رواية ترانيم في درب الهوى الفصل الثالث 3 بقلم دودو محمد


 رواية ترانيم في درب الهوى الفصل الثالث 


في المساء، اجتمعت العائلة حول طاولة الطعام، حيث جلسوا يتناولون الطعام في صمت تام، وكأن كل فرد فيهم غارق في أفكاره الخاصة، يتجنب النظر في أعين الآخرين. في ذلك الجو المشحون، كسرت ترنيم هذا الصمت بهدوء، وهي تحاول أن تبدو عادية رغم التوتر الذي يحيط بها، وقالت: 
"عمو عبده، عايزة فلوس علشان محتاجة أجيب طقم ضروري لبكرة." 
وقف الطعام في فم سلطان، وتوسعت عيناه بغضب وهو يشعر بأن الأمر قد تجاوز حدوده. نظر إليها بحدة، ثم تكلم بهدوء شديد يغلفه الغضب: 
"ومن أمته وانتي بتطلبي فلوس من حد غيري؟ ليه مقولتيش ليا؟" 
رد فعله كان بمثابة صدمة لجميع الحاضرين في الغرفة. كان لديه انطباع بأن سلطته يجب أن تكون محط احترام، وبأنه الوحيد الذي يملك القرار.
تكلمت بصوت مختنق، شعرت بضغط الكلمة التي تخرج من فمها، وحاولت أن تشرح نفسها: 
"عادي يعني، عمو عبده مش غريب، ده جوز ماما وأبو إخواتي، وفي مقام بابا." 
رد عبدالرحمن بهدوء، محافظًا على تماسك العائلة: 
"مفيهاش حاجة يا سلطان، هي زيها زي إخواتها عندي." 
لكن سلطان، محتدًا، طرق بيده على الطاولة ووجه حديثه للجميع بغضب واضح: 
"لا، فيهااا! أنا قايل مليون مرة هي ملزمة مني أنا، ومحدش يتجرأ يكسر كلمتي، فاااهمين!" 
صوته كان يعبر عن سلطته المطلقة.
وقفت ترنيم أمامه، عازمة على عدم التراجع، وتحدثت بصوت مرتفع تعبر فيه عن اقتناعها: 
"وانا مش حق مكتسب ليك يا سلطان. أنا مبقتش ترنيم الطفلة الصغيرة اللي بتتحكم فيها. أنا دلوقتي عندي أربعة وعشرين سنة، يعني كبيرة كفاية علشان أقدر أخد قراراتي بنفسي. ومن هنا ورايح ملكش كلمة عليا، فاااهم؟" 
وقف سلطان بعصبية، وشعرت ترنيم بتهديده يتزايد حين اقترب منها، لكن عبدالرحمن وتامر، أخيها، قد وقفا أمامه كحائط صدٍ يحميها من بطشه، محاولين السيطرة على الموقف المتجدد. تكلم عبدالرحمن بنبرة هادئة، محاولة منه لإرجاع الأمور إلى نصابها: 
"اهدا يا سلطان، وحدوا الله واقعدوا اتكلموا بهدوء." 
كانت كلماته كنسمة رقيقة وسط عاصفة الغضب.
أخرج سلطان صوتًا من حنجرته، وتكلم بغضب لا يستطيع أن يخفيه: 
"هدوء إيه بعد ما علت صوتها عليا وأتكلمت معايا بأسلوبها الزفت ده؟ ده أنا هكسر رقبتها النهاردة." 
في عينيه كانت تتلألأ شرارات الغضب، وكأن شبحاً من الخوف يتسلل إلى قلبه من فكرة فقدان السيطرة.
لكن ترنيم لم تكن خائفة، بل ردت من خلف ظهر أخيها وزوج والدتها بنبرة تحدٍ: 
"ابقى وريني هتكسر رقبتي إزاي يا سلطان، أنا قدامك أهو، لو راجل قرب مني!" 
كانت تلك اللحظة تحمل كل معاني التحدي والجرأة، مما أعطى للجو احتداماً غير عادي، حيث عادت الأجواء لتهيمن عليها مشاعر القوة التي ينفجر من خلالها التوتر العائلي.
كلماتها أشعلت الغضب داخله وكأنها أشعلت فتيل الغضب الذي كان يكتمه طويلاً، مما دفع كل من تامر وعبدالرحمن بعيدًا عنها. تقدم نحوها بخطوات حاسمة، والشرار يتطاير من عينيه وكأن عاصفة من الغضب تتجمع داخله. صرخ بغضب ليرد على تحديها: 
"لا، ده أنا راجل أوي وهوريكي يا ترنيم."
كانت كلماته تتردد في أروقة الغرفة، وتترك أثرًا عميقًا على من في المكان.
أنهى كلامه، وحملها بين ذراعيه، بغضب طاغٍ، رغم صراخها المستنجدة الذي كان يجلجل في أرجاء المنزل. كانت تعبر عن خوفها بلا خجل، كلماتها المرتبكة تسعى إلى إيقاف ما كان يبدو أنه مصير محطم، لكن سلطان كان في حالة من الانفعال الشديد الذي جعل كل فكرته عن التراجع محطمة.
وقفت صباح، والدته، أمامه كمن يحاول حماية طفلها من عاصفة لا يمكن إيقافها، وتحدثت برجاء مخنوق: 
"أبوس إيدك يا ابني، نزلها. ده عيلة طايشة هتاخد على كلامها برضه، علشان خاطر أمك، نزلها." 
كان صوتها يحمل قلقًا عميقًا، وكأن كل كلمة تنطق بها كانت تحمل ثقل السنوات التي قضتها في تربيته. كانت تمنّي نفسها بأن يتمكن من إدراك خطورته، لكن الغضب كان أقوى من مشاعر الندم التي قد تراود ذهنه.
تكلم بصوت جهوري، والغضب يسيطر عليه، عازمًا على موقفه قائلاً: 
"ابعدي يا أمااا، دلوقتي من قصاادي." 
كانت نبرته تعكس الصراع الداخلي الذي يخوضه، حيث كان يقاتل بين واجب احترام والدته وبين رغبة الانتقام التي كانت متأججة فيه.
تكلمت وفاء، بقلب مرتعش، وعلى شفتيها قطرات من الدموع، وقالت بدموع: 
"علشان خاطري يا سلطان، سيب البت. أنا عارفة إنها مسحوبة من لسانها على طول، بس دي عبيطة وصوت على الفاضي، سيبها يا ابني، بترجاك." 
كان صراخ وفاء كمن يحاول التفاوض مع وحش مقيد، تأمل الأمل في عينيه، عسى أن يرفق بها، ويكف عنه القسوة التي كانت تقترب منها.
صرخ بغضب، وتكاد الكلمات تخرج من بين أسنانه: 
"أقسم بالله لو مبعدوش من وشي دلوقتي، لأخدها في مكان برة، ومحدش هيعرف ليها طريق." 
تعكس كلماته ليس فقط تهديدًا، بل تعبر عن اليأس المتزايد والدمار النفسي الذي لا يمكن تجاهله، حيث كانت الصورة التي رسمها لنفسه كحامي تتلاشى أمام أعين الجميع، ليترك وراءه أثرًا سوداويًا لو استمرت الأمور على هذا النحو.
ابتعدوا جميعًا من أمام هذا الثور الهائج، وبقلوبهم ظلوا يدعون أن يمر هذا اليوم على خير. كانت الأجواء مشحونة بالتوتر، كأن الكهرباء تتراقص في الهواء، بينما كان الجميع يراقب ما سيحدث. كان سلطان يمثل عاصفة من المشاعر المتناقضة، وهو يختفي وراء باب الغرفة، تاركًا وراءه قلقًا لم يُحسم بعد.
دلف سلطان إلى الغرفة وأغلق الباب خلفه بالمفتاح، وأنزل ترنيم على السرير بغضب، وظل ينظر إليها بعيون مشتعلة من الغضب. كان وجهه متجهمًا وكأن هموم العالم قد تجمعت في عينيه، وبينما تحدق هي فيه، كان الصمت الثقيل يسيطر على المكان. تنفس بعمق، محاولًا كبح جماح مشاعره، لكنه ظل محاصرًا بقوة من عاصفة الغضب التي تجتاحه.
تراجعت على السرير بخوف، والدموع تتسابق على وجنتيها، وتكلمت بصوت مرتعش: 
"أنت ناوي تعمل فيا إيه؟ حسك عينك تقرب مني." 
كانت الكلمات تخرج منها كصرخات من أعماق قلبها، تعكس مخاوفها وآمالها المتضاربة في شخصه الذي أصبح بالنسبة لها مصدر أمان وخطر في آن واحد. تحركت ببطء مبتعدة، كأنها تتجنب لهيب النيران المتأججة.
تكلم وهو يجز على أسنانه بغضب وممسك بشعرها بقوة: 
"قولي بقى، أنا لو إيه أقرب منك؟" 
كانت نبرته تعبر عن قلقه الداخلي، كأنه يحتاج إلى تأكيد من نفسها بأن خوفها ليس مبررًا. لكنه لم يستطع تحديد ما إذا كانت كلماتها تعبر عن حب أم عن كراهية، بينما كان عقله يدور في حلقة مفرغة من الأسئلة.
وقف الكلام بحلقها، ونظرت له بخوف وقالت: 
"أنا مش خايفة منك على فكرة." 
كان هذا التصريح يخرج منها بصعوبة، محاوله إثبات قوتها رغم الموقف المأساوي الذي تعيشه. لكن هل كان ذلك صحيحًا؟ هل كانت تستطيع مواجهة هذا العملاق بدون خوف؟ كانت تتذكر لحظاتهم العديدة معًا، لكن قلبها لم يستطع إخفاء الارتباك الذي يسيطر عليها.
تعالت ضحكاته الغاضبة وتكلم بنفاذ صبر:
"يا بنتي، أنتي مقاوحة ليه. لما أنتي جبانة، والكلام بتخرجيه بالعافية، عاملة نفسك عنتر ابن شداد ليه." 
أسلوبه في السخرية كان له وقع مؤلم على مسامعها، وهو يصفها بالجبن، بينما كانت تشعر بالضعف يتسلل إلى روحها. لم تستطيع أن تفهم ما الذي دفعه ليتحدث بهذه القسوة، وكانت تمسك بكرامتها كالأمواج تضرب الشاطئ، تطالب بحقها في الدفاع عن مشاعرها.
نظرت له بضيق، وتكلمت بصوت مختنق:
"أنا مش خايفة منك، علشان عارفة إن عمرك ما هتأذيني، لأنك أنت حمايتي. بس خايفة أكرهك يا سلطان، وده اللي مش هقدر عليه." 
كان هذا الاعتراف يحمل في طياته مزيجًا من الحب والخوف، مشاعر متناقضة تتصارع في قلبها. هل من الممكن أن يتحول الحب إلى كراهية في لحظة؟ كانت تدرك أن هذا التحول قد يحدث إذا استمر التوتر بهذا الشكل. تطلعت إليه بجزع، وكأنها تخشى أن ينتهي كل شيء بطريقة لا ترغب بها.
أغلق عينيه بنفاذ صبر، وتكلم بصوت غاضب يعلوه حزن مكبوت: 
"أنا بجد مبقتش عارف أعمل معاكي إيه. عايزة توصلي لإيه بالظبط؟ إذا كنتي فاكرة نفسك إنك بكده بتستفزيني علشان أرجع في قراري، تبقى بتحلمي، لأن بأفعالك دي بتأكدي ليا أن أنا صح جدًا في قراري ده." 
استقامت بجسدها، وتحركت تجاهه بخطوات واثقة لكنها مثقلة بالألم، وقفت أمامه، ونظرت بعينيه بوجع عميق يكشف عن معاناتها، وتكلمت بصوت حزين مكسور، كأن الكلمات تخرج من أعماق جرحها:
"وحياة حبك اللي في قلبي، لأندمك على كل كلمة قولتها ووجعتني يا سلطان. وزي ما بتستغل ضعفي علشان ترضي غرورك دلوقتي، هتيجي في يوم و تترجاني أسامحك، وساعتها أنا اللي هقولك مش عايزاك. أه هتوجع وهتعذب، بس هياخد وقته وهيخلص، وهتعافى من مرض حبك يا سلطان، وبكره أفكرك." 
أنهت كلامها، ووقفت أمام الباب، وكأنها تتخذ قرارًا مصيريًا، وتكلمت بصوت مختنق يكاد يخنقها بالنبرة العاطفية التي حملتها: "أفتح الباب ده، خرجني يا سلطان." 
وقف مكانه وظل ينظر لها بمشاعر مختلطة من الندم والغضب والخوف من فقدانها، حيث تجولت أفكار عقلية كثيرة حول موقفهما المتأزم. كان لديه أمل أن تعود الأمور كما كانت، لكن في نفس اللحظة، كان يشعر بأنها تتباعد عنه كل ثانية تمضي.
تكلمت بصراخ وخرجت الآلام من أعماق قلبها: 
"أفتح الباب ده بقووولك!" 
كانت كلماتها كالرصاص، تملأ فراغ الغرفة بضغط عاطفي لا يمكن تجاهله.
تحرك سلطان ببطء شديد، كما لو كانت كل حركة تتطلب جهدًا كبيرًا، فتح الباب، وظل واضعًا يده على مقبض الباب، ونظره مثبت على عينيها المحمرتين من كثرة البكاء، حيث كان يمكنه أن يرى في عينيها صورة من الألم والمقاومة، مما جعل قلبه ينفطر.
عقدت ذراعيها على صدرها، ونظرت في الاتجاه الآخر وكأنها تحاول الهروب من واقع لا يمكنها التعايش معه بعد الآن، وقالت بشيء من التحدي: 
"ابعد لو سمحت عن الباب." 
في تلك اللحظة، لم يكن هناك سوى صدى كلماتها الذي ملأ الفراغ بينهما.
ابتعد سلطان عن الباب، وخرجت ترنيم تركض سريعًا إلى شقتهم تحت نظرات الجميع، وكأنها تهرب من عالم لم يعد يحتملها بعد الآن. كانت خطواتها تعبر عن تصميمها على الخروج من كل هذا، في حين كان قلب سلطان يعتصره الألم على فقدانها.
أغلق سلطان الباب مرة أخرى، وجلس على فراشه، وضع رأسه بين يديه، وأخرج تنهيدة حارة، يفكر بما يحدث بينه وبين ترنيم، حيث كانت الكوابيس تلاحقه دون توقف، عائداً إلى اللحظات التي فقد فيها القدرة على حمايتها، وغاضباً من نفسه لأنه لم يكن الشخص الذي تستحقه.
              **********************
مر عدة شهور...

جاء يوم تخرج ترنيم من كلية الطب، وهو يوم انتظره الجميع بفرح وفخر كبير. حضر حفل التخرج سلطان، الذي كان يعدّ نفسه كأبٍ لتلك الفتاة التي رعاها طوال سنوات دراستها، وكذلك والدتها وأخواتها وزوج والدتها وسميه، الذين كانوا جميعاً يتنظرون بفارغ الصبر أن يروا ترنيم تتلقّى شهادتها بجدارة. كانت ترنيم تتألق في فستانها الأبيض الجميل، الذي يعكس روحها الجميلة وتفاؤلها بمستقبلها. بينما كانت تتحرك بخفة وسعادة شديدة، كان ينظر  لها والتعبير عن الفخر بتربيته لها كان يختلط بقلقٍ خفيف في قلب سلطان، يتمنى أن يراها تحقق أحلامها. كانت عينيه تتلألأ بعشقه لها، وكأنه يشاهد نجمًا ساطعًا يحقق طموحاته.
ورغم سعادتها بنظرات سلطان المتأملة والمليئة بالحب، لكنها تجاوبت مع الأجواء المحيطة بها، مما جعلها تتجاهل وجوده قليلاً. فاندفعت بحماس لتحتضن والدتها وابنة خالتها وأخواتها، حيث كان ضحكهم وابتساماتهم هي أفضل ما يمكن أن تُعبر به عن فرحتهم جميعاً. كان الجو مفعماً بالحيوية والبهجة، وفي تلك اللحظة، بدت لهم اللحظات وكأنها تتجمد، وكأن الزمن يقف في صفهم. وقبل أن تحتضن زوج والدتها، كان سلطان يشعر بحاجة ملحة للتعبير عن مشاعره، فتحدث بغضب، عازماً على لفت انتباهها:
"ترررنيم، بلاش احسنلك."
تجاهلت ما قاله لها وكأنها لم تسمع، واحتضنت عبدالرحمن بسعادة، الهواء مليء بالضحك والموسيقى، وكانت اللحظة تتطلب الفرح. ثم ابتعدت عن حضنه واقتربت من سلطان وقالت بشكر وامتنان، كأنها تعرف كيف تجعل كل شخص يشعر بأنه جزء من نجاحها:
"شكرا يا سلطان علشان كنت انت السبب الرئيسي اللي وصلني لهنا. لولاك لا كنت هبقى دكتورة ولا هاخد شهادة أصلاً. لأني لا كنت بطيق الدراسة ولا بحب حاجة اسمها مذاكرة، لكن أنت فضلت ورايا تجيب ليا مدرسين، وتذاكري قبل الامتحانات، وتسهر معايا طول الليل لحد ما وصلتني لبر الأمان. شكرا على كل حاجة حلوة قدمتها ليا."
تنهد بحب وابتسم لها، شعور الانتماء والفخر مليء قلبه، ربَت على يدها وقال:
"أنا فخور بيكي يا أجمل وأشطر دكتوره في الدنيا. مبروك التخرج يا ترنيم."
أبعدت يدها عنه، وكأنه كان يحررها من عبء مشاعر متضاربة، وقالت بابتسامة حزينة تعكس مشاعر الوداع والتحولات القادمة في حياتها:
"الله يبارك فيك يا سلطان، عن اذنك رايحه عند أصحابي."
ظل سلطان يقف هناك، يتأملها وهي تنطلق نحو المستقبل، حيث أحلامها وبدايات جديدة تنتظرها في الأفق.
تحركت من أمامه، مسحت دمعه هربت من عينيها سريعاً، وقررت في هذا اليوم أن تعيشه لها هي فقط. ظلت تتحرك مثل الفراشة بين الأزهار تحت نظرات سلطان العاشقة لها، التي كانت تمزج بين الفخر والقلق. كانت الأجواء مشحونة ببهجة التخرج والمساعي الجديدة، ولكن تلك اللحظة كانت لها طابع خاص. إلى أن رأها تقف مع أحد الشباب، وتحولت نظراته الحانية إلى نيران مشتعلة. قلبه بدأ ينبض بسرعة، وتحرك بسرعة نحوها وكأنه يركض نحو ستار يحجب رؤية غير مرغوب فيها. وضع يده على كتفها وتحدث وهو يجز على أسنانه، صوته يحمل الإثارة والشك:
"هو أنتي بقيتي تصاحبي شباب وأنا معرفش، ولا إيه يا ترنيم؟"
ابتسمت له بتحدي، تضرب مثلاً للجرأة والثقة، وقالت بنبرة واثقة:
"ده سيف صاحبي الانتيم، وساعدني كتير أوي في السنة دي. كان فيه حاجات فهمها ليا مكنتش فهماها."
أغمض عينيه بنفاذ صبر، وبدأ يشعر بكم من الغيرة لا يستطيع كبح جماحه، مد يده وقال بهدوء حذر، صوته يخرج مشبعاً بالقلق:
"أنا سلطان، المعلم سلطان ابن خالتها."
تكلمت ترنيم سريعاً، لتدافع عن صداقتها، وقالت بنبرة غاضبة:
"واللي مربيني وفي مقام أخويا الكبير."
حاول سلطان كبح غضبه، الذي بدأ يشتعل داخله، لكنه لم يستطيع. أمسك يدها بحزم، وقال:
"امشي يلا، خالتك مستنياكي في البيت."
أبعدت يدها وقالت بتحدي، وعزة نفس تعلوها:
"لا، لسه بدري. عايز تمشي أنت، امشي. أنا هقضي اليوم كله مع أصحابي."
اقترب منها وتحدث بصوت هامس وملامح وجهه تحت الحاح الغضب:
"قسماً بالله لو ممشتيش دلوقتي حالاً معايا، لأخليه أسود يوم في حياتك وأنا بصورك قتيل دلوقتي."
ابتلعت ريقها بصعوبة، شعرت بصدق كلام سلطان وتهديده، وخوف يتراءى لها في ظلمات الشك. نظرت له بضيق، وعينيها تريان جوانب من هذا العالم الجديد والمثير. ثم ابتسمت إلى أصدقائها بتوتر، كأنما تواجه محنة غير متوقعة، وتحركت سريعاً إلى الخارج، وتبعها سلطان والجميع، ممسكاً بذكرياتهما المشتركة التي عاشت فيها كل تلك اللحظات كأنها كتبت بفخر وحب، ولكنه كان يعرف أنه يحمل عبءً من الحب يحتاج إلى مواجهة. 
صعدت وفاء مع زوجها وأبنائها بالسيارة، بينما صعدت ترنيم وسميه مع سلطان بالسيارة الأخرى. وعندما أغلقوا الباب، انطلق سلطان بالسيارة بسرعة جنونية، مما أرعب سميه بشدة، حيث ارتفعت ضربات قلبها وبدأت تعتقد أنه ربما يثير حادثاً. ولكن, على الرغم من شدة القلق الذي يعتريها، ظلت ترنيم كما هي، تشعر بلذة الانتصار التي غمرتها بسبب الوضع المتوتر. كانت تعلم أن سلطنة وتأثيره قد يكونا طاغيين، لكنها لم تستطع إلا أن تبتسم في داخلها، فهي تستمتع بكونها في مركز الأحداث مرة أخرى.
بعد فترة من القيادة المتهورة، توقف سلطان بالسيارة أسفل البناية الخاصة بهم في الحارة، ثم تحدث بصوت غاضب مقطعًا الهواء بصرامته: 
"سميه، انزلي انتي واطلعي على البيت على طول." 
نظرت له بتوتر واضح على وجهها، وسألت بتساؤل يطفو على الشفاه: 
"ط طيب، وترنيم؟"
رد عليها بصوت جهوري لا يتساهل: 
"سميه، اتفضلي انزلي يلا." 
لم تستطع سميه مقاومة الشعور بالخوف، انتفضت في مكانها، وكأن أمرًا لم يكن يعبر عن حركتها، وترجلت من السيارة سريعاً في حالة من الارتباك. بينما ظلت ترنيم جالسة بدون أي رد فعل، مستمتعة بصمتها الذي يحمل الكثير من المعاني.
بثبات عينيه، نظر إليها والشرر يتطاير من عينيه وكأنما انفجر بركان غاضب داخل صدره، وتحدث بحذر وكأن الكلمات كانت ستُخرج منه ببطء: 
"قولتلك بلاش تحضني جوز أمك. كسرتي كلمتي وحضنتيه، وكمان اكتشفت إنك مصاحبة شباب في الكلية، يا خي أ***، مقرطساني يا بنت الطلبجي؟" 
ضغطت على أسنانها بغضب، وكأنها كانت تحاول كبح جماح عواطفها الجياشة. نظرت إليه بعينين مليئتين بالشرر وقالت بشجاعة:
"بلاش تقولي الاسم ده علشان هزعلك. ماشي؟ وبالنسبة لجوز ماما، أنت عارف إن بعزه أوي وبعتبره في مقام بابا، الله يرحمه. لأنه طول عمره طيب عليا، ولا عمره زعلني، أما بقى صاحبي اللي بتتكلم عليه، ده لسه عارفه من شهرين من بعد ما أنت انسحبت من حياتي. يعني مش مقرطساك ولا حاجة، وبعدين أنت مالك بحياتي؟ مش ليك أنك توصلني لبيت جوزي زي ما أنت بتقول. يبقى متشغلش بالك. أنا تربيتك وهعرف اختار راجل بجد يصلح يكون جوزي، واللي بالتأكيد هختاره شبهك في كل حاجة. ولما أقول شبهك، أقصد القوة والعناد، العزيمة بتحفزني على الاستمرار، لكن في نفس الوقت هختار شخص يفهمني ويحتويني بطريقة أنت معرفتش تعملها معايا."
أغلق عينيه بغضب وظل يلكم المقود تحت صرخاته المستفزة لصبره. ثم قال بتحذير، ملامحه مشدودة كالسهم:
"أنتي عارفة لو متعدليش يا ترنيم هعمل فيكي إيه؟" 
اقتربت منه بقوة إلى حد الالتصاق، وكأن العزيمة كانت تتجلى في كل حبة من جسدها، ونظرت في عينيه بغضب، وكأنها تحدته، وقالت:
"هتعمل إيه ها...؟ هترهبني جنبك مثلاً؟ ولا تكونش عايز تدوري على العريس بنفسك؟ اهدا يا سلطان، ومتشغلش بالك بحياتي. أنا مش صغيرة، وعارفه أنا بعمل إيه كويس. عن إذنك يا أبيه." 
أنهت كلامها وترجلت من السيارة، دفعت الباب بقوة وكأنها تسقط قيودها في تلك اللحظة. ارتسمت ابتسامة انتصار على ثغرها، وتكلمت بصوت هامس متوعدة له:
"وحياتك عندي، لاندمك على كل لحظة وجعتني فيها يا سلطان." 
ثم دلفت العقار وصعدت إلى شقتهم. أما سلطان، هذا العاشق المجنون، ظل ينظر إلى أثرها بعدم تصديق، وكأن الدهشة كانت تتجلى في عينيه. أهذه الفتاة الصغيرة التي كبرت وترعرعت على يده، متى وأين أصبحت بهذا النضج؟ أخرج تنهيدة حارة وتحدث بغلب:
"شكلها كبرت أكتر ما أنت متخيل يا سلطان." 
أنهى كلامه وترجل من السيارة، تحرك باتجاه مكتبه، جلس على المقعد الموجود أمام الباب، وتكلم بصوت مرتفع، وكأن تلك الكلمات الأخيرة كانت صرخة في وسط عاصفة مشاعره:
"هات الشيشة بتاعتي، أ شلاطة."
وفي ذلك الوقت، جاء مجموعة من الرجال، وقفوا أمامه مثل الجبال، وكل واحد منهم كان ينفث الغضب من عينيه. كان قائد المجموعة، ذو الصوت الجهوري والتصرفات المتفجرة، يتحدث بغضب شديد، وكأن كلماتهم تجسد الرعد في سماء عاصفة:
"دي مش أصول يا معلم سلطان. إزاي تتعدى على دوري في المزاد بتاعي وتخده أنت؟ هو مش المفروض أنا اللي أخده المرادي؟"
أخذ سلطان نفساً عميقاً من الشيشة، متعمداً نفث الدخان في الهواء، وكأنما كان يحاول تهدئة الأجواء، ثم نظر له بعدم اهتمام، أومأ برأسه بإحساس من التعالي، وتكلم بهدوء حذر كأنما هو القائد الذي يسير في ساحة الحرب:
"آه، المفروض أنت اللي تخده، بس أنا بقى مزاجي كده، أخده منك المرادي. ومش المرة دي بس، كل مرة هيكون دورك هخده منك، وأعلى ما في خيلك اركبه."
هذه الكلمات أشعلت الغضب في قلوبهم، وتكلم الرجل بغضب شديد، وكأنما عثر على زلزال يجوب الأرض:
"يعني اللي حصل ده قصد؟ أنا قولت اتلغبط ولا حاجة، بس مدام أخدها عند يبقى العين بالعين والسن بالسن."
أنهى كلامه، وأخرج سلاحه الأبيض هو ومن معه، ووجهه إلى سلطان وكأنما يطالب بالكثير من تعويضات الخسارة. لكن في تلك اللحظة، ابتسم سلطان بطريقة غير مبالية، وكأنما يرسم لوحة غريبة من السخرية. وفي لحظة، ألقي ما بيده بعنف على الأرض، ونهض من مكانه ممسكاً بيد هذا الرجل بعزيمة، لوى ذراعه خلف ظهره كأنه استأنف حفل رقص قاسي، وتكلم بصوت غاضب، كان مجلجلاً وصاعقاً:
"مش سلطان الدسوقي اللي شوية هلافيت زيكم يجوا يرفعوا عليه سلاح في منطقته."
في ذلك الوقت، تجمعوا رجاله حوله، لكن سلطان متبجحاً، تكلم بصوت جهوري قائلاً:
"مافيش داعي يا رجالة، دول شوية نسوان. أنا هقوم بيهم."
أنهى كلامه بضربة رأس قوية في أنف من بيده، كأنما كان يوجه له رسالة حادة. ولما حاول الآخر ضربه بالسكين، تفاداها ببراعة، وركله بالقدم في بطنه بقوة، مما تسبب في سقوطه على الأرض متألماً بشدة. حاول الثالث أن يضربه بالسكين بوجهه، لكنه تراجع للوراء واقترب منه، وضربه بكوعه في ظهره، ثم ركله بقوة ودفعه على الأرض. ثم، وفي تصرف غير متوقع، أخذ السلاح الأبيض وضرب الشخص الممسك به في وجهه، وتكلم بصوت جهوري، وكأنه قائد عسكري يسرد نصراً في معركة ضارية:
كان الصوت يتردد في المكان، موضوعاً نفسه كعلامة فارقة في المنطقة، حيث أدرك الجميع أن سلطان الدسوقي ليس مجرد اسم، بل هو أسطورة تُكتب بأحرف من حديد.
"دي علامة تعرفك مين المعلم سلطان الدسوقي." 
قالها بوجه عابس مؤكدًا على هيبته. 
"اللي إنت دماغك وزتك تيجي ترفع عليه سلاح في قلب منطقته. تحديت القوانين، وصدقت أنك هتقدر تتعدى عليه في حارته. لو انت أبوك راجل، فكر تقرب من الحارة دي تاني." 
تابعت الكلمات تُغلف برودة قاسية. 
"خد شوية الخو*** اللي معاك دول، واتفضل غور من وشي." 
وضع الرجل يده على وجهه بألم، وتحرك هو ورجاله يتوعدون لسلطان بالانتقام منه، لكن بوضوح كان الخوف يتسلل إلى قلوبهم. لقد أدركوا الآن أنهم واجهوا شخصًا ليس مجرد رجل عادي، بل زعيم يمكنه أن يقلب الأمور في لمح البصر. 
كانت ترنيم تتابع هذه المعركة، وقلبها كاد يخرج من موضعه من شدة الخوف على سلطان، لكن وسط تلك الدراما، شعرت بسعادة غامرة وفخر لا يوصف عندما تصدى لهم بكل شجاعة، يثبت لهؤلاء أن سلطان ليس مجرد اسم، بل هو رمز للصمود والقوة. ارتسمت ابتسامة على ثغرها وشغف عميق بقلبها، وعندما وجدته ينظر لها بغضب، أدركت أن ملامح الغضب ليست إلا علامة على حمايته، فدخلت تجري إلى الداخل، متضامنة مع قلقه، محاولة إبعاد نفسها عن الخطر الذي يتصاعد في الخارج.
       ***************************
بالمساء...

صعد سلطان على الدرج، مستشعرًا تعب الجسد الذي يثقل كاهله. في تلك اللحظة، رأى ترنيم تخرج من منزلهما، وهي تغلق الباب خلفها، وعندما لمحته، ارتسمت على شفتيها ابتسامة مشرقة وقالت: 
"عاااش يا وحش، ده انت خليتهم هلهوله خالص."
ابتسم سلطان لكلماتها، وقرر أن يتحدث بنبرة مرحة، تلك النبرة التي لطالما كانت تحبها ترنيم: 
"ده على اساس انك أول مره تشوفيني وانا بضرب حد؟" 
سمع صدى ضحكاتهما يتردد في الأجواء، مما أضفى جوًا من الألفة والسكينة. كان يشعر بمزيج من الحماس والسعادة، وكأنه ألقى عن عاتقه ثقل الأيام العصيبة التي مر بها. 
حركت ترنيم رأسها بالرفض، وأجابته بلمسة من الفكاهة، مستمتعة بحالته: 
"لا، مش أول مره، بس المرادي كنت متألق الصراحة." 
ضحكت مع أنها كانت تشير بشكل غير مباشر إلى الأوقات السابقة التي شهدت خروج سلطان عن طبيعته الجادة، دون أن تدري أنه كان يمر بمرحلة من التحديات الشخصية. 
تعالت ضحكاتهما مع تدفق الأحاديث، وقال بمزاح: 
"عالله تكون الفقرة عجبت حضرت الدكتوره، إحنا تحت أمرها." 
ابتسمت له، وتحدثت بدلع أنثوي يتجلى في صوتها، كأنما تعزز اللحظة: 
"عجبتني جدًا يا هيرو، يا سوبر هيرو." 
كان لهجتها تأسر قلبه، وكأنها تعلن له أنه بطلها الخاص، رغم كل العقبات التي واجهته. تلك الكلمات كانت تُغذي في نفسه شعورًا بأنه ليس فقط ناقلًا للعبء، بل أيضًا مصدرًا للأمان والسعادة. 
تقدم ببطء نحوها، وكان لا يدرك أنه يقترب منها أكثر مما ينبغي، ثم حرك يده برفق على وجنتها، نافذًا في عينيها بنظرة مليئة بالمشاعر، وتحدث همسًا: 
"أنا مش عارف امتى كبرتي وبقيتي ناضجة أوى كده، بس عجبني النضج بتاعك ده أوى. لسه لحد امبارح كنت شايفك ترنيم أم ضفرتين اللي كانت تيجي وتصمم تنام جنبي، وفي حضني. تيجي تترمي في حضني وتديني بوسه على خدي، النهاردة بس شوفتك بطريقة مختلفة، ناضجة وكلك أنوثة، مش عارف بقولك الكلام ده ليه دلوقتي، بس جوايا حاجه بتلح عليا، اخدك في حضني، وأداريكي من عيون الناس كلها."
وكأن الكلمات تتدفق من قلبه، يكشف عن صراعه الداخلي بين حبه القديم لها والتغيرات التي طرأت على مشاعره. 
نظرت ترنيم في عينيه بسعادة، وتكلمت بصوت هامس يجذب القلوب: 
"أنا كبرت من اللحظة اللي انت قربت مني وبوستني يا سلطان. وقتها حسستني أن أنا أنثى مكتملة مختلفة. حسيت وقتها أنك بتحط عليا ختم عشقك وملكيتك ليا، حتى لو مقولتهوش ليا بالكلام، إحساسك وقتها وصلي بوضوح." 
اقتربت منه، وتحدثت بهمس مغوي، عازفة على وتر مشاعره: 
"من وقتها أقسمت أن مش هكون غير ليك، وختم ملكيتك هيفضل ملمسه على شفايفي لحد ما تمحيها بختم تاني بعشق أكبر وجنان أكتر." 
وكأن كلماتها كانت تعبر عن وعد لا يخلو من الشغف، مما جعل قلبه ينبض بشدة. 
تعالت أنفاسه، وشعر وكأن الزمن قد توقف للحظة. كان الجو مليئًا بالتوتر والإثارة، وكل شيء من حوله كان يدعوه لاتهامها، لكن ضميره رفض بشدة. حرب دارت داخله، ولأول مرة عجز عن اتخاذ القرار: قرب أم ابتعاد؟ هل سيتجاهل مشاعره ويتراجع، أم سيأخذ تلك الخطوة التي تخيفه وتجعله يشعر بالحياة؟ كل هذا تحت نظرات ترنيم، التي بادرت بالابتعاد وضحكاتها المتعالية، وهي تتحدث بمزاح: 
"شكلك مسخرة يا سلطان، وانت عامل شبه الشاب المراهق كده. ده أنا طلعت بعرف أثر عليك بشكل كبير بقى، تصبح على خير ياااا أبيه."
أنهت حديثها، وهربت إلى شقتها، أغلقت الباب، واستندت ظهرها عليه، تلتقط أنفاسها. وضعت يدها على خافقها الذي ينبض بشدة، يطالب بإكمال اللحظة، وكأن قلبها يتراقص بموسيقى سريعة من الفرح والتشوق. لكن تردد سلطان من قربه لها جعل كرامتها تتمرد وترفض. ارتسمت ابتسامة خفية على ثغرها وهي تتذكر لمسات أصابع سلطان الحانية على وجنتها، وأنفاسه السريعة الساخنة التي أحرقت وجهها، وهذا القلب الذي لم يتوقف عن الخفقان. كل هذا جعل قلبها يتراقص من شدة السعادة، وكأنها في حلم لا تريد أن تستيقظ منه. ركضت إلى غرفتها، وارتمت على السرير، حضنت الوسادة وبدأت في تقبيلها بابتسامة، كأنها سلطان، وكأن تلك اللحظة لن تنتهي أبدًا.
أما هو، فلم يستطع مغادرة مكانه، محاصرًا بأفكاره، وبتأثير حديثها عليه الذي حفز فيه مشاعر لم يكن يعرف كيف يعبر عنها. لم يكن يدري ما الذي حدث منذ قليل، ولماذا بدا ساذجًا، فالتجربة برمتها كانت تتلاعب به وبمشاعره، وهي تعلم جيدًا حقيقة مشاعره تجاهها. حتى لو لم يبوح لها بها، مجرد وجودها بجواره جعله يشعر وكأنه شاب مراهق يريد الاقتراب منها، لكن بقلق وارتباك. لكن أين سلطان الراعي لها والمسؤول عنها؟ لماذا يترك مشاعره تتحكم به بهذا الغباء؟ ظل يلوم نفسه حتى انتبه إلى حاله وهو يقف أمام باب شقته، زفر بضيق حتى تهدأ ناره المتأججة في صدره، ثم فتح الباب ودلف إلى غرفته، ألقي بجسده على السرير، ونظر إلى السقف، يتذكر اللحظات الأخيرة التي مرت بينهما، لكن ما شعر به لم يكن سوى توهج صدره بنار عشقه لها، وكأن قلبه يتجدد مع كل نبضة من أنفاسها، يذكره بأنها في حياته إلى الأبد.
              ***********************
في صباح يوم جديد، اجتمعوا حول المائدة وبدأوا يتناولون الطعام في صمت مطبق. كانت الإضاءة تتسلل من النوافذ، مشعةً أجواءً دافئة في الغرفة. لكن نظرات ترنيم كانت غير عادية؛ فقد كانت متأملة، تتذكر ما حدث بالأمس عندما عاد سلطان من الخارج، وتلك اللحظات التي أمضتها معه. بينما كان سلطان يختلس النظر إليها. كلما وجدها مبتسمة، كانت نبضات قلبه تتراقص فرحًا، وكأنها تعزف لحنًا خاصًا له وحده. أخيرًا، تكلمت سمية بقلق واضح، وكانت ملامحها تعكس مشاعرها المتضاربة.
“سلطان، ممكن أقولك حاجة؟”
أنصت لها بكل حواسه وأومأ برأسه مقدمًا اهتمامه، عازمًا على تقديم الدعم لأخته التي كان يرى أنها دائمًا ما تضع أحلامها جانبًا:
“قولي يا سمية، عايزة إيه؟”
تنحنحت بتوتر، يشوب عينيها بريق الأمل والثقة، ثم قالت:
“أنا عايزة أشتغل. مش معقول بعد سنين الدراسة دي كلها أقعد في البيت.”
نظر إليها باستغراب وسأل، مندهشًا من إصرارها:
“وهتشتغلي إيه إن شاء الله؟”
أجابته بسرعة، عازمة على توضيح طموحها:
“أكيد يا سلطان، هشتغل بشهادتي مهندسة معمارية. وفيه شركة طالبة مهندسين حديثي التخرج.”
حشو الطعام في فمه وتحدث بنبرة هادئة، محاولا احتواء الموقف:
“وانتي ليه تروحي تشتغلي عند الناس، ما تشتغلي في شركتنا، شركات الدسوقي.”
نظرت إليه باستغراب وأجابت، غير قادرة على تصديق ما سمعته:
“هو أحنا عندنا شركات مقاولات يا سلطان؟”
أومأ برأسه مؤكدًا، وهو يشعر بالفخر بقدرات عائلته:
“أمم... عندنا شركات مقاولات وأي حاجة ليها علاقة بالتعمير. وبصراحة، أنتي أكتر واحدة تستحقي الشغل فيهم.”
ابتسمت سمية بسعادة، وقد أشرقت عينيها بالأمل وأضواء الحماس:
“الله! بجد، أنا فرحانة أوي! أول مرة أعرف هنزل إمتى أستلم الشغل؟”
رد عليها قائلاً، وهو يخطط لأمور الغد في عقله:
“بكرة هكلم حسام يجهز مكان ليكي في الشركة.”
توقف الطعام في فمها، وتحدثت بتلعثم، وقد شعرت بفضول كبير:
“ح حسام مين؟”
أجابها موضحًا، وهو يشعر بالفخر بعلاقته بجاره:
“حسام جارنا، هو مهندس طموح وعنده خبرة كبيرة في المجال.”
تعالت ضحكات ترنيم في أجواء الغرفة، مما جعل الكل ينظر إليها باستغراب متسائلين عن مصدر الفرح المفاجئ في عينيها. كان في ضحكتها شيء من البراءة والجنون، وكأنها تذكرت لحظة عابرة من الماضي، أو فكرة غريبة خطرت ببالها. وعندما انتبهت إلى حالها، تنحنحت بخجل، وجهها يتلون بلون وردي خفيف بينما قالت:
“آسفة يا جماعة، افتكرت حاجة ضحكتني.”
نظرت سمية إليها بضيق واضطراب، استقامت بجلستها وكأنها تحاول استعادة التركيز في المحادثة، قائلة:
“الحمد لله، شبعت. عن إذنكم.”
بدأت تحرك خطواتها إلى غرفتها، لكن شعرت بشغف في عذرها، كأنها تريد أن توضح ما كانت تفكر فيه قبل أن تغادر. وقفت ترنيم بسرعة، مستغلة الفرصة للفت انتبه الآخرين، وصاحت وهي تضحك:
“بت يا سمية، خدي أقولك!”
وقف سلطان أمامها، معبرًا عن جديته بصوت مؤثر:
“تعالي ورايا، عايزك.”
أنهى كلامه بلهجة حاسمة وتحرك نحو غرفته، تاركًا خلفه شعور من الغموض حول ما قد يطلبه منها.
نظرت إلى أثره باستغراب، وهي تبتسم بسخرية، غير قادرة على فهم التغير المفاجئ في تصرفاته: 
“ده ماله ده، ربنا يستر.”
وركضت سريعًا خلفه، بداخلها مزيج من الفضول والقلق. دخلت الغرفة وسألت:
“خير يا سلطان؟ فيه حاجة ولا إيه؟”
نظر إليها بتوتر، وأغلق عينيه ليتحكم في مشاعره المتضاربة. كلما تذكر ما حدث بالأمس، كان يشعر بنار تتوهج داخل صدره، وكأن ذكرى تلك اللحظة تجره إلى أعماق عواطفه المتخبطة. كانت تلك اللحظة بمثابة انكسار في صمته، وذكريات مكبوتة عادت لتخنقه، مما جعل الأرق يضرب على صدره.
كانت تراقبه بنظرات فضولية، تعلم ما يجول في ذهنه، وكأنها تستطيع قراءة أفكاره من خلال عينيه. اقتربت منه وتحدثت بدلال، تلك النغمة التي تحمل مزيجًا من القلق والرغبة في طمأنته:
“مالك يا سلطان؟ قلقتني عليك، أنت كويس؟”
تراجع خطوات إلى الوراء، مفضلاً الابتعاد قليلًا عن الزخم العاطفي المحيط به، وتحدث بنفاذ صبر، وقد بدت كلماته وكأنها تنزلق من بين شفتيه بصعوبة:
“اهدي، الله يحرقك. خليني أعرف أقولك الكلمتين وأخلص.”
تعالت ضحكاتها، ورغم القلق الذي يحيط به، استطاعت أن تجعل الأجواء أكثر خفة. جلست على السرير، وضعت قدمًا على الأخرى وابتسمت بنبرة هزلية، وكأنها تبحث عن طريقة لتخفيف توتر الموقف:
“اتفضل، قول، كل أذان صاغية، يا أاابيه سلطان.”
ضغط على أسنانه بنفاذ صبر وهو يتحدث، وكلمات مثلت عبئًا ثقيلاً على كاهله:
“أنتي حابة تعملي إيه في الخطوة الجاية؟ يعني حابة تقعدي في البيت، ولا أفتحلك عيادة، ولا عايزة إيه؟”
أجابت بنبرة حالمة، عينيها تتألقان بشغف والإصرار يتضح في صوتها:
“عايزاك أنت.”
زفر بضيق وتحدث بنفاذ صبر، محاولًا استيعاب مشاعرها واحتياجاتها:
“ترررنيم.”
تعالت ضحكاتها، ثم أكملت بمرح:
“خلاص، خلاص، بهزر يا عم، متبقاش قفوش كده. بص، يا عم سلطان، أنا إن شاء الله ناوية أشتغل في مستشفى حكومي، آه والله، زي ما بقولك. ليه بقى؟ علشان أنا عايزة أعالج الناس الغلابة، أو بمعنى أصح، الأطفال الغلابة. ولو فتحت عيادة، مش هيكون في متناول الكل، لأن وقتها هيكون فيه مصاريف خارجية، زي تحاليل وأشاعات وعلاج، وليلة كبيرة سعادتك. علشان كده بيلجأوا للمستشفيات الحكومية.”
امتلأت عيون سلطان بالفخر تجاه هذه الفتاة الغير متوقعة. رغم أنها دائمًا مستهترة وأفعالها طائشة، إلا أنها تسعى لعمل الخير ومساعدة الآخرين. ابتسم لها ابتسامة هادئة، وقال:
“المستشفى اللي أنتي عايزة تشتغلي فيها، شوري عليها، ومن بكرة تبدأي فيها.”
استقامت بجسدها، واقتربت منه، وربتت على صدره بحب:
“يسلملي سبعي، يا رب.”
أغلق عينيه وتحدث من بين أسنانه:
“هو أنتي مينفعش تكملي لحظة العقل دي أكتر من كده؟”
تعالت ضحكاتها وهي ترد بدلع:
“الله، وأنا عملت إيه بس يا سلطان؟”
رد عليها بغلب قائلًا:
“قولي، هو أنا معلمتش إيه فيك يا غلب سلطان.”
ظلت تضحك بشقاوة، بينما نظر إليها سلطان بعشق خالص. لكنه شعر أنه سوف يفعل شيئًا مجنونًا يندم عليه، فتوجه بسرعة إلى الخارج وتركها. كان قلبه مليئًا بالتردد بين عواطفه ورغباته. 
نظرت إلى أثره بسعادة، محتفظة بابتسامتها العذبة، تشعر بلذة الانتصار وهي تلعب على أوتار قلبه بكل سهولة تعزف نغمة لا يستطيع سواها قراءة ما بين سطورها. وكأن كل كلمة نطقتها كانت تعيد لها مزيج الحماس والحنان.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1