رواية علاقات سامة الفصل الثاني والثلاثون
يستمع للطرف الآخر باستياء ونقم، كأن القدر يحميها من براثنه، لم يتوقع وجود مؤنس وطارق بهذا التوقيت، توقع أن يكونان بمقر عملهما، انكمشت معالم وجهه بسخط لو لم يخلفا توقعه لكانت في قبضته الآن، أنهى المكالمة دون حديث وعقله يفكر في كيفية الوصول لها، استوحشت نظراته لن يكتفي بالوصول لسارة، التي سيقتص منها قصاصًا مضاعفًا، تكفر به عن رفضها السابق وتطاولها عليه، وعمَّا اقترفه والدها بحقه، ولكنها لن تغني عن مؤنس، ليته يستطيع قتله!
زهدت الحياة واكتفت منها، اشتاقت لوالدها، لأن ترتمي في أحـضَـانه تلتمس الحنان والحماية، لأن تشكي إليه غدر البشر، أرادت الانتقام لنفسها فوجدت أنها تنتقم منها، استطاع الإيقاع بها في شِركه بسهولة ويسر، وضعت يدها على عينها، تحجب عنها ذكرى ما فعله بها، جعلها تشاهد ما سجله لها إمعانًا في إذلَالِها، انقلب بها الحال أصبحت تترجاه ليتزوجا، ضمت نفسها بانكسار، وعينها تـحتـرق من البكاء، ما عادت تريد الحياة، حبست نفسها بالبيت، بل بغرفتها وامتنعت عن العالم أجمع.
باليوم التالي لبَّى مؤنس طلب طيف فذهب لمحامي يسأله عن موقفها وما يمكن فعله لإعادة ابنتها لها، ثم تواصل مع والد شهاب وطلب لقاءه؛ فاستقبله بمنزله، تحدث مؤنس بتهذيب وقوة، كلمات أعدها سلفًا كي لا يزيد الموقف تأزمًا، أهَّب نفسه ودربها على الثبات الانفعالي متوقعًا ثَورَة الآخر ورفضه الدامغ لطلب طيف لقاء ابنتها، لكنه قوبل بالموافقة السريعة بل الفورية مع الإصرار أن تتم الرؤية بمنزله؛ ليتأكد أن شهاب لن يقدم على أي فعل يؤزم الموقف، شعر بالريبة من موقفه وموافقته السريعة، ليس من طبعه الليونة، فهو حسب ما جمع عنه من معلومات متشدد عصبي وحاد الطبع والكلم، حلل الموقف وكلماته وعزم على مشاركة المحامي تخَوْفــاته وهَـواجِـسه.
طرق بابها مساءً، فاستقبلته بخجل وتوتر، ما زالا يسكناها وإن قلا، جلس أمامها ولم تحد مقلتيه عنها، لا يشعر بالراحة إلا وهي في محيطه، لا تعرف له السعادة عنوان إلا وجفنيه يضما صورتها يحتضناها، تتمنى ذراعيه أن تشاركا مقلتيه ضمها إلى أن تذوب بينهما، انتعشت بسمته وانفرجت مع خاطره، وزاد خجلها وغمس معه بعض الرَّهبة، تشعر بنظراته تخترقها تزيد ربكتها وتتوه منها الكلمات.
- فاكرة آخر مرة طلبتي إيه؟
رفعت وجهها واتسعت عينها بسعادة تتخلل حياتها لمرتها الأولى منذ أعوام طويلة، أُنير وجهها ببسمتها المتلهفة لرؤية ابنتها لتروي عطش روحها ولو لدقائق بسيطة، تشتاق لها حد الجنون، لم ينتظر سماع صوتها الذي يتوق له وأخبرها ببشارته:
- ممكن تشوفيها بكرة لو عايزة.
- بجد بكرة! بكرة!
- أيوه، تحبي اجي معاكِ.
أومأت مُرحبة وابتسمت عينيها شاكِرة، ابتسم بنشوة لرسالتها التي حوتها موافقتها:
- إن شاء الله هاكون معاكِ، أنا كلمت محامي وسألته عشان الحضانة ووضعك القانوني، لحد دلوقت الحضانة لكِ، لأنه متجوز، تبقى مشكلة الدَّخل وشوية متاهات قانونية، وحتي لمَّا تنزلي الشغل دخلها ضعيف، بجوازنا الوضع هيختلف، لكِ خالات يا طيف؟
أومأت نافيه وتجمعت بمقلتيها بعض الدموع التي جعلته يلوم نفسه لضياع فرحتها برؤية ابنتها، فاسترسل يسألها، لعله يطمئنها!
- ولا هو؟
نفت دامعة:
- يبقي الحضانة هتكون لوالدك.
- لا، لا، بابا لأ، أرجوك! أنت ما تعرفش يتعامل ازاي، شهاب بيتعصب، لكن مش يؤذيها.
- مِن بعده والد شهاب، بصي إحنا حاليا لسه ما اتجوزناش، والحضانة من حقك لسه في وقت ممكن خلاله نحل الموضوع ودّي، المهم ثقي فيا، ثقي فيَّا يا طيف.
أومأت له وعينها تفيض بدموع الحسرة؛ فجلس جوارها يربت على ظهرها بحنان، ود لو يستطيع أن يضمها ويدخلها بين ضلوعه يحميها حتى من نفسه، لم يشعر بنفسه وهو يوعدها بما لا يعلم طريق لتنفيذه:
- مش هتكون معاه أبدًا، وعد.
استمع لوالده يحاول دحر بُـركان الغَـضَب الذي انـفَجَر داخله، بذل مجهود خَـارق ليحافظ على هدوء نبرته:
- بعد كل اللي عملته تسمح لها تشوف البنت!!! أفرض البنت شبطت فيها، أبقي أنا قدامها، الأب المفتري اللي بعدها عن أمها.
بسمة مُتهكِّمة ارتسمت على جانب فم زوجة والده أخفتها سريعًا، قبل أن تسمع زوجها يجيبه بكلمات تحوي بعض اليأس والإحباط:
- دايمًا متسرع، ما فيش فايدة، بنتك بتسمع مننا كل يوم إن أمها مشيت عشان فضلت نفسها وهتتجوز وتسيبها.
- ولما تيجي وتعيط لها وتأكد لها إنها مش هتعمل كده، البنت صغيرة، هتصدقها.
- وعشان هي صغيرة فعلًا؛ فكلامنا أثَّر فيها وعقلها رسخه بقي هو الأساس وأي كلام عكسه مش هتصدقه، ده أولًا، ثانيًا وده الأهم عشان يعتقدوا أن الأمور ماشية ودّي، وعلى ما يفوقوا تكون سافرت بالبنت وأمورك تمت بدون شوشرة، فهمت!
لمعت عيناه بوميض النصر مخلوط بالتَّشفِّي وأومأ له باسمًا، فاسترسل والده:
- سفرك امتي؟
- بعد أربع أيام.
- وقت المقابلة تكون هنا، نفكرها برعبها منك، وكمان تتأكد إنك مغصوب، وإني مش ضدها، ده هيطمنهم، ونقدر نتحرك أسرع وبحريَّة، ولو طلبوا قاعدة وديَّة نناقش وضع البنت، هوافق وأحددها بعد أسبوع وتبيِّن إنك متضايق ومضطر توافق على كلامي.
- حاضر.
مر الوقت بطيئًا تعد الدقائق والثواني، لم يعرف النوم طريق إليها، وكأنها مقدمة على امتحان صعب لم تستعد له، بقدر اشتياقها بقدر خوفها من اللقاء، اصطحبها مؤنس يمدها بكلمات مشجعة، يحاول تهدئتها، سرت بها رعشة رهبة حال وصولهما؛ فلم يرحمها عقلها وسرد عليها كل ما عانته داخل هذا المنزل وبعد عوتها منه بكل مرة تذهب إليه، فداخله تسمع وترى ما لا يسر، لولا وجود حلا به ما كانت لتأتي أبدًا، لم تخفَ حالتها عن مؤنس يحاول بكل طاقته بثها الأمان دون جدوى، رعبها البادي عليها، وعدم تأثرها بوجوده طعنه طعنةً قاتلة حاول تجاوزها من أجلها، كلَّما أعتقد أنَّه تقدم معها خطوة للأمام يجد أنَّه يتراجع بعدها عدة خطوات، يتأكد أن طريقه مليء بالعقبات والأشواك.
تعمدوا أن يستقبلهما شهاب راسمًا على وجهه غَضَب صامت، وكما توقعوا انتفَـضت وكادت أن تبكي هلـعًا، لم يقوها وجود مؤنس، رسالة برعوا بثها له وأكدوها بردود أفعالها، برسمية قابله الجد مكتفيًا بنظرة صامتة موجهة لطيف، التي جلست تفرك أصابع يدها بتوتر والقلق يَنْهَش قلبها الذي يهفو لرؤية حلاها، هاجس داخلها يخبرها بسوء القادم، ارتفعت وجوههم مع خروج حلا إليهم تتحرك بخطوات ذابلة، وبعين وقلب أم لم يخفَ عليها الحزن الدفين الذي يشع من مقلتيها؛ فأفقد ووجها نضارته، حاوطتها هالة كئيبة طمرت بهجتها وغمدت فرحتها، توقن أن خطوات ابنتها الثقيلة تعكس امتلاء قلبها بالحسرة؛ فانطلق بعقلها أسئلة كثيرة تخشى إجابتها، لم ترحمها حلا التي تذوقت مرار الخذلان بعمر الزهور، تشعر بالغدر مِمَّن كانت لها رمز السَّكِينة والأمان، اشتاقت لحنان ضماتها وكلماتها المداوية، لكن بقلبها غصة وبعقلها سُمُـوم لوَّثَـت فكرها ودَنَّسـت براءتها؛ فأمرضت حبها لوالدتها، بنظرة حزينة ووجَّهت لها إتهام صامت أعقبته بجلوسها بين والدها وجدها مخفِضَة الوجه.
حالتها هذه وطريقة جلوسها مزق قلب طيف شعرت أنها خسرتها، بل حطَّـمت مهجتها؛ فانسابت دموعها تجرح عينيها، وشاركتها دموع حلا تشكي خذلها، موقف صعب ومهيب لقلوب تنبض؛ فمال مؤنس على الجد بهدوء هامسًا:
- أعتقد نسيبهم مع بعض لوحدهم أفضل.
- تمام، يلا يا جماعة على الصالون، خليكِ يا حلا مع مامتك.
أمتثل شهاب مضطرًا، وقبل نهوضه حدج مؤنس بنظرات نَـارية قَـاتلة، ثم تحرك بصفاقة متناهية، رغم ذلك شعر مؤنس بالضيق الشديد لم تتاح لهما أي خصوصية؛ فبرغم مِن كبر مساحة المكان وتقسيمه إلى صالة استقبال كبيرة تضم ثلاثة قطع إلا أنهم متصلين دون فواصل، فكانت جلسة طيف وابنتها مكشوفة لهم، كما حوارهما الذي جعل الشماتة تتراقص بعيونهم عدا مؤنس الذي أشفق على طيف وشعر بطعم الحنظل بجوفه.
بشوقٍ ملتاع مدت طيف يدها بحنان تطلب القرب من حلا:
- تعالي يا حلا، تعالي يا حبيبتي وحشتيني أوي، تعالي في حضني.
رغم شوقها المضــني إلا أنها لم تتحرك ولم ترفع وجهها عن الأرض، بأسوأ كوابيسها لم تتوقع رد الفعل هذا من ابنتها، حاولت تخطي صدمتها واستمالت قلبها، حدثتها بلين وقلب غص بلوعة الفراق:
- ماما ما وحشتكيش! طيب أنتِ وحشتيني أوي، تعالي يا حلا عمري وأيامي.
- أنتِ مش بتحبيني، سيبتيني ومشيتي، أنت مش عايزاني.
- لا يا حبيبتي، والله! سيبتك عشان مصلحتك، عشان كنت عايزة أرجع قوية وبشتغل، مش أنتِ عايزاني أبطل أعيط، كنت بعمل اللي طلبتيه.
أومأت رافضة مرات عدة، وما زالت تخفض وجهها:
- لأ، مشيتي عشان تبقي مع حد تاني غير بابا، مش عشاني.
- أبدًا والله يا حبيبتي! خليني احضنك طيب.
تلى رجائها جلوسها جوارها وجذبتها بحنان لدفء حضنها؛ فذبَـحها رفض ابنتها التي حاولت بقوتها الواهنة دفع طيف عنها، تهدجت أنفاس طيف ولم تستطع كبح دموعها، لاح بعقلها فقد ابنتها للأبد؛ فاتسعت عينها بذعر وحاولت الدِّفَاع عن نفسها، تحاول تصحيح صورتها، ستُـحـارب بمشاعرها وحنانها، بل بكل ما تملك، زادت نبرتها اختناقًا بدت مكسورة منهزمة:
- ليه؟ ليه يا بنتي؟ بلاش عشان خاطري عشان خاطر تيته الله يرحمها، سبيني احضنك، أنت وحشتيني والله! وحشتيني فوق ما تتخيلي.
رجائها الأخير أشعل غَـضَب شهاب وأثارت غيرته، أتتجرَّأ على ذكر والدته وتتغنى بحبها لها؟ أم تذكِّره بأنها فضلتها عليه؟! أخرجه من دائرة سخطته وزاده شماتة كلمات ابنته:
- تيته أكيد زعلانة منك هي كمان، وكلنا زعلانين منك.
كَثُرت الطَّعَـنات؛ فدما الفؤاد، نزف الوجدان وعجز اللسان فحاولت الروح التشبث بالحبيب وإن رفض، أعادت محاولتها لضمها بكل طاقتها، رغم استماتت حلا للرفض ودفعها عنها؛ لم تفقد أملها فهو آخر طوق للنجاة للوصول لقلب ابنتها ونزع ما غلفه وصمه عن سماع نبضاتها التي تنطق بحروف اسمها، تدرك أنها تعاني وروحها تتألم مثلها تمامًا، تحاول احتواء ألم صغيرتها، لعل مشاعرها وحنانها يداويان جراحها ويقللا من عذابها! أكيدة أن الجميع بث بعقلها السموم، ولم ينتبهوا لما خلفوه داخلها من دمــار، قاومت حلا مدَّعية القوة والرَّفض، حتى تحطَّم الجدار الذي بنته حول مشاعرها واستسلمت لذراعي طيف، فهي تشتاق لحضن والدتها وحنانها، التي جذبتها لتجلس فوق ساقيها، تشدد مِن ضمِّها تتنفس رحيقها، ترتوى من عبير أنفاسها، لم تمل مِن تقبيل قسمات وجهها، تلمس بأصابعها بشرتها تنساب عليها، تجول راحتها باشتياق على ذراعيها، كفيها، خصلات شعرها، تسمعها كلمات تودعها بها اشتياقها ولوعتها، تبثها مشاعرها التي تصرخ بحبها لها:
- والله وحشتيني! والله كل يوم بنام ودموعي على خدي وبنده عليكِ! والله بُعدي عنك غصب عني! قلبي.. قلبي وجعني عشانك قوي، والله يا حبيبتي أنت أغلى من حياتي، عشان أنت حياتي كلها، ماما بتحبك أكتر نفسها أكتر من حياتها، والله يا حلا! يا حلا أيامي، مافيش أغلى منك.
- سيبتيني ليه؟!!!
- عشان تعبت قوي، لو فضلت أكتر كنت هاموت من القهر، عشان مش عايزاكِ تشوفيني قليلة، عشان مش عايزكِ تشوفي حاجات توجع قلبك الصغير، ومتأكدة أن بابا هياخد باله منك، ومش هيزعلك أبدًا.
- لأ، أنت بعدتي عشان عايزة تبقي مع حد غير بابا، كلهم قالوا كده.
انفطر قلبها، تهدجت أنفاسها حتى كادت أن تختنق، بكت قسوة وجحود الآخرين، تنعي قدرها، سُلِبت كل شيء بالحياة، حتى ابنتها يستميتون لسلبها إياها، تتساءل: لمَ لمْ يرحمها أحد؟ على مَنْ تلوم؟ وإلى مَنْ تلوذ؟ مَن ينصفها ووالدها أوَّل مَن خذلها بالحياة؟!!
تباينت ردود الأفعال حولها، بل تماثلت إلا من مؤنس الذي شعر بالإشفاق عليها واحترق فؤاده للوعتها وعذابها مناوئًا لحالة شهاب، مَن سعد برفض حلا وكلماتها اللاذعة، لا ينكر أن راوده بعض القلق لتمكن طيف من استقطابها، إلا أنه انتشى بفخر لتأكده من توغل سمومهم بعقل ابنته.
بينما تابع الجد باهتمام وارتخت ملامحه براحة، حين أيقن أنه شكَّل فكر حفيدته كما رغب، حتى زوجته تجلت شماتها دون محاولة لإخفائها، تحقد على كل مَن منحه الله ما حرمها منه، تعترض على قضاء الله وتبغض ابن زوجها تريد له ذرية طالحة؛ فعمدت على إفساد ابنته وهذا أول الطريق حياة مفككة، أمَّا عنه، فهي على يقين أن ريڤال ستفعل أكثر مما تتمنى.
لم تنعم بضم ابنتها طويلًا، جذبها شهاب من حضنها بخشونة وفرقهما، خشى إن طال العناق تنقلب الدَّفة لصالحها؛ فابنته كأمها تغلبها العاطفة، امتثلت حلا بقلب محطم منقاد، كما ابتعدت طيف برهبة وخوف لم تعالج منهما، فما زال صوته يزلزلها، أوقف حلا جانبه ورمق طيف باشـمِئزَاز قبل أن يردف بنبرة مماثلة لنظرته:
- أظن كفاية كده، سمعتي رأيها فيك بوضوح، وأعتقد لو عرفت الباقي، رأيها يتغير للأسواء.
نهض مؤنس غاضبًا ومعترضًا، تجاهل شهاب تمامًا موجهًا كلماته لوالده:
- جينا على وعد بعدم توجيه أي كلمة تمس طيف بالسوء مهما كانت بسيطة، وده وعد رجل عسكري يعني المفروض سيف على رقاب الكل.
أجابه الجد بتوجيه نظرة حارقة لشهاب وهتف باسمه محذرًا، صمت شهاب صاغِرًا؛ فوالده لا يتهاون عن أي شيء يسيء له، تراشقت نظراته ومؤنس، حتى قطعها صوت حلا الحَـزين، الذي أعلن فوز جبهة شهاب بنصر كاسح:
- ده عمو اللي سيبتيني عشانه؟
تراقصت بسمة سعيدة شامتة على وجوه الجميع عدا مؤنس وطيف، مَن صًـرَخ الوجع بقلبيهما قبل أن يترك أثره على معالهما، يشعرا بالخذل وبالظٌّلـم، بل القَـهر، أدركت طيف ضياع ابنتها ربَّما إلى الأبد.
توقف بها الزمن، لم تعِ أي مما يدور حولها فقط تنظر لحلا يعاد بذهنها كلماتها ونبرة الألم الساكن بها، تساؤل مؤلم نما داخلها: هل أخطأت حين قررت الاعتراض على مصير أسود؟ فانحدار حياتها الأخير مع شهاب بدايته الهاوية، أليس مِن حقها أن تحيا قليلًا بكرامة دون هوان؟! أرادت النجاة ومحاولة بناء حياة جديدة لها ولابنتها حياة كريمة، لم يجُل بخاطرها أن ثمن تحررها هو فقد كنزها الوحيد ابنتها، ألا يكفي أنها أصبحت غير قادرة على التعامل مع العالم حولها، توقن أنه لولا تدخل مؤنس لم تكن ستقبل بأي عمل، سمعت سخرية جميع مَن تقدمت للعمل لديهم، ظلت داخل دوامات تفكيرها وتأنيب ضميرها وبالنهاية خرجت منها آهة طويلة محملة بتعب ومرار سنوات، تتأهب لآلام مقبلة، انتبهت منتفضة على صوت مؤنس يناديها، فدارت بنظرها حولها، وجدت نفسها داخل سيارته، لا تعلم كيف ومتي ركبتها:
- طيف ردي عليَّا بقالي كتير بكلمك، متخافيش، رد فعل البنت طبيعي وواضح أنهم ملوا دمغاها وهي صغيرة، أكيد إن شاء الله، لما أروح لهم المرة الجاية، الوضع هيكون أفضل ونوصل لنتيجة وهكلم المحامي يجي معايا كمان، ما تقلقيش.
نظرت له برجاء، ودموع قهر يعلمها جيدًا، عاشها بكل مرة تجهض زوجته جنينه، استرسل يؤكد لها عدم تخليه عنها ويناشدها البقاء:
- مش هاسكت والله! مش عارف سمعتي الحوار اللي دار بينا ولا لأ، كنت شايفك تايهة، حددنا الأسبوع الجاي عشان نناقش كل التفاصيل ونحدد الوضع هيكون ازاي، وإن شاء الله هخلي حلا تقعد معاكِ أو على الأقل تبات معاكِ كام يوم بكل شهر، حاولت والله نقعد بكرة أو بعده ورفضوا.
لم تتحدث، فقط تسيل دموعها بصمت، وكل فترة تصدر عنها آهه متألمة من القلب، حتى وقفت السيارة أمام مبنى سكنها، انتبهت قليلًا على كلمات مؤنس:
- مش هرتاح لحد ما أوصل لحل صدقيني، اطلعي نامي وارتاحي شوية، كفاية عياط يا طيف! تحبي اطلع معاكِ لحد ما تهدي؟
أومأت نافية وترجلت من السيارة وبخطوات وئيدة صعدت، أغلقت باباها ثم اتجهت إلى مستقرها بيت أسرارها وآلامها، المكان الوحيد الذي يرحب بها دومًا -المطبخ- وقفت في أحد أركانه تُخفي وجهها به، تبكي كما اعتادت، تضع راحتيها على فمها، تكتم صِـرَاخها وأنينها، تمنت أن تشعر بكف ابنتها يربت على ظهرها كما كانت تجدها بالسابق، فازداد نحيبها، ظلت على حالتها تلك، حتى وهن جَسَــدها وثار عليها براحة إجبارية؛ فأفقدها وعيها.
بالصباح أفاقت وجَسَــدها متعب مرهق؛ فدخلت غرفتها تقوقعت على نفسها، تراجع شريط حياتها المرير، تشتاق أن تحيا ولو لحظة واحدة جانب حلاها، ويا ليت الأمنيات تتحقق بأرض الواقع!
حمل الصباح سعادة وفرحًا للبعض، وبالمقدمة حسن ونيرة، اللذان يقفا على أعتاب تكوين أسرة صغيرة خاصة بهما، يجتهدا ليكون أساسها سليم قوي ومتين، طوال الوقت تدور بينهما اتصالات وكلمات بريئة تبثهما الحب والأمان. ولم يقل رامي وشيماء عنهما سعادة، فرامي أكتشف أنه عاشق ولهان، وإن كان لا يسمعها كلمات غزل وأشعار، لكنه يحيطها بالحنان والاهتمام، يشعر بالكمال قربها ومعها، يردد داخله دائمًا حرم رامي ماهر الديب، يَعِدُ يوميًا ما تبقى ليجتمعا ببيت واحد، وهي لا تشعر بالراحة والأمان سوى بقربه، استقل سيارته صباحًا ثم هاتفها كعادته الجديدة واللذيذة:
- صباحو عسل، يا مراتي يا عسل.
- صباح الخير.
- طبعًا مزنوقة في المواصلات وإلا كان زمانك معترضة وبتقولى أنا شاكة إنك دكتور.
مع جملته الأولى أحمر وجهها، خصوصًا مع محاولة بعض من حولها استراق السمع على مكالمتها من باب الفضول، ومع جملته الثانية ابتسمت بعزوبة وخجل، شعر بها فاتسعت ابتسامته واسترسل:
- صباح الجمال، أيه الرقة دي!
تنحنح يجلي صوته ليقلد طريقتها، ثم تحدث بجدية:
- أيه يا دكتور أنت متصل تهزر، أنا في الطريق ومش فاضية.
- بالظبط كده.
- ما أنا عارف، ومش متصل أهزر، أنا عايز اتكلم معاكِ، نقعد يعني، مش في المستشفى طبعًا، ومش في البيت عندك، وأكيد هاقول لعمي، بس نتفق الأول.
- موافقة أدام بابا هيكون عارف، بس فين؟ وامتي؟
- فين، سبيها عليَّا مش هتتوقعي المكان وهيعجبك وعد، أما امتي؟ فبكرة إن شاء الله الجمعة، إجازة لكِ وأنا نبطجية النهاردة تخلص بكرة الصبح الساعة ٨، أروح البيت أظبط حالى وأصلي وأجي لك يا قمر.
- هتتعب كدة ومش هتلحق تنام، خليها بالليل طيب.
- خايفة عليَّا، على العموم الشغل أصلًا بيبقي هادي هنام شوية بالليل، كمان المكان اللي رايحينه ما ينفعش بالليل، وبلاش فضول وتسألي لإني مش هعترف وأقول رايحين فين.
- أدام مرتاح تمام، ومش هاسأل حاضر.
- أموت في مراتي اللي بتسمع كلامي وتخاف عليَّا، اسيبك في مواصلاتك، ما تقعديش إلا جنب ستات مهما كنت متأخرة، والأفضل تتصلي ببرنامج للتوصيل، أقولك من النهاردة مفيش مواصلات، أنا أصلًا إزاي ما أخدتش بالي من الموضوع ده قبل كده!
تحولت نبرته وأسلوب حديثة للجديدة الشديدة:
- شيماء من النهاردة مفيش مواصلات عادية، تطلبي عربية وتشيري لي الرحلة، وده كلام جد، تمام.
ادهشها تغيره والجدية التي كَـسَت أسلوبه ونبرته وصلها خوفه عليها بوضوح ورقص قلبها فرحًا، كما اتسعت بسمتها:
- حاضر، أنا وصلت خلاص وهروح زي ما قولت.
عاد للينه واتسعت بسمته التي ارتسمت على حروفه وكأنها تراها الآن:
- حمد الله على السلامة، أنا عشر دقايق واوصل، هفضل معاكِ على الخط لحد ما تدخلى المكتب.
- هتفضل كده على طول؟!
لم يكن سؤلاً بقدر ما كان رجاء، آملة في حياة مفعمة بالمشاعر والدفء، رجاء وصله بوضوح وفطن ما قصدت، فأجابها قاصدًا بثها الهدوء والطمأنينة، يمني قلبيهما بمستقبل دافئ سعيد.
- وعد اعمل كل حاجة تسعدك، المهم اسمعيني بكرة بقلبك وعقلك، وكل اللي هنقرره وعود ملزم بها وسيف على رقبتي.
شعرت بالسعادة صاحبها الكثير من القلق والتوتر مما هو مقْبل، لعبت الأفكار برأسها تتساءل، ما الذي ينتظرها بالغد؟ وانعكس تفكيرها على نبرتها:
- أنا في المكتب هقفل.
تنهد بضيق، تسرع بكلماته لن تفهم قصده وستكون فريسة سهلة للظنون، يلتمس لها العذر ولن يتركها بحيرتها وقلقها حتى الغد، لن يستطيع، بعد وصوله وقيامه بالمعتاد اتجه لمكتبها، وهو مكتب كبير يضم كل العاملين بالقسم، القى التحية للجميع بابتسامة، ثم وقف أمام مكتبها وتحدث بابتسامة أكثر اتساعًا:
- محاسبتنا الهُمام، ممكن اعطلك شوية صغيرين.
كادت تعترض فضم كفها براحة يده وحثها على النهوض، كالعادة احمر وجهها خجلًا واستجابت له، فالجميع مسلط نظره عليهما مبتسمين، قطع الصَّمت صوت رامي مخاطبًا رئيسها
- استأذنك عشر دقايق حاجة مهمة ومش هأخرها.
- اتفضل يا دكتور.
لم يترك كفها وشدد عليه بحنان، بأول خطوة خارج المكتب تحدثت بعملية وصوت منخفض:
- خير يا دكتور، مش اتفقنا خلاص.
- أولًا أنا مش دكتور، أنا جوزك، ثانيًا تعالي مكتبي عشان نعرف نتكلم واسمعي الكلام لأني مش هاقبل اعتراض.
تحركت دون اعتراض وقلبها كعادته معه يشعر بالاطمئنان، تحدثت عقب دلوفهما مكتبه:
- ممكن تسيب ايدي لو سمحت؟
طبع قبلة رقيقة على ظهر كفها قبل أن يحررها، وتعمَّد رسم بسمة رقيقة على وجهها:
- تأكدي إن صوابعك كاملة، ما اكلتش منهم حاجة.. بسمتك حلوة يا شيماء.
تنفَّس بعمق وثبت عينيه داخل مقلتيها مردفًا بنبرة حنونة لمست قلبها:
- مش عايزك تقلقي أو تخافي، أنا والله مش هاعمل أو أقول حاجة تضرك، كل الموضوع أنك ما تعرفيش حاجة عني، يعني دكتور سخيف روحتي الطوارئ بسببه ومرة واحدة بدون مقدمات بقيت جوزك وبعد تلت أسابيع هيجمعنا بيت واحد، عشان كده لازم نتكلم، لازم تعرفي عني حاجات كتيرة ما حدش يعرفها، وأنت كمان أي حاجة حابة تقوليها، هكون حابب اسمعها، وقسم يشهد عليه رب الكون، عمري ما ءأذيكي أو أضرِّك.
بنهاية حديثه لاحت على وجهها بسمة مرتاحة تشع رضى وسعادة أنارته وجعلت جانبه العاشق يبادلها البسمة بشعور مماثل:
- مش بقولك بسمتك حلوة.
تحدثت بعدما استقامت محاولة إخفاء خجلها تخفض وجهها تنظر بكل اتجاه عاداه، يستمتع بحالتها يجد نفسه يثبت ناظريه عليها ببسمة عريضة لا يعلم مسماها:
- اتفقنا، هاستناك تقول لبابا، مش هقدر أقوله أنا.
- أنا هكلمه بالليل، في كل الأحوال جهزي نفسك وأنا بكرة هطلع أخدك من فوق، الأميرات ما تتحركش من قصرها غير مع فارسها، ولا إيه؟
غمز عابثًا مع آخر كلمة فهربت في الحال، حالة لم يتوقعا أن يعيشاها يومًا، معها فقط تسقط قشرته الخارجية ويتعامل بحرية كما كان مع جديه بالسابق.
جذبت غادة كرسي وجلست جانبها تتحدث ببسمة مشَـاكِـسة وبدأت حديثها بغمزة:
- مَنْ لقى اسمه أيه، نسي غادة.
- ما انساكيش أبدًا، يا غادة الكاميليا.
- اوباااا دي الغزالة رايقة، اعترفي فورًا كان عايزك ليه؟ قولي هاه قولي.
- فضولك هيموتك.
التفت إليها ونظرت لعمق عينها بتدقيق والقت هي السؤال على غادة:
- قولي لي يا دودو، هو رامي وصل ازاي لرقم أسامة؟
ارتبكت غادة وتلعثمت حاولت تكوين جملة واحدة سليمة، لكنها باءت بالفشل، فأومأت شيماء بتفهم وكأنها فهمت تلك الكلمات المتقطعة:
- اممم قولتي لي، كدة فهمت.
رمقتها غادة متعجبة فاعتدلت مسترسلة ببسمة ماكرة:
- فهمت أن لينا قاعدة بعد ما نصلي.
فررت غادة هاربة تجيبها بعجالة:
- أنا هاقوم اشوف اللي ورايا.
ابتسمت برضى تتمني ان تكون صديقتها وجدت شريك عمرها، بالجامع بعد الصلاة وبعد خلوا المكان بدأت شيماء الحوار وسط ارتباك صديقتها التي تفرك أصابعها خجلًا فلجأت شيماء لاستفزازها لتتحرر من الخجل الدخيل بينهما:
- قولي بقي رامي جاب نمرة المِشْ بدُوده إزاي؟
- معقول لسه بتندهيه كده بعد ما ساعدك، حرام عليكِ ما تقوليش كده.
- سامعاكِ.
- أنا والله كنت بعيد لحد يوم كتب كتابك على وسيم، فضلت معاكِ لحد ما الوقت تأخر، ولمَّا نزلت لقيته ورايا، ومصمم يروحني، لما اعترضت طلب مني اتصل بِبَابا، وفعلًا اتصلت، أخد مني التليفون، كلمه وقاله أنه هوصلني عشان خايف عليَّا لأن الوقت تأخر والدنيا مش أمان، وأخد منه العنوان، الغريب أنه ما اتكلمش طول الطريق، كان قريب عشان ما حدش يعاكس، لحد ما قابل بابا مكان ما اتفقوا وقتها بس قرب وسلم على بابا، والأغرب أنه طلب منه يسجل رقمه، عشان لو حصل لك أي حاجة أعرف أوصل له من خلال بابا.
- عشان كدة يوم الجواب روحت لقيته في البيت.
- قلقت عليكِ والله! خوفت عمو يأذيكِ.
- عارفة وقتها كنت محتاجة أحس أن في حد ممكن يساعدني، الدنيا كانت ضيقة في عنيا قوي، وطبعًا أنت اديتي رقمه لرامي لما سألك.
- أيوه يا سيتي كان قلقان عليكِ، وعايز رقم عمي، الحقيقة أنا خوفت يقول له حاجة تزود همك، عارفة ده كان واخد باله منك من بدري، أول ما قولته على أسامة لقيته كشر وقالي: «قريبها اللي دايمًا يتعبها لحد ما تروح الاستقبال» حسيت أنه هيضربني.
شردت باسمة لثواني، ثم انتبهت لنفسها وتحدثت تكمل مشاكَــستها لغادة:
- يعني بقى اسمه أسامة ولغينا اللقب القديم، اممم، أنتِ عارفة أنه دخل مع صاحبه في مشروع خاص.
- بجد يا مشمش، اشتغل!
- بجد، يا صديقتي الصدوقة.
- طاب يلا ورانا شغل، طولنا المرة دي قوي.
بطريق عودتها وجدت رامي يتحرك بعشوائية وتوتر بالممر المقابل لمكتبه، اندفع نحوها عندما رآها سأل بخوف حقيقي واهتمام لدرجة اعمته عن رؤية ودهشتها الممتنة له:
- أنتِ كويسة؟ تأخرتِ قوي، تعبتي؟ تعالي اقيس لك الضغط وأطمن عليكِ.
لم يمهلها وقت للإجابة سحب كفها وهَمَّ أن يتحرك؛ فوضعت راحة يدها على كفه تطمئنه:
- أنا كويسة والله! كنت بتكلم مع غادة والوقت سرقنا.
تنفس الصعداء قلق عليها وأنَّب نفسه كثيرًا؛ لأنه وتَّرها وأقلقها، تبادلا النظرات تحدثت الأعين وعزفت دقات قلبيهما أجمل الألحان في مشهد صادق استمر لثوانٍ قطعته نحنحة غادة، التي اكتسى وجهها الخجل، وما لبثت شيماء أن شاركتها حالتها تلك سحبت كفها بهدوء وهربت من أمامه مسرعة وتلتها غادة، تابعها بناظريه مبتسمًا حتى غابت، يعشق تلك الحالة التي تنتابه قربها، يتمنى أن تكون حياتهم مليئة بالحب والدفء.