رواية علاقات سامة الفصل الخامس والثلاثون 35 بقلم سلوى فاضل


 رواية علاقات سامة الفصل الخامس والثلاثون 

كحال الحياة تتباين أحوال الأنام، هلَّت نسائم السَّعادة لحياة شيماء وتم زفافها على من ملك عقلها قلبها وحلقا بسماء البهجة وملكا الأرض وما فيها، أعدَّ رامي لها مفاجأة لتكتمل بهجتها، فبالتعاون مع أسامة استطاع التَّواصل مع نادر دون معرفة الأختين وظل على تواصل معه حتى تأكَّد أنَّه تمكَّن من اقناع نادية بحضور حفل الزِّفاف، لم تصدق شيماء عينيها وانسابت دموع الفرح تروي وجنتيها تحتضنها بشوق وسعادة، تشبثت بها تخشى إن تركتها تجدها أحلام يقظة، اضطروا لإعادة تزينها عدة مرات، تباينت ردود أفعال نادية مما أثار تساؤلات الجميع وعجزوا عن فهمها عدا نادر مَن يعرف خبايا روحها والذي تمكن بصعوبة مِن اقناعها بالمكوث حتى يزفا أختها لبيتها ويباركا لها بصباح اليوم التالي. 

أما نيرة فكان حفلها جميل أرضى والدتيهما والعرُوسان، لكن لم يرضَ والدها وبعض المدعوين، مَن عقدوا مقارنات لا قيمة لها بين أعراس العائلة بالفترة الأخيرة يرون أن هذا الحفل هو الأقل بينهم، وما زاد غَضَب الأب عدم حضور أخوة حسن جهة والده، بل لم يأتي والده نفسه مما أثار تساؤل الجميع عن سبب تغيُّبهم، كما أصاب حسن بالحزن إلَّا إنَّه حاول إظهار الفرحة وأدعى محادثة والده واعتذاره لحدوث ظرف قَــهري طارئ منعه عن الحضور، حاولت نيرة التَّهوين عليه والتماس الأعذار، وبالنِّهاية مر اليوم جميل غمرتهما سعادة ونشوة وجمعهما عُش الزَّوجيَّة بهدوئه وصفائه، احتوى كلاهما الآخر. 

أمَّا طيف رغم تحسن حالتها الصحيَّة إلا أنَّ موقفها شديد الصعوبة والحرج، ترفض مقابلة مؤنس الذي واظب على الذِّهاب إليها يوميًا، عذرها بالبداية ومنحها بعض الوقت لتدرك أن المواجهة بينهما حتمية؛ فلن تهرب منها باقي العمر، باليوم الثَّالث يأس أن تأخذ خطوة البداية؛ فاقتحم غرفتها وطلب من الممرضة الانصراف، يشعر بالغضب منها تصرفت من قبل بفجَــاجة والآن تتهرب، إلى أي منحنى تُلقي بنفسها؟! وجب توجيهها للطريق الصحيح، أيقن أنها لن تستطيع التَّمييز وحدها. 

جذب كرسي ووضعه جانب فراشها الطِّبي، ثبت نظره عليها فرأت وهج نظراته الحانقة مما فعلته بنفسها؛ فشحبت وارتعدت أوصالها وكعادتها ترافقها دموعها، زفر أنفاسه الغاضِــبة، أخفض وجهه وتنفَّس بعمق يهدِّئ ثَــورته الدَّاخلية، لا يريد إشعــال خوفها، عاد يطالعها تحدثت النظرات تلومها وتصوغ الأسئلة؛ فهربت بوجهها للجهة الأخرى، إلى هنا أنتهى العتاب ووجبت المواجهة: 
-      لحد امتي تهربي؟! لو فاكرة حالتك دي تفرق معاه تبقي غلطانة، أنتِ بتأذي نفسك وبتأذي بنتك، فين إيمانك بربنا؟ سرق بنتك منك، نقعد نعيط ونضُر نفسنا! ولا نطالب برجوعها ونرفع قضية ونتابع، عايز أفهم وصلتي للحالة اللي كنتِ فيها إزاي!!! جاوبي يا طيف لأني فعلًا عايز أفهم، مش هاسمح لك تأذي نفسك أو تضيعي، وصلتي للحالة دي ازاي؟ مش هامشي غير لما تتكلمي، حتى لو فضلت هنا سنة. 

تصيبه بالجنون وتشعره بعجزه، بكاؤها المتزايد وتهدج أنفاسها جعلاه يدور حول نفسه، يتحرك داخل غرفة كأسد حبيس، استجمع صبره وهدوءه، ثُمَّ ساعدها لتجلس على الفراش كادت ترفض ومنعتها نظرته الحازمة، وضع خلفها بعض الوسادات وعدل موضع كرسيه لتتلاقى الأوجه وبإصرار واصل حديثه: 
-     اتكلمي يا طيف، وصلتي للحالة دي ازاي؟ 
-     أنا.. أنا.. 

كلَّما حاولت سرد ما حدث تشعر بالخزي فتلجأ للبكاء، منحها الكثير من الوقت منتظر توضيحها ولما يأس تنهد بإرهاق وحاول طمأنتها: 
-     يا طيف، أنا مش ضدك ومقدر حالتك، اتكلمي بصراحة ومن غير كسوف، أوعدك مش هتندمي. 

حاولت عدة مرات، تفتح فمها وتغلقه، تهدَّجت أنفاسها حتى كادت تسلب منها، وبعد صبر طال حتى كاد أن يقتله وضحت سبب فعلها: 
-     دي.. دي الطريقة اللي سمح لي بعدها أشوفها، بعد ما منعني عنها زمان. 

أنفرج فاهه وجحظت مقلتيه، إن حاولت قتله لن تفعل أكثر مما تفعله الآن، ثــار عقله متسائلًا: هل تقمصت دور شهاب؟ هل أذت نفسها عامدة نيابةً عنه؟!! أتظن بتلك الطريقة ستعيد ابنتها؟! أين عقلها؟ سحب شهيق عميق ليطفئ غلــيان صدره: 
-    أنتِ فاكرة لمَّا تعملي كده في نفسك بنتك هترجع لك! أبدًا، هو سافر وأخدها معاه، بقى بره مصر ومش راجع غير لما تسقط حضانتك، فهمتي! اللي عملتيه وبتعمليه هيموتك وبنتك تفقدك للأبد. 

لم يتوقف بكاؤها فقط تقل حدته ثم تزداد، يشعر أن نهايته ستكون على يديها بسبب أفعلها به وبنفسها: 
-    لحد امتى هتفضلي تبكي؟ بكيتي زمان أيه اللي حصل؟ فهميني إيه اللي حصل؟ صحتك تعبت، جسمك هزل، وشك بقي زي الأموات، وبعدين!! أنتِ راضية كدة؟ 
-    مش ذنبي، مش ذنبي. 
-    لو كان زمان مش ذنبك ومغصوبة، فدلوقت ذنبك، اللي أنتِ فيه ده ضعف، لازم تتعلمي تبقي قوية، يوم ما كنتِ مع بنتك قولتي عايزة تتغيري عشان تكون فخورة بكِ، تفتكري كده تبقى فخورة بكِ! ولا تتعب أكتر! عايزة ترجعيها لحضنك ولا عايزة تنتحري؟! يا طيف لو عايزة تتغيري فعلًا فأول خطوة لازم تقوي من جواكِ، لا بالعياط ولا بإنك تعــري نفسك وتمتنعي عن الأكل والشُّرب. 

صمت يتمالك أنفاسه المتلاحقة، فعودت صورتها بتلك الحالة إلى مخيلته جعلت غَضَبه يلتــهب؛ فضغط عليها بكلماته يؤنِّبها لما فعلت ويوضح ما كان سيترتب على فعلتها بغيابه: 
-    ما فكرتيش في ربنا، لو جسمك بقي في كل أيد وأنتِ بالحالة دي، حوالينا في حيوانات كتير في صورة بشر، متخيلة إحساسي لو كان حد غيري دخل عليكِ! أيه اللي ممكن يحصل لي؟! دا أنا كنت هتجنن ومرات طارق بتلبسك قبل ما أجيبك هنا، كان هاين عليَّا أبعدها عنك واهتم بكِ أنا، لكن حرام، أنا يا دوب خطيبك. 

تقدر مشاعره وتعلم أنها خزلته، الضَّعف كامن داخلها تربي لأعوام طويلة، لا تستطيع التغلب عليه، أغمض عينيه بإرهاق مستنشقًا بعمق قبل أن يخبرها بما سيحدث الفترة المقبلة: 
-    فاضل شهر والعِدَّة تخلص، أرجوكِ كفاية حرق في أعصابي، أنا حقيقي مش عارف أشتغل، مش قادر أركز، طول الوقت خايف تعملي في نفسك حاجة وعملتي فعلًا، ما كنتش هلحقك لولا ستر ربنا، أوِّل ما ترجعي هتلاقي واحدة هتقيم معاكِ تراعيكِ وتهتم بالبيت، تاكلي وتشربي وتاخدي أدويتك، كل يوم هاتصل بِكِ وتردي عليا يا طيف، رفضك للأكل أو العلاج معناه أني أجي أأكلك وأعطيكِ العلاج بنفسي، أرجوكِ كفاية ضعف واستسلام! كفاية. 

انتفض مغادرًا عقب إنهاء كلماته، تركها تراجع نفسها وتعيد حساباتها، هي بالفعل بقمة حيرتها صدمت بنفسها قبله، لا تعلم كيف فعلت هذا بنفسها! كيف غلبها الشيطان وانقادت خلفه دون تفكير؟!! بكت حتى أخرجت كل ما بها من ألم، ثم استلقت وحاولت الخلود للنوم فراودها ذات الحلم الذي احتل منامها منذ أن ابتعدت عن سجن شهاب. 

        «داخل نفس الغرفة نفس صوت البكاء بنفس التفاصيل، والدت شهاب تبكي وتلومها لدعائها عليه، ثوانٍ وشعرت به خلفها بطلته المخيفة، أخذ منها شيء ألمها، ثم وجدت مولودها بيد والدته تطمئنها عليها، نفس صوت النداء من الماضي، عندما فتحت الباب وجدت مؤنس أمامها، بطلته المهيبة وحزمه البادي وذات الصوت بأذنها لا زال ينادي عليها، صوت الضَّابط الشَّاب، الذي لا تعرف حتى اسمه، أخذ مؤنس يدها يسير بها نحو النَّور، تسير معه بطاعة ولا تشعر بالإرغام ولا بالرَّاحة، فقط تسير، تسترق النظر إليه مِن حين لأخر فتجد ملامحه تتباين بين الشِّدة واللِّين، حتى سيطر عليه الإرهاق، ثُمَّ أختفى فجأةً ولم تجده حولها، ظلت تدور وتدور حول ذاتها تبحث عنه وتجول بعينها هنا وهناك، حتى وجدته على مدى بصرها بالجهة المقابلة، يفصل بينهما طريق غير ممهد مليء بالحُفر والمطبات يتخلله برك مِن المياه الضَّحلة، جالت بقلتيها على الطريق الفاصل بينهما تحاول تحديد كيفية عبوره، ثم عادت بنظرها إليه فوجدته بمكانه يحازيه على بُعد خطوات الضابط الذي يبحث عنها، مَنْ مَلَكَ قلبها بالسَّابق، الغريب أنَّها لا ترى معالم وجهه ممسوح كقطعة جلد بلا ملامح، جالت بنظرها بينهما ودبت بها الحيرة لا تعلم إلى أيُّهما تذهب!! أحدهما ساعدها بالماضي والأخر بالحاضر، مدا لها يد العون ولم يطلبا سواها، لم تسطع تحديد اختيارها؛ فركزت اهتمامها على تجاوز الطريق، ثم ترى إلى أين ستسير بها الأقدار! تأهَّبت لعبور الطَّريق وما أن مدَّت قدمها شعرت بيد تربت عليها». 

تداخل الحلم مع الواقع، شعرت بيد تربت عليها وتمسح دموعها العالقة بأهدابها، حاولت فتح عينها وحركت جفونها حتى وضحت الرُّؤية، وجدته أمامها ومن سواه يهتم بها، مؤنس، بحركة لا إرادية ابتسمت له، تنفَّس الصُّعداء أخيرًا تبتسم، ظنَّ أنَّه لن يرى بسمتها أبدًا، بادلها الابتسام رغم ألمه: 
-     بتبكي وأنتِ نايمة! أنا خايف عليكِ. 

حاولت الاعتدال فوجدته يساعدها دون أن تطلب، رنت إليه بمقلتيها وداخلها مشاعر متخبطة ومتداخلة، اعتدلت بجلستها حدثته بتوتر احراج ورأس متدلي: 
-     آسفة. 

خطت أوَّل خطوة إيجابية، رسم بسمة ودودة متفهِّمة، حاول التهوين وتخفيف حدة الموقف: 
-     عايزك تساعدي نفسك وتساعديني، ممكن؟ 

أومأت بتوتر وخجل؛ فوضع أنامله أسفل وجهها ورفعه بلطف، ثبت بصره داخل مقلتيها مبتسمًا وامتلأت نبرته بالحنان: 
-   أوعي توطي راسك أبدًا. 

جلس أمامها واسترسل بنفس النبرة: 
-    الدكتور قال ممكن تطلعي بكرة، جاهزة؟ 

رمقته بحيرة، كيف ستواجه صديقه وزوجته؟! أدرك دار برأسها؛ فطمأنها: 
-      ما تقلقيش من أي حاجة، البيت جاهز لاستقبالك، طيف، فيه سؤال محيرني لو مش عايزة تردي مش مهم. 

جذب انتباهها بسؤاله وتوتره، ووجدته يُغمض عينه كمن يحاول جمع شتات نفسه وتشجيعها: 
-     الكُربــاج.. اللي كان في الأوضة وصل ازاي؟ 

نكَّسَت وجهها تغمض عينها بحرج مؤلم: 
-     شـ.. شهاب جابه لما جه مع بابا، سابوه والممرضة حطيته مكان ما شوفته. 
-    سيبتيه ليه طيب؟ 
-    ما قدرتش ألمسه، كل ما أفتكر وجعه، مش بقدر أقرب. 

يود ضمها إليه وغمرها بحنانه لعله ينسيها أوجاعها وما مرت به! سيصمد حتى تصبح حقه، ووقتها لن تمر بضعة دقائق دون أن يبثها حبه وحنانه، سيعمل على راحتها، سيقدم لها كل ما يستطيع، سيقدم لها روحه برضى إن ارادت. 

شهران مرا على طلاقها وبقي شهر واحد فقط لتدلف مجبرة إلى سجن كمال؛ ليحكم سيطرته عليها، قتــلها الندم بعد فوات الأوان، فها هي تتذوق العلقم يجبرها على إرسال كل حركاتها، يكاد يجبرها على حصر عدد أنفاسها، لكن على مَن تلوم وهي مَن فعلت ذلك بنفسها، هي مَن ذهبت لجُحره راضية، منعها كبرها على الانصياع لنصيحة والدها السَّابقة. 
اتصل بها ككل يوم، وعلى غير عادته لم يسُب أو يهين، بل بدا كعاشق ولهان، لم ولن تصدقه، لكنها مجبرة على مجاراته تحمل تطاوله ووقــاحته أفضل ألاف المرات مِن فـضــحها، بعد مكالمة غزل طويلة أصابتها بالقلق والرُّعب مما هو قادم. 
-    حبيبتي يا سو أنا قررت أعزمك النهاردة على العشا واخترت مطعم راقي وغالي واثق أنه هيعجبك. 
-    اللي تشوفه، هو فيه مناسبة أقصد.. يعنـ... 
-    من غير ما تلجلجي، أه فيه مناسبة مرور شهر على علاقتنا و باقي زيه عشان تبقي ليا وفي ايدي. 

عروضه السَّخية تشعرها بالرُّعــب، عوضًا عن كونه أمر مجمل ليتماشى مع رومانسية المكالمة ولا يمكنها رفضه بكل الأحوال إلَّا أنها توقن أن فعله يحوي شِرك ما. 

كل شيء تفعله مُسيَّرة تابعة، بالمساء ارتدت ملابس مناسبة وحرصت على ارتداء بنطال وبلوزة بلا أزرار تخلع بالطريقة التقليدية، تحاول أن تأمن غدره، استقبلها بابتسامة ماكرة، يعلم فيما تفكر هو متمرس في قمع السيدات الساقطات منهن والمتكبرات، يكــسر غروهن ويجعلهن يتمنين المَـوت، يجد متعته فيما يفعله بهن، حدَّث نفسه أنه يسير معها في الطريق السليم وقد أهَّبها لما هو آتي. 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1