رواية سيد القصر الجنوبي الفصل الثامن و الثلاثون بقلم رحاب ابراهيم حسن
وبعد ساعات من السير والقلق ... وقفت سيارته أمام القصر وقد تفاجأ بوجود عدد غفير من العمال يستعدون لبناء مبنى شاهق في الأرض الجانبية للقصر ...
واعتقد أن هذا هو سبب الاتصال المفاجئ .. ولكنه حينما دخل القصر وبجانبه جيهان دهش عندما وجد آخر شخص كان يتوقع أن يره !!!
جحظت عينا أكرم على تلك الشقراء ذي العينان الثعلبيتان الذي يملأهما المكر والخداع، والتي على ما يبدو كانت تنتظر وصوله حتى ترى ردة فعله بعدما تفرض عليه الأمر الواقع أنها اصبحت هنا .. جارته !! ، فـ ردد أكرم اسمها بنبرة تحمل من الضيق والحدة ما تحمل :
_ راندا ..؟!!
تسحبت عينان جيهان لوجهه وراقبت نظراته عن كثب لتلك الشقراء الفاتنة التي وعلى رغم جمالها الصارخ ولكن تبدو غيرة مقبولة بالمرة وثقيلة على القلب ! .. وعندما ردد اسمها ابتلعت جيهان ريقها بمرارة ، يبدو أنه لا زال يحمل لها بقلبه مكانا معهما فعلت .. جاهدت جيهان بكل قوتها أن لا تنفلت دموعها وتكشف ستر ضعف موقفها ووضعها وقررت أن تصعد حتى جناحهما الخاص وتنتظره .. بينما تفاجئت حينما تمسك أكرم بيدها وأعادها تلك الخطوة التي بعدتها !
وقال بنظرة واثقة :
_ خليكي هنا ..
رغم انه أراد أن يطمئنها ولكنها بقيت على وتر الخوف والشك تترنح !! .. وظنت أنه أراد أخذها درعا أمام من خانت قلبه سابقا ، لعبة الرجال المشهورة ... لكي تكسر امرأة خانتك ضع مكانها أخرى ! .. ويبدو أن هذا ما يحدث معها جملةً وتفصيلًا...
أزدردت ريقها وحاولت أن تتحلى بشيء من الثبات أقلًا لو ظاهريًا، وتبدو متماسكة واثقة غير مهتزة الشعور والثبات .. فتبسّمت راندا ابتسامة ثعبانية كعادتها وقالت وهي تقف بالبهو العريض للقصر :
_ كنت مستنياك .. أصلي عرفت من الولاد أنك غالبًا في الطريق لهنا، حبيت أفاجئك واقولك أني هبقى جارتك .. هنقل كل حاجة تخصني هنا وهعيش هنا .. جانبك.
شحب وجه جيهان من هول الفكرة ، بينما رمقتها راندا بابتسامة ساخرة شامتة، ولاحظ أكرم الحرب الباردة بينهما !! ولكنه لم يتعجب وقطع الصمت قائلًا بحدة :
_ من أمتى وأنتي بتحبي الأماكن اللي زي دي يا راندا ؟!.. ما تقولي أنتي جاية هنا ليه وبلاش لف ودوران !!
سارت راندا نحوه برشاقة خطواتها الفاتنة ونظرت له مليًا قائلة بتوعد خفي :
_ لو فاكر أنك ضحكت عليا وخدت مني كل حاجة تبقى غلطان ، اللي عندي كتير أوي ، أصلك مكنتش انت يعني الراجل الوحيد اللي قابلته في حياتي ورمى تحت رجلي كل فلوسه عشان ارتبط بيه .. أنا جاية هنا وهعمل مشاريع كتير أوي .. كل الأراضي اللي حواليك دي بكرا تبقى بتاعتي .. بما فيهم القصر ده ..
وعلى عكس المتوقع .. ضحك أكرم ضحكة مدوية تملؤها السخرية والأستهزاء ، كأنه استمع لمزحة ساذجة لا تصدق ، وبعدها قال بأحتقار ساخر :
_ أنا رميت تحت رجلك كل فلوسي عشان ارتبط بيكي ؟! .. شكلك ناسية أنك حفيتي ورايا في كل حفلة وسهرة عشان تلفتي بس نظري .. طب مش فاكرة أن ارتباطنا من البداية كان متفق عليه أنه مش هيكمل وانه لمدة معينة عشان ابعد عني الاشاعات الي ملحقاني في كل حتة وأخلص منها وأنتي اللي اتمسكتي تفضلي معايا والا هتموتي نفسك؟! .. ولا نسيتي كمان أن يوم ما طولتي من فلوسي حاجة كان سرقة ولعبة لعبتيها مع خالد أخويا من ورايا لما معرفتيش تطولي من حاجة !! .. العبي على حد تاني يا شاطرة ، ده أنا صايع قديم.
ظهر من توتر عصب فكيها أنها بالفعل فعلت ذلك ، وراقبت جيهان تعابيرها بدقة ودهشة ووميض من الأمل ، بينما انفعلت راندا بشرر وصاحت بغضب بوجه أكرم :
_ مغرور وفاكر أنك أذكى واحد في الكون ، لكن أنا هعرفك مين هي راندا ..
سخر باحتقار وقال بلا اكتراث :
_ أعلى ما في خيلك أركبيه .. لو فاكرة أنك عشان اشتريتي الأراضي دي كلها تبقي كسبتيني تبقي في منتهى الغباء ، لأن ببساطة في مليون ارض تانية اعرف ابني عليها كل اللي انا عايزه واسيبلك المكان المقطوع الجميل ده تتعفني فيه لوحدك لحد ما تموتي والناس تخلص من شرك .. لكن أنا معايا اللي أهم من القصر والأرض .. معايا مراتي ، ومعايا ولادي ، وكلهم موافقين يبقوا معايا في اي مكان حتى لو على المريخ .. انتي الخسرانة في اللعبة الغبية دي ، Enjoy يا حلوة ..
وقال ذلك ثم أشار لها لتخرج من القصر قائلًا :
_ القصر ده ملكي وهيفضل ملكي، ومش مسموحولك تقربي منه لأي سببا كان .. اطلعي برا وما اشوفش وشك هنا تاني ... عشان المرة الجاية هتتهاني أوي من رد فعلي.
تنفست راندا بسرعة عالية كأنها رأت بأم عينيها خسارتها الفادحة ، واحمر وجهها من الغضب وهي تركض نحو منضدة لتلقيها أرضا وتهشمها من شدة الغضب .. بينما ترك أكرم جيهان وذهب نحو راندا الذي جرها من معصمها والقاها كالقمامة خارج القصر من بوابته الجانبية وهو يلفظها بشتائم حادة .. فظلت تصرخ بهيستيرية وبكاء على الطريق الجانبي للقصر، ثم اغلق بوابة القصر مرة أخرى دون أن يعير لصراخها أدنى اهتمام !.
وعاد لجيهان وهو لا زال يتمتم بالشتائم بغلظة واحتقار ، وتساءلت جيهان في نفسها سؤالًا حيرها ، هل هذا تعامله مع امرأة كان يحبها سابقا أن كان يحبها بالفعل حقاً؟!
وعندما وقف أمامها أكرم كانت شاردة كليًا رغم أنها تنظر له تمامًا ! .. وحينها أخذها إلى جناحهما قائلًا بشيء من المرح :
_ أعتبري اللي شوفتيه ده كأنه ما كان .. لأن أنا معتبره ولا شيء ..
وحالما دخلا لجناحهما الخاص بالقصر وقفت قائلة ببعض الدهشة :
_ أول مرة أعرف أن خطوبتكم كانت كدبة ومتفق عليها !! .. أنت ما قولتليش كده خالص !.
تنفس أكرم بحدة وأجاب بمنطقية :
_ لأني لو قولتلك كان هيبقى سؤالك كله عن الأشاعات اللي ملحقاني وكانت السبب في الخطوبة المزيفة دي ومكنتيش هتصدقيني ، الإشاعات دي عشان أكون صادق كان في منها حقيقي .. ولكن لو كان ده اتأكد كنت هدخل في مشاكل كبيرة.
لم تفهم جيهان الكثير من قوله فطلبت توضيحا للأمر، فتابع أكرم موضحا :
_ في واحدة ست كانت حطاني في دماغها شويتين تلاتة كده ومصممة توصلي ، المشكلة أن الست دي تبقى متجوزة من رجل اعمال كبير .. أنا مكنتش أعرفها ولا عايز أعرفها ، بس هي اللي كانت مصممة تبقى قذرة وتخون جوزها .. عشان كده الفت قصة حب وهمية بيني وبين راندا واعلنت خطوبتنا .. بعد كام شهر لما قررت انهي الكدبة دي لقيتها منهارة وبتهددني انها هتموت نفسها لو سيبتها لأنها حبتني .. كنت شاكك في كلامها لكن كملت في الخطوبة ونويت اني لو اتأكدت من حبها هتجوزها بالفعل .. هتجوزها جوازة للأستقرار والولاد وبس .. بس اكتشفت حوارها مع أخويا بالصدفة وأنا في المستشفى .. واتصدمت فيها وفيه .. والباقي أنتي عرفاه.
نظرت له جيهان بتمعن وسألته وهي تطلب إجابة صادقة :
_ يعني أنت فعلًا مكنتش تعرف الست المتجوزة دي ؟!
زفر أكرم بغيظ وقال :
_ شوفتي ؟ .. ده اللي كنت عامل حسابه ! ، أنا يمكن كنت زير نساء وبعرف كتير صحيح وما أنكرتش ده، لكن مش لدرجة الستات المتجوزة يعني ! .. بس والله توبت من كل العك ده ، وتوبتي دي من قبل حتى ما أعرفك يا جيهان.
ابتلعت جيهان ريقها وقالت كلمة لأول مرة تخبره بها :
_ مصدقاك ..
ابتسم ببعض الدهشة ، ثم قال :
_ كنت متوقع جدال وعصبية الصراحة ! ..
ابتسمت له وقالت لعيناه بصدق :
_ أكرم .. أنا مستعدة اسمعك واعرف منك كل شيء فات وأتفهم دوافعك وأخطائك .. بس ياريت تقولي كل حاجة ، مش عايزة أتفاجئ بحاجة ما اعرفهاش كل شوية ..
جذبها اليه لتقترب أكثر من تلك المسافة اللعينة بينهما وهمس لعينيها الذي يعشقهما :
_ مافيش حاجة تاني يا جيهان .. كل اللي فات تقريبًا عرفتيه ، يمكن في شوية تفاصيل عن حياتي مع أهلي بس الحقيقة مش عايز اتكلم عنها نهائي .. لأنها كمان مش مهمة بالنسبالك تعرفيها .. بس اللي لازم تعرفيه وتبقي متأكدة منه أن انا ليكي أنتي وبس ..
تبسمت بنظرة عاشقة :
_ أفرض كنا اتقابلنا وأنا لسه متجوزة ؟!
رمقها بحدة فجذبها اليه أكثر بحركة قاسية وقال بتملًك وشدة :
_ من حسن حظي وحظك أن ده محصلش ، وإلا كانت هتبقى مصيبة، حكايتنا كده أحسن وأفضل .. يمكن فيها شوية قسوة ، لكن نهايتها سعيدة .. بس حبي ليكي مالوش نهاية يا جيهان ، حب مليان ونس ودفا .. مستعد اضحي بثروتي وبكل شيء عشان تفضلي جانبي .. لكن مع غيرك انا مكنتش حتى بضحي بوقت فراغي !.
ابتسمت وتوردت وجنتيها، ونظر لها بعاطفة شديدة .. وكانت تعرف ما بعد نظرته تلك .. فأرتجفت بحياء وتركت لقلبها العنان بأن يعشق بحرية بهذا الرجل ..
___________________________________
بدأ العزاء ينتهي تدريجيًا وتقل الأعداد الآتية .. نظرت نوران وهي متشحة بالسواد وبعينان غارقة بالدموع لغرفة أبنها وجميع أغراضه الذي كان يستعملها بنشاط منذ ساعات !
الحياة ليست آمنة أبدًا ولا مضمونة .. ليت الجميع يدركون ذلك !
اغمضت عيناها بقهر وأزدادت وحشة الفراق بقلبها كلما مر الوقت .. وانتبهت لنقر خفيف على الباب فأجابت بصوت به بحة من كثرة البكاء :
_ ادخل.
فتحت فرحة الباب ببطء ونظرت لنوران الجالسة على فراش ولدها الراحل ، وكانت أول مرة تدخل تلك الغرفة فشعرت ببعض الغرابة .. ولكنها دخلت بخطوات هادئة وجلست بجانبها وهي تشعر بالأسف لأجلها وقالت برفق :
_ أنتي مكلتيش خالص من امبارح .. لازم تاكلي عشان تقدري توقفي على حيلك .. قلة الأكل مش هترجع اللي راح.
ارتمت نوران على صدر فرحة بأنهيار وقالت بقهر :
_ مش مصدقة يابنتي اني مش هشوفه تاني .. مش عارفة أصدق اللي أنا فيه.
ربتت فرحة على كتفها برقة ولم تعرف بأي شيء تواسيها ، فـ كلمات العالم أجمع لن تنزع من قلب أم حزن رحيل أحد أبنائها .. فصمتت في حضرة الحزن وظلت تربت على كتفها بحنان ، ثم قالت بعد دقائق :
_ فادي في حالة صعبة أوي ، مش هيقدر يطلعه من الحالة دي غيرك أنتي ، لازم تقوي قدامه وعشانه .
استقامت نوران ومسحت عيناها اخيرا وقالت :
_ عندك حق يابنتي .. بس غصب عني والله ، لكن لو هقوي نفسي مش هيبقى عشان فادي بس ، عشان زايد وعشانك أنتي كمان .
احتارت فرحة هل تخبرها خبر حملها ام أن الوقت غير ملائم تمامًا للأعلان؟! ، فألتزمت الصمت لبعض الوقت ثم قالت :
_ أيوة كده ..يلا بقا تعالي معايا الغدا بيجهز .. وهخلي زايد يجيب فادي هو كمان عشان يتغدى .. ماينفعش تسيبي نفسك للحزن ده ولازم نرضى بقضاء الله.
واستطاعت فرحة أن تأخذ نوران حيث الطابق الأرضي .. والذي كان يوجد بزاوية فيه زايد وبجانبه فادي المنهمرة عيونه بالدموع حزنا وأسفا .. فهمس زايد له قائلًا بتنبيه :
_ والدتك نازلة يا فادي ماينفعش تظهر قدامها كده .. عشان خاطري.
مسح فادي عيناه سريعا واستجمع شتات أمره وحاول أن يظهر بمظهر أكثر ثباتا .. حتى أتت فرحة وبيدها نوران وقالت :
_ هروح استعجل الغدا انتوا ما اكلتوش خالص من امبارح ..
جلست نوران أمام زايد وفادي وقالت على غير المتوقع منها :
_ ده قضاء الله وأنا رضيت بيه ، والمهم دلوقتي أنكم تكونوا بخير ونفضل مع بعض لمة وعيلة .. مش كده يا زايد ؟
كانت تترجاه بعيناها أن يجيب بالموافقة ، فقال زايد بصدق :
_ أكيد ..
ورغم أن إجابته كانت مختصرة ولكنها جعلت نوران تتنفس الصعداء قليلًا ، واستقوى فادي بحديث والدته وشعر براحة لموقفها الجديد نحو زايد .. فقال فادي لزايد بمحبة :
_ ده اللي لازم يحصل يا زايد ، خصوصا أنك خلاص هتبقى أب بأذن الله .
رد زايد وقال له :
_ مش وقته الكلام ده يا فادي .
انشرحت تعابير وجه نوران وقالت :
_ بجد فرحة حامل ... يعني هبقى تيتة قريب ؟
امتلأت عيناها بالدموع وارتسمت ابتسامة على وجهها ، فقال زايد لكي يرحم تلك السيدة المكسور قلبها على ولدها الراحل :
_ بأذن الله .
وعندما أتت فرحة قالت :
_ بعد دقايق هتكون السفرة جهزت .
جذبتها نوران من يدها وقالت بمباركة :
_ ربنا يتملك على خير يا حبيبتي ، لسه عارفة حالًا أنك حامل.
شعرت فرحة بالحرج ونظرت لزايد وتعجبت انه اعلن ذلك الخبر بتلك الظروف ! .. فقالت بتوتر :
_ أنا اكتشفت ده من كام يوم مش من فترة يعني .
تحدثت نوران باهتمام بالغ وقالت :
_ أنا عارفة دكتورة نسا كويسة أوي وشاطرة ، هاخدك ليها عشان نتابع معاها ..
شعرت فرحة أن نوران تحمل شعور بالذنب هائل يجعلها تتجنب حزنها لكي تقدم لهم كل اهتمام ومساعدة ، تفهمت وقدرت ذلك وقالت بابتسامة راضية :
_ طبعا يا أمي ، أومال مين يعني هيبقى جانبي .
نزفت عينان نوران الدموع بألم عندما سمعت كلمة "أمي " ، ولاحت على وجه زايد ابتسامة خفيفة لفرحة حبيبته .. وبدأ يقتنع تماما أن مكوثه هنا وسط العائلة أفضل قرار من الممكن أن يتخذه الفترة القادمة.
______________________________________
همت سمر بتنظيف الشقة وغسل الملابس وتجفيفها بالمنشر .. وكان أمجد يراقبها من بعيد بعينان تملأها الأشتياق واللهفة .. وأكثر ما أسره ابتسامتها التي ارتسمت على وجهها طول الوقت .. تطوف بين أرجاء الشقة هنا وهناك كالفراشة ، السعادة ظاهرة بقوة عليها ..
ابتسمت بعشق وهو يتذكر الساعات الفائتة بينهما ، ولكنه انتبه أنها بدلت ملابسها المبتلة من كثرة التنظيف وارتدت بنطال جينز أنثوي ، وفوقه بلوزة بيضاء دون اكمام ومرسوم عليها رسومات كرتونية ..
بدت بمظهر المراهقات تمامًا .. بدت أصغر سنا بكثير وكأنها عادت تلك المراهقة صاحبة الثامنة عشر عاما .. رؤيتها هكذا جعلته يجن جنونه لأخذها اليه للأبد.
دخلت سمر المطبخ وهي تتمتم مقطوعة غنائية وتتمايل قليلًا وهي تعد كوباين من القهوة حتى ينضج طعام الغداء الذي يطهى على الموقد.
وفجأة شعرت بأنامل تتحرك على اعلى ذراعها فأستدارت مبتسمة ، ثم نظرت لعيناه المليئة باللهفة وقالت :
_ خلصت تنضيف وغسيل وطبيخ .. شوفت مراتك شاطرة وست بيت أزاي!.
كان يقف متكأ بأحدى ذراعيه على عكازه والذراع الأخرى متمسكا بها .. فقال بهمس :
_ وحشتيني ..
اصطبغ وجهها بحمرة شديدة وابتسامة واسعة ، وقالت بمشاكسة لعيناه :
_ في حد بيوحشه حد وهو قدامه ؟!
ابتسم لها بتأكيد ومكر :
_ أنا .. بتوحشيني لو حتى جانبي .. معتقدتش أن الاحساس ده جديد عليا ، اكيد كنت كده من ساعة ما شوفتك .. أصلك تجنني.
ونظر لها نظرة جعلتها تستحي لبرهة ، ثم ضحكت عاليًا وابتعدت عنه قليلا لتستفزه .. واغتاظ أمجد بالفعل وترك المطبخ وعاد لغرفته مقطب الجبين ..
نظرته له سمر بمكر وابتسمت وهي تعود لإعداد القهوة ..
وبعد دقائق ذهبت له بغرفته وبيديها فنجانين القهوة، وضعتهنا على المنضدة وتسحبت عينيها للذي يجلس بالشرفة وظهره اليها في عبوس وصمت .. تحركت خطات اليه، ثم وقفت خلفه ووضعت يدها على كتفه برقة وهمست بأذنه :
_ الغدا فاضله شوية ويجهز بس حضرتلك القهوة بتاعتك زي ما بتحبها.
تنفس أمجد بضيق ونهض مستندا على عكازه ودخل للغرفة دون أن يجيبها، وتعجبت سمر ما الذي أغضبه لذلك الحد ! .. فابتسمت وذهبت خلفه وقالت عندما اسرعت ووقفت أمامه قبل ان يتمدد على الفراش :
_ هتشرب معايا القهوة.
نظر لها أمجد للحظة ثم قال بثبات :
_ مش عايز قهوة ..
تظاهرت بتكشيرة :
_ يعني هتسيبني أشرب لوحدي ؟!
أخفى أبتسامته من المكر اللامع بعيناها وقال بتحكم :
_ وايه يعني ؟!
مطت شفتيها بتذمر كالصغار وقالت :
_ مابحبش أقعد لوحدي !.
ضيق امجد عيناه بغيظ وأفصح :
_ طب ما أنتي من الصبح سيباني لوحدي ..!!
ضحكت سمر وفهمت ما يضيقه ، فأقتربت منه بنظرة ناعمة وقالت :
_ طب أنا أسفة.
نظر لها بصمت وتسللت رغما عنه ابتسامة على شفتيه ، فأخذته وجلسا حول المنضدة وقالت بحماس وهي تضع أمامه فنجان القهوة :
_ هحكيلك كذا موقف ما بينا أيام المستشفى على ما الغدا ما يجهز ..
تركها أمجد تتحدث وظل ناظرا لها بشرود ، ينظر بكافة ملامحها الجذابة بمحبة شديدة ، وقطع حديثها قائلًا فجأة :
_ تقريبا فاضل أسبوع لحد ما أفك الجبس مش كده ؟
تعجبت سمر من سؤاله وأجابته بتلقائية :
_ آه .. بتسأل ليه ؟!
ابتسم بمكر ثم قال بمراوغة وأن كان حديثه بالفعل صادق:
_ عايز اتحرر من القيد ده ، مابقتش قادر اصبر عليه اكتر من كده.
تحدثت بعفوية وقالت :
_ الحمد لله يا أمجد ، ده ربنا قدر ولطف ، بشكر ربنا في كل وقت أنه نجاك ووقفت على رجلك من تاني .. دكتور وجيه قالي أن اخطر حاجة في الحادثة هي فقدانك الذاكرة لأنه خاف لنفسيتك تدمر، بس الحمد لله .. أنا راضية أوي والله.
وتابعت حديثها بجدية :
_ استحمل الكام يوم دول على الجبس وما تحاولش تتحرك كتير عشان مايحصلش مضاعفات احنا في غنى عنها .
نظر لها بتمعن ونظرة ضيقة ثم قال مبتسما :
_ هحاول .
تابعت سمر ارتشاف قهوتها ومواصلة سرد المواقف الماضية أثناء عملهما بالمشفى ، ثم سألته بجدية :
_ أنت مش فاكر أي موقف من اللي حكيتهولك ؟ ولا حتى شيء بسيط ؟
تنهد أمجد بعمق ثم قال :
_ للأسف لأ .. وعشان أكون صريح معاكي مش عارف ممكن افتكر كل اللي فات ولا لأ ، هيزعلك أني أفضل كده ؟
ابتسمت سمر برضا تام وقالت وهي تضم يده بين يديها :
_ أبدًا .. المهم والاهم عندي أن نفسيتك تكون مرتاحة ، مش مهم اللي فات ، المهم اللي جاي.
وابتسما لبعضهما بمحبة، ثم نهضت وقالت :
_ طب هقوم أشوف الأكل أستوى ولا لأ ..
وعندنا نهضت وابتعدت خطوة واحدة، جذبها أمجد بحركة سريعة من يده لتقترب وعيناه القريبة تعترف بشيء ، ... مرت عدة دقائق حتى نهضت سمر وركضت للمطبخ وهي تبتسم ابتسامة واسعة ..
_________________________________
خرجت جيهان من غرفتهما بابتسامة شاردة ، وحالما نزلت عدة درجات وجدت ألصغير عصفور يأتي راكضا ويقول لها :
_ الولية اللي اسمها راندا عايزة الزعامة يا فوشياكيكة ، والرجالة اللي كانوا شغالين وبيستعدوا عشان يبنوا على الأرض اللي جنبنا كلهم مشيوا .. بس هي لسه هنا ومصممة تشوف الزعامة .. ولوحده ، هي قالتلي كده ومستنياه في الأسطبل.
غادرت الابتسامة وجه جيهان وعلت مكانها التكشيرة والحيرة ، فتابع الصغير قائلا :
_ هتقوليله ولا أقوله أنا ؟
ظهر أكرم من خلف جيهان وهو يجفف شعره المبتل بالمنشفة مرتديا زيا رياضي أسود يظهر فتول عضلاته بوضوح وسأل بغرابة :
_ في ايه ؟!!
وكرر الصغير عصفور :
_ راندا مستنياك في الأسطبل ومصممة تشوفك ، كل الناس اللي كانوا برا مشيوا ومافضلش غيرها ..
زفر أكرم بضيق وتمم بنفور :
_ مش هنخلص بقا !!
القى المنشفة على سور السلم ونزل عدة درجات ، فسألته جيهان بعصبية :
_ هاجي معاك.
اسرع أكرم خارجا من القصر وقال مشيرا لها :
_ مافيش داعي ، أنا مش هتأخر ..
وقبل أن تجادله كان خرج من القصر ، فنفخت جيهان بغليان وغيظ شديد ، وظلت دقائق تذرع بهو القصر الداخلي ايابا وذهابا ، وعندما نفد صبرها خرجت متوجهة للأسطبل مباشرة ، وعندما دخلت قصدت أن تصدر خطواتها صوتا لترى ماذا يفعلان بالداخل !
انصتت للصوت الصارخ الصادر من الغرفة الداخلية للأسطبل وسمعت راندا وهي تبك وتقول له :
_ صدقني يا أكرم انا محبتش غيرك ، انا مش عايزة فلوس ولا عايزة أي شيء بس ارجعلي ، انا ما خونتكش مع أخوك غير لما خونتني الف مرة وجرحتني وما اهتمتش لمشاعري نهائي ، كنت مقهورة على نفسي وحاسة اني عايزة انتقم منك على حبي اللي رميته وما أهتميتش .. ده كله كان رد فعل لتصرفاتك .. أنا عارفة أنك مش بتحب اللي اتجوزتها دي ومش فاهمة أيه سبب جوازك منها !
لكن مش مهم .. لاني عارفة أنها مؤقته وزيها زي غيرها .. دي حتى ....
صاح بوجهها اكرم بعنف وقطع حديثها بإشارة حذرة من يده:
_ اياكي تجيبي سيرت مراتي بكلمة على لسانك .. دي مش زيك ولا زي الأشكال اللي كنت كل يوم بعرفها .. وبعدين انا فعلا مش بحبها ..
انشق قلب جيهان وتأكدت من ظنونها وانهمرتدموع القهر من عينيها ، ولكنها تجمدت للحظات عندما انتبهت لمواصلة حديثه وهو يقول بصدق :
_ كلمة حب دي اصغر بكتير أوي من احساسي بيها ، ده عشق ،هوس ،جنون ، او اكتر بكتير .. دي الوحيدة اللي عرفتني ان ليا قلب ممكن يدق ويحب ، دي الانسانة الوحيدة اللي حبيتها وكنت زي المجنون في بعدها عني .. انتي بتقولي أنها مؤقتة !! .. مؤقتة أزاي وأنا باني كل اللي جاي وهي معايا وجانبي .. أمشي يا راندا وما تحاوليش معايا ، أنا في ست واحدة في حياتي ومش عايز غيرها ..
نظرت له راندا بأنكسار واقتربت منه وقالت :
_ يا بختها بيك يا أكرم .. كان نفسي تحبني كده ... أنا همشي وهبعتلك المحامي بتاعي تخلص معاه موضوع الأرض لو حابب تشتريها .. هقفل صفحتي معاك بموقف واحد كويس تفتكرني بيه .. وأوعدك مش هتشوفني تاني.
ركضت راندا من أمامه وهي تشهق بالبكاء ، بينما نظرت لها جيهان وهي تختبئ خلف احدى الجدران بداخل الأسطبل بجمود وصدمة . وعندما كاد أن يخرج أكرم من الاسطبل صرخت جيهان باسمه .. دهش أكرم واستدار سريعا .. ليجدها تقترب اليه بخطوات بطيءة وبعينيها دموع منهمرة بغزارة .. ولكنها ركضت بعد ذلك اليه وارتمت على صدرها ببكاء وعناق عنيف .. ثم نظرت لعيناه وقالت بابتسامة واسعة رغم دموعها :
_ أنا مش مصدقة .. انت كنت بتتكلم عني أنا صح ؟
يعني مكنتش كداب لما قولتلي أنك بتحبني ؟!
تجمد أكرم لوهلة من رؤيتها هكذا ، ولكنها ابتسم تدريجيا وقال بتعجب :
_ بعد ده كله يا جيهان لسه مكنتيش مصدقة أني بعشقك !! .. في كل مرة كنتي بتهربي مني فيها كنت بتجنن ، مش عارف أرجع من غيرك ولا عارف هعيش أزاي ، يمكن كنت عنيف وقاسي في بعض الأوقات .. بس ده لأني لأول مرة في حياتي أحب .. وعارف أن الاحساس ده مش هيتكرر في حياتي تاني ... أنا ما اتمسكتش بأي شيء في عمري زي ما اتمسكت بيكي .. صممت اتجوزك واشكك في حبي ليكي لما شوفت طليقك في كتب كتابنا وظنيت انك بتستخدميني ضده ، ابشع احساس حسيته يومها .. الانسانة الوحيدة اللي حبيتها في حياتي بتحب راجل تاني!!
بكت جيهان بقوة وقالت :
_ وجيه بالنسبالي مكنش حب يا أكرم ، كان هو الانسان اللي دايما واقف جانبي وبيساعدني ومش طمعان فيا وفي فلوسي ، كنت بشوف فيه الصدق والأمان، لكن بعدت واتكلقت منه لنا واجهت نفسي بالحقيقة دي ، لكن انا محبتش غيرك ، وده اللي خلاني أهرب اول مرة لما سمعتك انت وراندا .. كنت مكسورة وكارهة نفسي .. و..
أحاط أكرم وجهها بين راختي يده وهمس بعشق :
_ من النهاردة مافيش بينا شك ولا حيرة يا جي ، من النهاردة أنا بعشقك وهعشقك في كل لحظة هتعدي علينا .. أحنا الأتنين نستاهل الحب ده بعد سنين كتير تعب ووحدة .. أظن من حقنا نعيش بقا ..
ارتمت بين ذراعيه جيهان وضمته بقوة وهي تتنفس بعنق وتنهيدة أمان ... وبعد لحظات حملها برشاقة بين ذراعيها حتى جناحهما ... ونظراته لها كانت تعقد عهدا جديدا من صفحات العشق.