رواية فوق جبال الهوان الفصل السابع والثلاثون
جراء قيادته المتواصلة لعدة ساعات متواصلة، آلمته فقرات عنقه، لذلك قرر "فارس" التوقف قبل أن يصل إلى وجهته من أجل نيل قسطٍ من الراحة، وأيضًا أعدها فرصة طيبة لتناول الطعام مع عائلته. ولج الجميع إلى داخل تلك الاستراحة المتواجدة على الطريق، لتبحث الشقيقتان عن الحمام لغسل وجهيهما، فيما جلست "عيشة" على مائدة صغيرة وهي تنهج من التعب بعدما سبقتهما في الدخول إليه. أبدت ثنائها على فعلته حينما سحب المقعد البلاستيك، وجلس على مقربة منها:
-خير ما عملت يا ابني، الواحد جسمه قفش من أعدة العربية الطويلة.
ابتسم قائلًا في لطافة:
-هانت يا مرات عمي، قربنا نوصل.
في نبرة غلفها القليل من الأسى واصلت كلامها إليه:
-تعبناك معانا، وإنت ملكش ذنب تشيل همنا.
عاتبها بوديةٍ:
-متقوليش كده، أنا ماليش إلا أنتم دلوقت.
ليدير رأسه جهة اليمين حينما خاطبته "إيمان" متسائلة وهي تجفف يدها بمنشفةٍ ورقية:
-هو احنا مش هنروح عند عمتي؟
رد بردٍ قاطع:
-لأ
لتتوجه هذه المرة "دليلة" بسؤالها المستفهم إليه:
-ليه يعني؟
حاول ممازحتها فاستطرد مبتسمًا:
-وأنا اللي بقول عنك ذكية!
انزعجت مما اعتبرته تلميحًا متواريًا بإهانتها، وبادرت بالهجوم عليه:
-قصدك إيه؟
لاحظ ما شاع في تعبيرات وجهها من علامات استياءٍ صريحة، فأردف موضحًا، وقد اضطرب داخله:
-بهزر معاكي يا بنت عمي، غرضي من اللي بعمله ده، إن احنا نختفي عن الأنظار، نروح مكان محدش يعرفنا فيه، علشان البأف ده ما يوصلناش.
استحسنت "عيشة" حُسن تفكيره قائلًا:
-عين العقل.
فيما جلست "دليلة" في مواجهته، وخاطبته في عزمٍ وإصرار:
-ماشي، بس لازم تبقى عارف أيًا كان المكان اللي هنقعد فيه، فأنا هنزل أدور على شغل مع أختي.
استنكر للغاية إقصائه عن حياتها معاتبًا:
-وهو أنا قصرت معاكو في حاجة؟
ردت بشيءٍ من الوقاحة:
-احنا مش منتظرين حد يصرف علينا.
ازداد استعتابه لها من نظرته الحزينة وكذلك نبرته:
-حد، هو أنا غريب ولا إيه؟ ما تتكلمي يا مرات عمي.
لئلا يتطور الوضع بينهما إلى صدامٍ محتمل، تدخلت "عيشة" قائلة بحسمٍ:
-وده وقت خناق، احنا لسه على طريق سفر، لما نوصل بالسلامة يبقى يحلها ألف حلال.
ردت عليها "دليلة" في تصميمٍ:
-علشان نبقى على نور من أولها.
بينما علق عليها "فارس" وهو يدفع مقعده بشيءٍ من العصبية لينهض قائمًا:
-لا نور ولا ضلمة!
لم تتغير نظرتها إليه رغم كامل الجهد الذي يبذله من أجل إرضائها، ظلت على عزوفها الصريح مما يخصه، رافضة قبول أقل شيء طالما أنه منه، كان بحاجة لتعويذة سحرية لتشدها للاقتراب منه. سألته "عيشة" حينما أبصرته يبتعد عن المائدة:
-رايح فين يا "فارس"؟
أجابها دون أن ينظر تجاهه:
-هفول العربية وأرجع.
ما إن ذهب بعيدًا حتى قامت "عيشة" بتوبيخ ابنتها لأسلوبها الفظ في التعامل:
-ما بالراحة على ابن عمك يا "دليلة"، الراجل ما غلطش في حاجة.
رفعت أنفها للأعلى في إباءٍ، وقالت مبررة تصرفها بهذه الطريقة الجافة:
-يا ماما ده أحسن، خلي كل واحد يكون عارف حدوده من الأول ويلتزم بيها.
فيما أيدتها "إيمان" في موقفها قائلة:
-"دليلة" بتتكلم صح يا ماما، وأنا موافقة على ده، وهنزل أدور على شغل معاها.
حملقت فيها "عيشة" باندهاشٍ كبير، وراحت تدمدم بتهكمٍ:
-إيه الجنان اللي طق في دماغكم السعادي!!!
..............................................
من أقاصي الأرض جاء مرتديًا جلبابه الكحلي وعمامته البيضاء المضبوطة بإحكامٍ حول رأسه ليؤدي تلك المهمة المكلف بها، لولا اضطراره للذهاب لما ترك أعماله ومصالحه ليأتي إلى هنا ليتأكد من تسليم بضائعه إلى التجار دون أن تتعرض للسرقة مثلما حدث في المرة السابقة، مما كبله الكثير من الخسائر المادية. هبط بطوله الفاره، وكتفيه العريضين من سيارته ذات الدفع الرباعي متوجهًا إلى مكان يبدو أقرب إلى التكية، حيث يحتشد فيه عشرات الرجال من ذوي الثياب المتنوعة ما بين جلاليب وقمصان على سراويل متباينة الألوان، الكل منهمك في عمله وكأنهم في خلية نحل. ما إن رآه زعيمهم مقبلًا عليه حتى هب واقفًا من على مصطبته ليرحب به بحرارةٍ شديدة:
-عم الناس كلهم عند "العربانية" بنفسه، والله ما مصدق عنيا.
مسح "غيث" على ذقنه الخشنة بيده قبل أن يضع ابتسامة صغيرة مقتضبة على زاوية فمه متسائلًا في لهجة صعيدية أصيلة:
-جيت في ميعادي؟
أجابه "وهبة العرباني" فيما يشبه المدح:
-على الشعرة مظبوط يا واد عمي.
داعب "غيث" شاربه متسائلًا، وكأنه يحاول مناكفة رفيقه القديم الذي بات أقرب لأن يكون فردًا من عائلته الغالية:
-لساتك غاوي شغل شجاوة يا "عُرباني"؟
في التو رفع كفيه إلى السماء نافيًا، وبشدة:
-توبنا إلى الله من زمان، من وقت ما قطعت على نفسي العهد، وأنا ماشي في السليم، دي كلها مصالح ناس بنخلصها ونطلع بحسنة، وكله بما يرضي الله.
مد يده ليربت على كتفه قائلًا وهو يتحرك صوب المصطبة الخشبية ليستقر جالسًا عليها:
-هصدجك بكيفي.
جلس مجاورًا له، وقال باسمًا:
-وأنا أقدر برضوه أعصاك! ده أنا حلفت بيمين الله على إيديك.
عاد "غيث" ليسأله بملامح اكتسبت طابعًا جديًا:
-ها، خلصت اللي جولتلك عليه؟
هز رأسه مؤكدًا:
-أيوه، كله تمام يا ريسنا، مسافة ما نعمل معاك الواجب هتلاقي حاجتك قضيت، والبضاعة راحت للتجار واستلمت المعلوم.
رد عليه معترضًا بنفس النبرة الجادة:
-أني مش جاي أضايف.
هتف مستنكرًا عزوفه عن التمتع بكرم ضيافته:
-والله أزعل، إنت عاوزهم يقولوا عني إني بخيل ومعملتش الأصول مع سيد البر الغربي كله؟
أصر على رأيه بقليلٍ من العناد:
-وقت تاني، أني يدوب أخلص معاك، وألحق سكتي.
قبل أن يقنعه بالعكس جاء إليه أحد رجاله هاتفًا في نبرةٍ شبه قلقة:
-ريس "وهبة"، في مرسال جاي من عند جماعة "الهجام" طالب يقابلك دلوقت وضروري.
انقلبت سحنته على الأخير، وغمغم في نفورٍ:
-قطعت سيرتهم ولاد الحــــرام دول!
فيما تساءل "غيث" بنظرة حادة، وهذا التعبير الحانق قد ساد وجهه:
-إيه اللي فكرهم بيك دلوجت؟
خشي من غضبته التي تلوح في الأفق، خاصة أنه يعلم مثله بمدى وضاعة تلك العُصبة المقيتة، فأخبره بما يشبه الوعد:
-حوار كده هبقى أقولك عليه بعدين.
ليتساءل الرجل في حيرةٍ:
-أقوله إيه يا ريسنا؟
أشار له بيده وهو يأمره:
-دخله.
وقتئذ نهض "غيث" من مجلسه مستأذنًا:
-طيب أسيبك معاه وأشوف مصالحي.
قام "وهبة" بدوره، وهتف محتجًا على الأخير:
-ودي تيجي يا واد عمي، ده إنت كبير الأعدة هنا.
أصر عليه بجديةٍ:
-معلش، خليني أشوف مصالحي.
رفض بشكلٍ قاطع:
-وربنا ما يحصل.
ليأتي "عباس" من بعيد فيعاود كلاهما الجلوس على المصطبة، والأول قد بادر بالتحية وهو يرفع يده في الهواء مرحبًا:
-سلام عليكم على الرجالة.
رد عليه "وهبة" بتحفظٍ:
-وعليكم السلام.
وضع يده على صدره مُعرفًا بهويته:
-محسوبكم "عباس" الدراع اليمين للريس "زهير الهجام"، أخو المرحوم "كرم الهجام".
أتى تعليق "وهبة" هازئًا:
-عاوز إيه يا سي دراع...
ابتلع "عباس" على مضضٍ إهانته المبطنة، وحول بصره تجاه "غيث" الذي لم يكف عن رمقه بنظرات قاسية مخيفة، ليلاحظ "وهبة" ما يدور بينهما من حديث صامت، فاستدر من تلقاء نفسه مُصرحًا:
-اتكلم، الدار أمان، ده أخويا وابن عمي.
بكلماتٍ مباشرة دخل في صلب الموضوع متسائلًا:
-الريس "زهير" بيقولك تاخد كام وترفع الحماية عن واحد من رجالتك؟
تقطب جبين "وهبة" حين بادله السؤال بآخر:
-تقصد مين بالظبط؟
ليأتيه الجواب محددًا:
-اللي اسمه "فارس"، ليه حوار معانا وإحنا عايزين نأدبه بمعرفتنا.
استهجن "وهبة" بشدة مطلبه، فتحولت نبرته للحدة وهو يسأله:
-ومن امتى "العُربانية" بيفرطوا في رجالتهم؟!!
في نبرة استعلاء وتفاخر علق "عباس" عليه:
-كله بالفلوس بيخلص يا عمنا! واحنا جاهزين للي تطلبه، مهما كان عدد الأصفار!
بالكاد كتم "وهبة" حنقه منه، والتفت ناظرًا إلى رفيقه المقرب يسأله:
-رأيك إيه يا واد عمي؟
دون أن تهتز عضلة واحدة من وجهه الجاد في تعبيراته القاسية، أخبره بنبرة ثابتة، لا تشوبها شائبة:
-هجولك أنا الناهية، احنا مابنفرطوش في رجالتنا، أيًا كان اللي عملوه، غلطوا نحاسبهم بالأصول.
اغتاظ للغاية من موقفهما الذي اعتبره معاديًا له، ووجه سؤاله إلى "وهبة" كنوعٍ من التحذير:
-ده آخر كلام يا ريس "وهبة"؟
في غرورٍ صريح أعلمه:
-أنا مابردش كلمة لكبيري.
لحظتها فقط رفع "عباس" سبابته في وجهه مُطلقًا تهديده:
-بس خليك فاكر اللي يعادي الهجامة مابيكسبش!
هذه المرة سخر منه "غيث" حينما عقب وهو يفتح ذراعيه في الهواء:
-هما بيجولوا إيه عندكم يا بحاروة، يا أهلًا بالمعارك.
انسحب "عباس" وهو يشتعل غضبًا من تحديه السافر الذي لم يكن يتوقعه، خاصة أن دفة الحوار تحولت مع ذلك الغريب ليغدو الناهي الآمر في مسألة لا تربطه أدنى صلة بها.
بمجرد أن رحل عن المكان، استدار "غيث" متسائلًا في نبرة شبه مهتمة:
-إيه حوار الواد ده يا "عُرباني"؟ سالك ولا؟!
أجابه في عبارات موجزة لمعضلته:
-ده واد جدع، ياما خدمني، جالي من قريب قصدني في متوى ليه هو وجماعته، وأنا مكدبتش خبر، ظبطتله دنيته، وشوية وهتلاقيهم على وصول.
سكت "غيث" قليلًا، ثم حادثه بلهجة جادة:
-نصيحتي ليك متورطش نفسك في حوارات وخصوصًا مع اللي لا ليهم عهد ولا مِلة.
رد مدافعًا عنه:
-"فارس" غير الواغش بتوع زمان.
استغرب من تحيزه لصفه، وعاود تكرار جملته عليه:
-أني بنصحك لوجه الله، وإنت حر.
لم يجادله كثيرًا، وأكد له وهو يضع يده فوق رأسه:
-كلامك على راسي من فوق يا سيد الناس.
...................................
بدت وكأن حلول الأرض انتهت جميعًا، وأصبح الأمر متروكًا لرب السماوات والأرض لإنقاذها مما هي فيه، حتى زوجها مع صلاته القوية تعذر عليه إخراجها من محبسها، وصارت مضطربة للمكوث مع ذوات السوابق والشبهات. تأففت "نجاح" من الرائحة الكريهة التي تفوح في غرفة الاحتجاز، وحاولت تغطية أنفها بكم ثوبها، إلا أن ذلك لم يمنع الرائحة البغيضة من النفاذ إلى أنفها وإصابتها بالغثيان. انزوت عند أحد الأركان محاولة تجنب بقية المحتجزات اللاتي كن يتناوشن مع بعضهن البعض من آن لآخر.
اقتربت منها إحداهن، وحاولت مضايقتها عن عمدٍ، فالتصقت بها هادرة بصوتٍ فج وآمر:
-ما تتاخري شوية يا ولية، كان حجز أبوكي ده!!
انتفضت في وجلٍ حينما لامستها، لتهب واقفة وهي تصيح في وجهها بصوتٍ مهتز رغم حدة وتيرته:
-في إيه يا ست إنتي؟ ما تتكلمي كويس، هو أنا جيت جمبك أصلًا؟
نهضت المرأة من موضعها، وناطحتها الند بالند وهي تلكز منبت كتفها بقسوةٍ:
-وإنت تقدري يا حيزبونة، ده أنا أعمل من وشك خرايط.
توجست "نجاح" خيفة من احتمالية امتلاك تلك المرأة العدوانية لأداة حادة ربما تهاجمها بها، وتحدث في أي جزء من بدنها الضرر الجسيم، خاصة أنها تبدو متأهبة لفعل هذا، لذا كان من العقل تجنب الصدام معها، فتراجعت مبتعدة عنها وهي تخبرها:
-خلاص سيبالك المكان كله إشبعي بيه.
اعترضت المرأة طريقها، وأمسكت بها من ذراعها ساخرة منها باستحقارٍ فج:
-هأو، دي منطقتي يا ولية يا خرفانة، وأنا هنا اللي أقرر مين يترزع ومين يقف.
ارتعدت فرائصها من أسلوبها العدائي الشرس، وانكمشت على نفسها مخافة منها، لتهمهم مع نفسها في ذعرٍ كبير:
-إنت فين يا "راغب"؟ سايبني للبهدلة دي إنت وأبوك!
فيما تدخل امرأة أخرى قائلة بشيءٍ من التهكم:
-ما تخفي على تيتة الحاجة يا مُزة، دي ما تستحمل نكشة من بتوعك.
آنئذ أطلقت المرأة الأولى ضحكة رقيعة مجلجلة أتبعها قولها الهازئ:
-على رأيك، ده أنا لو عطست في وشها أجيب أجلها.
ليأتي صوت أحد أفراد الشرطة محذرًا بغلظة من الخارج:
-ما تسكتي يا مَرَة منك ليها، خوتوا دماغنا برغيكم...
ثم سكت لهنيهة ونعتهم في اشمئزازٍ:
-داهية تاخدكم يا بُعدة!!
كركرت المرأة ضاحكة في فجاجةٍ، وخاطبته:
-بالراحة علينا يا شاويش، إنت ملكش في الجــنــس الناعم ولا إيه؟
رد عليها بنفورٍ صريح:
-لا ناعم ولا خشن، ربنا يرحمنا من أشكالكم الضالة.
استغلت "نجاح" فرصة انشغال تلك الشـــرسة بالحديث مع فرد الشرطة لتبتعد عن زاوية أخرى، ولسان حالها يردد في خوفٍ متعاظم:
-أنا مش هستحمل أفضل هنا أكتر من كده، أنا ممكن أموت فيها!
....................................
صار في غاية الامتنان لأن والده كان لا يزال محتفظًا بأرقام عائلة "فهيم" بالكامل، لذلك أعاد إرسالهم إليه، ليتواصل "راغب" مع "إيمان" هاتفيًا، آملًا ألا تتجاهل اتصاله، فحياة والدته تقف على المحك، وتجاوبها معه هو السبيل الوحيد لإخراجها من تلك القضية الملفقة.
بنظرة مليئة بالخوف تطلع "راغب" إلى ضيفه الجالس بزهوٍ على المقعد عندما استطرد يكلمه:
-معايا رقمها يا باشا.
وضع "زهير" ساقه فوق الأخرى، وضم أصابع كفيه معًا ليضعهم فوق حجره معلقًا بهدوءٍ:
-وريني الشطارة، براءة أمك في إيدك دلوقت.
هز رأسه مرددًا في طاعة تامة:
-حاضر، هعمل كل اللي تقول عليه.
................................................
دعتها الحاجة لتلبية نداء الطبيعة، فتوجهت إلى الحمام، وتركت ابنتيها بمفردهما، فيما انتظر "فارس" خارج الاستراحة بجوار سيارته، متحاشيًا الصدام مع "دليلة" التي تثير أعصابه، وتدفعه للجنون بنفورها منه، كأنه نكرة لا فائدة مرجوة من وجوده.
حينما رن هاتف "إيمان" الموضوع على المائدة المربعة أمامها، نظرت إلى ذلك الرقم الغريب باسترابةٍ وحيرة. في البداية ترددت في الإجابة عليه، لتتدخل شقيقتها ناصحة إياها:
-شوفي مين، مش جايز يكون أستاذ "عادل" بيطمن علينا.
قالت بتشككٍ وقد زوت ما بين حاجبيها:
-بس أنا مسجلة رقمه.
سألتها "دليلة" في جديةٍ:
-هو التروكولر مش مبين مين؟
جاء ردها نافيًا:
-لأ، مافيش شبكة هنا.
افترضت مجازًا وهي تشير بعينها:
-طب ردي، جايز يكون بيتكلم من تليفون باباه أو مامته.
بدت فرضيتها منطقية، فاستسلمت للأمر قائلة:
-طيب.
ضغطت على زر الإجابة، ووضعت الهاتف على أذنها مستطردة بصوتٍ رقيق مثلها:
-ألو.
لتأتيها الصدمة حينما سمعت الصوت الذي تألفه جيدًا يناديها باسمها في لهفةٍ:
-"إيمان"..
انقبض قلبها، وتقلصت معدتها، فغامرها ذلك الشعور المزعج بالغثيان، خاصة مع رجائه المداعب:
-أوعي تقفلي السكة يا حبيبتي، إنتي وحشتيني أوي.
همست في غير تصديق، وهي تزدري ريقها:
-"راغب"!
لئلا يفوت الفرصة الوحيدة المتاحة الآن لديه في استمالة رأسها والتأثير عليها، راح يبدي ندمه في استجداءٍ:
-أنا أسف على اللي عملته فيكي، كان غصب عني..
على ما يبدو استفاقت من الغيبوبة المؤقتة التي استحوذت على ذهنها، وشلت تفكيرها للحظةٍ من الزمن، فهتفت في نبرةٍ مالت للهجوم:
-غصب عنك؟
أجابها مؤكدًا على ندمه، وإن كان كذبًا، فقط لاستدراجها في الحديث من أجل تحقيق غرض اتصاله الوحيد بها:
-أيوه، كنت مضطر لده، وأنا دلوقت مستعد أصلح غلطتي، بس قوليلي إنتي فين، وأنا هجي لحد عندك وأصالحك وأعوضك عن كل اللي فات.
انتفضت قائمة من على المائدة، وصرخت في عصبيةٍ، غير عابئة بالأنظار التي اتجهت ناحيتها لتراقبها في فضولٍ:
-تعوضي؟ بالبساطة دي؟ هو إنت مفكرني إيه؟ جارية عندك مستنية إشارة منك علشان تجري عليك تترمي تحت رجلك؟
اِربد وجهها بحمرةٍ حانقة للغاية، وتابعت صراخها فيه:
-ده أنا بندم على كل لحظة ضيعتها مع بني آدم حقير زيك.
أتاها توسله المستعطف لعل انفعالاتها الثائرة تهدأ:
-حقك عليا يا حبيبتي، أنا عايزك بس تسمعيني يا "إيمان"، قوليلي إنتي فين بالظبط، وصدقيني أنا هكون عندك، كول حاجة هتتصلح.
ما لم يره "راغب" أنها ألقت بالهاتف على المائدة في عصبيةٍ، وانخرطت في نوبة بكاء عنــيفة، لتلتقطه "دليلة" من على السطح الخشبي، وتصيح فيه باستحقارٍ وحدة:
-ليك عين يا بجح تتصل وتكلمها؟
ما إن سمع صوتها هي الأخرى حتى راح يتسول عاطفتها:
-"دليلة"، أختي الصغيرة، قوليلي إنتو فين وأنا.. أوعدك بشرفي إن كل حاجة هترجع زي ما كانت.
صاحت فيه تهدده بقوةٍ:
-دي أحسن حاجة حصلت لـ "إيمان" إنك خرجت من حياتها، إنسى إنك تكلمها تاني، وإلا هنعمل فيك محضر.
لامس إقبالها على إنهاء المكالمة، فرجاها كمحاولة أخيرة لإقناعها:
-استني بس يا "دليلة"، اسمعيني من فضلك.
ردت وهي تنعته:
-غور بعيد عننا يا (...)!
تفاجأت كليًا حينما سمعت صوتًا آخرًا لم تكن تظن أنها ستسمعه مجددًا عندما ناداها بهدوءٍ أرعب كل ذرة في جسدها:
-"دليلة"!
ارتجف الهاتف في يدها، وهمست متسائلة بحلقٍ جف تمامًا:
-إنت؟!
ليصدمها "زهير" بعزمه ووعده غير المنكوث الذي جعل أوصــاله ترتج كليًا:
-حتى لو كنتي في آخر الدنيا هوصلك...
شلتها المفاجأة، فعجزت عن النطق، ليتابع تهديده المحذر قائلًا:
-الأحسن تعرفيني مكانك، وخلينا نلم الحكاية.
في التو أبعدت الهاتف عن أذنها وأنهت المكالمة وهي على تلك الحالة الذاهلة، مما جعل "إيمان" تتوقف عن البكاء المرير وتتطلع إليها في دهشةٍ وتعجب. وضعت يدها على كتفها تسألها وهي تمسح بظهر كفها ما بلل وجنتيها من دمعٍ ساخن:
-في إيه يا "دليلة"؟ وشك اتخطف كده ليه؟
ناولتها هاتفها، وأجابتها بأنفاس شبه منقطعة:
-البلطجي كلمني.
برزت عيناها على اتساعهما متسائلة لتتأكد من هوية المتصل الآخر الذي اقتحم المكالمة:
-تقصدي "زهير"؟
أكدت لها تخمينها بصوتٍ مرتجف:
-هو في غيره!
إذا هي مكالمة مرتبة بشكل مسبق ومخطط لها منذ البداية، نطقت "إيمان" بما يدور في ذهنها علنًا:
-معنى كده إن "راغب" موجود معاه...
زادت تعبيراتها تجهمًا، وأضافت في نقمٍ:
-أنا برضوه قولت الجبان استحالة يكون عنده دم أو مشاعر.
فيما تساءلت "دليلة" بتوترٍ:
-العمل إيه دلوقت؟
كانت "إيمان" كمن يفكر بصوتٍ مسموع، فأردفت:
-احنا لو قولنا لماما على المكالمة دي هتتخض وتخاف.
لتخبرها "دليلة" بعنادٍ:
-وأنا مش عايزة اللي اسمه "فارس" ده يتحشر في حاجة تخصني.
سألتها شقيقتها الكبرى في حيرة:
-طب هنتصرف إزاي؟
صمتت لهنيهةٍ، واقترحت عليها بجديةٍ:
-نكلم أستاذ "عادل"، هو ممكن يفيدنا عن أي حد.
بدا الحل الأمثل حاليًا، فأيدتها:
-صح، معاكي حق.
بلا أدنى ترددٍ أمرتها:
-كلميه أوام، وأنا هراقب السكة علشان لو ماما رجعت من الحمام.
أومأت برأسها مرددة:
-حاضر.
في التو بحثت عن رقمه في قائمة الاتصــال المتكرر، لتستطرد بمجرد أن فُتح الجانب الآخر من المكالمة:
-سلام عليكم.
جاءها صوته مهتمًا:
-وعليكم السلام.. إزيك يا مدام "إيمان"، أنا كنت لسه هكلمك أطمن عليكم.
بلعت ريقًا غير موجودٍ في جوفها، وأجابته بارتباكٍ:
-احنا كويسين، بس في حاجة حصلت عايزين نقولك عليها.
أخبرها في التو:
-اتفضلي.
سردت له بإيجازٍ تفاصيل ما جرى قبل لحظاتٍ، لتسأله بعدها بترقبٍ:
-رأيك نعمل إيه؟
بهدوءٍ شاب نبرته أبلغها:
-أولًا رقمك يتغير فورًا، محدش يعرف بيه غير القريبين منك، واللي بتثقي فيهم وبس.
هزت رأسها كأنه يراها حينما ردت في امتثالٍ:
-تمام.
تابع بعدها على نفس الوتيرة:
-تاني حاجة...
قاطعته قبل أن يتم جملته لتقول فجأة بتوجسٍ عندما أبصرت شقيقتها تشير لها بيدها:
-طب بص هكلمك تاني لأحسن ماما جاية علينا وهي متعرفش حاجة، سلام.
دون انتظار رده أنهت المكالمة على الفور، لتحدق في والدتها التي أقبلت عليهما بأريحيةٍ واسترخاء. كانت كلتاهما ممتنتان لأنها لم تكن شاهدة على ذلك الاتصال، وإلا لتعقد الوسط من جديد، فذهابها إلى الحمام جعلها تغفل عن التطور الخطير الذي حدث قبل برهة. تحولت نظراتهما المرتاعة تجاهها حينما سألتهما وهي تجول بعينيها عليهما في تحيرٍ:
-في إيه يا بنات؟ مال شكلكم اتقلب لما شوفتوني؟
نفت "دليلة" على الفور:
-مافيش يا ماما.
شككت في ردة فعلها المريبة، وهتفت مستنكرة:
-عليا برضوه.
تعللت كذبًا بأول شيء طرأ إلى بالها:
-أصل "إيمان" بطنها بتوجعها، وكانت بتدور على حاجة للمغص.
اقترحت بشكلٍ بديهي:
-استني لما يجي "فارس" نقوله يشوفلنا صيدلية قريبة في سكتنا.
فيما تبادلت "إيمان" نظرات متوترة مع شقيقتها وهي ترفض مقترحها بلباقةٍ:
-مالوش لازمة نتعبه يا ماما، دلوقتي هبقى كويسة.
في خطوات متباينة ما بين التعجل والبطء تحركن معًا نحو الخارجة، ليستقيم "فارس" في وقفته متسائلًا بجديةٍ:
-جاهزين يا جماعة؟
تولت "عيشة" الرد:
-أيوه، يالا بينا يا ابني.
لم يخفَ عليه ما ظهر على وجهي الشقيقتين، فتساءل وهو يساعد زوجة عمه على الاستقرار في مقعدها الأمامي بجواره:
-هو في حاجة حصلت؟ شكل البنات متغير كده ليه يا مرات عمي.
ابتسمت وهي تخبره:
-متقلقش، دي حاجات بنات، ما إنت عارف دلعهم.
بدا غير مقتنع بتبريرها، ومع هذا لم يلح في الأمر كثيرًا، والتف حول مقدمة سيارته ليجلس خلف المقود منطلقًا نحو وجهته.
......................................
كانت التعليمات واضحة من جهة "زهير"، عدم التحرك أو المغادرة إلا بعدما يأمره شخصيًا بذلك، لهذا مضت اللحظات طويلة على "عباس" وهو ينتظر في بقعة غير مرئية -مع عددٍ من أتباعه الذين انتشروا في الأرجاء- لكنها في نفس الوقت قريبة من التكية التي يديرها ذلك المدعو "وهبة"، لعل وعسى يظهر "فارس" على الساحة، فقد أعلمه رب عمله باحتمالية لجوئه إليه من أجل الدعم المادي والحماية، خاصة مع تعذر التصرف في ورث "فهيم" حاليًا، والمتمثل في بيته، وكذلك حصته في المخبز، بسبب المراقبة الحثيثة لرجاله، ناهيك عن ردة فعل "وهبة" القوية تجاه رجله الذي من المفترض ألا يتبعه في الوقت الحالي، فاستنبط أن كلاهما لا يزالان على تواصل، إذًا من المحتمل أن يلتقي به.
صدق حدس "زهير" ولاحت سيارته في الأرجاء، ليتأهب من فوره، ويتعمد التواري عن الأنظار مجريًا ذلك الاتصال العاجل برئيسه، فهاتفه مرددًا:
-ظهروا يا كبيرنا، في عربية قريبهم.
سأله "زهير" في الحال بنبرة لهفى:
-"دليلة" قصادك؟
اختطف نظرة سريعة ناحية جهتها من السيارة، وأكد بما لا يدع مجالًا للشك:
-أيوه يا كبيرنا، أنا شايفها أعدة ورا.
أصدر له أمره الصارم:
-جهز الرجالة، واخطفوها، بس خد بالك، ده ما يحصلش عند "العُربانية".
رد عليه بثقةٍ:
-اطمن يا ريس "زهير"، دي مش أول مرة نخطف فيها حد.
حذره بغير تساهلٍ:
-بس دي مش أي حد! سامع أي غلطة هتكلفنا كتير، وأنا جايلك على طول.
قال بنفس النبرة الجادة:
-في انتظارك يا كبيرنا، والبشارة هتكون جاهزة.
........................................
لم ينقطع اتصاله مع "وهبة" طوال المسافة التي قضاها في التنقل حتى وصل إلى البلدة، ومع ذلك أصر الأخير على حضوره إلى التكية فور مجيئه بحجة إيجاد مشترٍ لورث العائلة وتسليمه العربون مقدمًا ليساعده في تأسيس حياته؛ لكن في واقع الأمر أراد تحذيره حينما يحادثه وجهًا لوجه من مغبة معاداة عائلة "الهجام"، خاصة بعد أن صار تهديدهم العدائي أمرًا مفروغًا منه.
لم يجد "فارس" بقعة خالية بالقرب من البوابة الرئيسية المؤدية إلى التكية ليصف سيارته بها، لذلك اضطر لركنها أمام عربة الدفع الرباعي، واستدار برأسه مخاطبًا زوجة عمه، وكذلك ابنتيها:
-معلش يا مرات عمي، داخل بس أجيب حاجة من صاحبي اللي جوا وطالع على طول.
ردت بغير ممانعة:
-خد راحتك يا ابني.
ليترجل بعدها من السيارة مسرعًا في خطاه نحو الداخل، فأكملت "عيشة" كلامها إلى ابنتيها متسائلة بريبة:
-مالكم يا بنات، طول السكة ساكتين كده؟
ردت عليها "دليلة" بوجومٍ:
-عادي يعني، تعبنا من الطريق.
دون أن تستدير ناحيتها عقبت أمها بعد تنهيدة معبأة بأنفاس الإرهاق:
-هانت، معدتش إلا حاجة بسيطة.
غمزت "إيمان" إلى شقيقتها بطرف عينها، وادعت كذبًا:
-تعالي نقف شوية نفك رجلنا.
استشفت أنها ترغب في إبلاغها بشيء قد استجد بعيدًا عن مسامع والدتهما، فتبعتها في صمتٍ، ووقفت كلتاهما عند صندوق السيارة، ليأتي "غيث" متجهًا صوبهما، ومبديًا تذمره من تلك المركبة التي تسد عليه الطريق كليًا وتمنعه من الحركة:
-يادي النهار اللي مالوش ملامح! حد يوجف عربيته إكده؟
وجه كلامه إلى "دليلة" على وجه الخصوص مشيرًا بإصبعه:
-إنتي يا ست، نادي على اللي معاكي يمشي العربية من إهنه.
رفعت رأسها ناظرة إليه قبل أن ترد برسميةٍ:
-استنى شوية وهو جاي يا حضرت.
بدا في أوج ضيقه وهو يخبرها:
-معنديش خُلج ولا صبر أستنى أكتر من إكده...
ثم أمرها بتسلطٍ:
-فين المفتاح خليني أسوجها؟
لم يملك من مخزون الصبر ما يجعله ينتظر حتى ردها، حيث تحرك مسرعًا تجاه الباب ليفتحه، ويفتش بنفسه عن مفتاح إدارتها، وسط ذهول وصدمة الثلاثة، لتبادر "دليلة" بإعاقته قبل أن يجلس على المقعد صائحة في حدةٍ واستنكار:
-إنت بتعمل إيه يا جدع إنت؟
صفقت الباب وارتكنت بظهرها عليه لتمنعه من الدخول، وقامت باتهامه صراحةً:
-شكلك حرامي وجاي تعمل حوار.
اشتاط غضبًا من نعتها المسيء إليه، فيما تدخل أحد أتباعه معترضًا على فظاظتها في الرد عليه:
-احفظي لسانك يا حُرمة، ده كبير البر الغربي.
ترجلت "عيشة" من السيارة، وألقت نظرة حائرة على ابنتها وهذا الغريب الذي تتجادل معه:
-في إيه يا "دليلة"؟
أجابتها بتحفزٍ، وكامل نظراتها مرتكزة عليه:
-واحد بيقول شكل للبيع.
لتهرع "إيمان" وتمسك بذراع شقيقتها هاتفة في جزعٍ، وهذه النظرة المذعورة تطل من حدقتيها:
-"دليلة"، إلحقي مش ده الراجل اللي تبع البلطجي إياه؟
تلقائيًا أدارت رأسها تجاه الجانب، حيث ظهر "عباس" وأتباعه في مرمى بصرها، فانتفضت كليًا متجاهلة الشجار الوشيك مع هذا الرجل، لترتعش نبرتها مرددة في هلعٍ:
-أه هو، اجري أوام.
ثم اندفعت مع شقيقتها تركضان تجاه بوابة التكية، و"عيشة" تشيعهما بنظرات حيرى وهي تسألهما:
-في إيه يا بنات؟
تفاجأ "غيث" بردة الفعل العجيبة التي صدرت من تلك الشابة الحانقة متناسية اتهامها المجحف في حقه قبل لحظاتٍ، لتتركه وتغادر بهذا الشكل المريب، تجمد في مكانه وردد باستغرابٍ:
-إيه اللي بيُحصل عاد؟
ليلمح من مكانه "عباس" ومن معه وهم يهرعون عائدين إلى داخل التكية، وكأنهما حقًا يلاحقون الاثنتين، تنبه لصوت المرأة المسنة وهي تصرخ مستغيثة:
-يادي النصيبة، بنتي هتروح مني لو طالوها!
لم يفكر مرتين، بل إنه لم يتردد للحظة في تقديم المساعدة وإغاثة من طلب الغوث، فانطلق مندفعًا نحو الداخل بأقصى سرعته، ومن ورائه رجله يسأله:
-خير يا بيه؟ حُصل إيه ................................. ؟!!!