رواية الراتل الفصل الثالث 3 بقلم اسماء ايهاب


 رواية الراتل الفصل الثالث بقلم اسماء ايهاب



أسرعت كنزي تهرول نحو الباب ، تحاول غلق حقيبتها بأنامل مرتجفة ، عيناها المرتهبتان بالخوف تفيضان بالدموع بلا توقف ، كانت قد تلقت اتصالًا من داوود يخبرها أن زوجها حمزة تعرض لحادث ، ويمكث في شقة أخيه ، لم تنتظر هي أن يخبرها المزيد من التفاصيل بل أسرعت ترتدي ثيابها لتذهب للاطمئنان عليه .
خلفها ، كانت رحيل تحاول ارتداء عباءة سوداء تخص كنزي لتخفي ملابسها الغجرية ، بعد أن أصرت أن ترافقها خشية أن يصيبها مكروه ... أو لعلها فقط أرادت رؤيته للمرة الأخيرة .
خرجتا من المنزل ، وعلى الفور بدأت كنزي تشير إلى سيارات الأجرة المارة أمامها ، حتى توقفت إحداها ، أسرعت بالصعود ، وتبعتها رحيل ، التي كانت تحاول أن تهدأ من روعها ، وتبث فيها الطمأنينة على زوجها . في حين أن رحيل كانت تشعر بمعدتها تنقبض من شدة التوتر ، ودقات قلبها تتسارع إلى حد الألم ، تحاول قدر الإمكان ألا تظهر اضطراب مشاعرها الهوجاء .
توقفتا أمام البناية ، بعد أن غادرت السيارة ، التفتت كنزي إلى رحيل سريعًا تهمس بتحذير قبل أن تخطو إلى الداخل :
_ رحيل ، أوعي تغلطي و تجيبي سيرة اني حامل .

أومأت إليها رحيل بهدوء ، وقد تبادلتا الحديث البارحة حتى أشرقت الشمس وعلمت عنها تخفي خبر حملها عن زوجها لسبب لم تذكره أمامها ، ولكنها احترمت خصوصيتها ولم تسأل عن السبب ، بل غيرت مجرى الحديث و أخذت تخبرها عن حياتها السابقة وكيف هربت من عشيرتها قبل زفافها ، واتفقتا أن تعمل رحيل لديها في صالون التجميل ، ورحبت بها في منزلها إلى أن تدبر أمورها .
استفاقت رحيل من شرودها حين فُتح الباب ، وأطل منه داوود بهيئته المهيبة ، توقفت أنفاسها لثوانٍ من شدة توترها بحضوره المربك .
أسرعت كنزي إلى الداخل لترى زوجها ، بينما وقفت رحيل أمام الباب تحدق بداوود بصمت ، يُخفي خلفه عاصفة من المشاعر الثائرة داخل صدرها .
أما هو فقد شغلت تفكيره عيناها من جديد ، يحاول التركيز متى رآها ، وحين لم يتعرف عليها ، تنحنح بخشونة فقطع راحتها بالنظر إليه ، لتشيح بيصرها عنه حين هتف بصوته الأجش مشيرًا إلى الداخل :
_ اتفضلي ، أدخلي 

أومأت برأسها بارتباك ، وخطت بخطى مرتجفة إلى الداخل حين أزاح جسده من أمام الباب ، بحثت بعينيها عن كنزي ، فوجدتها تجلس على طرف الأريكة جوار زوجها تضمه إليها بحنو تطمئن نفسها أنه بخير ، ثم انفجرت في البكاء من شدة ما يعتريها من قلق عليه .
اتسعت ابتسامة حمزة ، يمرر يده على خصلات شعرها البرتقالية ، حاول طمئنتها حين قال بهدوء :
_ انا كويس يا حبيبتي ، اهدي .

ابتعدت عنه قليلًا ، عيناها تتفحصان جسده بقلق حتى مدت يدها إلى ذراعه المصاب المعلق بالحامل القماشي ، تهمس بصوت باكي :
_ اية اللي حصلك ، حادثة اية ؟

تغضنت ملامح وجهه بالحزن ، تنظر إلى ذراعه المصاب ، قائلًا مصطنع البراءة :
_ كنت بنقذ قطة عربية كانت هتخبطها ، وقعت على ايدي و مش قادر احركه زي ما انتي شايفة كدا .

رأى تأثرها بحديثه ، ليتأوه بألم لكى يثير شفقتها أكثر ، فمدت يدها تمسد على كتفه ، ثم قالت بحزن :
_ ألف سلامة عليك يا حمزة 

أمسك بيدها يقبل باطن كفها بحب ، ثم هتف مستغلًا مشاعرها المرهفة :
_ الله يسلمك يا حبيبتي ، اية رأيك نرجع بيتنا عشان ارتاح اكتر ؟

أومأت إليه ، ووقفت عن الأريكة تعاونه على النهوض ، ما أن وقف حتى رأى رحيل تنظر إليهما بهدوء ، شملها بنظرة سريعة قبل أن يبتسم لها ، قائلًا بترحاب :
_ اشلونتش ، ايش اخبارتش ؟

تحدث بلغة خليجية لفتت انتباه الجميع إليه ، وأشارت رحيل إلى نفسها وكأنها تسأله أن كان يقصدها بحديثه ، ليهز رأسه بإيجاب متسائلًا :
_ مش خليجية بردو ؟

نظرت رحيل إلى العباءة التي ترتديها التي كانت تشبه ملابس نساء الخليج ، لتبتسم نافية برأسها ، قائلة :
_ لا ، مصرية .

زجرته كنزي بنظرات حادة حتى يصمت ، فأشار إلى رحيل مجددًا ، ثم تحدث مفسرًا بمزاح :
_ هيبة العباية بس ، حسيت انها مرات ابو نواف مستنية ريالها في المطار . 

ضحكت رحيل على مزحته ، بينما ضربت كنزي على ذراعه السليم محذرة من مزاحه الثقيل ، عندها تقدم داوود منها ، متحدثًا بحدة :
_ خف يا ظريف .

أعتذر حمزة لرحيل على الفور يصطنع الخوف من نظرات داوود الحادة ، التفت إليها داوود ، ثم تنحنح يلفت انتباهها له ، رفعت رأسه تنظر إليه بخجل ، ليسأل بهدوء وصوت خافت :
_ هو احنا اتقابلنا قبل امبارح ؟ شوفتك قبل كدا ؟

ابتلعت ريقها بصعوبة ، تسارعت دقات قلبها من جديد وشعرت بحبات العرق بدأت تتجمع على عنقها ، لكنها نفت برأسها ، تهمس بصوت بدا مرتبك :
_ ابدًا ، امبارح كانت أول مرة نشوف بعض .

ضيق عيناه عليها بشك من ارتباكها ، ثم دس يده بجيب بنطاله يُخرج بطاقة تعريف شخصية يمد يده إليها ، قائلًا بهدوء :
_ دا الكارت بتاعي ، لو احتاجتي حاجة كلميني .

أخذت منه البطاقة ، وكادت أن تشكره ، لكن قاطعها صياح كنزي :
_ اية الدم دا يا حمزة ؟!

رفعت يدها التي تلطخت بالدماء ما أن حاولت نزع الحامل القماشي عن ذراعه ، ظهر التوتر على ملامح حمزة ، وتحدث بهدوء :
_ استني هفهمك 

انحنت تسحب منديلًا ورقيًا عن الطاولة ، تمسح عن يديها الدماء ، ثم ألقت المنديل على الأرض ورفعت رأسها تنظر إليه بغضب شديد ، ودفعته بكتفه بقوة وكأنها تخرج ما عانته من قلق وخوف حتى وصلت إليه ، تصرخ بعصبية :
_ انت مصمم تدمر مستقبلنا ، ربنا ياخدك يا حمزة 

أخذت حقيبتها التي سقطت على الأرض ، علقتها بكتفها قبل أن توليه ظهرها متوجهة نحو الباب ، وأمسكت ذراع رحيل تهتف :
_ يلا يا رحيل نمشي

تبعتها رحيل متعجبة من تغيرها المفاجئ ، ما أن أغلقت الباب خلفها بعنف حتى صاح حمزة بضيق مشيرًا نحو باب غرفة شقيقه :
_ صحي دكتور البهايم اللي قالي الجرح مش هينزف تاني 

ضحك داوود بسخرية ، وتوجه نحو غرفة صهيب يطرق الباب بقوة ، يهتف بصوت مرتفع :
_ قوم يا صهيب ، شوف اخوك دراعه بينزف .

ما أن سمع إجابة صهيب عليه حتى توجه إلى الغرفة المجاورة يقتحمها على أخيه الذي يغرق بالنوم ، تقدم منه يهزه بعنف نظرًا لنومه الثقيل ، قائلًا :
_ إلياس فوق ، خلينا نفطر و ننزل كلنا هنعدي على الشركة و بعدين نروح بيت العيلة عمتك قلقانة علينا .

تأفف إلياس بضيق ، وأخذ الوسادة يضعها على رأسه ، قائلًا بصوت ناعس :
_ طب حد يعملي قهوة على ما اقوم 

ظهر التهكم على ملامح وجه داوود قبل أن يتحدث ساخرًا :
_ تحت امرك يا جلالة الملك .

ليسحب الوسادة بعنف ، قائلًا بحدة :
_ قوم يا ابن ابوك متخلنيش اقل منك 

انتهى حديثه وجذب ذراع أخيه حتى يبتعد عن الفراش ، وما أن تأكد أنه استفاق حتى تركه و غادر الغرفة ليرى حمزة الذي ينزف بالخارج .

***********************************
توقفت سيارة داوود أمام منزل العائلة ، منزل حديث الطراز ، مطلي باللون الرمادي الهادئ ، يتوسطه باب خشبي عريض ، يعلوه شرفات انيقة لثلاث طوابق ، ولافتة صغيرة من المعدن محفور عليها "آل القاضي" . ترجل إلياس أولًا ، وفتح الباب بهدوء ودلف إلى الداخل وتبعه داوود ، وأبناء عمه .
كانت في استقبالهم عمتهم "السيدة لقاء" معاتبة على غيابهم عن المنزل بالأمس ، منذ أن تعرضت لحادث سير أسفر عن استئصالها للرحم ، وهي تعتبر جميع أبناء اخواتها هم بمثابة أبناء لها ، وهم يحيطونها بالمحبة تعوضها عما فقدته .
توقفت أمام حمزة ، تنظر بفزع إلى ذراعه المصاب المعلق بحامل قماشي ، ثم هتفت بصوت مرتجف من شدة ما تشعر به من خوف :
_ اية اللي حصل لدراعك يا حمزة ؟

ابتسم حمزة ، وتقدم منها ، يقبل رأسها بحب قبل أن يتحدث بهدوء :
_ متخافيش يا حبيبتي وقعت على ايدي بس مش اكتر .

تنهدت بقوة تضع يدها على صدرها ، لتربت على كتفه بحنو ، قائلة :
_ ربنا يحفظكم يا حبايبي 

جلس حمزة جوار داوود الذي أخرج هاتفه وهم بإجراء اتصال بشقيقته نغم ، وقبل أن يضغط على زر الأتصال وجدها تفتح باب الشقة ، وتدخل بابتسامة مشرقة تبعث في نفسه الطمأنينة . 
أشار لها بيده ، فاندفعت سريعًا نحوه تجلس إلى جواره من الطرف الآخر ، تدس نفسها بين ذراعيه تحتضنه بشدة ، وقتها هتف إلياس بضيق :
_ على فكرة أنا كمان موجود 

التقطت أذنها صوته المنزعج ، لتبتعد عن داوود تنظر إلى نظراته الغاضبة وغيرته الطفولية من أخيه ، وكأنها تفضل أحدهما عن الآخر ، تقدمت نحوه جلست على يد المقعد خاصته ، وانحنت تقبل وجنته بحب ، ثم رفعت يدها وأشارت إليه بحديث لم يفهم بعضه ، و لكنه فهم ضمنيًا ما تعنيه ، ليحاوط خصره بذراعه يضمها إليه ، قائلًا :
_ و انا بحبك يا نغومة 

ختم جملته وقبل وجنتها بحب ، في حين خرجت السيدة لقاء ، وتقدمت اتجاه داوود ، متحدثة بلطف ورجاء :
_ داوود تعالي يا حبيبي شيل معايا عمك "عزت" حطوا على الكرسي 

أومأ إليها داوود ، ووقف عن الأريكة متقدمًا من غرفة عمته ليساعد زوجها في الجلوس على مقعده المتحرك الذي أصبح ملازمًا له ، منذ أن تعرض مع زوجته لحادث سير جعله مصابًا بعجز كامل في ساقيه .
حمله داوود ووضعه بالمقعد بهدوء ، ليبتسم له الآخر قائلًا بامتنان :
_ تسلم يا داوود بتعبك معايا 

ابتسم داوود يربت على كتفه قبل أن يدفع المقعد نحو الخارج ، قائلًا :
_ و لا تعب و لا حاجة يا عمي 

دق جرس الباب تتبعه طرقات متتالية كقرع الطبول ، علم الجميع هوية الطارق ، فتقدمت السيدة لقاء لتفتح الباب ، وظهر من خلفه عزيز يبتسم ابتسامته المعهودة ، رحبت به بتهليل قائلة :
_ اتفضل يا عزيز ، نورت يا حبيبي 

جلس عزيز بعد أن ألقى التحية على الجميع ، لم تفارق عيناه طلتها المميزة ، كلما ابتسمت ازدادت ابتسامته تلقائيًا ، لكن قاطع تأمله بها والغوص في تفاصيلها المحببة لقلبه صوت السيدة لقاء ، توجه لها الحديث متسائلة :
_ خطيبك جاي يا نعم ؟

أومأت نغم إليها تشير بيدها أنه في الطريق ، فتبدل وجه عزيز بغضب ، وتحركت ساقه اليمنى بحركات هستيرية تدل على مدى عصبيته ، أشاح بنظره عنها غاضبًا لتقابله نظرات حمزة الخبيثة الذي تجاهلها بكل سهولة . 
وبعد دقائق قليلة رن جرس الباب للمرة الثانية ، فوقفت نغم لكى تفتح الباب لخطيبها ، تحت نظرات عزيز النافرة .
ظهر من خلف الباب "بكر" خطيب نغم بقامته الطويلة ، وجسده النحيف بعض الشيء ، خصلات شعره التي تكاد تلامس عنقه ، وبيده باقة من الورود البيضاء ، ابتسم لها ومد يده إليها بالورود ، ثم قال بصوت خافت :
_ وحشتيني 

رغم صوته الخافت إلا أن استمع إليه عزيز الذي ينصت إليه ، وحمزة الذي ابتسم بشماتة ، وهمس مازحًا :
_ الملعب ولع ، الملعب ولع 

حدجه عزيز بغضب ، وهمس من بين أسنانه المطبقة بعصبية :
_ حمزة !

أشار حمزة إلى نفسه ، يقول بلا مبالاة :
_ هو انا وجهتلك كلام ؟ 

ضم عزيز شفتيها حتى لا يسبه بألفاظ نابية ، عندها طلبت السيدة لقاء من الجميع التوجه لغرفة الطعام ، لتناول الطعام الذي اعدته لهم بكل حب .
جلس الجميع على طاولة الطعام يتناولون العشاء في هدوء ، عدا عزيز الذي يكاد يحرق "بكر" بنظراته الغاضبة ، تتأجج داخله نيران تلتهم روحه ، يود لو يمكنه ابراح هذا الأحمق ضربًا حتى تزهق روحه بين يديه وينتهي الأمر .
انتهى العشاء على خير دون أن يأكل هو لقمة واحدة ، كان منشغلًا بمراقبتهما عن كثب ولم يبالي بأحد ، عاد الجميع إلى الردهة لاحتساء الشاي الساخن ، لكن نغم أخذت بكر ليقفا بالشرفة القريبة ذات الزجاج الشفاف حتى يتحدثا مع بعضهما قليلًا ، تابعتهما أعين عزيز المشتعلة ، يراقب إشاراتها حتى يعرف ما تتحدث به معه ، حينها جلس حمزة إلى جواره ، يهمس بصوت خافت مشيرًا بعينه إلى الشرفة :
_ روح ترجمله هي بتقول اية مش اتعلمت لغة الإشارة عشانها .. قصدي عشان تفهمها ، روح ساعد الراجل يمكن مش فاهمها .

اشتدت ملامح عزيز حدة ورمقه بغضب قبل أن يدفعه بكتفه حتى يبتعد عنه ، لكن لم يتزحزح حمزة إلى أي مكان بل ضحك بخفة ، ومد يده يلمس كتف عزيز سرعان ما انتفض مبتعدًا عنه ، قائلًا :
مش تقول انك في درجة الغليان ، اتلسعت .

سبه نابية خرجت من فم عزيز بصوت خافت ، وكاد أن يبدأ بتوبيخه ، لكن اوقفه صوت حمزة يصدح من جديد يتحدث إلى صهيب ، قائلًا بمزاح :
_ كوباية ماية يا صهيب ، احسن شامم ريحة شياط ، صاحبنا قرب يطلع دخان من ودانه .

عندها هب عزيز واقفًا بعد أن أزاح جسد حمزة بعنف غير مبالي بإصابته ، توجه نحو باب الخروج بخطى سريعة تحت تعجب البعض من ذلك ، توجه صهيب نحو شقيقه يقوم بتقريعه على ما فعله ، لتزداد ضحكة حمزة الخبيثة ، قائلًا بتوعد :
_ و ربنا ما هحله إلا لما يفوق لنفسه ، و يطفش العيل الطري اللي جايباه نغم دا 

***********************************
وضعت نهال كوب من عصير البرتقال على المكتب أمام كنزي التي ترتجف من شدة البكاء ، كان من الممكن أن تفقده إلى الأبد ؛ بسبب إصراره في خوض هذا الدرب المليئ بالمخاطر ، ربتت رحيل على كتفها تحاول تهدأت بكائها ، تهمس بحنو :
_ أهدي يا كنزي ، أنتي حامل كدا هتتعبي .

رفعت كنزي رأسها إلى الأعلى تلتقط أنفاسها المسلوبة من شدة شهقاتها المكتومة ، تهمس بصوت مرتجف :
_ مش قادرة اسيطر على نفسي ، انا خايفة عليه الغبي دا ، فاكر انها لعبة .

عقدت نهال حاجبيها بعدم فهم ، وجلست القرفصاء جوار مقعدها ، تسأل مستفهمة :
_ خايفة عليه من اية يا بنتي ، مش قولتي انها حادثة .

ابتلعت كنزي ريقها بصعوبة ، ورفعت يدها تزيح دموعها عن صفحات وجهها المتوهج بالاحمرار ، تهمس برجاء :
_ الموضوع كبير اوي يا نهال ارجوكي مش عايزة اتكلم فيه .

أومأت إليها نهال متفهمة ، تنهدت بقوة ، ومدت يدها تمسك بكوب العصير تضعه بيدها ، قائلة بهدوء :
_ طب اشربي و أهدي ، ريهام جت و لو شافتك كدا هتشمت جامد ، انتي عارفة كل شوية تيجي تشوف علاقتك عاملة ازاي بحمزة .

تأففت كنزي بضيق ، ووضعت يدها على رقبتها حين شعرت بالاختناق يداهمها من وجود تلك الفتاة ، التي كانت تنافسها على قلب حمزة في الجامعة ، فقد كانتا في الفرقة الأولى وحمزة الذي كان في سنته الأخيرة ، حاولت ريهام لفت انتباهه مرارًا في عدة مواقف مختلفة ، في حين كان هو من يحاول لفت انتباه كنزي ، وهذا خلق عداوة باطنة في نفس ريهام والتي أصبحت تتبع حياتهما بنفس حاقدة .
ارتشفت كنزي القليل من الكوب ، ثم وضعته محله ، ووقف عن المقعد متوجهة نحو المرحاض الملحق بمكتبها تستعد لمواجهة سخافة الأخرى .
خرجت بعد فترة قصيرة من المرحاض تجفف وجهها بمنشفة صغيرة ، ثم التفتت إلى نهال تتحدث بهدوء مشيرة نحو رحيل الساكنة :
_ نهال ، خدي رحيل وريها المكان و عرفيها كل حاجة ، هي بتعرف تعمل ماسكات طبيعية للجسم .

أومأت نهال ، وأخذت يد رحيل تغادر الغرفة بهدوء ، 
تبعتهما كنزي إلى الخارج ، لتقابل ريهام التي كانت تجلس على المقعد أمام مرآة عريضة تنتظرها ، رحبت كنزي بها بحفاوة قبل أن تتحدث ريهام بحماس ، وابتسامة واسعة :
_ خطوبتي الاسبوع الجاي ، و جاية اظبط شعري و ظوافري 

_ مبارك يا حبيبتي 

قالتها كنزي مبتسمة ، لتتحدث ريهام من جديد :
_ طبعًا انتي و حمزة معزومين على الخطوبة ، انا حاولت اكلم حمزة بس هو مبيردش خالص 

تلألأ المكر في عينيها الخضرواين كشرارة تخبئ خلف ابتسامة لطيفة على ثغرها الوردي ، واردفت بهدوء :
_ بقولك اية كلميه كدا من فونك و اديهولي اعزمه 

التقطت كنزي نظراتها الماكرة ، لتتوسع ابتسامتها قائلة :
_ انا هقوله يا حبيبتي متتعبيش نفسك 

نفت ريهام برأسها ، و هتفت بإصرار :
_ لا ازاي لازم اعزمه بنفسي ، كلميه دلوقتي خليني اعزمه 

كانت تعلم أنها ترغب في رؤية خلاف بينها وبين زوجها لذا أخرجت الهاتف من جيب بنطالها الخلفي ، وأجرت إتصال هاتفي بزوجها ، ليأتي إليها رده بعد لحظات فقط ، يتحدث بلهفة :
_ كنت عارف إني مش ههون عليكي و هتتصلي تتطمني عليا .

قبضت على كف يدها حتى لا تصيح به غاضبة ، كظمت غيظها منه ، وابتسمت متحدثة بهدوء :
_ ايوة يا حبيبي ، ريهام عندي و حابه تعزمك على خطوبتها ، انا قولتلها هقولك بس هي مصممة تكلمك 

ضحك متهكمًا على حاله كان يعتقد أنها تهاتفه للاطمئنان عليه بعد أن تركته وذهبت ، ليتحدث ساخرًا :
_ اه ريهام ، مش عشان تطمني عليا يعني ، اديلها التليفون 

فتحت مكبر الصوت حتى تستمع لِمٓ سيدور من حديث بينهما ، وما أن فعلت حتى تحدثت ريهام بصوت هادئ رقيق :
_ ازيك يا حمزة اخبارك يا بني وحشتني و الله 

أغمضت كنزي عيناها تحاول السيطرة على غضبها من نبرتها التي تحولت فورًا ، وحديثها الغير مقبول لها بالمرة ، لكن جاء صوت حمزة من الطرف الآخر يجيبها بإيجاز جعلها تبتسم على حسن تصرفه :
_ الحمد لله ، مبارك الخطوبة 

عبثت ريهام بغنج في خصلات شعرها السوداء القصيرة ، ورفعت رأسها تراقب انفعالات كنزي بكل خبث ، قائلة :
_ ميرسي يا حمزة ، الخطوبة يوم الاربع الجاي ان شاء الله ، أوعى تتأخر هستناك .

لم تتحمل كنزي أكثر وقررت التدخل حتى تمنع ذهابه إلى ذلك الحفل ، لتضرب جبهتها بكف يدها مصطنعة الأسف قائلة :
_ اوه ، دا حمزة عنده شغل مهم جدًا يوم الاربع و هيضطر يسافر .

ابتسم حمزة باتساع حين افطن أنها تفتح مكبر الصوت وتستمع إليه ، ففضل اغاظتها وأثارة غيرتها أكثر ، إذ قال بهدوء وقد تبدلت نبرته بأخرى أكثر لينًا ولطف :
_ لا يا حبيبتي ، هأجل الشغل عشان خاطر ريهام ، احنا عندنا كام ريهام يعني 

ابتهج وجه ريهام وضحكت بسعادة ، وهتفت شاكرة :
_ شكرًا يا حمزة بجد ، مستنياك 

ابتسمت كنزي باقتضاب واستأذنت منها لدقيقة ، ما أن ابتعدت حتى امتعض وجهها وظهر الغضب جليًا على ملامحها ، ثم همست من بين أسنانها بضيق :
_ يعني اية احنا عندنا كام ريهام ، ريهام بقت حد مهم في حياتنا امتى يعني مش فاهمة !

كبح ضحكته بصعوبة متخيلًا شكلها الغاضب الآن، ليتحدث بهدوء مدعي البراءة :
_ اية يا حبيبتي بجاملها ، معرفش إنك هتضايقي كدا 

أشتعلت نيران غيرتها تلتهم قلبها ، وتوقفت تلتقط أنفاسها بصعوبة من شدة الغضب ، قائلة
_ يا سلام ، حمزة بطل اسلوبك دا ، و اية الرقة اللي نزلت عليك مرة واحدة دي 

_ مفيش في دنيا حد ياخد مكانك يا حبيبة عمري .

كان هذا رده الهادئ على غضبها المشتعل ، لتزلزل تلك الجملة البسيطة كيانها ، وأخمدت نيرانها المستعرة ، فاستكانت بهدوء تستشعر صدق جملته ، ليتابع هو الحديث يردف بهدوء :
_ كنت بنكشك مش أكثر ، لا ريهام و لا ألف زيها يهزه شعرة واحدة فيا .

اغرورقت عيناها بالدموع ، تود لو تلقي بنفسها بين ذراعيه يغمرها بحبه وحنانه ، حين طال صمتها علم بالصراع الذي يدور بينها وبين نفسها ، ليقرر ألا يزيد من ضغطه عليها ليهمس :
_ هاجي اخدك يوم الاربع من بيتكم ، و لينا كلام تاني وقتها ، بحبك 

أغلق الهاتف ، وتركها تتخبط في صراع حقيقي بين قلبها الخاضع لحبه ، وبين عقلها الذي يحثها على الثبات على موقفها ليتبعد عن طريق الخطر الذي يكاد يفتك به .

***********************************
وقفت مايان ترتب بعض قطع الملابس بالطابق العلوي للمحل التجاري التي تعمل به ، وإلى جوارها تقف فتاة أخرى قد انهت عملها للتو ، وتمسك بالهاتف تتحدث مع خطيبها الذي أخبرها أنه بالخارج في انتظارها ، التفتت إلى مايان بعد أن اغلق الهاتف تتحدث في عجالة :
_ انا نازلة بقى يا مايان ، محمد جيه ، أقفلي و روحي انتي كمان بقي الساعة ١٠ 

أومأت إليها مايان تعلق آخر قطعة من الملابس ، ثم التفتت إليها تخبرها بهدوء :
_ ماشي يا حبيبتي ، انا هكلم عمر يجي ياخدني 

ودعتها صديقتها ونزلت الدرج متوجهة نحو الباب الخارجي ، حينها فكت مايان وثاق شعرها وتوجهت نحو الدرج لتحادث شقيقها ، ما أن نزلت درجتين حتى اختل توازنها والتوت قدمها الطويلة ، فأنزلقت تحتها ، وتدحرجت على الدرج حتى نهايته ، صرخت متألمة ، وتلوت بالأرض من شدة الألم الذي يغزو قدمها ، انفصل الحذاء الطبي عن قدمها ، وقد تمزق من شدة السقوط .
انفجرت في بكاء مرير تحتضن قدمها المصابة بأناملها المرتجفة ، ظلت على حالها فترة حتى هدأت قليلًا ، لكن لايزال الألم يزداد عليها ، حاولت القيام على قدمها مرارًا ، و لم يسعفها جسدها بالمرة ، لتزحف حتى وصلت إلى حقيبتها تخرج منها الهاتف لتهاتف عمر أخيها ، لكن لسوء حظها قد فرغ طاقة الهاتف وأغلق تمامًا ، عادت تبكي مجددًا يقيدها شعورها بالعجز ، تحاملت على نفسها واستندت على عمود رخامي يقع في منتصف المكان حتى استطاعت الوقوف على قدميها ، تنفست بصعوبة من شدة ما تشعر به من ألم ، ثم حاولت الخروج للاستنجاد بأحدهم ، فأستندت على أي شئ يقع بالقرب منها حتى وصلت إلى الخارجي اخيرًا .
استندت على الحائط وبدأت في الإشارة إلى اي سيدة تمر بها ، لكن كان الجميع يتجاهل وجودها تمامًا وكأنها شبح لا يُري ، فبدأت بالإشارة بيديها الباردتين في عشوائية لكى يتوقف أحدهم لمساعدتها .
في اللحظة التالية كان إلياس يقود سيارته متوجه إلى منزل العائلة ، ليلاحظ فتاة تقف أمام أحد المحلات التجارية تشير بيديها بطريقة هستيرية طالبة المساعدة ، قطب حاجبيه بتعجب وأوقف السيارة على جانب الطريق حتى يساعدها أن أمكنه  ذلك ، تقدم منها بخطى هادئة ليتحدث إليها متسائلًا :
_ انتي كويسة ، اساعدك ازاي ؟

تفحصها بنظراته ليرى ما قد أصابها ، في حين تحدثت بصوت متحشرج تكبح شهقتها :
_ ممكن بس تليفون اكلم اخويا لو سمحت 

رجائها الضعيف الباكي جعله يشعر بالشفقة عليها ، ليخرج هاتفه على الفور يقدمه لها ، قائلًا :
_ طبعًا ، اتفضلي 

أخذت الهاتف منه واجرت اتصال بشقيقها سريعًا ، وحين وصل إليها صوت شقيقها بدأت في البكاء من جديد تهمس بصوت مرتجف :
_ عمر ، تعالي خدني من قدام المحل 

صمتت تسمع صوت شقيقها القلق ، لتهمس من بين شهقات بكائها التي ارتفعت فجاة :
_ وقعت من على سلم المحل ، و الجذمة اتقطعت ، رجلي بتوجعني اوي يا عمر 

انهت جملتها واعلنت انهيارها ، ترتجف بشدة ، همس شقيقها لها حتى تطمئن :
_ طب خليكي مكانك انا جاي ، مش هتاخر عليكي متخافيش

أغلقت الهاتف ومدت يدها به إلى إلياس شاكرة إياه ، أخذ الهاتف ووضعه بجيبه من جديد وتحدث عارضًا عليها المساعدة :
_ طب ممكن تقعدي في العربية لحد ما اخوكي يجي ، و انا هفضل هنا متخافيش

نفت رافضة ثم استندت على الحائط حتى استقرت جالسة على الأرض أمام المحل ، ثم رفعت رأسها تطلب منه راجية :
_ ممكن تجيب المفتاح من جوا و تقفل المحل لو سمحت 

أومأ إليها وتوجه لأغلاق المحل ، في حين جلست تبكي بصمت تنظر إلى قدميها بحسرة ، و شعورها البغيض أنها أقل شأنًا من أي فتاة أخرى ، تنهدت بقوة ترفع رأسها تستند على الحائط ، تهمس لنفسها بكلمات بسيطة تحثها على تحمل هذا العبء .
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1