رواية لاجلها الفصل الرابع والعشرون
ارتدت ملابس المدرسة وتجهزت للحاق بدوامها الدراسي باكرا كما اعتادت، منذ ان تولت مهمة الاعتماد على نفسها او بالأصح بمساعدة من زوجها الذي كما ينهض باكرا للذهاب إلى عمله، كان يتابعها ايضا عبر الهاتف، يفعل المستحيل لانجاح التجربة وهي ايضا لا تقصر بالإستذكار وفعل كل ما يلزم في سبيل التفوق والحصول على الدرجات العليا من أجل إسعاد والدتها ونفسها أيضا بالمستقبل الباهر الذي تتمناه، ولماذا تتراخى مادامت تجد التعاون من الجميع؟
وصلت الى الطابق الارضي، لتجد حسنية او كما تطلق عليها امي حسنية جالسة في انتظارها ببراد الحليب الساخن وقطع الكحك والبسكويت المصنوع في المنزل، تتلاقاها بابتسامتها العذبة فتبادلها ليلى بالقاء التحية:
ـ صباح الخير يا أمي، انتي برضك صاحية بدري مستنياني، حرام والله، كان لازم تبجي دفيانة على سريرك دلوك
ضحكت المراة تشير لها لتقترب:
-يا ختي ياريت يجيلي قلب اجعد حتى لسبعة، لكن الجسم اللي واخد على الشجا والصحيان بدري يا نور عيني هو نفسه مبيرضاش، الفجر يأدن وتلاقي الفرشة كأنها شوك تحتي، لازم اصلي وابدا يومي بعدها، خلاص العضم اتكيف على كدة، اقربي ياللا اللحقي كوبايتك جبل ما تبرد.
تبسمت ليلى بامتنان تقترب وتجلس على الكرسي المقابل، لتبدأ في تناول فطورها كما تحب بتناول الكحك الصعيدي المغموس بحليب الجاموس الكامل الدسم، يكفي فنجان واحد منه لاشباع المعدة وإمداد الجسد بدفعة مذهلة من الطاقة.
وحسنية الجميلة لا تكف عن تحفيزها:
- اوعي تسيبي نقطة في كوبايتك، وطبق البسكويت دا تاكليه كله مع وحدتين الكحك على ما عمك خليفة ينزل من فوق عشان ياخدك في طريقه
توقفت عن المضغ بفمها، لتهمهم حرجا بحديث نفسها، قبل تتوجه بخطابها إلى المراة:
-- كمان عمي خليقة يشحطط معايا زي كل يوم، مش كفاية عمي حمزة بيناولني المصروف يوماتي قبل ما يروح على بيته..... طب يا امي انا كل يوم بجولهالكم، والله ما فيها حاجة لما خدها كعابي مع صحابي للمدرسة، دا حتى بيقولوا المشي رياضة.
بصوت بدا كالشهقة تحدثت حسنية بتشدق لطيف:
- برضك عايزة مرة البشمهندش معاذ بحاله على سن ورمح تاخدها كعابي؟ كملي وكلك يا بت وفضيها رط، شدي حيلك بس وجيبي مجموع كبير، خلينا نعدي السنادي على خير، وليدي خليفة دا ميعاد شغله اصلا مهياش مستاهلة يعني.
توقفت فجاة رافعة ابصارها الى اعلى الدرج، مستطردة:
- واهو نازل لوحده اها على ميعاده من غير ما نبعت حد.
نظرت ليلى الى الاعلى بدورها، تتابع نزول خليفة الذي تبسم لها تلقائيا يلقي تحية الصباح وخلفه هالة العابسة دائما، تلقي تحيتها الفاترة بصوت بالكاد يخرج، لتظل على صمتها في متابعة مزاح الثلاثة:
- تعالى يا خليفة يا ولدي شوف مرة اخوك ام مخ ضارب، جال خايفة على تعبك جال،
- ليه هشيلها فوق راسي يعني ولا ايه؟ بلاش الاحساس دا يا ليلى، انتي متجوزة واحد ميعرفوش اصلا.
تبسمت ليلى بحرح ردا على مزحته ثم نهضت رافعة حقيبتها لتتحرك معه، وذهبا الاثنان، تاركي حسنية وهالة التي وجدت فرصتها في الانتقاد:
- طب والله كويس انها بتحس، انا جولت الصفة دي متعرفاش اصلا على رأي خليفة
حدجتها حسنية بحنق وعدم تقبل:
- لزوموا ايه الكلام ده يا هالة؟ لا تكوني مدايجة كمان عشان بيوصل البنية؟
ردت هالة تتهرب بعينيها عنها:
- لا طبعا وانا ايه اللي يزعلني يعني؟ العربية بتاعة البيت كله اصلا مش ملك خليفة، وحتى لو كان، انا مش قصدي على كدة اصلا، رغم اني معايا الحق برضوا.
تمتمت الاخيرة بصوت خفيض كالهمس ومع ذلك وصلت إلى حسنية التي عقبت باستنكار واضح:
- كلامك في تلميح ماسخ يا هالة محدش يجبله، ليلى الصغيرة بتقول لخليفة يا عمي.
انتفضت هالة وكانها تدافع عن كرامتها:
- وه يا مرة عمي اللي بتجوليه ده؟ برضك انا هالة هغير منها؟ ليه يعني؟ كانت احلى مني مثلا؟ ثم انا كمان مجصديش على كدة خالص على فكرة، انا اجصد على تناحتها، بصراحة يعني مزوداها جوي، اكتر من شهرين دلوك وهي عايشة فيها في دور العروسة اللي متقربش حتى على هدومها وتغسلها، طب بتذاكر وقولنا ماشي انما مبتجيش عليها ولو نص ساعة حتى تنضف شقتها وتعمل طبختها لوحدها، من غير ما تتعب اهل البيت في خدمتها ، ولا امها دي اللي بتبعتلها الوكل جاهز كل يوم او تاجي بنفسها .
_ نص ساعة هتنضف وتطبخ فيها كمان!
غمغمت بها حسنية بما يشبه السخرية، لتردف بعدها بتشديد:
- اسمعي يا هالة، مادام جاعدة محلك يا حبيبتي ومحدش طلب منك مساعدة يبجى متتعببش نفسك، بنتتي ولا بناتهم مفيش واحدة فيهم بتعمل غصب عنها، دول بيساعدو برضاهم، عشان يرضو اخوهم ويرضوني انا كمان، وانا ان كنت بطلب منهم فدا عشان عمار ولدي يا غالية، بالظبط زي ما انا متصبرة عليك من اول جوازك بخليفة وبغطي على كل اغلاطك، ولا نسيتي ان انتي كمان اتجلعتي وياما عكيتي الدنيا برغم انك مكنتيش بتتعلمي ولا حاجة ولا حتى كان عندك اي سبب.
طالعتها بغضب دفين، بعدما افحمتها بردها، لتزيد على حقدها من تلك المذكورة ووالدتها مزيونة
...............................
لقد انتهى اخيرا من أمر المنزل
نعم وذلك بفضل العمل المتواصل ليل نهار للعمال طوال الفترة الماضية، مع تجهيزه بالاثاث اللازم ، فلم يعد متبقي سوى رتوش قليلة قد يضيفها للزيادة من فخامته ، ثم يأتي بعد دور الطابق الثاني والذي كان واقفا به الآن يعاينه بأعين خبيرة ليقرر كيف سيكون نظامه؟ مطابقا للاول أم مختلف عنه؟ فقد كان خاليا الان الا من السور الذي يحاوطه وألاعمدة التي سوف يتم الاكمال عليها، تطلع أمامه بنظرة رضا فهو لا ينكر داخله أن ذلك هو الجزء الاحب إليه ، يكفي أن يقف هنا ويطل من محله على منزل محبوبته المكشوف أمامه ، ان كان من برج الحمام أو حتى بعض الأجزاء المفتوحة داخل المنزل الطيني.
تلك المتمردة التي تصر على تجاهل مشاعرها نحوه، رغم كل ما يلمسه منها من تجاوب واضح ومع ذلك لا يجرؤ حتى الآن للمواجهة خشية انقلاب مفاجيء منها، فهو الاعلم بما قاسته على مدار سنوات عمرها وخلف داخلها عقد ومأسي لا تنمحي الا بصعوبة ، بفضل هذا الملعون زوجها السابق و...... تبا ما هذا
كان قد وصل إلى حافة السور بأفكاره الدائرة برأسه دون هوادة ليتفاجأ بغريمه واقفا أمام منزلها وهي مقابله وكأنه يعطيها شيء ما وهي تتقبله بتأثر ، بمشهد جعل الدماء تغلي برأسه، ترا بماذا يتقرب إليها هذا المتبجح؟ اللعنة عليه أن تركه يصل إلى غرضه
فتحرك سريعا يغادر المكان
.........................
اما عند مزيونة والتي كانت واقفة بالفعل أمام باب منزلها ، تتناول من عرفان ذلك الشيء العزيز الذي أتى به إليها ، فكانت في حالة لا تسمح لها حتى بالكلام ، وقد غص حلقها بذكريات الماضي التي تجلت أمامها بتلك الأشياء البسيطة التي كانت تمسك بها الآن بين يديها ، وعرفان المتربص أمامها ، يعلق بنوع من تأثر وكأنه يتضامن معها.
من اول ما عيني وجعت عليها وانا عرفت أن يستحيل تسبيها بخاطرك، شكمجية المرحومة امك انا عارف زين كيف كانت غالية عليكي، دي فيها كل روايح المرحومة.
بصوت مبحوح وهي تدور على الأشياء الجميلة بذكرياتها، ترفع الزجاجة الفارغة من عطرها ولكن تبقى أثرها ورائحة تشتاق اليها بوجع، ثم صور الابيض والاسود للراحلة والباهتة بعض الشيء، الأساور الفضية وعبوة الكحل وبعض قطع الدهب من عقدها الذي تحتفظ به هي الآن بدرجها وصورها وصور والدها وشقيقها وأبرة وخيط كتان، وبعض ازرار ملابسها واشياء أخرى عديدة :
- دورت عليها كتير في اليوم اللي طلعنا فيه انا وبنيتي وانا بلم خلجاتي وخلجاتها مع الحاجات الضروري اللي كان لازم اخدها، لحد ما فجدت الامل إن القاها وانت كنت واجف مع الرجالة وبتستعجل طردنا، يأست وفي الاخر سيبت تكالي على الله .
رق صوته بنوع من الاسف مرددا وقد مر أمام عينيه الشريط المخزي لكرامته في تلك الليلة؛
- في ليلتها كان الغضب عاميني يا مزيونة وكأني واخد ضربة فوق راسي بفكرة انك تسيبني انتي والبت وتمشي كلمتك عليا... بس....... ما علينا .
توقف حين قرأ الاستهجان بنظرتها إليه ، ليلحق سريعا حتى لا يعطي فرصة للنقاش في ذلك الأمر مردفا:
اللي فات مات يا مزيونة، انا جولتلك من الاول اني بجيت واحد تاني دلوك، بدليل اها ، اول اما لمحت شكمجية المرحومة امك جيت جري عشان اسلمهالك لمعرفتي الزينة بغلاوتها عندك .
اومأت بهزة من رأسها تجاري كذبه:
- ماشي يا عرفان، على العموم متشكرين يا سيدي..
- لا يا مزيونة انا مش بعمل كدة علشان الاقي شكر منك، انا جصدي ابينلك اني اتغيرت، بدليل اني مش بس مستعد اكمل علام ليلى وهي في بيت جوزها على حسابي، لاه دا انا كمان مستعد اكملك انتي واوفي بالعهد القديم اللي خدوا عليا المرحوم والدك، انك تاخدي شهادة الاعدادي في بيتي، كنت صغير ساعتها ومديتش اهتمام لكن دلوك اللي تجولي عليه يا بنت الناس .
اظهر اسفه في الأخيرة حتى يستجلب استعطافها، اما عنها فلم يدخل حديثه رأسها على الإطلاق ، حتى أصابها الضجر منه لتنهي هذا اللقاء معه:
- مفيش داعي للكلام دا دلوك يا عرفان، ثم كمان مينفعش اجف على الباب اكتر من كدة ولا اجدر اقولك اتفضل.
ـ اممم
زام بفمه يدعي الاستيعاب :
- ماشي يا مزيونة حقك، انا برضو ميهونش عليا حاجة تأذيكي, افوتك بعافية بجى سلام.
أنهى يسحب نفسه ويغادر من أمامها بضيق استشعاره بعدم استجابتها، لكن سرعان ما تبدل مزاجه، فور ان انتبه لحمزة الذي كان واقفا على باب منزله الجديد بتجهم لا يخفي على رجل مثله، وقد فطن إلى مراقبته لوقفته مع مزيونة، حتى أثار بداخله التسلية ، كي يكيده بابتسامته هاتفا:
- مرحب يا نسيبنا منور بيتك الجديد
وأكمل بضحكة استفزت حمزه ليحدجه بنظرة نارية مغمغما في أثره:
- دا نورك يا اخوي اللي معبي الدنيا، يا بوي على تقل دمك
......................
بعد قليل
وبعد أن بعث إليها ريان لتخرج إليه الآن وتلقاه أسفل شجرة التين في المنطقة الفاصلة بين منزله ومنزلها، معطيا لها ظهره بغموض غير مفهوم ، مما اضطرها الهتاف بإسمه حتى تخبره بحضورها. او لفت انتباهه على حسب اعتقادها:
- نعم يا ابو ريان، الواد بلغني أنك عايزني ضروري .
ظل على وضعه لبرهة، لتنتبه على سحب أنفاسه القوية بتحرك عضلة ما بظهره, قبل أن يلتف إليها بغموض تجلى في نبرة صوته :
- فعلا انا اللي بعته، عشان عايز اتكلم معاكي ضروري ، ضروري جوي,
اهتزت رأسها اليه باستفسار، فجاء رده مباشرة ودون مواربة:
- كنت عايز اعرف، عرفان كان هنا ليه؟ وكيف يجف معاكي؟ امال الواد حازم دا ايه لزمته ؟
لم تغفل عن حدته في توجيه السؤال، ومع ذلك فضلت الرد بصورة طبيعية رغم رفضها تحقيقه:
- حازم ابن اخوي ربنا يحفظه ويبارك فيه ، هو اللي فتحله وكان واقف معاه جبل ما اطلع انا واستلم الأمانة اللي كان مصمم يسلمهاني في يدي .
مال برقبته نحوها يتابع استفساره:
- أمانة ايه بقى ؟ ها
نفخت داخلها باستهجان لأسلوبه، في إثارة حفيظتها, لتجيبه بنوع من الانفعال:
- أمانة غالية يا ابو ريان، شكمجية المرحومة امي، كانت تايهة في العفش اللي فوتناه
- الله يرحمها ويسامحها.
غمغم بها مطرقا رأسه بتأثر ثم ما لبث أن يرفع ابصاره إليها بحدة مستطردا:
ـ بس برضو ، كان بعته مع اي حد ، كان اداه لاخوكي ، لواد اخوكي، لاي حد من طرفه، لكن هو ياجي هنا ليه؟ ولا هي تماحيك وخلاص.
برقت عينيها نحوه بعصبية:
ـ وافرض ان كان بيتمحك ولا يتزفزت، انا ليا حاجتي اني خدتها منه وخلصنا على كدة .
- لا مش خلصنا .
هتف بها من خلفها، ليضيف بالمزيد وكأنه تحول إلى شخص آخر :
ـ الراجل البارد ده مالهوش جيا هنا واصل ، النهاردة شكمجية من ريحة المرحومة، بكرة جزمة ولا بعده بنسة شعر ، ورجله تاخد على البيت ، وابجى جابليني لو خلصنا صح.
- امتقعت ملامحها باعتراض، فما تلمسه من تجاوز يجعلها تكاد تفقد الذرة المتبقية من تماسكها، لتزفر بسخط قائلة:
ـ مش شايف انها كبرت شوية منك يا ابو ريان
صاح ردا لها بغضب متعاظم، وكأنه صار كالمجنون غير واعي أو مدرك لأي شيء سوى ردع هذا الرجل عن الاقتراب منها :
ـ خليها تكبر يا ستي، المهم الراجل ده يتلم على دمه، فاضينله أحنا عشان ياجي ويتحنجل بأي حجة يخترعها وتفتحله سكة للقرب، اجفلي معاه من اولها، مش تسبيه لحد ما ياخده العشم ، انتي ادرى واحدة بدماغه السم المنتول ده، هو انا اللي هنبهك عليها دي؟
تصلبت محلها بعدم استيعاب ، مستنكرة ذلك التسلط الجديد منه، لتخرج عن تحفظها هي الأخرى:
- جرا ايه يا نسيبنا؟ الموضوع مش مستاهل كلام ولا فرض أوامر يا نسيبنا.
استفزه تركيزها الشديد في تذكيره بتلك الصفة حتى لا يتعدى حدودها معها، ومع ذلك هو اليوم مصر على تحديها:
ـ لا مزيونة مستاهل، مستاهل يا مزيونة ومن غير نسيبتنا كمان؟
احتدت ملامحها بخط مستقيم ناظرة له بحنق شديد مقارعة له:
ـ ولما تنفي صفة النسيب، يبجى فرض الأوامر ده بصفة ايه ؟
تبسم دون مرح، وجديه تقطر مع كل حرف منه، كاشفا كل أوراقه لها:
- صفتي انتي عارفاها زين يا مزيونة، وان كنت صابر عليكي ومأجل اي خطوة جدية أخدها معاكي، فدا برضو عشانك، جافل على اللي في قلبي وكاتم على اللي جوايا ، في انتظار انك تحني وتنسي اللي فات، تبصي لنفسك ولعمرك معايا، مش تفضلي واجفة محلك واللي تقدري عليه يدوب هو شهادة تطوليها بعد سنين.
كان حادا في اعترافه بل وصادما في كشفها أمام نفسها، بصورة افقدتها النطق لحظات، تتحرك حدقتيها بتشتت، تستجمع شتاتها بصعوبة لتكن على مستوى الحدث في ردع هذا الرجل المتبجح، كيف يخاطبها بتلك الجرأة؟ ولكنها لا تجد صوتها ، ولكن تملك قدمين للذهاب... او الهروب ......
- استني عندك يا مزيونة انا بكلمك.
هتف يعترض طريقها فور ان التفت للذهاب ، مما حفزها هذه المرة لتنهره:
ـ بعد من وشي يا حمزة يا قناوي، انا مش هسمحلك تتمادي معايا اكتر من كدة......
ـ ومين قال إني بتمادي؟
صرخ بها مقاطعا لها، يتابع بقهر ما يعتري قلبه نحوها:
ـ دا انا صابر عليك صبر ايوب، انا لو مش متأكد انك بتبادليني نفس الشعور عمري ما كنت هتكلم ولا حتى اصدق نفسي، الماضي الزفت وعقده اللي حاجبه عنك كل حاجة حلوة حواليكي، انك تبصي في المراية وتشوفي صورتك زين، تشوفي مزيونة اللي تستحق الحب والحياة اللي تستاهلها.....
ـ بعد عني يا حمزة، انت كدة اتعديت حدودك.
لم يغفل عن ارتجافها امامه، ولا بصوتها المهتز في مخاطبته، رغم ادعائها القوة في رفض تصديقه، ومع ذلك هو اليوم قد أخذ القرار في إخراج ما في قلبه كاملا :
- لا يا مزيونة مش هبعد، عشان تشوفيني زين، ارفعي عينك اللي بتهرب مني دي واعرفي مين اللي واجف جدامك؟ انا حمزة مش عرفان، حمزة اللي يحطك تاج فوق راسه، مش عرفان اللي........ ما يعرف في الحياة غير نفسه وشهواته مع واحدة جميلة زيك...
ازدادت حدة انفاسها، وامتقعت ملامحها بغضب عميق، فقد تخطى كل الخطوط الحمراء امامها، حتى كادت أن ترفع يدها وتصفعه على وجهه، ردا لوقاحته ولكنها لم تملك الجرأة سوى الرد بلسانها:
ـ انت جليل ادب ومش محترم.
صاحت بها في وجهه، لتندفع من أمامه عائدة إلى مصدر امانها، بخطوات أشبه بالركض، فتعلقت عيناه بها حتى اختفت داخل منزلها، تغلق بابها عليها ، صافقته بقوة ، ليغمغم هو محدثا نفسه:
- جلة ادب! هو انتي لسة شوفتي جلة ادب؟ والله ما هعتقك يا مزيونة لغاية ما تعترفي لنفسك قبل ما تعترفيلي انا كمان.
..........................
وجدها تقف أمامه متخصرة في استقباله، بجسد يهتز من فرط عصبيته، ليعلق ساخرا:
- كفاية هز لافتكر أن سطتك الكهربا وهتفرحيني لما تروحي فيها...
ختم بضحكة سمجة ضاعفت من حنقها لتصيح به:
ـ حقك يا عرفان تضحك وتتمسخر، مدام جاي من عندها بعد ما سويت اللي مخك، يبجى اكيد ضحكت عليك بكلمة تطيب خاطرك، مسكين وصعبان عليها ياعيني.
ـ اتلمي يا صفا بدل ما اعرفك انا مجامك.
لم تتأثر بتعنيفه؛ فقد برد نارها قلب مزاجه سريعا ، لتتابع في التنفيس عن غضبها:
ـ هتعمل اكتر من كدة ايه يا غالي؟ بعد ما خليتني خدامه تحت رجليك، ولما تعوز اللي متقدرش تستغني عنه، تعاملني زي الجارية، وبس تخلص نفسك ترميني من اوضتك زي الحشرة، أوضتك، اللي هي اوضة المحروسة في الأصل، و اللي بتتنشج على نظرة منها تحن عليك بيها
سمع منها يعلق بصلف وجلافة ردا على وقاحتها في الحديث معه
ـ عشان دا مجامك
توهجت نيران الحقد بداخلها لتواصل غير آبهة بغضبه:
، رايح تودليها الشكمجية اللي رميتها انا مع الكراكيب ورا البيت يا عرفان، طب ياريتني كنت حرقتها مع وجيد الفرن وانا بحمي للخبيز،
ـ عشان كنت خلصت عليكي.
ـ اعملها معدتش فارقة.
صرخت بها متابعة بقهر:
ـ طب أن هجيبلك من الاخر ، مهما عملت يا عرفان مش هترجعلك، عارف ليه؟ عشان المرة اللي عايزة جوزها صح، مهتسيبش المرض يتمكن منيها ويرعى في جسمها عشان تبجى حجتها في بعده عنه، مزيونة كانت مرحبة بالمرض اكتر منك، بدليل أنها مطابتش ولا خفت منه، غير ما اطمنت انك زهدت فيها، ودا كله بفضل العمل اللي عملته، دا انا خدمتها اكتر ما خدمت نفسي.
هل كان عدوها لتنتشي بتأثير الكلمات السامة عليه الان؟ لا لم يكن عدوها ولكن جرح قلبها وإهدار كرامتها كان له أكبر الأثر في صفعه بالحقيقة ولتتحمل عواقب قولها الآن، بعد أن امتقعت ملامحه الشقراء تقارب السواد من فرط غضبه منها ، وقد برزت عروقه بخطر ليقترب منها مقررا فش غليله بضربها، يسبق رفع يده جملة واحدة منه:
ـ طلبتي ونولتيها، انتي اللي جبتيه لنفسك يا صفا ، اتحملي بجى
........................
ناظرة في المرأة، تطالع نفسها كما اخبرها، تلوم ذاتها في تساهلها معه ، حتى تبجح في الحديث وتطاول عليها، لابد من رد قاس مع هذا الرجل ، حتى لا يتجرا ويعيدها مرة أخرى، لقد غلب بجنونه شقيقه الاصغر مع ابنتها ، ولكن الاخر له عذره، اندفاع الشباب في عروقه وعدم نضج صغيرتها كانا من أهم الأسباب لتأجج المشاعر بينهما ، أما هو وهي .......هو رجل اوشك على الاربعين من عمره، اي في عز نضجه ولا ينقصه شيء حتى يفتعل هذا الجنون مع امرأة مثلها.........
لقد أخبرها أنها تستحق الحياة، وأمرها أن تنظر في المرآة، وهل كانت مقاطعة ولا تنظر بها كل يوم ؛ ما الذي ستكتشفه يعني؟ تتأمل جيدا تلمس على شعرها الحريري المفرود على كتفيها وحول وجهها، ذلك الذي يتميز بنضارة طبيعية لطالما حسدتها الفتيات والنساء عليه، عيناها اللوزية بلونها البني، ولون الوجنتين بحمرة طبيعية تتفاقم وقت خجلها أو غضبها كما حدث منذ قليل، لقد اخبرها أنها جميلة؟ نعم هي تعرف هذه الصفة منذ مولدها، حتى الاسم الذي أطلقه والدها عليها كان بفضل هذه الصفة، ولكنها أيضا كانت قد فقدت الاحساس به، احساس الجمال أو أنها مرغوبة.
لطالما رافقتها نظرات الإعجاب أو تلك الجائعة التي تعرفها حق المعرفة اينما حطت قدميها بمكان ولكنها لم تكن تتأثر على الإطلاق .
اللعنة لماذا تنظر في انعكاس وجهها الآن وكأنها تراه لأول مرة؟ هل اخبرها أنها فاتنة ايضا؟ لا لم يخبرها اللعين.
انتفضت فجأة من شردوها على صرخة اخترقت اسماعها:
- اللحقني يا بوي، اللحقيني ياخالة مزيونة ، حد ياجي ويلحقني يا ناس.
ـ يا مري دا ريان.
صرخت بها لتركض نحو الخارج، ساحبة طرحتها على عجالة، تغطي شعرها المفرود بإهمال، لترا ما الذي أصاب الصغير
........................
من داخل شرفتها، وقفت تستند بمرفقها على السور ذو السطح الرخامي، تتمعن النظر بذلك المشهد المستفز لها، داخل الحديقة وتجمع صغارها حول الأرجوحة التي استولت عليها تلك المدللة بعد عودتها من إحدى كورسات الدروس التي يتكفل بها زوجها لإكمال دراستها، تتأرجح مع الاطفال وكأنها منهم ، بانطلاق ومرح ، مالذي سيشغلها أو تحمل له هما؟
وهي تعامل كالأميرة، تذهب الى المدرسة صباحا وحين تعود تجد الشقة المرتبة، الملابس النظيفة والطعام الجاهز، تخطف لقمتها ثم تخرج إلى دروسها، وحين تعود تمرح مع الأطفال في اللعب لمدة من الوقت قبل أن تعود لشقتها ومذاكراتها مرة أخرى، الجميع يعمل على خدمتها وسعادتها بفضل ذلك المتمرد زوجها، والذي حين يأتي كل اسبوعين يسقيها من الدلال واللعب والمرح أضعاف
إذن لماذا لا تضحك كما تفعل الان؟ اللعنة وكأنه يأتي على السيرة ، ما الذي أتى به الآن ؟
تمتمت هالة داخلها بالاخيرة وهي تفاجأ بولوج معاذ إلى داخل محيط المنزل الكبير ، يتسحب على أقدامه كي يفاجأ ليلى من خلف ظهرها، أمرا الاطفال بإشارة منه حتى لا ينبهها أحد منهم، فخرجت صيحة الاجفال منها بصوت عالي جعل جميعهم يضحون، حتى خليفة الذي راقبهم وهو يحمل الحقائب كالعامل الأجير ،يضحك بملء فاه لذلك المقلب الذي فعله شقيقه بزوجته، اللعنة عليهم جميعا، سوف يتسببون لها بأزمة قلبية ببرودهم.
...................
في الاسفل كان مشهدهم ما اروعه، وقد تكفل هو بالمهمة في هزهزة الأرجوحة بها بعد اجفالها وصرخات المرح منها التي لفتت أبصار الجميع نحوها ، ليعقب بمشاكسة:
ـ متعرفيش تتخضي وانتي ساكتة لازم تفضحيني وتلم عيال اخواتي عليا، يجولوا علينا ايه دلوك ها؟ يجولوا علينا ايه؟
صرخت مرة أخرى حين دفعها للأعلى في الهواء لتعقب على قوله:
ـ هيجولوا عليك مجنون يا معاذ وانا كتر خيري اني متحملة واحد زيك، دا كفاية خلعاتك ومقالبك فيا اللي هيجطع منها الخلف بسببك.
ـ كمان بتجولي مجنون ، يعني لما اروحك على الدور التاني فوق دلوك هتتلمي يا ليلى.
دفعها إلى الأعلى من المرة السابقة لتصرخ بجزع حقيقي تترجاه بجدية هذه المرة:
ـ هجع يا مجنون والنعمة هجع، انا تعبت بجد والله اياك تكررها تاني
انتابه الرعب لهيئتها، مقررا ايقاف الأرجوحة بيده، ليطمئن عليها:
ـ انتي بجد تعبتي؟ طب انزلي طيب ولا تركبيها ليها اصلا المرجيحة دي؟ هو احنا ناقصين دوخة.
لهثت أنفاسها وكأنها عائدة من عدو سريع حتى أذا انتبهت إلى الخوف الذي احتل معالمه، سارعت بطمأنته:
ـ متجلجلش جوي كدة، دا بس من الخضة، عشان تحرم ما تجدحني لفوق جوي في الهوا مرة تاني، انتي عارف اني جلبي خفيف اصلا .
خرج صوته بعتب؛
ـ يعني بتجيبها فيا يا ليلى بعد ما قررت اساعدك واخليكي تركبي الهوا شوية لما لقيتك وسط العيال بتلعبي زيهم، دا بدل ما ارجع من سفري الاقيكي مستنياني بالاحمر والاصفر، زي باقي الرجال المتجوزين.
ضحكت تعود للأرجحة ببطء تشاكسه:
ـ حظك بقى انك اتجوزت عيلة، ومش هتكبر واصل على فكرة ، يعني تفقد الامل في حكاية الدلع والاحمر والاصفر، احنا ناس مؤدبين مش بتوع الكلام دا واصل يا بابا.
ـ ووه
صدرت منه متخصرا ليقارع حاجتها:
ـ طب يا عيلة يا صغيرة، على كدة لما احب اهاديكي، ابجى اجيبلك مصاصة ولا بسكويت ويفر، بدل صندوق الهدايا ولا بوكيه الورد ، هو دا اللي عايزاه، خليكي جريئة وجولي أيوة .
ضحكت حتى رجعت رأسها إلى الخلف تزيده ولها بها، حتى ملكت صوتها اخيرا :
ـ لا يا معاذ مش عايزة صندوق هدايا ولا بوكيه ورد، عايزه مرجيحة اللي وعدتني بيها جبل الجواز، زي اللي جاعدة عليها دي، بس تبقى ليا لوحدي فوق السطح عشان اللعب براحتي، ولا انت نسيت؟
تعقد حاجبيه قليلا بتفكير حتى تذكر بالفعل، ليضرب كفا بالاخر قائلا:
ـ يخرب مطنك ومطن دماغك، بجى فاكره كلمتيني من ساعة المولد ومراجيح العيال ، طب انا والله بالفعل نسيت
زامت فمها بدلال في رد له:
ـ واديني فكرتك يا سيدي ، اشوفك بجى هتصدج في وعدك ولا لاه؟
مال نحوها يتمسك بقائمي الارجوحي، مرددا بصدق:
ـ هصدق والله هصدق، انا عمري جصرت معاكي، جولي لو جصرت.
نفت بهز رأسها ضاحكة رغم شعورها ببعض التعب ولكن روح المرح داخلها غلبتها، لتطلب منه:
ـ لا بصراحة لحد دلوك لسة، مرجحني شوية بجى قبل ما نطلع فوق.
ـ من عيوني يا جميل .
قالها بحماس اخافها قليلا لتسارع بتنبهيه:
ـ بس مش تعليها جوي زي المرة اللي فاتت.
أجابها بطاعة تريحها:
ـ حاضر من عيوني الجوز
وصار يدفع الأرجوحة بها لتقهقه بسعادة ، مرة واثنان وثلاثة والعديد والعديد حتى إذا اكتفت امرته بالتوقف ، وما كادت تضع قدميها على الأرض حتى شعرت باهتزاها من تحتها، فحاولت التحرك ولكن دوار ما لفها، حتى اسود العالم أمام عينيها، فلم تشعر بنفسها حين وقعت فاقدة للوعي ولا بصرخة معاذ الذي جثى على الأرض كي يطمئن عليها صارخا:
ـ ليلى ، ليلى انتي مالك؟ ليلى ..... ليلةةةة
................
خرجت بإحساسها تتبع صوت الصراخ حتى وصلت إلى شجرة التين ، لتجد الصغير معلق فوقها على احد الافرع الضخمة، يتمسك بها بقوة، صارخا بهلع فور ان انتبه لها:
ـ اللحقيني يا خالة مزيونة، انجديني لا يموتني.
صاحت تستفسر بدورها :
- هو ايه اللي يموتك؟ وانت معلق فوق الشجرة كدة ليه؟
أشار بسبابته التي كانت ترتجف معه، نحو أحدي الشجيرات المزروعة حديثا من قبل والده أمامها ، لتفاجأ بثعبان ضخم أسفلها، وكأن الجلبة وصراخ الصغير أثارت انتباهه هو الاخر، حتى جعل قلبها يرتجف داخلها، ومع ذلك دفعها الخوف على الصغير أن تتجاوزه، تتسحب بخفة من أجل إنزاله وبعدها ترا أمر ذلك الثعبان ، وصلت إليه ترفع ذراعيها الاثنان لتتلقفه:
ـ انزل ياللا عشان اتلجاك ، انت ايه اللي ركبك اصلا؟
دفعه الخوف للاعنراض والتشبث بمحله:
-لا يا خالة مزيونة لما ياجي ابويا الاول يجتله، لاحسن ياكلنا انا وانتي
هتفت به بانفعال:
- اانزل يا ريان بلا ابوك بلا حكاوي، دا وقت جلع ده؟ خليك شجاع، التعبان بياكل الجبنا بس.
اسمع زي ما بتقولك يا واد.
صدح الصوت الجهوري من خلفها، لتلتف اليه مجفلة، فتواجه بناريته وقد بدا انه سمعها وهي تراوض الصغير لينزل اليها، فعادت تلتف سريعا عنه تخفي خجلها منه،، وقد نفعها في تلك اللحظة مناجاة ريان المباشرة اليه:
- دا كان عايز يموتني انا وخالة مزيونة.
- معاش اللي يقرب منك ولا يسطك ياض وانا جاعد.
قالها حمزة ليتولي امر الثعبان، فتشجع ريان ليقرب المسافة بينه وبين مزيونة حتى يصل اليها ولو بذراعه فتتولى هي مهمة حمله والابتعاد به.
وما ان نزلت به الارض حتى انتفض الاثنان. تأثرا بالطلق الناري الذي اخترق اسماعهم، ليلتفا اليه، يجدان الثعبان قد فارق الحياة، وهو يدخل في جيب سيالته في الامام السلاح الناري، كل خليه منه توجهت نحوها بتحفز حتى اقترب يتناول صغيره منها، ابصاره كالسهام تطوف عليها، يطالع الوجه البهي والشعر الحريري مبعثر حوله وفوق الجبهة بعشوائية، من تحت الطرحة التي تغطي نصفه فقط، يحمد الله ان الصغير معه الان، حتى يحجم نفسه عن اهوائها، فيعلق بكلمات مقصودة:
_ حطها حلقة في ودنك يا ولدي، طول ما انا عايش مفيش تعبان يقدر يهوب منك، لا انت ولا خالتك مزيونة.
بالطبع هذه المرة قد فهمت على مقصده بوضوح، لتختار الهروب منه كما حدث منذ ساعات تلتف عائدة الى منزلها، شاعرة بحدة نظراته التي تخترقها، حتى وصل لاسماعها صوت دوي الهاتف وبعدها كلماته-
- ايوة يا خليفة انا معاك.......... ......... بتقوا مين؟ ايه اللي جرالها ليلى؟
لتعود إليه صارخة:
- مالها ليلى بتي حصل لها ايه؟