رواية لعنة الضريح الفصل الثانى بقلم منى حارس
في أحد المنزل المتواضعة جلس فهمي مع قريب زوجته " عدلي " في غرفة صالون بالية قد مر عليها الزمن يتحدثان بجدية ، ويعلو صوتهما تارة وينخفض بحماس وإنفعال شديد قال عدلي :
مش عارف والله أقولك أيه بس , دي لُقطة يا فهمي صدقني لقطة و هتدعيلي .
وهنا رد فهمي بحيرة شديدة قائلًا:
خايف يكون البيت قديم ولّا هيقع ، يعني احط كل اللي حيلتي وتحويشة العمر في بيت مش ضامنه ولا عارف عنه حاجة .
رد عدلي بصدقٍ قائلًا:
والله يا فهمي يا أخويا لولا العِشرة اللي بينا والعيش والملح ، وعارف ظروفك وظروف شغلك إنت وبنت عمي هناء ، وقد إيه انتوا بتتعبوا في المواصلات والبهدلة كل يوم ، والله ما كنت قلتلكم على الشقة دي أبدًا ، وكنت أخدتها لنفسي ، دي لُقطة يا فهمي لُقطة، هي في شقة تمليك وفي المكان ده بالسعر ده يا راجل.
رد فهمي بقلقٍ:
ماهو ده اللي مخوفنا يا عدلي مش فاهم اصحابها عايزين يبيعوها ليه بالسرعة والسعر ده تحس في حاجة مش مفهومة في الموضوع ؟!
ردَّ عدلي بسرعة قائلًا :
ما أنا قلتلك إنهم مهاجرين كنكا باين ، والله ما عارف إسم البلد اللي مسافرينها إيه؟
فضحك فهمي بشدة من كلام الرجل قائلًا:
كنكا إيه بس يا عدلي هما رايحين يشربوا شاي ، قصدك كندا بردو أنا مش مرتاح لصاحب الشقة وخلاص
وأنت مالك بصاحب الشقة يا فهمي إنت هتنسبه ولا إيه ، إنت هتشتري الشقة منه وخلاص مش هتشوفه تاني لأنه هيهاجر للبلد اللي ملهاش إسم دي ومتتسماش.
وفي تلك اللحظة فتح باب الغرفة مرة واحدة ، و دخلت هناء وهي تحمل أكواب الشاي وسمعت حوارهما عن الشقة الجديدة .
فقالت برجاء وهي تنظر لأبن عمها :
قولّه يا ابن عمى الله يباركلك ، خلينا نسكن في مكان قريب من الشغل علشان أنا قرفت وزهقت من زحمة المواصلات والبهدلة في الأتوبيسات والمترو ، تصدّق يا عدلي الشقة دي من وصفك للعنوان يا دوب تلت دقايق مشي للشركة اللي شغّالين فيها ، وقريبة من مدارس الأولاد بدل الحتة المقطوعة اللي عايشين فيها ، حد يلاقي فرصة زي دي وميمسكش فيها بإيدية وأسنانه، وافق يا فهمي اعمل معروف وريحنا .
رد فهمي بشرود وهو ينظر لزوجته :
أنا مش مرتاح لصاحب الشقة يا جماعة في حاجة جوايا مش مطمناني ، مش عارف ليه شكله مش طبيعي أبدًا ويقلق والله .
ردت هناء بعصبية:
بقولك إيه يا فهمي إحنا مش هنسبة على رأى عدلي ، كبر بقى دماغك ونشوف مصلحتنا فين ونعملها، والرجل كدا كدا مهاجر استراليا ولّا كندا ، يعني مش هيرجع تاني ومش هنشوف وشه إلا وقت كتابة العقد تعالى نروح ونتفرج على الشقة واللي فيه الخير يقدّمه ربنا ، بس انت انوي يا فهمي وصفّي نيتك عشان ربنا يسهلها.
وهنا كرر عدلي جملته قائلًا:
والله دي لُقطة لُقطة يا فهمي صدقني وهتدعيلي..
ردَّ فهمي بشرود قائلًا:
تصدق بالله حاسس إني هدعي عليك يا عدلي في الأخر مش عارف ليه ربنا يسترها ؟
وبعدها صمت وهو يشعر بأن تلك الشقة ستغيِّر حياته ومصيره للأبد .
فهو رجل متوسط الدخل كأي رجل مصري، يعيش حياة عادية وربما أقل من المتوسطة ، يبلغ فهمي ستة وأربعون عام يعمل محاسب في إحدى الشركات العامة ، ملامحة عادية لن تستطيع تميزها عن الكثيرين بلونة القمحي وعيونه السوداء الواسعة ، وشعره الأسود المجعد الذي بدأ في التأكل والرجوع للخلف ، طويل القامة لدرجة ملفته للنظر ، ووزنه متوسط يرتدى نظارة طبية ذات إطار أسود اللون .
وكانت زوجته هناء متوسطة الجمال تبلغ من العمر ثلاثة واربعون عام ، أصغر من الزوج بثلاثة سنوات ولكنها كانت تبدوا أكبر سنا من الزوج ، تملاء التجاعيد أسفل عينيها من مجهود العمل والأطفال ، تعمل محاسبة هي الأخرى في نفس الشركة ، يكافح الاثنان لتحسين مستوى معيشتهما ، وعندما ينجحان في تحسين أوضاعهما بعض الشيء ترتفع الأسعار من جديد ليعودان معًا لنقطة الصفر ليبدآ منها مرة أخرى .
فكانت الشقة الجديدة هي الفرصة الوحيدة الحقيقية والأمل بالحياة والتي إستطاعا الحصول عليها بعد عناء ومجهود .
فقد كانوا يسكنون في شقة صغيرة في منطقة عشوائية بمكان مهجور نوعا ما بعيدا عن العمران ، تبعد عن مكان عملهما ساعتين بالحافلة وبعدها يستقلان المترو هذا إن وجدوا مواصلات خالية صباحا ومع الزحام .
لتقلهم للشركة ، كانت حياتهم قاسية وكلها شقاء وتعب بطريقة مؤلمة وكان كل أملهم بالحياة ، أن ينتقلوا إلى شقة قريبة من عملهما ، وتكون كبيرة ليستطيعا العيش براحة مع أطفالهما الثلاثة ، و كانت الشركة تبعد عن الشقة الجديدة ثلاث دقائق سيرًا على الأقدام.
أسرة متوسطة مثلها مثل الكثير من الأسر المصرية ، بالكاد يستطيعون توفير مصاريف الطعام والشرب والملبس والتعليم والدروس والإيجار ودفع الكهرباء والغاز والماء والكثير من الفواتير حتى نهاية الشهر ، فكانت الشقة الجديدة هي الأمل لحياة جديدة بدون تعب ومجهود وزحام ، وحياة أفضل لأبنائهم الثلاثة التي تتكون من :
الإبنه الكبرى: وتدعى أينور وتملك من العمر إحدى عشر عام ، في الصف السادس الإبتدائي، فتاة رقيقة جدا وشفافة لديها قلب طيب وبرىء ، تشعر معها وكأنها ملاك يعيش على الأرض لبراءتها الشديدة وصفائها، فلا ينقصها سوى الجناحين ليرفرف بهما عليا ويحلق في السماء.
تعشق الفتاة كل ما هو أبيض اللون ، وتفضله في ثيابها تحب الجميع وتفضلهم على نفسها ، تمتلك عينين بنيتين وأهداب طويلة وشعر أسود مجعد قصير ، وكانت الفتاة طويلة نوعا ما عن باقي أصدقائها كأبيها وتشبه أمها كثيرا .
الإبنة الوسطى: وتدعى إيناس عندها 8 سنوات في الصف الثالث الإبتدائي، فتاة جميلة وخفيفة الظل ، تمتلك عينين زرقاوين واسعتين وذات بشرة بيضاء، وخدين ورديين، وشعر بني ناعم كانت تشبه جدها كثيرا ، كانت طفلة جميلة ومدلله .
الإبن الأصغر: وهو إيهاب ويمتلك ست سنوات ، في الصف الأول الأبتدائي ، آخر العنقود كما يقولون ، طفل جميل يشبه إيناس في كل شيء ، وكأنهما توأم متماثل، ولكنه يحب أخته الكبرى ومتعلق بها أكثر لطيبتها وإهتمامها به دوما .
وبعد المحايلات والشد والجذب من هنا وهناك ، استطاعت هناء إقناع الزوج بالشقة الجديدة وبالذهاب لرؤيتها ربما اعجبتهم واستطاعوا شرائها وتغير واقعهم المرير، وقررت الأسرة الذهاب لرؤية الشقة...
وفي أثناء الطريق لرؤية الشقة الجديدة وبداخل السيارة ، جلس فهمي بجوار عدلي في الأمام ، وفي الخلف هناء والأطفال الثلاثة متجاورين ، فقالت إيناس بتذمر وهي تزفر بضيق :
لسه كتير يا عمو عدلي أنا زهقت أوي من القعدة دي وعطشانة .
تنهد فهمي بضيق قائلا :
إصبرى يا إيناس، إصبري مش قادرة تستحملي خمس دقايق يا بنتي ؟
فردَّت الطفلة بحماس :
أنا عاوزة اشوف شقتنا الجديدة بسرعة عشان اختار أوضة لوحدي , عم عدلي قال انها كبيرة وواسعة وفي أوض كتير أووى.
وهنا ردت هناء بغيظ:
يا سلام طيب واخواتك يناموا فين يا إيناس هانم لو اخدت إنت أوضة لوحدك ؟
فترد الطفلة بغضب:
معرفش يا ماما مليش دعوة , لو مش اوضه على الأقل سرير لوحدي ، مش عاوزة انام جنب حد تاني أبدًا اتفقنا.
وهنا ردَّت أينور بضيق:
مش عاوزة تنامي جنبي يا إيناس ، وأنا اللي مستحملاكي جنبي وكل شوية توقعيني من فوق السرير واقوم من النوم أغطيكي بالليل في عز البرد ، شوفي مين بقى اللي هيغطيكي ويهتم بيكي تاني .
وهنا نظر فهمي إلى ابنته أينور بحُبٍّ وتأثر شديد ، ثم ردَّ قائلًا:
والله يا أينور يا بنتي، إنتي اللي طول عمرك مريحاني ربنا يريّح قلبك يارب ويسعدك يارب ، لا بتطلبي كل شوية طلبات زي اخواتك ولا بتزعجي حد عاملة زي النسمة والهوا ربنا يكملك بعقلك يا حبيبيتي .
ردت أينور بحب:
ربنا يخليك لينا يا بابا ، وميحرمناش منك أبدًا يارب ، وفي تلك اللحظة قاطعهما عدلي باهتمام قائلًا: - خلاص وصلنا يا فهمي، العمارة أهي اللي على إيدك اليمين , خلاص يا إيناس وصلنا يا حبيتى.
نظر فهمي بغضبٍ شديدٍ ثم رد قائلا :
إنت بتهرّج يا عدلي صح ولا إيه .. بقى بذمتك يا راجل ده البيت اللي فيه الشقة اللي كلمتنا عنها ؟
فرد عدلي بتعجُّب:
أيوة هو والله وماله بقى البيت , مش فاهم زي الفل أهو ويفتح النفس دانت أمك دعيالك قولتلك إنها لقطة؟
البيت شكله نضيف وفخم أوي يا عدلي ، شقة في عمارة زي دي استحالة يكون تمنها ٨٠ ألف جنيه ، ده سعرها يعدي مليون جنيه ، إنت بتهزر صح ودي كذبة إبريل ؟
ابتسم الرجل قائلًا:
مش قولتلك لُقطة يا فهمي يا اخويا لُقطة وهتدعيلي ، إنت أكيد الست والدتك كانت دعيالك. الشقة دي فرصة العمر والله لازم تمسك فيها بإيديك وسنانك..
وهنا قالت هناء بشكٍّ:
لا كدة فهمي عنده حق , بقى معقول شقة في عمارة زي دي يكون ده سعرها ، أكيد في حاجة مش طبيعية في الموضوع..
رد عدلي بضيق وهو يزفر قائلًا:
إنتوا هتعملوا فيها سماسرة انتم الإتنين مش فاهم ، ما أنا قلتلكم، الرجل مهاجر وعاوز الفلوس بسرعة عشان كده هيحرق في سعر الشقة يا جماعة متتعبوش قلبي معاكم .
فصرخت هناء برعبٍ وهي تمسك يد طفلها الصغير بقوة قائلة:
يا لهوي ويحرق الشقة ليه مش فاهمة يا عدلي وإن شاء الله إحنا هنخدها محروقة وفي حد مات فيها .
فضحك عدلي بشدة قائلًا:
محروقة إيه بس يا هناء يا بنت عمي اهدي الله يكرمك ، اقصد انه يخسر في تمنها علشان (مزنوق في قرشين) فهمتي يا أم مخ تخين ولا لا ، يلا بقى الراجل مستنينا عشان ما نتأخرش عليه ، على الله ما يرجعش في كلامه من نبركم وكلامكم الكتير ده ، يا ساتر والله ما شفت ناس بتستكتر النعمة على نفسها زيكم عيلة عجيبة ايه اللي رماني ماكم بس غير قلبي الطيب .
استقلوا المصعد حتى الدور الرابع بالدور الموجود حتى مكان الشقة ، كانت العمارة قديمة ولكنها فخمة جدا ونظيفة لدرجة مبالغ فيها ، لا يتناسب أبدا مع السعر الذي يقوله الرجل .