسه بعدما عاد لغرفته بملامحٍ عنيفةٍ، لم يرفع بصره طيلة السنوات التي قضاها في غربتهِ، يدرس بجدٍ ولم تساق قدميه خلف شهوته، هدأ مِن خوفه قائِلًا علىٰ فراشه هربًا من الجميع.
ـــــــــــــــــــــــ
بزغت الشمس عليه، يُجمع ما يحتاج في حقيبةٍ كبيرة بعد ذهاب شمس لجامعتها، انتهز الفرصة ميقظًا كريم تاركًا بعض الأموال معهُ ثُم حمل الشنطة على كتفيه، الشوارع فارغةً، نسماتُ البرودة رغم حلول الخريف بأيامهِ الأولى، أتى ياسر على عجالهِ رافضًا طريقتهُ:
-والدتك لا تستحق البعد، انسى أمر السفر، لا تعاند!
-أنا واثقٌ بقراري لا تقلق، الأيام تمضي سريعًا وسآتي محققًا إنجازًا شُيد بمجهودي.
شدَّ معصمهُ بقوةٍ:
-في معيّة الله يا صاح، لا تهمل دراستك أثناء عملك..فأنت بآخر عامٍ.
مشى ياسر على الشاطئ المجاور لبيتِ أدهم سابحًا في ملكوت الله أمام البحر، الناس تسير بأماكن عملهم والبعض يمارس ألعابهُ، الأطفال يشترون الحلوى ويداعبون والديهم، أسند يديه على الصخرةِ يقذف حبيبات الرمل الخشنة وكأنهُ يهاجم وحشًا يزعجهُ كُلمَ فكر في أمر أبيه، يحدثهُ كُل يومٍ ولا يسأل عن شقيقتهُ وأمهُ حتى! خطى ناحية مؤيد ملوحًا لهُ مقررًا الجلوس بالمسجد لحين إنهاء عمله، يودُّ الاسترخاء بمكانٍهُ المفضل لا أحد يراه سوى الله تعالى، أسند رأسهُ على الأرض غافلًا للمرةِ الأولى دون كلمات مبعثرة، ضجيجُ الليالي الباردة يتردد بأذنهِ كُلمَ غفل على فراشه من حديث أمه، يسأل رهف فتتعمد التجاهل كي لا تصيبهُ بنوائب البيت ومشاكلهم الكُبرى، تسلل شعور الراحة في جلوسه ببيت الله، يتمنى وضع طفله بسلامٍ وحياة هنيئة بعيدةً عن عواقبها..لكن العيشَ مزيجٌ معقد لن تقل لا.. بل تخطو خلف أسوارٍ لا ضوء لها.
انتصف النهار وهو علىٰ تلك الحالة لينتفض على أصواتٍ خافتةٍ، رقد مؤيد بجوارهِ يهزَّهُ بضحكٍ:
-إلى هذا الحد تزعجك أختي!
-لا تتحدث عنها هكذا.. بالعكس تحترم وجودي، هادئةٌ وراسية، أريد الذهاب لأدهم، ما رأيك؟
وافق على الفور لينهضا سويًا، عدل ياسر ثيابهُ مُرتشفًا المياه قبل أن يسلكا طريقهما، وما إن وصلا.. وضعت خالة أدهم ووالدة حسين الطعام؛ فقد اجتمع السيدتان معًا أثناء عمل الرجال، ينظفون بيتوهن ثُم يثرثرن معن بعيدًا عن الشباب ومداعبتهن أقبل الشقيقان على الطاولةٍ يتسامرون حول يومهم ومشاكل العملاء.
راوغ أدهم أُبيِّ ببلاهةٍ أمامهم:
-ما به قلبك يا أخي؟
يا خالتي ابنك يحب!
رمقهُ أُبيِّ بشرٍ بينما توارى أدهم خلف مؤيد وياسر خوفًا من بطشه، هدأ قليلًا ونظراتُ الجميع عليه، اقترب ياسر بجوارهِ:
-مَن صاحبة الحظ يا أخي، ألم تقل أنَّنا أخوة، قُل لنا!
هرب بعينه متمتًا بضيقٍ:
-أدهم كاذب، لا تصدقوا هذا الفتى، هو يثير الجدل بينكم.
ردّ أدهم:
-أنت الكاذب يا أُبيِّ، حالك لا يعجبني من الأساس، نحن شباب يا أخي ولن أكذب في هذا الأمر، كُلمَ ذهبتُ لجدتك يأتي معي، لم أعترض، و
بات عصبيًا في وجود زينب، يزعجها ويتكبر كي تنهرهُ، لم يكفيه هذا، أنا قولتُ بأنَّها لك منذ حديثك وسخطك على تصرفاتها...
لكزهُ مؤيد بقوةٍ؛ فقد حذرهُ بألا يبوح بشيءٍ يخص أخيه ولا يتدخل به، شرد أُبيِّ مجددًا فالكلام صواب.. لم ينكر وجودهُ بقدر رهبتهُ من الموقف، لانت ملامح ياسر محاولًا فك المجادلة:
-لن أؤتمن على زينب إلا مع رجلٍ يخاف الله ويحترم والديه، أنت تخاف علينا ولا أرفض فكرة هذا الارتباط.. لكن الحديث مع والدي أفضل، أنا أخوها لا أنكر وأبي يحبها، ثق بالله وانسى هذا الأمر لوقتٍ، زينب ترفض فكرة الزواج ولن أضغط عليها، عَبر عن مشاعرك معنا، مؤيد وأدهم يحبونك، حتى حسين يحدثك أكثر منا، سمعتُ أنَّك تصنع البيتزا ببراعةٍ!
أريدها بيوم الجمعة منك ولا تشغل بالك بشيء يا عديم المشاعر.. لنتحرك يا مؤيد!
في نفس اللحظة.. أزاحت شمس الباب مُردفةً بخجلٍ:
-عُذرًا على اقتحام حديثكم، تفضل يا ياسر.. هذه محاضرات رهف بالأسبوع الماضي، أخبرتني بوجودك هنا وأن أعطيهم لك.
-أين كريم لم آراه اليوم!
كتمت دمعتها الحارقة:
-بالصيدلية.. تشاجر معي.. عن إذنكم.
انسحبت بهدوءٍ تحت أنظارهم، حدجهم ياسر بشرٍ وعلامات الفضول تحتل وجوههم، غادر الجميع لبيوتهم يتمنون السعادة لها؛ ففي وجودهم تأبى شمس النزول والتَّحدث رغم وجود النساء.
ــــــــــــــــــــــ
أغلقت شمس الشقة بالمفتاح ثُم أزالتهُ بالعلاقة، انطفأت في علاقتها مع أخيها وحسين، للمرة الأولى يصرخ كريم بوجهها من أجل زوجها وكأنها غمامةً على عينها، الجميع يرى تحسنه وتغيرهُ الملحوظ رغم أنف أعدائه، غادر وهو مريضًا، رفض اتصالتها وصوتها، انقلبت الصورة فأصبح يعاقبها بهجرها لهُ، رسائلٌ وكلماتٌ تعلمها تحولت لرمادٍ أسود، ثمة أشياءٌ لم تكُن في البال، كُل متوقعٍ آتٍ، لكن كيف يأتي وقلبها منشطرٌ لِنصفين، آلالامها بَين الواقع والخيال، تظن نفسها حبيسةً كقُطَّاع الطرق، صراعها النفسي، فشلها، مشاعرٌ منشطرة تتأجج بصدرها، ظلَّت علىٰ حالتها للفجرِ بعد أن وضعت الطعام بحجرةِ أخيها، أدتْ فريضتها ثُم ارتدت ثيابها، وقفت على عتبة الشارع ككل يومٍ، تذهب معهن للجامعة وتعود وحيدةً، وفجأةً.. سدد رجلٌ ملثم الوجه طعنةً ببطنها! اجتمع الناس حولها في ذهولٍ تامٍ، الرجال يهرولون خلف الجاني،هيئتُها الواهنة شقَّت قلوب النساء، اقتربا الفتاتان، مُنصدمةً علىٰ هيئتها، الدماء تسيل بغزارةٍ؛ لتغمض جفونها مُستسلمةً لقدرها!
صرخت لدن تستنجد بإحدى سيارات الإسعاف، حاولت زينب التماسك تسندها على فراش المشفى، بكت بحرقةٍ على حالها، الممرضات يسرعن حاملين أكياس الدم وهما يتطلعا لهن بذعرٍ، خرج الطبيب بتعبٍ:
-الحمد لله هي أفضل الآن.
تنفسا بإرتياحٍ رغم ثيابهم المحملة بالدماء، جلسا بجوارها لساعاتٍ قصيرةٍ.. فتحت عينيها تدريجيًا، اقتربت لدن بوهنٍ:
-حمدًا لله علىٰ سلامتك، قلقنا عليكِ.
-ماذا حدث لي؟! ولمَ جسدي يؤلمني؟
أسندت زينب ظهرها بوسادةٍ صغيرة جالسةً علىٰ طرف الفراش:
-سأجييك علىٰ كل شيء ولكن لا تنهرين نفسك، وفري عدوانك فيمَ بعد، سأخبر الممرضة؛ كي تبدل ثيابك، من فضلك لا تلمسين الجرح.
قطع حديثها دخول رهف مهرولةً إليها:
-تستلمين وأنتِ وعدتينا بالحياة!
-أُريد البقاء بمفردي يا رهف إن سمحتِ ليّ،اخرجوا.
-لن نسمح لكِ، لن نترك عقلك وأنتِ معًا، اتفقنا، اتفقنا لن ننتظر منكِ ردًا.
بقيت بعيدةً عنهن لوقتٍ طويل، التقطت شمس أنفاسها سريعًا وهى تغمض جفونها لآخر مشهد رأته قبل إيذائها، صوتها العالي يتردد بأذنها، ظنت أنّها لن تنجو؛ لينقذها الله مِن شرور نفسها، أزالت الغطاء تحاول الوقوف علىٰ قدميها؛ لتجد بقعةً من الدماء الخفيفة، أتت الممرضة تتضمد جرحها صارخةً (بآهٍ)، وجع الثلاث سنوات لن يمضي هباءًا.
تنهدت رهف علىٰ دموعها الصامتة متمتةً:
-أتيتُ لآراكِ يا شمس وأنا أثق بإحياء قلبك من جديد، زار قلبك الحب فرفضيه من أكثر الأشخاص ظُلمًا لي، شفعتُ له من أجلكِ فلمَ لا تفعلين هكذا! أنتِ لم تخبريه بعد بزيارتك المتكررة لأمه بعد وفاة أبيه، وفيتُ بسركِ؛ كي لا تنزعجين ولكن كُفِ عن سموم لسانك لوقتٍ لاحق، رُبما تُحبين نفسك من جديد، لمَ تصرين على تحمل كل شيءٍ بمفردكِ .
ردت بعنفٍ وهى تولي بظهرها للشرفةِ:
-وسيبقى سرًا بيننا، لم يبرىء نفسه وسيكررها كثيرًا، هو شيء وحبي لأمه شيء، أحبتني وعاملتني كابنتها، ورؤيتها علىٰ قلبي يجلب السعادة، بقعة الدماء تلك لم انتبه إليها، ترددتُ كثيرًا في إخبارك بالشاب الذي راقبني في الشهرين الماضيين، توقعتها من زوجة عمك فلن تنسى هدفها ولو على بعد أمتار!
هدرت لدن بألمٍ:
-وهل هدفك اكتمل بتدمير روحك الآن؟! أنا من يجب طعنها لا أنتِ!
استدارت علىٰ صوت بكائها؛لتكمل:
-أنا سأخبر الجميع بتِلك الحادثة، لا تقدرين على الوقوف والحادثة لم يمر عليها ساعاتٍ!