رواية لعنة الضريح الفصل الثالث بقلم منى حارس
رنَّ جرس الباب الذي يشبه صوت العصافير ، ففتح رجلٌ رفيع لدرجة مثيرة فكان كخِلّة الأسنان ورأسه أصلع تماما من الأمام ، وقمحيّ اللون ذا أنفٍ طويلٍ ويغطي عينيه باستمرار بيديه ، ورحَّب بالأسرة بفتور كبير قائلًا:
إتفضلوا يا جماعة أهلًا وسهلًا البيت بيتكم متتكسفوش .
رد عدلي بترحاب :
أهلا يا أستاذ نادر اخبارك ايه , وبعدها أكمل حديثة مكملا وهو ينظر إلى فهمي وزوجته :
دا بقى استاذ نادر يا فهمي صاحب الشقة .
وقبل أن يخطوا أحدٌ بقدمية لداخل الشقة ، دخلت إيناس بسرعة كبيرة تسبقهم مسرعة ، وقالت بفرحٍ كبير :
هي دي الشقة أنا عاوزة اشوف أوضتي الجديدة بسرعة يا بابا ورد أخيها الصغير بصوتٍ عالٍ مقلدا أخته :
وأنا كمان فين أوضتي يا بابا ؟
وهنا نظرت الأم بغيظ إلى أطفالها ثم قالت وهي تجز على أسنانها بغضب :
عيب كدة يا أولاد .
ابتسم نادر ببرود قائلًا:
سبيهم يا مدام براحتهم اتفضلوا البيت بيتكم ومش هنختلف على السعر , لأني مسافر خلال إسبوع ومعنديش وقت هستئذن حضراتكم بس لان عندى مشوار مهم ..
نظر فهمي بتعجُّب إلى ذلك الرجل الغريب الذي كان يتجه إلى باب الشقة مغادرًا المكان بسرعة ، فقال متعجبًا وهو يستوقفه :
مش هتفرجنا على الشقة الأول يا أستاذ نادر ، حضرتك رايح فين مش فاهم ؟
توقف الرجل مرة واحدة وشعر بالإرتباك الشديد والتوتر والتفت إليهم وهو يحكّ ويدعك أنفه بطريقه ملفته للنظر ، قائلا بصوت غريب :
للأسف الشديد يا أستاذ فهمي أنا تعبان جدا ، ومبستحملش الوقوف الكتير ، عندي دوالى في رجلي إتفرجوا براحتكم ومعاكم الحج عدلي الخير والبركة ، واعتبروا البيت بيتكم والشقة شقتكم، والسعر مش هنختلف عليه ، وشوف اللي إنت عاوزه وأنا موافق عليه المهم إنها تعجبكم وضغط على حروف جملته الأخيرة ليؤكد كلامه.
رد فهمي بتعجب :
إن شاء الله يا أستاذ نادر مفيش اختلاف .
آسف للمرة التانية يا جماعة إني هضطر أسيبكم لوحدكم , لكن دا ميعاد الدواء بتاعي ونسيت اجيب الأقراص معايا فهضطر انزل اشتريه من الصيدلية , إتفرجوا براحتكم ومفتاح الشقة معاك يا عدلي ، لما تخلصوا اتصلوا بيا ونتقابل في القهوة اللي تحت العمارة لأني مبقدرش أطلع السلم ، أصله بيتعبني ، الدوالي بقى زي ما انتوا عارفين.
وأسرع الرجل مغادرا المكان يكاد يركض من الفزع حتى كان يسقط على وجهه ، واختفى من امامهم مسرعًا وأغلق باب الشقة خلفه بعنف تاركا وراءه الكثير من علامات الإستفهام والحيرة في عقول الحاضرين فهل الرجل مختل عقليا ، ومريض نفسي فهم حقا لا يفهمون شيئا مما حدث .
فقال فهمي بحيرة مرددا :
-قولتلك يا عدلي الرجل ده مش طبيعي، في حاجة في الشقة مش طبيعية أبدًا ، وبعدين سلم إيه اللي هيطلعه ما العمارة فيها أسانسير هو مجنون ولا إيه مش فاهم ؟
ارتبك عدلي قليلًا ولم يرد بل هز رأسه بقوة وتنهد وكانت يده اليسرى ترتعد قليلًا بلا سبب واضح ، يبدوا الرجل متوتر أو خائف هو الأخر .
ردت هناء بقلق هي الأخرى :
انا مش مرتاحة الصراحة ممكن تكون الشقة مسروقة يا عدلي ، الرجل فعلا غريب أوي ، حد يسيب شقة بالجمال والانتيكات الغالية اللي فيها مع ناس ما يعرفهمش ويمشي بالسهولة دي في حاجة مش طبيعية أبدًا ، أنا الحاسة السادسة عندي متكذبش أبدًا في سر بالموضوع يا جماعة.
كان عدلي السمسار ، يحاول أن يخفي وجهه بيده التي مازالت ترتعد بطريقة ملحوظة جدا للجميع وربكة ، فقال بصوتٍ عالٍ حتى يداري توتره :
الرجل قال ميعاد الدواء ونسي يجيبه معاه، إنتوا بتكبّروا المواضيع ليه بس مش فاهم ، دي شقة لُقطة يا جماعة ، متعملوش فيها المحقق كرومبو والنبي .
ولكن هناء ردت بشكٍّ غير مقتنعة بما يقوله إبن عمها :
احتمال يكون نسى الدواء فعلًا مين عارف الحقيقة فين , فبلاش نظن السوء في الراجل فعلا ، بس شايفين الفرش عامل ازاي إحنا مكناش عايشين يا فهمى ، هو مش هيسيب العفش ده يا عدلي ، إحنا ممكن نشتريه منه ما هو كدة كدة مهاجر يعني هيحتاجه في إيه احنا اولى دي هتبقى فرصة العمر لو الرجل ربنا يهديه ويوافق .
هز عدلي رأسه وهو يبتسم قائلًا:
هشوف كدة يا هناء واتكلم معاه نشتري الشقة كلها بكل عفشها هو فعلا مش هيحتاجه في حاجة , متقلقيش يا بنت عمي هيوافق على كل طلباتكم متخافيش .
ابتسمت هناء بسعادة وانبهار بالشقة الجديدة مرددة :
شقة حلوة فعلا وواسعة الصالة كبيرة ، و3 أوض واسعين والعفش كله شكله غالي ، وهنا فتحت هناء إحدى الغرف المغلقة المطلة على الصالة وهي تشاهد الشقة وشهقت بعدها بقوة قائلة وهي تشاهد جدران الغرفة الفارغة من الأساس :
يا ساتر حد يلوّن الحيطان اللون الكئيب دا بنفسجي غامق بالدرجة والسقف اسود ايه الالوان المستفزة دي دا يجيب للواحد اكتاب وحزن في حاجة غلط أنا عيني وجعتني وزغللت يا جماعة ، والأوضة دي فاضيه ليه مفيهاش فرش خالص إشمعنى الأوضة الكئيبة دي حاجة غريبه ؟
ردّ فهمي قائلًا بتعجب فلقد شعر هو الأخر بالكآبة من جدران الغرفة ولونها الكئيب الذي يثير الأعصاب :
يمكن محدش كان بيدخلها يا هناء ولا محتاجينها في حاجة ، فسابوها كده فاضية زي ما هي الأوضة فعلا كئيبة أووى وتجيب صداع ، وبعدها خرج من الغرفة سريعا يتبع زوجته فلقد شعر بالحزن مرة واحدة من وجوده بالغرفة .
دخلت الطفلة أينور الغرفة الخالية من الأثاث ، خلف والديها فلقد لفت نظرها لونها البنفسجي الغامق، وكانت الغرفة كئيبة ومظلمة ولها رائحة كريهة جدا ، ولاحظت وجود تلك النافذة المغلقة في الجدار امامها مباشرة ، فذهبت بتلقائية وفتحت النافذة المغلقة ، لتنير الحجرة وتجدد ذلك الهواء المكتوم .
ونظرت بشرود من النافذة وشاهدت أمامها مبانيَ كثيرة جدا قصيرة بيضاء اللون من الرخام ، أخذت تنظر للمباني القصيرة بفضول لا تعرف ما هذا ؟
وبعدها صرخت الفتاة تنادي على أمها وأبيها بصوت عالي ، فدخلت الأم مسرعة إلى الغرفة وهي تتساءل: - فيه إيه يا حبيبتي مالك بتصرخي ليه يا أينور ، ثم دخل الأب بعد زوجته بدقائق فلقد كان يتحدث مع الطفلان بالخارج ، وكانت الفتاة ترفع يديها لخارج النافذة وتشير إلى شيءٍ بعيدٍ جدا ، وتتساءل بشرودٍ وبصوت غريب قائله:
إيه ده يا ماما؟
نظر الوالدان من النافذة المفتوحة إلى ما تشير الفتاة ، فكانت تشير إلى الكثير من المقابر المرصوصة بنظام ومقسمة في صفوف وكلها بنفس اللون الأبيض المائل للبني الفاتح ، كانت الغرفة وكأنها مبنية وسط المقابر وشعرت هناء بقشعريرة في جسدها وبرودة في أوصالها من تلك المقابر ، شعور غريب إجتاحها كالتيار الكهربائي مرة واحدة ، ردَّ الأب بقلق وبصوت متوتر قائلًا:
دي مقابر يا أينور يا بنتي ..
فتساءلت الفتاة بفضول قائلة:
يعني إيه مقابر يا بابا ؟
فردَّ بتاثُّر قائلًا:
يعني اللي بيموت يا حبيبيتي بيدخل المكان ده ، وأشار الأب بإحدى يديه إلى رخام المقابر العديدة التي تطل عليها نافذة الغرفة ، أخذت الفتاة تنظر بتمعُّن شديد إلى المقابر والشواهد الرخامية المتناثرة هنا وهناك ثم قالت بحزمٍ:
لو سمحت أنا عاوزة الأوضة دي تكون أوضتي يا بابا.
وهنا صاحت الأم بصوتٍ عالٍ لتقطع كلامهما قائلة بغضب :
يلا يا فهمي أنا اتشائمت من الأوضة دي ، الواحد كأنه عايش وسط الترب والميتين يا ساتر , إنتوا عاجبكم المنظر يعني ولا إيه يلا اطلعوا برا لو سمحتم ؟
فردَّ عدلي الذي دخل بعد سماع صراخ الفتاة وقال بتعجب :
في إيه يا هناء يا بنت عمي مالك ما انتي عارفة ان الموت علينا حق ، وكلنا مسيرنا ندخل القبر , اتغيرتي كدة لما شُفتي الجبانة هي مش دي أخرتنا كلنا ؟
فردَّت هناء بتوتر قائلة:
مش عارفة يا عدلي حاسة إن في حاجة غلط في المقابر دي وغريبة ، مش عارفة إيه , بس قلبي اتقبض وخلاص لما شوفتها ..
فردَّ فهمي بشرود وهو ينظر للنافذة المفتوحة :
علشان كدة نادر ما كنش حاطط أي عفش في الأوضة دي ، وكأنها مش موجودة والله ريح نفسه إحنا ممكن نعمل كدة بردو يا هناء ناخد أوضة للأولاد وواحده لينا ، و الأوضة التالته دي إحنا مش محتاجينها اصلا في حاجة . ومش هنفتح الشباك خالص ونريح نفسنا وكأنها مش موجودة أصلا ، إية رأيك يا هناء ؟
وهنا صرخت أينور مقاطعة لهم بحدة:
أنا قلتلكم الأوضة دي هتكون أوضتي ، إنتوا ما بتسمعوش ليه كلامي ؟
نظروا لها بدهشة فهي المرة الأولى التي تعلي الفتاة صوتها وتنفعل بتلك الدرجة ، أمام أحد ففي أغلب الأوقات الفتاة هادئة جدا لا تزعج أحد , فماذا حدث لها فقالت الأم بعصبية قائلة:
إنتي ازاي تكلمي بابا بالطريقة دي يا أينور انتي اتجنني ولا ايه ؟
فخفضت الطفلة رأسها بخجل قائلة بصوت منخفض:
آسفة بس الأوضة دي هي اللي عجباني وقلتلكم انها أوضتي ، وانتم مش سامعين كلامي
فردَّ عدلي وهو يبتسم بثقة:
والله جدعة يا بنتي وبمِية رجل وعد منِّي دي هتكون أوضتك يا أينور وبعدها ابتسم بمكر ابتسامة غريبة ليس لها معنى .
وهنا تساءلت الأم بقلق عن طفليها الآخرين فلقد اختفيا منذ دخلوا الشقة ، ونادى الأب على طفليه وجاءا إليه مسرعين وانضما للجميع، فسألتهما الأم بحماس عن رأيهما بالشقة الجديدة، فردَّت إيناس بفرحة شديدة قائلة:
جميلة أوي يا ماما وواسعة كمان وهعرف العب براحتي فيها بالاسكوتر للي بابا هيجيبه .
وهنا ردَّ إيهاب بقلق قائلًا:
حلوة يا ماما بس فيها نمل كتير اووى وكله ميّت وانا بحب اصطاد واموّت النمل، وكده مش هلاقي نمل اموّته اعمل ايه بقى دلوقتي .
فردَّت الأم باهتمام قائلة:
نمل إيه يا إيهاب هو فين تعالى وريهولى ، إنت عارف إنى بكره الحشرات كله إلا النمل والصراصير .
قاطعتهما أينور سريعًا:
إنتي هتصدقي إيهاب يا ماما يلا نتصل بعم نادر قبل ما يمشي ونشتري منه الشقة قبل محد تاني يشتريها منه .
فقاطعتهم إيناس بحيرة قائلة:
لا يا أينور بجد في نمل كتيير جدًا، وكله ميت كتير اووى عامل زى الرز حاجة غريبة بجد ، هو النمل ده مات ازاي يا ماما وجه منين ؟
التفتت أينور لأختها الصغيرة بحدة ونظرت لها نظرة كريهة بعينين غريبتين وأكملت بصوت حاد حتى كاد قلب الفتاة الصغيرة يتوقف من شدة الفزع :
قلتلك خلاص مش عايزين نشوف حاجة فهمتي ولا لسه عاوزة تفهمي أكتر ؟
كانت نظرات أينور مخيفة وصوتها غريب ، فشعرت إيناس بالرعب من عيني أختها وتحول لونها ، وأسرعت تختبئ خلف والدها، وهي تشعر بأن هناك شيئًا غريبًا في عينيْ أختها و خاطىء وكأن لونها تغيَّر قليلًا ، لا تدري ماذا حدث، ولكنها شعرت وكأن تلك الفتاة ليست أختها ولا تمت لها بصلة فعيونها كانت مخيفه .