رواية فوق جبال الهوان الفصل السادس والثلاثون 36 بقلم منال سالم


 رواية فوق جبال الهوان الفصل السادس والثلاثون 

كانت مرته الأولى التي يختبر فيها وبقوة تلك المشاعر العاطفية الطاغية، حتى حينما انفصل عن خطيبته السابقة قبل فترة وجيزة من مراسم إتمام زواجهما لم يشعر بكل ذلك الاختناق والضيق، ليدرك أمرًا أكيدًا أنه لم يحبها يومًا، وإن فرضت عليه بدافع ملائمتها له كمرشحة مثالية للزواج منه. انعزل "عادل" عمن حوله، وابتعد بسيارته ليقف بالقرب من قفرٍ خالٍ من البشر والعمران، لئلا يبصره أحدهم وهو على هذه الحالة البائسة، كأنما يخشى من افتضاح أمره، وإظهار تعلقه بامرأة مُطلقة تعاني من آلام الخيــانة والغدر. سالت دموعه دافئة على وجنتيه، فقلما كان يبكي، وكأن في خبر فراقها وجعًا لا يمكن لوجدانه تحمله.
سحب مرة بعد أخرى أنفاسًا عميقة من الهواء البارد المحيط به ليخنــق بها نوبة البكاء التي اجتاحته، ثم ضرب بيده على المقود مرددًا في حزنٍ عميق مع نفسه:
-ليه ماليش حظ؟!
أراح ظهره على مقعد سيارته، وأغمض عينيه متكئًا بجانب وجهه على مرفقه، وتاركًا نفسه تغرق في عزلتها الاختيارية لفترة من الزمن حتى خبأت أوجاعه إلى حدٍ ما، لحظتها فقط استجمع حاله، وقرر العودة إلى منزله، فلا سبيل من وداعها مهما حاول الهروب من تلك الحقيقة المريرة.
........................................
بالنسبة له معاقرة المُسكرات لم تكن من الأمور المحبذ فعلها خاصة حينما كان متواجدًا مع شقيقه الراحل؛ لكونها تُلهي عقله عن التفكير في مصالحهما الهامة، إلا أنها صارت رفيقته مؤخرًا لتستحثه على التركيز في الانتقام ممن يفكر مجرد التفكير في عصيانه أو الإيقـــاع به. فرقع "زهير" بإصبعيه ليأتي إليه "عباس" وهو يعدل ياقة قميصه الأبيض، فلم يكن قد اعتاد بعد على ارتداء البدلة الرسمية أثناء تواجده معه في المطعم. 
أحنى رأسه قليلًا توقيرًا له، واستطرد متسائلًا:
-تؤمر بإيه يا كبيرنا؟
أشار بعينيه نحو كأســه الفارغ ليعيد ملئه، فامتثل لأمره غير المنطوق دون أن ينبس بحرف، ليتوجه إليه باستفساره:
-عرفت تطلع بمعلومة مفيدة من الواد "كيشو" عن اللي يخصني؟
فهم ما يرمي إليه دون الحاجة إلى المزيد من التوضيح، لذا استرسل موضحًا له:
-حصل يا كبيرنا، بعتله واحد الحجز مخصوص، وبيقول إن أصلهم من بلد كده اسمها (...)، وأنا بعت حد هناك يشمشم عنهم، ولو اتأكدنا إنهم موجودين هناك هعرفك يا ريسنا.
استحسن تصرفه معقبًا:
-حلو الكلام..
ثم رفع سبابته للأعلى وأشار له آمرًا:
-كمل باقي الخطة مع الدغوف.
سرعان ما ارتسمت ابتسامة شيطانية مستمتعة على ثغر "عباس" حينما أخبره:
-اعتبره حصل.
غادر بعدها ليظل "زهير" جالسًا في موضعه، وإصبعه يلتف حول حافة كأس مشروبه، وهذه النظرة الحانقة تبرز من عينيه، صرَّ على أسنانه مدمدمًا فيما يشبه الوعد:
-حتى لو هربتي مني، واستخبتي في قمقم، فإنتي بتاعتي وبس!
خفض من أصابعه لتشتد قبضته حول الكأس قبل أن يرفعه إلى فمه، ويتجرع ما فيه دفعة واحدة، وعيناه لا تزالان تلمعان بهذا الوميض المخيف.
..........................................
حل الصباح محملًا بالكثير من الآمال والتطلعات لمستقبل جديد، يخلو من المشكلات والعداء. بمجرد أن لمحها تخرج من مدخل البناية، وهي تحمل في يدها حقيبة صغيرة، حتى هرع مهرولًا ناحيتها، أقبل عليها لاصقًا بشفتيه هذه الابتسامة المطاطة التي تمقتها، زاد "فارس" من اتساع بسمته وهو يمد يده ليأخذها منها عنوة قبل أن يقول:
-عنك يا بنت عمي.
ازدادت "دليلة" تمسكًا بها، وهتفت رافضة مساعدته، بما يشبه العناد الطفولي:
-متشكرة، الشنطة مش تقيلة، وأنا قادرة أشيلها لواحدي.
أصر عليها وهو يختطفها منها على رغم إرادتها:
-يا ستي إنتي جيتي في جمل! هاتيها بس!
لم تستطع منعه للأسف من أخذها، فقد كان يفوقها مقدرة وقوة، فرمقته بنظرة نارية مغتاظة، لتهسهس بعدها في استياءٍ منزعج:
-استغفر الله العظيم، مفكر نفسه حاجة، وهو بني آدم مستفز.
وقفت "عيشة" إلى جوارها تتأملها بتعجبٍ، فقد عكست سحنتها امتقاعًا واضحًا نحو ابن عمها، كما أنها لم تتبين ما فاهت به بصوتٍ خفيض، لذا سألتها مستفهمة:
-بتقولي إيه يا "دليلة"؟
نظرت ناحيتها نافية بنفس النبرة المزعوجة:
-مافيش يا ماما.
ربتت على كتفها تستحثها على الحركة معها وهي تخاطبها:
-طب تعالي نقعد في العربية، أنا خلاص سلمت على الجماعة.
على مضضٍ قالت وهي تجرجر ساقيها لتجبرهما على التحرك تجاه سيارته المركونة بمحاذاة الرصيف:
-ماشي.
على الجانب الآخر، تعمد "عادل" التلكؤ إلى حد كبير ليتمكن من الاختلاء بمن أثرت في مشاعره في لحظة غادرة من الزمن، لعل بذلك يُسكن ذلك الوجع الذي لم يترأف به وظل يمزق في قلبه طوال الليل.
حالفه الحظ حينما سنحت له الفرصة للالتقاء بها- لمرةٍ أقسم في دواخله أنها لن تكون الأخيرة- لتوديعها. ابتسم لها في وديةٍ، وقال وهو بالكاد يكافح للحفاظ على ثبات نبرته:
-أشوف وشك على خير.
هزت "إيمان" رأسها معقبة بإيجاز:
-شكرًا.
أضاف وهو يشير نحو هاتفها بإصبعه:
-إنتي معاكي رقمي لو احتاجتي لحاجة، أرجوكي ما تتردديش تطلبيني في أي وقت، أنا مسافة السكة وهكون عندك.
عفويًا انخفضت نظرتها نحو هاتفها الموضوع في يدها، لترد باقتضابٍ:
-تسلم...
ثم ضغطت على شفتيها للحظةٍ قبل أن تتابع متسائلة بشيءٍ من التردد المشوب بالحرج:
-احنا ممكن نحتاج محامي يشوف موضوع ورث بابا؟ هل يضايقك لو آ...
لم يمهلها الفرصة لإكمال جملتها، من فوره قاطعها مرددًا في حماسٍ، كأنما أعطته بعبارتها تلك بريقًا من الأمل لرؤيتها مرة ثانية بلا أدنى شعور بالحرج:
-اطمني، دي حاجة سهل تتعمل، أنا بنفسي هتابع مع المحامي وهعرفك كل حاجة أول بأول...
ثم تنحنح مكملًا بشيءٍ من الحذر:
-ده غير طبعًا موضوع قضية طلاقك، وإن شاءالله كل حقوقك هتاخديها.
جاءه تعقيبها فاترًا للغاية:
-مش فارقة.
لاحظ ما طرأ على تعبيرات وجهها من تجهم شديد، فقال محاولًا تلطيف الأجواء:
-اللي عايز أقوله يعني.. إني موجود علشان .. أساعدك .. فماتشليش هم.
نظرت إليه في امتنانٍ، وردت:
-كتر خيرك.
أخبرها بصدقٍ نابع من قلبه:
-ده كلام جد، مش مجرد حاجة بتتقال كده وخلاص.
اكتفت بهز رأسها، فزاد على ما قال بما يقارب النصيحة:
-وبلاش تقفي عند الماضي كتير.
فهمت المغزى من كلامه المبطن، فأردفت تؤكد له:
-لو تقصد اللي ما يتسمى فأنا حذفت رقمه بعد ما عملته بلوك، مش عايزة أي شيء يفكرني بيه.
غمره شعورًا كبيرًا بالراحة لاعترافها هذا، وعبر بنزقٍ عما جاش في صدره آنئذ:
-كده أحسن.
اندهشت من ردة فعله الغريبة، إلا أنها لم تقف عندها كثيرًا، فيما لم يجد "عادل" ما يستطيل به الحديث معها، لذا أنهاه بوداعها الذي بدا وكأنه يحز في قلبه:
 -خدي بالك من نفسك.
ردت وهي تمنحه نظرة أخيرة من عينيها قبل أن تهم بالمغادرة:
-إن شاء الله.
وكأن روحه تفارق جسده برحيلها، لحق مجددًا بها ليستوقفها مستأذنًا:
-أستسمحك ممكن تطمنيني عليكم لما توصلوا؟
حانت منها نظرة جانبية تجاهه، وقالت وهي تومئ برأسها:
-حاضر.
ابتسم في حبورٍ لعدم ممانعتها لمطلبه البسيط، ومضى ينظر إليها بلطفٍ، فيما ضجر "فارس" من الانتظار غير المجدي في السيارة، فهتف في غير صبرٍ وهو يراقب من موضعه ما كان يدور بين الاثنين:
-هو بيرغي فيه إيه كل ده؟ ما تنادي عليها يا مرات عمي خلينا نمشي.
امتثلت لرغبته، وأطلت "عيشة" برأسها من النافذة لتنادي عاليًا:
-يالا يا "إيمان" علشان نلحق طريقنا ومانتأخرش، لسه المشوار قدامنا طويل.
حولت الأخيرة نظرها نحوها مرددة في طاعة:
-حاضر يا ماما...
لتنير ثغرها ابتسامة صغيرة باهتة وهي تتحدث للمرة الأخيرة:
-عن إذنك يا أستاذ "عادل".
قال وهو يرنو إليها بنظرة هائمة:
-اتفضلي، في رعاية الله.
فيما عاود "فارس" تثبيت مرآته الأمامية ليضبطها على الزاوية التي تتيح له رؤية "دليلة" طوال المسافة المستغرقة في القيادة. ابتسم لها حينما خاطبها:
-أجيبلك حاجة تشربيها يا "دليلة"؟
ردت رافضة عرضه بتحفظٍ:
-لأ، شكرًا، مش عاوزة.
تجاهل ما بدا على تعبيرات وجهها من نفورٍ صريح، وواصل الكلام إليها:
-في جمبك كيسة فيها شوية حاجات تتاكل، لو جعتي خدي منها، دي بتاعتك، قصدي بتاعتكم.
رأت ما وضعه بالفعل إلى جوارها، فالتقطته في تعصبٍ، وناولت الكيس إلى والدتها قائلة بتحيزٍ:
-خليها يا ماما معاكي، جايز تجوعي في السكة، وإنتي بتهبطي بسرعة.
لم يكن بالشخصية الساذجة ليدرك عزوفها عن الاقتراب من أي شيء يخصه، غطت أمارات الإحباط تقاسيمه، ثم نظر أمامه، وحادث نفسه في امتعاضٍ:
-شكلنا هنتعب سوا مع بعض عقبال ما نتفاهم!
..........................................
بناءً على الشكوى الرسمية المقدمة إلى الجهات الأمنية المختصة والتي تضم باختصار محضرًا وبلاغًا للسرقة ضد أحدهم تحديدًا، توجهت قوة من أفراد الشرطة إلى العنوان المذكور لاستدعاء من وقع عليه الاتهام للمثول أمام مأمور القسم للتحقيق. 
كانت الطرقات على الباب عنيفة، تكاد تخلعه من مفصلاته، مما دفع "نجاح" للركض سريعًا ناحيته وهي تصيح عاليًا في استنكارٍ جلي:
-بالراحة على الباب يا اللي بتخبط؟ إيه؟ اطرشت في إيدك؟!!
تفاجأت بهؤلاء الرجال ذوي الهيئة الرسمية مجتمعين أمام عتبة بيتها، طافت بنظرة سريعة عليهم وهي تتساءل في استرابةٍ:
-إنتو مين؟
من خلفهم صاحت إحداهن مشيرة إليها بإصبع الاتهام:
-هي دي يا بيه اللي خدت الأنسيال ومرضتش تدفع تمنه!!!!
وحاولت الاندفاع للأمام لتنقض عليها، إلا أن الفرد الأمني منعها من بلوغها هاتفًا بصرامةٍ:
-حاسبي يا ست خلينا نشوف شغلنا.
استغرقها الأمر عدة لحظاتٍ لتتذكر أين رأت صاحبة هذا الوجه المألوف، عرفتها من أسلوبها السمج، إنها نفس المرأة التي أتت إلى بيتها قبل يومين لتستعلم عن عنوان أحدهم، فهدرت تهاجمها لفظيًا باستهجانٍ غاضب:
-إيه الهبل اللي الولية دي بتقوله؟!
رد عليه الضابط المسئول عن إحضارها:
-ده مش هبل، في بلاغ متقدم ضدك بيتهمك فيه بالسرقة.
رفعت حاجبيها للأعلى صائحة في ذهول ودهشة:
-نعم؟ سرقة!
عادت المرأة للظهور من الخلف هاتفة بصوتٍ مرتفع، مسببة جلبة عظيمة استدعت متابعة الجيران لما يدور:
-فتشوا يا بيه البيت هتلاقوها مخبياه الحرامية دي.
استشاطت "نجاح" غضبًا من نعتها واتهاماتها المهينة، فثارت عليها بانفعالٍ وهياج قبل أن تنطلق نحوها لتتشابك معها بالأيدي:
-حرامية في عينك! إنتي مجنونة؟
اعترض طريقها ضابط الشرطة وحال بينهما ليقول في جمودٍ:
-اهدي يا مدام، وخلينا نشوف شغلنا.
قبل أن تطأ قدماه صالة منزلها هاجت في وجهه وهي تفرد ذراعيها أمامه على استطالتهما، لتمنعه من الدخول:
-استنوا عندكم، تفتشوا إيه؟ هي وكالة من غير بواب؟
تجاهل ما انعكس على قسمات وجهها من تعابير مستنكرة ومصدومة، ليتوجه بأمره إلى رجاله بعدما رفع ورقة ما نصب عينيها:
-ده أمر التفتيش يا مدام، ويالا يا ابني إنت وهو دورلي على الأنسيال.
ثم تجاوزها لينتشر بعدها رجاله هنا وهناك متسببين في فوضى عارمة في كل ركنٍ من منزلها، وكأن في إفساد بيتها متعة خاصة. اغتاظت للغاية من الدمار الذي لحق بأرجاء شقتها، وصرخت في توعدٍ:
-أنا مش هسكت على المهزلة دي وهحاسبكم، أنا ابني مدير بنك أد الدنيا، ويعرف ناس كُبارات، مش هيسيبكم!
التفت الضابط ناظرًا إليها باستخفافٍ قبل أن يأتي تعليقه مماثلًا لنظرته:
-إن شاءالله يكون ابن وزير، احنا بنشوف شغلنا.
على الفور هرعت نحو هاتفها المحمول الذي تركته على طاولة السفرة لتعبث به مدمدمة في غضبٍ:
-طيب، أنا هوريكم.
وضعت الهاتف على أذنها، وانتظرت بغير صبرٍ إجابة ابنها لاتصالها الطارئ، فراح لسانها يهمهم باحتقانٍ:
-إنت فين؟ رد عليا!!!
...............................................
اضطر لتجاهل اتصالاتها المتوالية لانشغاله بهذا الاجتماع المغلق مع رئيسه في العمل، فكان يصغي بانتباه كامل لكل كلمة يقولها، وكأنه يعطيه نصائح ذهبية ليصبح أكثر نجاحًا وتميزًا. ما إن فرغ من لقائه حتى راح "راغب" يمتدحه في إطراءٍ مبالغ فيه:
-مش عارف أقولك إيه يا فندم على كل اللي بتعمله معايا.
قال المدير باسمًا:
-إنت كفاءة، وتستاهل تكون الأحسن.
أحنى رأسه قليلًا ليظهر احترامه وتوقيره له، ليجيء رده ممتنًا:
-شكرًا على ثقة حضرتك الكبيرة دي.
استحثه رب عمله على بذل قصارى جهده مشجعًا:
-مستني أشوف مقترحاتك لتطوير خطة الاستثمار البنكي خلال الفترة الجاية.
بدا متحمسًا للغاية وهو يخبره بعزمٍ:
-هتكون جاهزة عند سيادتك في أقرب وقت.
أضاف مديره في لهجة جادة:
-عايزك دلوقت تقابل العميل ده، من أهم المودعين عندنا، وأنا رشحتك للتعامل معاه، وطبعًا مش هوصيك.
رد مبديًا طاعته:
-اطمن يا فندم، إن شاء الله هكون عند حسن ظن سعادتك.
أمسك مديره بقلمه الحبري ليوقع على بعض الأوراق المتروكة على سطح مكتبه متابعًا:
-هو منتظر في غرفة الـ VIP
نهض من مقعده قائلًا بابتسامة لبقة:
-تمام يا فندم، أنا رايحله على طول.
أشار له بالانصراف قائلًا:
-اتفضل.
ظل على وضعيته المنحنية نسبيًا إلى أن غادر حجرة مكتبه، لينطلق بعدها نحو الغرفة المخصصة للقاء كبار العملاء وهو في قمة حماسه وهمته.
..............................
تأكد "راغب" من ضبط رابطة عنقه، ونثر القليل من عطره باهظ الثمن الذي ابتاعه لأجل مثل تلك النوعية من المقابلات الهامة، قبل أن يقوم بالترحيب بضيفه الهام. كعهده مع من يلاقيهم، ألصق بشفتيه بسمة ودودة مهذبة، مستطردًا بعدها بلباقةٍ:
-أهلًا وسهلًا يا فندم، شرفتنا، و...
كل هذا الحماس والتبجيل تلاشى فجأة عندما أبصر من جاء لمقابلته، تدلى فكه للأسفل مرددًا في غير تصديقٍ:
-إنت!!
علا وجه "زهير" نظرة غطرسة مصحوبة بتعبير مغرور، لينطق بعدها فيما يشبه السخرية وهو يسير صوبه بخطواتٍ بطيئة ثابتة:
-مفاجأة مش كده!
افترض "راغب" مجازًا أنه قد جاء للتسبب في مشاكل له في مقر عمله باقتحامه غير المتوقع، لذلك انتفض في غيظٍ مندفعًا تجاهه ليهجم عليه، فأمسك به من تلابيبه يسأله بحدةٍ:
-بتعمل إيه هنا؟
لم يجد "زهير" أدنى صعوبة في إزاحة قبضتيه عنه، فدفعه بعيدًا وهو يحذره:
-نزل إيدك بدل ما أقطعالك، وأفتكر إنك عارف كويس إني ما بهزرش.
في نفس النبرة العدائية المهاجمة سأله "راغب" مباشرة:
-جاي لحد شغلي ليه؟
صدمه برده الواثق:
-ما أنا العميل اللي المفروض تقابله!
صدمة أخرى أشد وطأة في تأثيرها حطت عليه بعدما عرف هويته، وهتف مصعوقًا:
-إيه؟!!!
ليقطع ذلك الذهول الشديد رنين هاتفه الذي واظب على تجاهله غالبية الوقت، فأمره "زهير" بعجرفةٍ وهو يجلس على الأريكة الجلدية:
-رد على التليفون، مش جايز تكون حاجة مهمة.
اغتاظ من تدخله السافر في شئونه، فصاح مستنكرًا:
-وإنت مالك.
أتاه رده يحمل التهديد في طياته:
-نصيحتي ترد بدل ما تندم!
انقبض قلبه خيفة من أسلوبه ذلك، ونظر إلى شاشة المحمول متسائلًا في تحيرٍ:
-مين الرقم ده؟
لم يضع وقته كثيرًا، وضغط على زر الإيجاب واضعًا الهاتف في أذنه:
-ألو.
ليأتيه صوت والدته مستنجدًا بارتعابٍ كبير:
-إلحقني يا "راغب"، أنا في مصيبة!
بهتت ملامحه متسائلًا في تخوفٍ متزايد:
-ماما، في إيه اللي حصل؟ بابا جراله حاجة؟
أجابته بنفس النبرة المذعورة:
-لأ، أنا اللي روحت في داهية!
ابتلع ريقه، وطلب منها وقد تراجع عدة خطواتٍ ليصير بعيدًا عن ذلك الذي يراقبه بأعينٍ كالصقر:
-طب اهدي كده وفهميني.
أوجزت له بعبارات محددة ما تعرضت له من مكيدة مدبرة حيكت ضدها، فأوقعت بها، وجعلتها في موضع الاتهام، لينهي الاتصال هاتفًا بأنفاسٍ مضطربة:
-أنا جايلك يا ماما، اطمني.
استدار منطلقًا بخطواتٍ أقرب للركض تجاه الباب، ومتعمدًا تجاهل ذلك المقيت الذي لا يزال مسلطًا نظراته الغامضة عليه، ليستوقفه الأخير قبل أن يدير المقبض بسؤاله الموجه إليه في نبرة باردة مستفزة:
-معقولة هتمشي كده من غير ما تعرف أنا جايلك ليه؟ ده حتى وحشة في حقك أوي وإنت لسه ماسك منصبك طازة.
اشتدت أصابعه على المقبض المعدني للباب، والتف برأسه ليخبره بوجومٍ كبير:
-أنا مش فاضي لتريقتك دي، ورايا حاجات أهم.
ضحك عاليًا قبل أن يبتر ضحكاتها في منتصفها ليخبره ساخرًا:
-صح موضوع حبس أمك برضوه مش سهل.
اندهش للغاية من معرفته بالأمر، وترك المقبض متجهًا إليه بخطواتٍ تكاد تكون مشلولة وهو يسأله:
-إنت بتقول إيه؟
بنفس البرود المغيظ أكد في غرورٍ:
-ما أنا اللي حابسها.
حملق فيه بعينين متسعتين من الصدمة، ليكمل "زهير" كلامه بهدوءٍ:
-وأقدر بكلمة مني أطلعها من السجن!
حينها فقط تأكد من تدبيره لهذا الملعوب الحقير، فدنا منه متسائلًا وهو يكور قبضة يده محاولًا ضبط انفعالاته قبل أن يثور ويتصرف بتهورٍ:
-ليه كل ده؟
أتى جوابه على هيئة صيغة متسائلة وقد هب واقفًا:
-فين "دليلة"؟
قطب جبينه مرددًا في تعجبٍ:
-"دليلة"!
هنا انقض "زهير" عليه قابضًا على عنقه، فأحكم قبضته عليه، وأخذ يهدده صراحةً:
-أحسنلك تقولي مخبي أخت المدام فين بدل ما الكل يزعل، وأولهم أمك.
نال منه الخوف وبلغ مبلغه منه، فتعرق وجهه، وصارت بشرته أكثر شحوبًا وهو يخبره:
-ما أعرفش، أنا من ساعة ما طلقت أختها "إيمان" وأنا معرفش حاجة عنهم!!
النظرة المطولة التي رمقه بها أوحت بصدق كلامه، لذا تراخت أصابعه إلى حدٍ ما عن مجرى تنفسه، وهمهم في استغرابٍ:
-طلقتها، ممم.. فاتني الـ update ده!
رغم الألم الذي عصف بمحيط عنقه، إلا أن ذلك لم يمنعه من التوسل إليه واستجدائه:
-من فضلك ما تورطش أمي في حاجة مالهاش ذنب فيها.
بنفس الأسلوب المتسلط أخبره:
-وإنت في إيدك تطلعها...
ليتطلع إليه "راغب" مندهشًا، فيما أتم "زهير" كلامه بلهجته الآمرة التي لا ترد:
-كلم مراتك.. قصدي طليقتك واعرفلي منها مكانها، الحل بسيط أهوو.
سكت لهنيهةٍ قبل أن يستجمع شجاعته ليعترف له:
-أنا غيرت أرقامي، ومسحت أي حاجة تخصها.
هزأ منه بازدراء متهكم:
-معقولة، عِشرة سنين مسحتها في تكة كده؟!
بدا رده خاليًا من العواطف حينما أطلعه على موجز انقضاء حياته معها:
-أهوو اللي حصل.
ليأتي بعدئذ تحذير "زهير" غير الممازح:
-شكلك حابب أمك تنام على البُورش كتير.
أجهد نفسه وجاهد كبريائه ليستعطفه:
-لو سمحت يا "زهير" بيه، يا "زهير" باشا تتطلع أمي، صدقني والله، احنا ما بقاش في صلة بينا وبينهم نهائي.
التوى ثغره ببسمة غير مبالية، ثم نظر إليه باستحقارٍ، وراح يملي عليه أوامره المهددة كالعادة:
-ده يرجعلك وقت ما تعرف هما فين هتلاقي أمك عندك معززة مكرمة، وأحسنلك ما تطولش، لأحسن أعدة الحبس مش حلوة للي في سنها!
صاحب جملته الأخيرة عدة صفعات صغيرة متواترة على صدغ "راغب" ليتجمد الأخير في مكانه عاجزًا حتى عن الرد عليه، وقد أدرك أنه بات مع عائلته تحت رحمة من لا يرحم .............................................. !!!

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1