رواية من بعد خوفهم الفصل الثانى و العشرون بقلم حمدى صالح
رفضت شمس الاستماع لحديث الجميع خوفًـا عليهن وعلى أهل البيت، أيامها الأولى بالفراشِ جلب الشك لأخيها وللدن التي بدلت أدوارها مع زينب من أجلها، تتألم بغزارةٍ كُلمَ تطلعت لمكان الطعنة، تكتم صراخها أثناء ضمادتهُ؛ كي لا يعلم أحدًا ما بها، وفي مرةٍ كُشف أمرها أمام حماتها بعد رؤيتها لبقع الدم المتناثرة على السُّلمِ! عاونتها كثيرًا حتى اقترحت لدن تقديم الزواج من أجلها؛ فتحججت لأبيها كاذبةً ومرضاةً لأدهم المُرهق في أمر عملهِ، رفض بالبداية الأمر خشيةً من إهمالها لدراستها وأنْ يعطلها علىٰ شيءٍ ومع إلحاح الجميع وافق.. بالنهاية هو يحبها ويتمَّنى بقائها في البيت منذ كتب كتابهم.
مر الشهران عليهم دون حدثٍ هامٍ بل انتهز مؤيد أوقات الفراغ في كتابة إصداره الأول بعدما تلقى اتصالًا من صاحب دار النشر بعرضٍ جيدٍ لهُ، يتشاور مع عنود في أفكارهِ وطرح قضايا المجتمع في شكلٍ يليق بالأدب وثقافة الشباب المعاصرة، تصلحت علاقتهما وعلم هوية الجنين؛ فكان فرحًا..توأمٌ سيحملهم بعد أشهرٍ، يخشى أن تؤذى زوجتهُ أو أطفاله من تعبها الزائد في الأيام الأخيرة.. عكس رهف النائمة في أوقاتٍ كثيرة من فرط حركتها وآلالامها، بل أسندت نفسها بنفسها في نزولها لآداء اختبارتها.. ساعدتها خالتها كثيرًا بل خافت عليها هي وأمها، حاول ياسر إصلاح علاقتهُ مع أبيه ولكن محاولاتهُ المستمرة أبائت بالفشل.
لم يسأل عن أمه ولا أخته كما توقع، مكالمةٌ واحدةٌ ستجلب السعادة لقلب شقيقتهُ! لم يختلف الأمر عن شمس كأنها ثقلًا انتهى بزواجها ونسيان أمر شقيقها، كُل هذا من أجل النقود البخسة! ينسون أبنائهم مقابل أشياءً مؤقتة، ترحال وإقامـة بمدن أُخرى يؤلمها؛ فلم يقف أحدًا بجوارها إلا فتيات أذتهم بالسابق والآن علاقتهم أقوى وأشدّ، جرحٌ لم يلتئم ولن ينتهي مدى الحياة.
ــــــــــــــــــــ
أخرج مؤيد لعبة الشطرنج من الكومود ليلعب مع ياسر أمام رهف وعنود يطالعنهم بتوترٍ، كيف لانت علاقتهما هكذا بعد عدوان مؤيد؟ وكُلمَ سألت رهف أخاها يدَّعي التجاهل، تفوهت عنود لياسر:
-كيف صلحت العلاقة؟ نُريد المعرفة فقط كي نصلح علاقتي أنا ورهف.
نظر مؤيد بطرف عينيه:
-سبحان الله، تصلح وهي تثرثر مع أختي بمكالمات الفيديو كل يومٍ أثناء تحضير الطعام والأسئلة عن ملابس الأطفال، جلستكن هكذا لا تبشر يا حبيبتي!
-منذ حادثة رهف بالمشفى، تعاتبنا على أفعالنا فكُنت عنيفًا معهُ وقصدتُ ضربهُ في المرة الأولى، العتاب يصلح الأحبة يا عنود، هل تحبون هجر بعضنا البعض أما ماذا؟
صاحت رهف بمرحٍ:
-لا، نحب ضربك لمؤيد.. يا سلام، راحةً نفسية..
-حينما تضعين حبيب خالهِ بالسلام سأريكِ الضرب يا فتاة الكارتون المزعجة!
ابتسمت عنود رامقةً مؤيد بفخرٍ، رجلٌ طيب لم يعنفهن إلا في مصائبهم القوية، مازال طفلًا يحمل الحنو بنبرته، يحب الجميع دون كره ولا يتمَّنى الشر لأحدٍ حتى إن تلقى نائبةً، فوجئت باحتضان رهف إليها متمتةً بأذنيها:
-لم يكن ليِّ شقيقة لكن الله عوضني بكِ وبخوفكِ عليِّ، أبناء أخي لديهم أمًا رائعةً وعمة تحبهم.
ــــــــــــــــــــــ
ترجـل حسين من السيارة حاملًا الحقائق الخاصة به، أزاح الباب بهدوءٍ وهو يترقب ردود فعلهم المفاجئ على عودته، صعد الطابق الأول ليفتح الشقة، والدتهُ تقرأ القرآن والبيت مرتب بشكلٍ فائق، احتضنتهُ باشتياقٍ وهي تزيل دمعتها، أول أيام العطلة استقبلتها بسعادةٍ حينما بلغ مرادهُ، رحب أدهم به ومِن ثُم ساعدهُ على الصعود للطابق الأخير، لم يهتم لأمرها؛ فهو لم يهاتفها منذ شجارهما الأخير، كان سيخسرها بكلمة الطلاق ليأخذ مكان ياسر بحزمٍ، شهران من الجد والاعتكاف بالعمل.
أدار المفتاح بهدوءٍ مُلقيًا السلام سرًا، المنزل مبهج والصمت سائد، وجد الشراشف علىٰ الأريكة مرتبة والطعام بالمطبخ دون نقصان، التفت لغرفتهم؛ ليراها نائمةً بملامح باكية، تحتضن وساداتها القصيرة، والمياه علىٰ الكومود بجوارها، اقترب بهدوءٍ؛ ليجد أكياس الحلوى والبالون الفارغة مبتسمًا على تصرفها؛ فقد علم من والدته بتوزيعها الحلوى لأطفال الشارع برفقةِ لدن بعد انتهاء الاختبارات، أخذ ثيابهُ المكونة من سترة بيضاء وبنطالًا أسود شتوي متجهًا للمرحاض، دقائق قصيرة خارجًا بارتياح إثر إرهاق السفر.
حمل حقيبةٌ كاملةٌ تشمل الفساتين الفضفاضة وألوان من الخمارات العديدة المزركشة بالنقوش البيضاء عائدًا للغرفة؛ ليسكب قطرات المياه على عينيها، فزعت بأرقٍ مُتشبثة بالغطاء وفركت عينيها مجددًا وهو يقف بحاجبٍ:
-هل كُنتِ تحلمين أم ماذا؟!
-أنت.. أنت هنا!
تساقطت قطرات الدمع من جفونها؛ لينتشلها من بؤرتها السوداء، ضمّها بقوةٍ وكأنها هربت من قلبهُ لزمنٍ، يطمأنها؛ فبعد طعنة جسدها لم تتمالك أعصابها وتصرفاتها، أخبارها تصل إليه من أخيها وتألم على حالها، لكنهُ فضل الابتعاد؛ كي يدرك قيمتها وأنّها علىٰ صواب، كاد إزاحة الغطاء؛ لتتمسك به تحاول دفعهُ؛ ليجدها بعباءةٍ قصيرة تكشف ساقيها، كسى الخجل وجهها ليهمس بأذنيها:
-أنا زوجك يا بليّتي!
أجادت التماسك أمامهُ:
-وهل يحق للزوج الابتعاد لسبعين يومًا وأكثر دون اخباري؟! هل تعاقبني مثلما فعلت؟! ظننتُكَ تمارس أفعالك السابقة وأنا الضحية..ولم تنهي اختباراتك مثلي.
نظر حسين برفقٍ:
-حضرتُها سرًا لكونني أسبقكِ بعامٍ ثم يحق لي فعل أي شيء ما دام قلبي يرى أنثى واحدة حتى وإن فعلتُ المصايب لم أرَ إلا أنتِ، كنتُ أحاول وأنتِ عديمة الاحساس، لم أغادر قاصدًا بل لعمل مهم لا حسب، قصدتُ البعد لأشعر بقيمتك فبعض الندوب لا تمحو، وذهبت لمَن جرحتهن وسامحن أفعالنا، توبةٌ تمنيتها ونلتُها رغم عوائق الأيام، لم يخيل إليّ الزواج من أنثى سبقتني وتهتم بالبيت كلهُ.
حاول تخفيف الأمر:
-هل أحد ينام بهذه الثياب المكشوفة في الشتاء.
كسى الخجل وجهها وهي تلملم الأكياس المتناثرة دون النظر للحقائب، تخفي وجهها، تشد المنامة هربًا منه:
-لم أنهي البيت وأكملته قبل صلاة الفجر، اخرج من فضلك!
-أمسكي يا مدللتي، لم أجد أفضل من أشيائك المحببة لقلبك، سأذهب لقضاء الصلاة الفائتة ونمكث معهم بالأسفل.
توقف على صوتها:
-أنت صليتُ بالفعل لا تكذب عليّ، ولن نجلس مع أحد اليوم، أريد بناء علاقة جديدة، نتأذى لا نؤذي، نؤمن بتدابير الله مهما حدث معنا، أنت تلقيتُ فقدان والدك وأنا علىٰ مشارف الموت من أفعالي، عدني بألا تساق قدميك خلف الوهم والضياع، أنت تزوجتني لحمايتي، وسكنتُ مع بشرٍ أنقياء، عِدني بأن تصلح الأشياء إن أفسدتها أنا، وأن تحبني وتخبرني بما يدير برأسك، وألا تكذب!
-أعدك، ولن أكذب..
غمز بعينيه وهو يقترب:
-كنت أحاول فض مساحة لتبدلين ثيابك فأنتِ لم تنظري إليّ من وجهك الأحمر.. أصبحتُ أكثر وسامة مثلك!
أحاطها فلم تقدر علىٰ الفرار منهُ، ضمّتهُ بخجلٍ؛ لتبدء حياتهما من جديدٍ، شعر بالسعادة الحقيقية حينما غفرت له أفعالهُ وعاد كما كان، الذكي في العمل والماكر في الأمور الجادة، وكأنهُ يحلق كطفلًا نقي لا يكره فرحة أحدهم؛ فكان يقتل الجميع بنظراتٍ قاسية إن نظر لفتاة تسير لا تنظر لأحدٍ، والتربية فعل والدنيا أكبرهم، إما أن تتعلم منها أو تُدمر.
يضمَّها بقوةٍ لا يشعر بشيءٍ، تحاول إفلات يديه؛ لتنجح وهي تتجه صوب المرحاض، تشعر وكأنها فراشةً ناصعة البياض بعد ليالٍ من الاختبارات والاشتياق إليه، هو مَن تقبلها وأنقذها مِن براثن الشر، دلفت وهي ترمق هيئتهُ النائمة، لامساتهُ وخوفهُ عليها بات حقيقيًا بعد نفورٍ دامٍ لشهورٍ.
شهقت بخجلٍ وهو يفتح عينيه قابضًا على كفيها:
-لا هروب من هنا، تركتُكِ كثيرًا.
أغمضت عينيها تتذكر ذكرياتها؛ لتنساب دموعها مما قلق حسين من رعشتها المفاجئة، جذبها برفقٍ يحاول تهدئتها:
-آسف.. آسف.. لم أقصد حديثي، هل تشعرين بوجعٍ؟ ستتعافين، أنا معكِ بجوارك.
كلماتٌ بسيطةٌ تحتاجها الأنثى رغم ضعفها، اختبأت بضلوعهِ باكيةً علىٰ حالها رامقًـا إياها بحنوٍ يبث الحديث، يطمئنها بأنّه لن يتخلى عنها في أشيائها، رمقها طويلًا قبل أن يقذف جملته الأخيرة:
-هل تتألمين من الطعنة! لن أسألك عن شيءٍ.. أمرك كشفتهُ من أدواتك أسفل الفراش!
ارتجفت كُليًا وهو يتابع حركاتها، أغمضت عينها يوم الواقعة، تتقدم للأمام وتعود كما كانت بعد تأخر رفقائها، وما إن كررت الحركة تلَّقت موتها، الدماء تنجرف بغزارةٍ بعدما سدد أحد الشباب بأداةٍ حادةٍ هاربًا على الموتور، ثياب الفتيات المملوءة بالدم، ضعفها كُلمَ لامست الجرح مُعلمًا بجسدها مدى الحياة، عانقها حسين محاولًا تخفيف وجعها رغم كره تصرفها.
ـــــــــــــــــــــــــ
بعد أسبوعٍ
ـــــــــــــــــــــــــ
فتحت الشقة بهدوءٍ بعد ذهابها لوالدها، تضع أكياسًا من الذرة والبطاطا علىٰ الطاولة؛ لتخلع خمارها بأرقٍ، ولجت للغرفة لتراه نائمًا لا يشعر بشيءٍ، يدثر نفسه بالغطاء، سارت علىٰ أطراف قدميها تأخذ ما تُريده ثُم أطفأت الضوء كما كان، رتبت أشيائها تاركةً إياه علىٰ راحته؛ لتقوم بإعداد العشاء السريع ثُم أشعلت التلفاز على القرآن ترتشف قهوتها الدافئة، انتبهت لصوت أدهم العالي لتذهب سريعًا إليه، فرك بعينيه بقلقٍ:
-كم الساعة؟!
-الثامنة يا أدهم، هدأ من خوفك لقد أخبرتُ أبي بتعبك فذهبت إليه، رأيُتك نائمًا فخشيتُ عليك فقط.
استرسلت لدن الحديث محاولةً تخفيف نظراته الفتاكة بها:
-لا تنظر هكذا، علمتُ من خالتك أنّكَ عاشقًا للذرة، اشترتها لك وفعلتُها، ورتبتُ شقتنا مثلما تفعل، أتحب تناولها بالخارج أم أسفل؟
-بالخارج، ولا تخرجين بدون إذني بعد ذلك!
ارتدى نظارته مُتطلعًا إليها بثباتٍ، هزّ رأسهُ في صمتٍ تام جالسًا بجوارها يتفحص هاتفه بشأن عمله؛ فمُنذ تعبه أصبح تائهًا، ولج للمطبخ ليتسمر أمام الطعام، كيف تفعل كُل هذا وهى تجهل وصفة الطعام الأصلية، رآها منكبةً علىٰ الطاولة تدرس بعد قضاء رفاهيتها، أمسك إحدى الأوراق يقرأها باهتمامٍ؛ لينطق بسؤالٍ:
-لدن، هذه الحسبة خطأ!
أخذت الورقة من يديه تُعيد ترتيب عناصرها مجددًا ليصير الناتج مختلفًا، رمشت عدة مرات تحاول فهم ما يُرمى إليه، كيف يحل شيئًا بعيدًا عن تخصصه! تابعها لوقتٍ طويلٍ حتى انتهت، لملمت كُتبها بالمكتب ثُم وضعت الطعام ليشرعا في التناول، نظر بترددٍ لوجهها بعد شجارٍ عنيفٍ يحاول كسر الصمت:
-اسألين سؤالك المحشور بداخلك قبل أن تُجيبين عن أسئلتي! أعلم فضولك القاتل.
-كيف علّمت الخطأ وأنت عاكف عن الدراسة؟!.. انتظر سأجيب عن الأسئلة قبل نقاشك الطويل المصحوب ببعض الهزيان المزعج، صحة أبي بخير، سأعد الشاي وآتي.
وقف بالشرفة يفكر في السموم التي ادّعها عليها، مسح وجه بندمٍ علىٰ هدوئها متطلعًا للفراغ، انتبه لهاتفها المضيء دون صوت، الشاشة مزينةٌ باسم المشاكسة، فتح بهدوءٍ ليعلم الصوت:
-كم من مرةٍ أحدثكِ وتتجاهلين اتصالاتي أيتُها البلهاء! سيبدأ العملي ولم تشترين مستلزماتك! هل تختبرين صبري!
-صوتك أزعج أذني يا زينب!
رمشت عدة مرات لترد عليه:
-أعتذر يا حضرة المحاسب ولكنها تهمل دراستها عقابًا علىٰ أفعالها معك، ليس من شأني التدخل بينكما لكنها بلهاء وتتحمل كلماتك الحقيقية، أنت مجتهد يا أدهم بغض النظر عن أي شيء، حلمها بالهندسة عُدم وفقدت تقديرها، لن أغمغم كثيرًا، غدًا الجمعة لهذا ذَكرتُها فشقيقك لن يرأف بها!
ردّ باحترامٍ: -حسنًا، نراكِ علىٰ خير.
أغلق الخط تحت أنظارها وهى تضع الكوب أمامهُ، شرز بإحدى عينيه مُردفًا بلينٍ:
-ذكريني بإتفاقنا والآن يا لدن إن لم ترتدي ثيابك في غضون عشر دقائق سأعقابكِ بطريقتي!
غمغمتْ بسخطٍ علىٰ نسيان هاتفها لتُسرع في ارتداء فستانًا من اللون القرمزي الواسع مع الخمار المزركش بالأزهار من نفس اللون، أغلقت الباب مهرولةً خلفه، سارت بجوارهِ لتقف إيزاء مكتبة ممتلئةً بالكُتب، لمح قلقها الزائد كُلمَ أرادت شيئًا تُحبه، أمسكها قبل أن تفر:
-اختاري ما تشاءين يا لدن.
-ستصرف نقودك هكذا ولا يصح أنا أطلب كل شيء.
-وهل يصح إهمال حُلمكِ وهوايتك من أجلي؟!
ابتعدت عنهُ جالسةً علىٰ إحدى الصخور ببكاءٍ صامت، منذ مساندتهُ لها في وقت الخطأ وهى تحمل ذنبًا علىٰ ظهرها، يثق بها رغم أفعاله الطائشة معها، خمس أعوام من الألم في ظلمها لرجلٍ أحبها دون التّحدث بشيءٍ، مشاعر مختلفة اجتاحت قلبهُ علىٰ هيئتها، حاول تخفيف حملها وهو يضع حقيبتين من الكتب العلمية والدينية بجوارها غامزًا بعينيه:
-الغالي للغالي أيضًا..!
ضحكت باستهزاءٍ:
-أنا لسّتُ غاليةً، أنا أنانية وجبانة أمام الجميع، لمَ تتحمل طاقةً علىٰ طاقتك! يكفي ما تمر به فلا تعطف عليّ، أُريد العودة للبيت وفي الغد اشتري ما تُريد لدراستي من فضلك.
-انتهيتِ؟!
النساء غاليات علىٰ الرجال وهن قيمةٌ عالية بأعين الجميع، فإن شعرتِ بهذا الهراء فمِن نفسكِ أنتِ لا من لساني، قولت بأن أمك فعلت الشر بكما وأنتِ مثلها كُلمَ تهربتِ من حديثي، هذا خطأي الفادح على فتاة تشاجرتُ مع الجميع من أجلها وكتم سركِ بواسطتي، الجميع يخطىء في اليوم الواحد دون قصدٍ، أنا زوجك الذي تحمل فقدان أمهُ فلم يتحمل رؤية سيدة بالمنزل طيلة السنوات الماضية، تُناديني بأدهم وأصمت، حتى مؤيد توترت علاقتي به في شهورٍ بسببكِ وتقولين عطف وطاقة، لن تعود ونحن هكذا، لن استمع إليكِ مجددًا بشأنكِ، وفاة أبي يؤلمني، يوجعني؛ لهذا لم أبوح بسري لولا كشفكِ للأمر، انفضي غبار الأوجاع من رداء خوفك الذي دمر جزءًا منكِ، من الأساس رفضتِ الزواج حتى تنهي دراستك؛ لأن عقلك مشوش أرهق صدرك!
-ووافقتُ؛ كي أساندك وهذا أفضل شيء فعلهُ أبي لك، كان الاتفاق يشمل التّحدث والمناقشة بيننا وألا أهمل دراستي علىٰ حساب شيء حتى أتخرج من هذه الجامعة وأحقق حلمي ثُم أفعل ما أحب مقابل احترام الآخر ولو كُنا نتشاجر علىٰ شيء، حسنًا يا (حُلمي البعيد) لن أعترض علىٰ شيءٍ يخص دراستي أمامك وأنت لن تكذب عليّ في تعبك مُجددًا، واحترم نفسك ولا تغمز وتقول أشياءً في الشارع يا أدهم!
ادّعي النسيان:
-لم أفعل شيء، أنتِ زوجتي حتى لم أعترف بحبي لكِ و..
قطعت حديثه:
-احترم نفسك أيها الغراب! ولا تقول كلامًا معسولًا وإلا قد أخبرتُ أبي!
-أخبريه ولنرى مَن الفائز.
كسى الخجل وجهها وهى تنفض التراب مِن ثيابها، ضمّت الكُتب بشّدة دون النظر إليه، كبت ضحكتهُ علىٰ هيئتها وسيرها كالأطفال؛ لينهي شراء مستلزماتها وما تحتاجهُ عائدين للمنزل.
باليوم التالي..استيقظت لدن على آذان الظهر تشعر بثقل جسدها، هرولت للمرحاض ثُم صنعت كوبًا من القهوة ممسكةً كتاب الله، فتحتهُ على سورة الكهف تتدبر بها وتقرأها بتمعنٍ بغرفة الدراسة الصغرى بعيدةً عن الضوضاء ، ولج أدهم مُمسكًا جهاز التحكم الخاص بالتلفاز.. متمتًا بصوتٍ عالٍ:
-زينب آتية برفقةِ شمس؛ فقد صعدت لها.
خرجت وهي تلملم شعرها لأعلى:
-أغلق غرفتك ولا تخرج إذًا!
ثار بنبرةٍ كوميدية:
-مجددًا! بالطبع لا، أنتن تتحدثون كثيرًا، سأذهب لأخي أزعجهُ بموضوع زينب.
-البقاء للأقوى يا حبيبي، أنت كتكوتٌ أمام أُبيِّ، اعقل يا أدهم واحبس نفسك بالغرفة، شقيقك حُر وأنت كالبقدونس.. تحشر نفسك فيه، كائن غريب ومزعج.
-احترم أخي مثل شقيقتك؛ لهذا أتمَّنى له السعادة في الحال، أُبيِّ تعلم الكثير في الغُربة وهذا الصمتُ صورة كاذبة خلفها مشاعرٍ تأكد منها، نحن عانينا كثيرًا.. والحياة كَبد لا تعطينا ما نُريد دائمًا، أنا فقدتُ والدي، وأُبيِّ فقد مشاعر الحب، النوم ينتظرني بالحجرة ولا تفتحين هكذا، ضعي الحجاب رُبما يأتي حسين وأخي للجلوس معي! ..
تدرج وجهها بالحمرةِ وهو يعقب عليها مغمغةً بفرحةٍ على أفعالهِ الناضجة، علاوة على ذلك هو يحترمها ويعزز شأنها، يغار عليها دون حديث رغم ثقتهُ برجالِ البيت، وضعت الضيافة بالغرفة ثُم أخرجت طعامًا سريعًا من البرادِ، انضم الفتيات إليها يثرثرن بمرحٍ وصوتٍ هاديء، نطقت لدن بدهاءٍ وهي تلتقط حبات المكسرات:
-كيف حال قلبك؟!
رمقتها زينب بطرف عينها:
-جيد جدًا بعدما رفضتُ عريس الغفلة، لا أعلم لمَ أخي يفتح تِلك السيرة، أنا أمزح بها أثناء الامتحانات.. غير ذلك العزوبية راحة يا متزوجات!
-متزوجات! حسنًا هاتِ طبق الفاكهة ولا تستفزين عقلي يا امرأة!
-اهدئي يا لدن، تِلك ستتزوج بأسبوعٍ فقط! لا تقتربين وتنفعلين حينما تسترد صحتي بإمكانك فعل أي شيء يا زينب.
تراجعت على كلمات شمس الساكنة على الأريكة وهي تغمز بعينها، انتفضت لدن على صوت الودقِ مهرولةٍ للشرفةِ، أزاحت الستارة على الثياب ثُم وضعت المشبك بالغطاء الشفاف على الحبال، لوح أُبيِّ وحسين لها، قذفت المفتاح سريعًا وهي تزيل قفل شقتها، هدر حسين الآخر بإنزعاجٍ: -أين أدهم!
-هنا.. هنا لا تصرخ، أين كنتما! لا أحد بالبيت ادخلا دون هربٍ!
نظر كلاهما لبعضهم ثُم دخلا لغرفة عملهِ، تمتم حسين برفقٍ:
-هذا القسط الأخير يا أخي، خذ مال أبوك ولا تعاند.
-لكن القسط سُدد بالفعل من شمس أرسلت المال الذي بعتهُ كله قبل يومين، خذ أموالك يا صاح ولا بأس.. علاقتنا أقوى من هذه الأشياء، المهم عودتك بخير وسلام.
اختلس أُبيِّ النظرات للغرفة المظلمة، بات صوتها يُردد بأذنيه كُلمَ نطقت بشيءٍ، قام تجاه الباب صائحًا:
-يا زوجة أخي، يا زوجة أخي!
-ما طلبك هذه المرة يا شقيق زوجي! خير والخير لا يأتِ من وجوهكم!
-أريد اقتناء هديةً لزوجتي المستقبلية؛ فقد تقدمتُ لإحدهن ولا أعلم شيئًا عن أموركن.
تلعثمت لدن مُتطلعةً لزوجها، رفع كتفيه مُستسلمًا لأفعال أخيه وهو يشير بأصبعهُ ناحيتها وحسين مذهولًا من تصرفه المفاجيء؛ فهو لا يحب من الأساس، همس بأنينٍ خافتٍ:
-ماذا يحدث هنا؟
-أجواء الإثارة يا حسين، أخي نشَّف جسدي الآن.. انتظر وسترى الضحك على أصلهِ..!