رواية لاجلها الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم امل نصر


 رواية لاجلها الفصل الخامس والعشرون

"ليست كل الحسابات تصيب"

نمضي في الحياة نرسم خططنا بدقة، نُقسم اللحظات، ونرتّب الأماني، ونحسب خطواتنا كأن كل شيء بأيدينا…
نمنح الثقة بحساب، ونمنعها بحساب، نُحب بحذر، ونحذر بحب، نظن أن الأمان يُبنى على عقلٍ راجح، وعلى وعودٍ نحفظها كالعقود…

لكن الحقيقة؟
أن الله وحده من يُجري المقادير، وأنّ كل حسابات البشر تنهار أمام كلمة "كن".
فالذي وثقنا به قد يُخذلنا، والذي خفنا منه قد يُنقذنا، والذي حسبناه نجاةً قد يكون الهلاك، والعكس صحيح.

فلمَ نُتعب قلوبنا؟
ولمَ نقف طويلاً أمام أبوابٍ أُغلقت، أو نُعاتب قدَرًا لم نختره؟
لماذا نحمل أنفسنا ذنب ما لم يُكتب لنا أصلاً؟

سُلّم الأمر لله، واطمئن...
فما دام القدر بيد من لا يظلم، فكل ما فات، وما هو آتٍ، فيه حكمة، ولو غابت عنا.

المراجعة والخاطرة للجميلة دائما/ سنا الفردوس 

الفصل الخامس والعشرون

دلفت بخطواتها المتسارعة خلفه داخل المشفى المركزي للبلدة وما يجاورها من قرى، تتلفّت يَمينًا ويسارًا في اتباعه على مضض، تُريد القفز من محلها داخل المكان حتى تصل إلى صغيرتها وتعرف ما الذي أصابها واستدعى نقلها إلى هنا:

ـ البِت أوضتها فين؟ بجالنا ساعة بنلف في دخانيب المستشفى الهباب، ولا أكننا في مغارة علي بابا!

صاحت به وقد استبدّ القلق داخلها على طفلتها، الأمر الذي جعله يتغاضى عن حدّتها وهذايانها في الحديث منذ أن علمت بالخبر واستقلّت معه السيارة، ليواصل مهادنتها:

ـ المستشفى كبير، وأقسامه كتيرة، شيء طبيعي نتعب على ما نوصل للي عايزينه. على العموم، الأوضة شكلها اللي هناك دي، على حسب وصف خليفة معايا في التليفون.

وما كاد يُنهي جملته حتى وجدها تطير مهرولة إلى تلك الأخيرة، تقتحمها دون استئذان:

ـ ليلى، بِتي فين؟ مش دي أوضتها برضو؟

صدحت بالأسئلة دون تركيز نحو هوية الأشخاص المجتمعين أمامها، حتى استدعت منى لتدعوها على عجالة:

ـ هي أوضة بِتك يا جزينة، إنتي لسه هتسألي؟

وبدورها كانت هي الأخرى قد دلفت بلهفتها، تتخبّط أبصارها بالحضور داخل الغرفة المكتظة بهم: حسنية، وابنها خليفة، وزوجته هالة، ومنى بالقرب من السرير الطبي الذي كانت تجلس عليه صغيرتها، ومعاذ الذي كان يجاورها، فركضت نحوها بتساؤلها وتفحّصها:

ـ مالك يا بتي؟ إيه اللي جرالك ومجعدك كده؟

ضحكت ليلى وهي تقبل كفيّ والدتها التي تمرّ على وجنتيها وجبهتها ثم باقي جسدها، وكأنها ستستكشف علتها من تلك اللمسات، لتُسارع في طمأنتها:

ـ يا مزيونة، أنا زينة جدامك أهو، وآخر تمام. بصّيلي كويس، مفياش حاجة والله.

ـ أمال نقلوكي على المستشفى هنا فسحة؟!

سخرت بها مزيونة في رد سريع على ابنتها التي تستخفّ كما تظن، فتدخل معاذ مطلِفًا ومحتدًّا أيضًا:

ـ هي قصدها تطمّنك يا مزيونة، إن الأمر هيّن إن شاء الله. أكيد شوية ضعف، على رأي الدكتور اللي فحصها من شوية.

أضافت على قوله حسنية ببساطتها:

ـ أيوة يا بتي، زي ما جالك كده. هو أكيد بس من تعب المذاكرة وهدّة الدروس، بنيتي الله يكون في عونها. أنا من هنا ورايح هغصب عليها غصب إنها تاكل وتهتم بصحتها.

التوى ثغر هالة بضجر، تلتف برقبتها عنهم مغمغمة بغيظ:

ـ صغّديها في خشمها كمان، ما هو ده اللي ناجص!

وصلت همهمتها إلى خليفة، الذي حدجها بنظرة نارية، لتُمسك نفسها عن إظهار غيرتها أمامهم. أما حمزة، فقد عقّب باستنكار:

ـ ولما هو الأمر مش مستاهل كده، جايبنها على المستشفى دي ليه؟ ما كان يكفي الوحدة في البلد؟ على الأقل عشان ما نتشندلش إحنا وراكم ويطلع عنينا!

دافع معاذ مبررًا له:

ـ ما أنا ما اعتمدتش بصراحة على وحدة الفُقر دي. ليلى كانت مسخسخة في يدي ومش دارية بالدنيا، جلبي اتخلع عليها، كان لازم أطمن.

ردّت خلفه مزيونة باستفسار واحد:

ـ جلبك اتخلع عليها كمان؟ هو إيه اللي حصلها بالضبط، بنيّتي؟

تكفلت ليلى سريعًا بالرد تُخفّف عن زوجها:

ـ يا أمه، معاذ هو اللي بيهوّل. اللي حصل إني غيرت من العيال الصغيرة واتفشيت في المرجيحة النهارده، والبركة في معاذ اللي كان بإيديه بيهزّهزني هو كمان. بس بعدها دوّخت، وغمرت أول ما رجلي سطّت الأرض عشان أقف، وبس كده.

ـ بس كده؟!

تمتمت بها مزيونة في شك، موجّهة أبصارها نحو منى التي كانت مخالفة للجميع بصمتها، حتى إذا شعرت بتساؤل مزيونة نحوها، رفعت كفيها وأنزلتهما تدعي عدم الفهم:

ـ أنا مكنتش موجودة في البيت، جاية على المستشفى زيّك، بس أكيد إنه خير إن شاء الله.

ـ إن شاء الله يااااارب.

صاحت بها مزيونة بتضرّع، لتنهض فجأة:

ـ طب هو فين الدكتور؟ أنا عايزة أشوفه وأسأله، إن كانت الحالة زينة كده، مأمَرش ليه بطلوعها؟ ولا هي شندلة وخلاص!

أوقفها معاذ قبل أن تستقيم بوقفتها جيدًا:

ـ لا، ما إحنا في انتظار نتائج التحاليل اللي أمر بيها.

ـ تحاليل إيه بالضبط؟

وما كادت تنهي سؤالها، حتى انتبهوا جميعًا نحو مدخل الغرفة، بعد أن دلفت إحدى الممرضات من الطاقم الطبي، تُلفت انتباههم بهتافها:

ـ ليلى عرفان الأشقر، نتيجة التحاليل ظهرت يا مدام.

ردّ حمزة، يسبقهم جميعًا في التساؤل:

ـ بسرعة لو سمحتي، طمنينا!

سمعت منه الفتاة، فتبسم ثغرها، موجهة أبصارها إلى الحالة المقصودة وزوجها:

ـ خير أوي على رأي الدكتور. ألف ألف مبروك يا مدام، إنتِ والأستاذ اللي معاكي. النتيجة بتقول إنك حامل، وفي ست أسابيع.

ـ نـعــــم؟!

صاحت بها مزيونة بعدم تصديق، وتكذيب لما وصل إلى مسامعها، فتضامن معها حمزة، الذي تجلّت الصدمة في نبرته هو الآخر:

ـ إنتي متأكدة إن التحاليل دي بتاعة الحالة اللي هنا؟ اقري كويس رقم الغرفة لو سمحتي!

عبست ملامح الفتاة أمام ترقّب الجميع في الغرفة، لتُصرّ على قولها بتأكيد لا يقبل الشك:

ـ يا أستاذ، مش محتاجة أقرأ رقم الغرف اللي حافظاها أكتر من خطوط إيدي! ده غير إني ساحبة العينات بنفسي منها. إنتي مش مركزة ولا إيه يا مدام؟

توجّهت بالأخيرة نحو ليلى، التي صارت تطالعها بوجوم، وكأن الحديث موجّه إلى واحدةٍ أخرى، ليست هي. لتعقب مزيونة التي بدت وكأن الكلمات تترنّح معها:

ـ دي بتجولك يا مدام، ومتأكدة من سحب العينات! يعني الدوخة كان ليها سببها الحقيقي؟ حامل يا ليلى؟ بِتي حامل يا معاذ؟!

التفت رأسها نحو حمزة بعتاب أشد من الرصاص يخترق قلبه:

ـ الأمانة اللي جولتلي في عينيا، مكملتش تلت أشهر وحبلت؟ بِتي حبلى يا حمزة؟ حبلى يا حجة حسنية؟ حـ...

ولم تُكمل باقي كلماتها، لتسقط على الأرض فاقدة وعيها هي الأخرى، فيتلقاها حمزة هاتفًا بجزع:

ـ مزيونة!

.........................

ـ يا بِنت الناس، أبوس يدك قوليلي، أنا مش كل يوم بتصل بيكي وأسألك عن الحباية؟ حصل ولا ما حصلش؟

بعقل يكاد أن يهرب منه، كان يكرر تساؤله بأكثر من صيغة، وكأنها لا تعي جيدًا صحة الإجابة، والتي كانت تكرّرها هي الأخرى ببكاء يقطع نياط قلبه، حتى باتت تؤكد عليه بالقسم:

ـ والله العظيم، والله العظيم، ما في يوم واحد فوت! ده أنا عملالها منبه مخصوص قبل ميعاد اتصالك، يعني مفيش مرة كدبت عليك فيها.

هتف وهو ينفض ملابسه بتشتت وضجر، ردًا عليها:

ـ أمال ده حصل إزاي بس؟!

صاحت به والدته تُوبّخه:

ـ خبر إيه يا واض؟ ما تهدى شوية على البنيّة! دي فيها اللي مكفّيها! مش كفاية خلعتها على أمها، ولا التعب الجديد عليها؟ حملك كمان عشان تزود عليها؟!

سمعت ليلى منها، ليزداد نشيجها المتقطع، فسارعت حسنية بالتلطيف بعد أن شعرت بهفوتها في ذكر أمر الحمل:

ـ يووه يا بتي، ما جصدتش والله! أنا كأني بخربط ولا إيه؟ سامحيني.

أغمض معاذ عينيه بتعب، يشدّ على شعر رأسه إلى الخلف، مهمهمًا بصوت مهزوم:

ـ هي تسامحك؟ طب وأنا مين يسامحني؟ من أول جوازي وأنا بعمل المستحيل عشان أوفي بوعدي قدّام أمها، وجدامك، وجدام حمزة... حمزة اللي أول مرة أشوف في عينيه نظرة واعرة! نظرة واحد خاب أمله فيا. طب ليه ده يحصل وأنا ممشيها بالقلم والمسطرة؟ وهي بتحلف ما أخلفتش، ولا بتكدب؟

ـ أيوة، والله ما بكدب، صح! ومستعدة أحلف على المصحف، ولا من غير حلفان. إحنا نحسب كام شريط وكام برشامة اتاخدوا بعدد الأيام، عشان تعرفوا إن كان كلامي صح ولا تأليف! ثم كمان ليه يحصل؟ وأنا أكتر واحدة مضرورة، وهشيل همّ فوق طاقتي، ولا ناسي؟

قالتها، وانطلقت في حضن حسنية ببكاءٍ مرير، حتى غصّ قلبه حرقةً عليها، ليسقط بجوارها على الفراش من الناحية الأخرى، يسحبها من حضن والدته إلى براح حضنه الشاسع، يمسح على ظهرها ويبثّ بها الأمان مطمئنًا:

ـ عمرك ما هتشيلِي هم وأنا جمبك، وإن كانت خيبت منينا المرة دي، برضو المشوار مستمر، ومش هنوجف غير بانتصار كامل.

.........................

خارج الغرفة، كان خليفة مستندًا بذراعيه على الحائط، بحيرة تأكل رأسه. لا يدري ماذا يفعل، بعد أن انقسم أفراد أسرته إلى فريقين: فريق مع الصغيرة في الداخل، والفريق الآخر مع والدتها في غرفة قريبة منها. وكان نصيبه الوقوف الآن في الوسط، مع هالة، التي تفتح علب البسكويت التي أتت بها من مقهي المشفى، واحدة تلو الأخرى، وتتناول وتمضغ دون حرج أو خجل، حتى فاض به منها ومن قلّة ذوقها في الأكل بنهم دون مراعاة لهيئتها أمام البشر الذين يمرّون أمامهم، ليقترب منها محذّرًا من بين أسنانه:

ـ خلي عندك دم شوية، الناس رايحة جاية تبص عليكي، ده غير إن الموقف نفسه ما يتحمّلش، ولا إنتِ مش واخدة بالك؟

تقلّصت ملامحها بضيق، ساخرة:

ـ لا، مش واخدة بالي يا أستاذ خليفة! هو إيه اللي حصل يعني؟ عشان أتعكنن؟ ولا أمنع على نفسي الوَكْل؟ واحدة حبلى وبتتجلّع، وأمها بتتمحك عشان تبين نفسها؟ يعني مش عيا ولا تعب عشان نزعل عليهم! دي أمور حريم يا حبيبي... بلا فقع مرارة!

ردّ خلفها بدهشة، سرعان ما تداركها لمعرفته الواثقة بشخصيتها:

ـ أمور حريم؟ تصدّجي يا هالة، أنا مش مستغرب! هو إنتي من إمتى أصلاً كنتي بتحسّي ولا تفهمي، عشان أعتب عليكي؟ ده أكيد غباء مني إني ظنّيت لوهلة كده إن المعجزة دي تحصل!

توقّف فمها عن المضغ بصدمة، تُناظر ابتعاده عنها، لا تُصدّق فحوى الكلمات التي خرجت منه. ولكن لمَ العجب؟ فهذا خليفة، ابن عمها وزوجها، الذي لم تفهمه أبدًا.

تحوّلت أبصارها فجأة نحو الجهة التي تطلّ من خلفها، بعد أن احتلّ الإجفال معالمه، لتُفاجأ به يستقبل تلك التي قدمت عليهم بدون استئذان:

ـ روان؟ إنتي إيه اللي جايبك هنا؟

تحدثت المذكورة بلهفة امتزجت بالخوف:

ـ أنا جاية على ملا وِشي عشان أطّمن يا خليفة! ريان كنت بكلمه في التليفون من شوية، وقالّي إنكم كلكم في المستشفى، من غير ما يعرف أي تفاصيل يطمني بيها! خير؟ لتكون ماما حسنية جرالها حاجة؟

كادت هالة أن تُجيبها، ولكن آخر ما استوعبته هو سماع تلك الجملة التي تكرهها كُرهاً شديداً  "ماما حسنية"، فتعطي فرصة لخليفة عن غير قصد ليُسارع لطمأنة تلك "المائعة" في نظرها:

ـ ألف بعد الشر عليها يا روان، الموضوع ما يخصهاش أصلًا، مرات معاذ داخت ووجعت منّينا، وده اللي خلانا نيجي بيها على المستشفى.

ـ العروسة الصغيرة مالها؟

هبّ الحماس بهالة لتسبق زوجها في الإجابة هذه المرة:

ـ طلعت حبلى يا حبيبتي.

أغمض خليفة عينيه، يتنفس بغضب، قبل أن يوجه أبصاره نحوها بعد أن جذبت اهتمام الأخرى وسحبتها للحديث معها:

ـ يا ما شاء الله، بسرعة كده؟ ما أفتكرش إن العرسان كملوا التلات شهور في جوازهم. ألف ألف مبروك، أكيد الحجة حسنية الفرحة مش سيعاها دلوقتي؟

ضحكت هالة، تضاعف من حنق زوجها بردّها عليها:

ـ لا يا حبيبتي، مكملوش. تعالي اجعدي جنبي بدل وجفتك دي، وأنا أعرفك الحجة حسنية فرحانة إزاي دلوك؟

تقبّلت روان دعوتها بترحيب، واقتربت لتجلس بجوارها، فأخذتها هالة في وصلة من الحديث وكأنها أصبحت "حبيبتها"، وخليفة يقتله الصمت... لا هو قادر علي إبعاد الاثنتين، ولا علي غلق فم امرأته التي لا يجد لها حلًا.

......................

ـ خدي يا مزيونة، حُطّي بنتك في حضنك يا بنيتي.

ـ أمسكها كيف؟ أنا خايفة منها...

ـ ليه بس يا بنيتي؟ دي ضناكي، خليها تشم ريحتك عشان تعرفك، رضّعيها، دي جعانة.

ـ كيف وأنا مش عارفة أمسكها أصلًا؟ كيف وأنا خايفة منها؟ خدوها مني، أنا تعبانة ومش قادرة حتى أجعد على سريري، مش مالكة حتى أرفع صباعي، هربيها كيف دي؟ هربيها كيييف؟

استفاقت لوعيها بدمعة تحرق عينيها، والذكريات السوداء تجتمّع لتُعيدها إلى أرض الواقع المؤسف، بعد أن استراح عقلها قليلًا في تلك الغيبوبة التي صنعها لنفسه، ليعود الآن بقسوة يمرّرها أمام عينيها كشريط سينمائي، ويا ليتها توقفت عند هذا الحد، بل المفزع هو الاحتمال الأكبر أن تتكرر المأساة مع صغيرتها، وتمرّ هي الأخرى بكل ما مرّت به.

ـ مزيونة، إنتِ فوقتي أخيرًا،حمد الله على سلامتك يا غالية.

هتفت منى، تُغلق مصحفها بعد أن انتبهت لها، وكانت على الكرسي المجاور لسريرها، تُراعيها وتقرأ القرآن. صوتها لفت انتباه شقيقها الذي كان واقفًا بجوار النافذة في انتظار استفاقتها هو الآخر، ليهرول إليها سريعًا بلهفته:

ـ خلعتي جلبي يا مزيونة عليكي، بس المهم إنك فوقتي الحمد لله.

التفت رأسها إليه بحدّة، تُعلّق على كلماته:

ـ ياريت كنت أروح فيها وارتاح خالص، بس للأسف بتي، هسيبها لمين؟ خصوصًا بعد الشيلة اللي اتبلت بيها دلوك.

ـ عارضتها منى تُنبهها:

ـ استغفر الله العظيم، ما تجوليش كده. الأطفال دول رزق، وإن كان ربنا عجّل بيهم، أكيد له حكمة.

نظرتها كانت بألف كلمة حين وجّهتها إليها بصمت، قبل أن تذهب ببصرها لذاك الذي وثقت فيه، وتعشّمت به، حتى سلّمته ابنتها أمانة، فجاء الخذلان منه... باكرًا، باكرًا جدًا.

ـ بلاش اللومة اللي شايفها في عنيكي دي يا مزيونة، أنا زيي زيك مصدوم. ده غير إني مهما كانت سلطتي، لا يمكن هوصل لخصوصيات الراجل مع مرته.

لم تُكلّف نفسها عناء الرد عليه، بل زادت تعنّتًا حين أزاحت أبصارها عنه، تطلق تنهيدة من عمق صدرها الموجوع، وتلتف برأسها تجاه الأمام في تجاهل، يُحوّل قلبه إلى شظايا متناثرة، حتى زفر هو الآخر ردًا لها، يخرج من صدره دفعة ساخنة من رماد حريقه الداخلي...

قبل أن يتوجّه بأمر لشقيقته:

ـ منى، اطلعي انتي برّا وسبيني معاها شوية.

سمعت منه وبرقت أبصارها نحوه باعتراض لم يكترث له، ليعيد عليها مشددًا:

ـ اطلعي بقولك يا منى، إحنا مش صغيرين، إحنا ناس كبار ما يتخافش علينا.

جاء الاعتراض هذه المرة من مزيونة، التي لم تستوعب الموقف إلا مؤخرًا، لتتوجه برفض واضح:

ـ اجعدي يا منى، ولو هتجومي وتسيبي الأوضة، يبقى مش لوحدك.

ضاقت عينيه بتوعّد بعد تصريحها الأخير، والذي يُماثل الطرد. حتى منى اجفلت، لتنهض دون انتظار، متحمحِمة بحرج:

ـ لا، طب حيث كده يبجى أقوم أشوف منصور، كان اتصل من شوية وقال إنه جاي... يلا بينا يا حمزة.

ـ روحي لوحدك يا منى.

صاح بها بقوة وتحدٍّ كامل، لتضطر الأخري أن تتحرك للذهاب، متمتمة بقلة حيلة:

ـ إنتوا أحرار... أنا ماشية.

كادت مزيونة أن تنادي عليها لتُعيدها، شاعرة بالخطأ نحوها، الأمر الذي جعلها تعتدل بجذعها بتحفّز، هاتفة إليه بسخط:

ـ أما عجايب والله! يعني اللي عايزاها تجعد تمشي، وحضرتك الـ... تجعد؟! مش شايف إنها فرطت منك؟! ده إنت ولا أكن ليك حق لازم معايا، حمزة يا قناوي، لمّ الدور. لا إنت معاذ المجنون، ولا أنا ليلى العيلة الصغيرة اللي تلفّ عقلها وتضحك عليها!

رغم حدّتها، رغم صلفها معه وإصرارها على تحميله المسؤولية، إلا أنه لا يُنكر إعجابه بشراستها، تلك التي تزيده تمسّكًا بها، وقد تسرّب إلى قلبه نوع من الارتياح، ليُعلّق بهدوء يغيظها:

ـ إن كان على معاذ، فأنا أجنّ منه... وإن كان على ليلى؛ فأنتي في نظري أصغر منها، ده غير إنك أحلى منها طبعًا.

ـ بطل كلامك البارد ده يا حمزة!

صاحت بها بعنف تنهاه، وقد تحوّل وجهها إلى الأحمر القاني، وبرقت عيناها الجميلتان نحوه بصورة كادت أن تُدخل في قلبه التسلية، لكن الوضع لا يتحمل.

ـ بس أنا مجولتش غير الحقيقة يا مزيونة، واللي في جلبي من ناحيتك لسه ما طلعتش حتى واحد في المية منه. إنتِ مش عايزة تسمعي؟ أديكي عذرك دلوك... لكن مش قابلاه؟ مظنّش.

ازدادت حدّة أنفاسها، والغضب يعصف بها، لدرجة تجعلها تريد جرحه بكل الطرق حتى تنتقم منه... ومن نفسها:

ـ تاني برضو بتفسر كل حاجة على هواك؟ بس الغلط عليا أنا، عشان وافجت على المهزلة دي، وخدني العشم إنك تبجى كد وعدك ليا!

ردّ بجدية لا تقبل الشك:

ـ مكنش عشم يا مزيونة، ده كان اختبار حطّيتيه من غير ما تدري... ثقتك في محلّها، لكن مافيش طريق في الدنيا بييجي سالك مية في المية، لازم بيجابلنا عثرات ومعوقات مش حسبينلها، لكن في النهاية... برضو هنوصل. وأنا هنا أجصدها شاملة... شاملة يا مزيونة.

وأشار بسبابته والوسطى في الأخيرة، يُلوّح بهما نحو صدره وعليها، الأمر الذي جعلها تنهض مستنفرة:

ـ تاني هتخرف وتصنع أوهام؟ أنا قايمة، وانت عيش في أحلامك!

تركها تتخطّاه وتذهب، وتوقّف في إثرها لحظات، يتبعها بعينيه، مؤكدًا:

ـ وماله؟! ما هي كل حاجة حلوة حصلت، كان أولها حلم برضو... وأنا قصتي معاكي حقيقة، مش حلم يا مزيونة.

.........................

خارج المشفى، وعلى مقاعد الاستراحة، جلست مع زوجها الذي غلبه الغضب، حتى منعه عن فعل الواجب مع نسائبه، بعد أن أخبرته زوجته بذلك الأمر المفاجئ، ليُعبّر لها الآن عن استيائه:

ـ أكيد الأمر كان فيه إهمال... أخوكي كان لازم يحرص أكتر، وأنا اللي وثقت في معاذ وجولت إنه راجل وهيبقى قد كلمته... يقوم يخيب ظني وبالسرعة دي؟ طب يستنى على ما تدخل الكلية حتى!

تنهدت من العمق بأسى، قائلة بثقل:

ـ أهو اللي حصل عاد يا منصور. كل حاجة كانت ماشية تمام وعلى الساعة، كلنا كنا بنحاول، وأمي نفسها كانت أكتر واحدة فينا محرسة... لكن أهو... أمر ربنا.

ـ أمر ربنا برضو...
---

تمتم بها بخفوت لا يخلو من شك لم تتقبله زوجته، لتدافع عن يقين ترسخ داخلها:

ـ لا يا منصور، ميبجُاش تفكيرك مش صح كده في معاذ. هو مندفع ومجنون اه، بس عمره ما يخلف وعده. لو ما كانش ناوي ينفّذ كلامه، ما كانش لزم نفسه بالشروط دي أصلًا. وليلى نفسها بتحلف إنها ما فوتت يوم واحد من غير ما تاخد الحباية... بس بجي... والله ما أنا عارفة!

كان يعلم داخليًا أنه لا يحتاج لإثبات، لكن الغضب أعمى بصيرته ودفعه للهذيان، ليُردّد خلفها باستفسار:

ـ مش عارفة إيه بالضبط؟

توقفت تنظر له بتشتّت، وعقلها يدور في كل الاتجاهات حول تلك المشكلة التي لم تكن بالحسبان، حتى انتبهت فجأة لظلّ صاحب الجسد الضخم يمر أمامها في اتجاه مدخل المشفى، فانتفضت واقفة بهلع:

ـ يا وجعة طين... جوم معايا يا منصور!

ـ أجوُم معاكي فين؟

تشتت عقلها في البداية عن ذكر السبب الحقيقي، ثم ضجرت وهي تسحبه من كفه على عجل:

ـ وده وجِت أسئلة؟ اخلُص يا منصور، بعدين أفهّمك.

استجاب لسحبها له على مضض، يرافقها في العودة إلى المشفى، غير مدرك أن عقلها يدور كطاحونة، فقد تركت شقيقها وحده مع مزيونة، وذلك الثور... زوجها، لا تعرف ما الذي أتى به الآن!

........................

ومن في العالم يستحق التضحية سوى ابنتي؟ حتى لو أخطأت في حقي وفي حق نفسها... أنا أيضًا لن أتركها.

دلفت إلى داخل الغرفة التي لم تغادرها صغيرتها بعد، وكأنها كانت في انتظارها، فتلقّت قدومها بلهفة ورجاء شعر به زوجها، فنهض ليترك لهما المجال للقرب. انضم إلى والدته، التي احتلت مقعد الزوار تتابع اللقاء بين الأثنتين وفمها لايتوقف عن التسبيح علي المسبحة التي لا تفارق أناملها.

تحركت مزيونة استجابةً لنداء النظرات، لتقترب بخطوات هادئة حتى جلست على طرف الفراش بصمت. كم ودّت توبيخها أو حتى تذكيرها بالوعد الذي قطعته معها، ثم ها هي الآن تنقضه من أول جولة! ثم إنها لم تصل بعد لمنطقة آمنة تسمح لها بالتهاون...
لكن ماذا تفيد العِظة الآن؟! وقد وقعت في المحظور، ولا حل سوى أن تأخذ بيدها ـ كالعادة ـ لتُوصلها إلى بر الأمان.

وبلا كلمة، جذبتها إلى حضنها، تهوّن عليها وعلى نفسها بدفء لا يعلمه إلا سواهما.

تلقت ليلى عناقها كطوق نجاة لغريق تخطفه الأمواج، فتشبثت بها بقوة، لتلتمس منها الأمان، وتهمهم بنحيب خافت:

ـ أنا ما جصّرتش يا أمي، والله ما جصّرت!
كل حاجة كانت ماشية تمام...
السعادة اللي كنت بحلم بيها مع الإنسان اللي بحبه...
والتفوق الدراسي...
لكن ده؟!
ده والله ما أعرف حصل إزاي!

تنهدت مزيونة، واكتفت بالصمت والعناق. فلا جدوى من الجدال الآن.

خيم الهدوء على الغرفة، لا يُسمع إلا صوت الأنفاس، حتى قطعه ذلك الضجيج المرتفع القادم من الخارج، تبعه دفع باب الغرفة من آخر شخص تمنّت ألّا تراه الآن!

........................

قبل ذلك بقليل...

كان عرفان يتجول داخل أروقة المشفى يبحث عن رقم الغرفة الذي أخبرته به موظفة الاستقبال في القسم الذي وصله بصعوبة، حتى اطمأن لوجهته، فور أن وقعت عيناه على خليفة. لم ينتبه له الأخير لانشغاله بمتابعة الحديث العجيب بين زوجته وزوجة شقيقه السابقة، تلك الصداقة التي لا تدخل عقله أبدًا.

حتى جاءه صوت عرفان يفيقه من شروده:

ـ إيه اللي جرا للبِت عشان تنقلوها هنا يا خليفة؟

أنتظر الأخير لبرهه يتأمّل قدومه بدهشة، ثم استنكر استفساره المتحفز، ليرد عليه بإستنكار:

ـ يعني هيكون فيها إيه يا عرفان؟ تعب عادي زي أي تعب، بس إحنا قلوبنا خفيفة وبنحب نطّمن من كل ناحية.

رد عرفان بنبرة تشكك واضحة ليزيد من إستفزازه:

ـ تعب عادي تجوموا تجروا بيها على المستشفى الكبيرة دي؟ طب ما الوحدة الصحية جاعدة، أو أي دكتور مخصوص يجيلها على البيت!
البِت مالها يا خليفة؟ أنا عايز أشوفها وأطمن عليها بنفسي.

تدخلت هالة بدورها، تدعم زوجها وتزيد من إشتعال الموقف:

ـ ما قالك تعب عادي يا عمنا، يعني دي جزاتنا إننا خوّفنا عليها؟

ـ خوّفتوا عليها؟! يعني الموضوع واعر علي كده؟!

أسرع خليفة يصحح له:

ـ يا عم أنت كمان، ولا واعر ولا حاجة، ثم إنت إيه جابك؟ عرفت منين إننا هنا؟

ردّ عرفان وقد ارتفع حاجبه بحدة:

ـ أنا كنت رايح أسأل عليها في بيتكم، وعيالكم خبروني إنها وجعت في الجنينة قدامكم وما حطّتش منطج.
بعد ما جوزها وصل، أنا عايز أعرف ولدكم عمل فيها إيه؟

ظهر الغضب جليًا على وجه خليفة، رافضًا اتهامه الباطل لشقيقه، وكاد يرد عليه ردًا يلقّنه فيه درسًا عن كيفية معاملة الشرفاء أمثالهم، لولا تدخل زوجته للمرة الثانية لتضحض كل شئ، بدعم من روان هي الأخري:

ـ وهو لحق يعمل معاها حاجة؟!
بِتك تعبت لسبب... إنت هتفرحلُه جوي.
ليلى وجعت من طولها عشان حامل.
شُفت بجى الخبر الحلو اللي ما جدرتش تصبر عليه!

ـ حاااامل؟!

نطقها عرفان بعدم تصديق، لتؤكد روان التي شعرت أنها يجب أن تتدخل هي الأخري:

ـ أيوه طبعًا، الحمل يعمل أكتر من كده، بس كويس إن جوزها لحقها... عشان تراعوها بقى من دلوقتي.

ـ حامل... ونراعيها؟!

تمتم بالكلمات، ثم اتجه نحو خليفة الذي زفر بضجر، يلتف عنهم بملامح ضيق متعاظم، يُكبح نفسه بصعوبة من الانفجار في وجه هاتين الغبيتين، بفعلتهما التي ستكلّفه وإخوته الكثير والكثير من قلة الراحة.

أما عرفان، فقد التمعت عيناه ببريق المنتصر...
كاد أن ينفضح أمره، وصورة طليقته تطل أمامه بوضوح...
لا يريد شيئًا سوى رؤيتها الآن، وهي يومًا بعد يوم تخسر بعد طلاقها منه، لنفس الأسباب التي يعرفها.

لكنه تمالك نفسه بسرعة، مُسيطرًا على انفعالاته، وقال بنبرة درامية:

ـ طب هي فين دلوك؟
أنا عايز أشوف بِتي... أكيد جاعدة في الأوضة دي.
بعدوا من وشي، خلّوني أشوفها!

حاول خليفة منعه قليلًا حتى يُمهل من في الداخل لاستيعاب حضوره:

ـ طب استنى طيب... أديهم خبر بس.

ـ تدي خبر لمين؟
أنا أبوها!
بعدوا من وشي!

صاح بها ثم دفع باب الغرفة، يطلّ بجسده الضخم، يوزّع أبصاره على الوجوه المذهولة من حضوره، حتى استقرت نظرته على طليقته...
يرمقها بنظرة فهمت عليها جيداً، تزيد من وجعها بتلك الشماتة التي لن تغفل عنها أبدًا.

وحين اكتفى، خطا بلهفة ـ يدّعيها ـ نحو ابنته، يسقط بجوارها على الفراش من الجهة الأخرى، ويخطفها من حضن والدتها، يضمّها إليه:

ـ ألف سلامة عليكي يا بِتي، أبوكي وصل وحضر علشانك!

دخل خليفة بعده، ينظر إلى شقيقه ووالدته بأسف وقلة حيلة، تتبعه زوجته هالة، وروان التي هرعت نحو حسنية بلهفة لتلتقي بها.

أما معاذ...
فقد تجاهل الجميع، متجهًا نحو ليلى، التي تجلّت الصدمة في ملامحها، وهي تتلقى أول عناق من والدها بحنان غريب عنه...
حتي أصابها الخرس وتجمدت بين يديه، ليتولي معاذ الحديث:
ـ منوّر يا عمي، بس ليلى زينة زي ما انت شايف جدامك أهوه، يعني مفيش داعي للقلق.

ـ مفيش داعي للقلق؟!
صاح بها عرفان، منزعًا ابنته من حضنه بسهولة، مستطردًا بانفعال يدّعيه:
ـ وإنت كمان ليك عين تتكلم بعد ما خالفت الشروط وحبّلتها في أقل من تلات تشهر؟ هو دا وفاءك للوعد؟!
فين اللي لجّح واتريق عليا؟ ولا إيه رأيك يا ست مزيونة؟
البت اللي اطّلجتي مخصوص عشان تعليمها، عملتي إيه انتي يخالف اللي كنت هعمله أنا؟

أغمضت عينيها تلتقط أنفاسها بثقل، تزيح بصرها عنه بقهر، تنتظر المزيد والمزيد من الشماتة، حتى قطع السكون صوت قوي، وصاحبه الذي ولج فجأة إلى داخل الغرفة:

ـ حلّ عن مزيونة وخلي كلامك معايا أنا، وانت إيه دخلك أصلاً بالشروط ولا الاتفاق؟

انتفض عرفان بأعين يطير منها الشرر، يقابل غريمه بشَرٍ مطلق، واسم "مزيونة" دون ألقاب أشعل رأسه قبل الإهانة:

ـ مزيونة حاف؟ مالك يا نسيب؟!
ولا هو عشان عجّدتوا على البت وأنا في السجن ظلم يبجى خلاص اشتريتوا البت وأمها وتعملوا ما بدالكم؟
لأ، اصحوا... البت وأمها من سبع، يهد بدل الحيطة عشرة بدراع واحد جدامكم، ولا بسلامتكم مش شايفين؟

انتفض باقي الأفراد وتحفز الجميع لمتابعة الشجار أو التدخل، كما حدث من حسنية التي حاولت بتعقل:

ـ صلّي على النبي يا أبو ليلى، حمزة ماجصدش يغلط فيك، هو بس بيرد عليك لما لقاك ابتديت بالعراك من غير سبب أصلاً.
الحمل دا رزق ربنا، والبت ما طلعتش من علامها لا سمح الله عشان تتهمنا بلحس الوعود.

دعمتها ليلى برجاء نحو والدها:

ـ أيوه يا بوي، والله جات كده من عند ربنا، معاذ ربنا يخليه مش مِجصِّر معايا.

ـ جوليلو يا ليلى، عشان يعرف إن مش كل الناس زيه؟!

صدحت من حمزة بقوة اهتزّت لها الأبدان، ليوجه عرفان حديثه بسخرية نحو تلك التي ظلت علي وضعها صامتة:

ـ ما تتكلمي يا ست مزيونة، وجولي، لادد عليكي اللي بيحصل ده؟
الناس اللي حطيتي عشمك فيهم نصروكي دلوك؟

همّت أن تقطع صمتها برد مفحم، بعد أن استفزها بطريقته الملتوية في الحديث، لكن حمزة سبقها بحمائية تثير التعجب من هاتين المراقبتين في إحدى جوانب الغرفة:

ـ جولتلك ملكش دعوة بمزيونة، كلامك معانا، لو عايز تتعارك شد حيلك وورينا مرجلتك.

دعوة كانت صريحة بالشجار من حمزة، الذي فتح صدره استعدادًا لها، وتلقّفها عرفان بترحيب شديد واضعًا في رأسه أن هذا وقت أخذ ثأره القديم. لكن صرخة أوقفت تحفزهم، وسبقت الجميع الذين أصابهم الهلع بمحاولات مبكرة لإثنائهم:

ـ خلاااص! فضّوووها!
لا مزيونة مش مستنية اللي يدافع عنها، ولا بتها سابت التعليم من أساسه.
حبِلت؟ بجي محبِلتش؟! أنا شرطي واضح من الأول: تسيب، ولا تسيب تعليمها... تمام؟

عادت توجهها لمعاذ الذي وافقها دون جدال:

ـ تمام كده يا جوز بنتي؟

ـ تمام يا خالة مزيونة، وأنا إن كان فرطت مني المرة دي، وعد ودَين عليا ما تتكررش تاني.

ـ راجل يا ولدي.
تمتمت بها حسنية في تعقيب عليه، ثم توجهت إلى البقية، مضيفة على قول مزيونة:

ـ كده بجى نتعوّذ من الشيطان ونمشي كلنا، مادام اطمّنا على ليلى.
نطلع كلنا بجى من الأوضة عشان البت تغيّر هدمتها مع أمها قبل ما نروح بيها.
وتابعت تدفع كل فرد منهم بيدها تنادي بأسمائهم:
ـ يلا يا خليفة، يلا يا معاذ، يلا يا هالة إنتي وروان، يلا يا حمزَةةة...

في الأخير، كانت تدفع بكل قوتها دون فائدة، وكأنها تزيح جرارًا زراعيًا. لتتوجه إلى عرفان مشيرة بيدها على حذر:

ـ يلا يا عرفان يا ولدي، أديك شايف كلهم بيطلعوا.

سمع منها، لينفض جلبابه بحنق شديد، مقرِّرًا الذهاب على الفور بعد أن تلقى صفعة أخرى منها، فيغادر ساحبًا شياطينه معه. ليستجيب أخيرًا حمزة لمحاولات والدته، يرمق ليلى بنظرة مطمئنة قبل أن ترسو أبصاره على والدتها، فلم يرفع عينيه عنها إلا بعد إخراجه من الغرفة وغلق الباب بوجهه بفضل حسنية التي خرجت خلفه، فتجد ابنتها أمامها تتلقفها بلهفة:

ـ إيه الأخبار يا ما؟ أخيرًا هديت؟

طالعتها حسنية بدهشة، سائلة:

ـ وانتي كنتي فين يا مخفية وسبتيني؟

أجابتها منى بنبرة مطمئنة إلى حدٍّ ما:

ـ أنا كنت بره مع جوزي لما دخل عرفان، شوفته لما وصل هنا.
حمدت ربنا إنه ما عملش نصيبة، وكويس جوي إنها رسِيت على عركة في أوضة ليلى.

تمتمت الأخيرة بما يشبه الهذيان، لتعلّق والدتها بعدم فهم، فلم يصلها ما ترنو إليه ابنتها:

ـ أمال كنتي مستنياهم يعني يتعاركوا في ساحة؟ انتي فين جوزك أصلًا؟

أشارت لها بذقنها نحو الجهة التي اجتمع فيها الثلاثة أشقاء من زوجها، الذي كان يستفسر منهم عمّا حدث، في انتظار خروج ليلى ومزيونة. ثم عادت إلى والدتها، سائلةً بهمس وحرص:

ـ إيه اللي جاب روان دلوك؟ ولمّها على هالة؟

تقلّصت ملامح المرأة بقلة حيلة تخبرها أنها لا تعلم شيئًا.

أما عند هالة، فكانت تغلي داخلها مما حدث منذ لحظات أمامها، حتى استفزّ الأمر تلك المدعوة روان، هي الأخرى، لتعبر عن دهشتها الشديدة قائلة:

ـ هو إيه اللي يخلي حمزة يدافع عن والدة ليلى بالشكل ده؟! هي لدرجادي معزّتها كبيرة في العيلة عندكم؟

رددت خلفها ساخرة:

ـ معزّتها كبيرة عندنا؟ دا انت شكلك طيبة جوي يا روان ولسه مفهمتيش الست البلوة اللي جوا دي.

سألتها الأخيرة بتوجّس:

ـ قصدك إيه؟

تبسمت بمكر وقد وصلت إلى ما تبتغيه، قائلة:

ـ هجولك يا روان واشرحلك كل حاجة، بس تعالي جنب عشان ناخد راحتنا في الكلام...
..............
وفي داخل الغرفة،
كانت تلفّ لها الحجاب ورأسها يدور بلا هوادة، غير منتبهة لنظرات ابنتها التي تحوّلت إلى تلميح صريح بعد ذلك:

ـ عمي حمزة كان زي الأسد النهاردة، أول مرة أشوفه متعصب كده.

فهمت مزيونة ما تقصده، ولكنها كالعادة تأبى أن تُظهر ما بداخلها، رغم المشاعر التي تجتاحها من الداخل وتزلزل ثوابتها بقوة:

ـ عشان أبوكي عفِش وما لهوش غير الشدة... على العموم، خلينا في موضوعنا. أنا مش هسألك دلوك وهسيبك ترتاحي،
بس عايزاكي لو افتكرتي، تجولّيلي.

ـ أقولك عن إيه؟

ردّت مزيونة وهي ترفع باقي متعلّقاتها وحقيبة اليد الخاصة بها:

ـ عن موضوع الحبوب والحمل يا ليلى، ولا انتي نسيتي؟

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1