رواية الراتل الفصل الرابع 4 بقلم اسماء ايهاب


 رواية الراتل الفصل الرابع بقلم اسماء ايهاب



كان سعدون يسير في طريقه إلى منزله ، متجاهلًا نظرات الاحتقار التي تنهال عليه من بعض الجيران ، والسباب اللاذع من البعض الآخر ، كان يعتقد أن خبر مرض رحيل وتأجيل الزفاف لحين خروجها من المشفى ، سينطلي على العشيرة ويهدأ الوضع ، لكن ما حدث كان أعنف من المتوقع وخصيصًا حين اجتمعت بعض رجال العشيرة أمام مجلس والده طالبين القصاص منه ، وحينها حاول والده تهدئة أهل العشيرة أنه سياخذ قصاص "نورا" من ابنه إن اثبتت رحيل صدق ادعائها ، أصبح يريد إيجادها في أسرع وقت ليس بدافع زواجه منها هذه المرة بل بداخل الانتقام ، يتوعد لها بالاسوأ كلما تعرض سمعته وسمعة والده إلى أذى أكبر ، قطع شروده في تلك المعضلة ارتطامه بأحد المارة ، رفع رأسه ليجد شابًا متوسط القامة ، أسمر البشرة ، ابتسم له وصافحه مرحبًا به :
_ ازيك يا "حمدي" ، اخبارك اية

ربت "حمدي" على كتفه بلطف ، ثم أمسك بيده يجذبه معه مبتعدًا عن المارة ، يتحدث بهدوء وصوت خافت :
_ اية اللي سمعته لما جيت دا يا بني دا انا مكملتش يومين غايب 

تنهد سعدون بثقل ، وأخذ خطوتين إلى الخلف كي يستند على الحائط ، قائلًا بمرارة :
_ اتفضحت .. في العشيرة و احتمال ابويا يقتلني فيها عشان يفضل كبير الغجر .

_ فهمني اية اللي حصل ؟

قالها حمدي متسائلًا بهدوء ، ليمتعض وجه سعدون بالغضب قابضًا على كفه بقوة ، يود لو يرى رحيل أمامه الآن حتى يحطم وجهها ، رفع نظراته الحادة إلى صديقه قائلًا :
_ بنت الكلـ.ب اللي اسمها رحيل قالت قدام العشيرة كلها اني اغتصبت نورا بنت ياسر و قتلتها .

اتسعت أعين حمدي مذهولًا بما يتفوه ، ليتقدم منه خطوة واسعة ، يسأل بنبرة حادة هجومية :
_ و كلامها صح يا سعدون ؟

تجلى الارتباك على وجهه سعدون ، وتهرب بعينيه عنه ، قائلًا بتلعثم :
_ لا ازاي بس انا هعمل كدا يا حمدي 

تنحنح يخفي ارتباكه ، واردف بغيظ :
_ هي عشان مش عايزة تتجوزني راحت قالت كدا ، و اهي هربت ليلة فرحنا 

عقد حمدي ما بين حاجبيه ، متسائلًا بحيرة :
_ هربت ؟ ، يعني اللي شوفتها بجد كانت رحيل !

لمعت أعين سعدون ببريق الأمل أن يجدها وتعود ذليلة بين يديه ، وهتف بلهفة لم يستطع إخفائها :
_ شوفتها فين ؟

تحدث حمدي بهدوء مفسرًا له جملته السابقة :
_ أنا كنت على طريق القاهرة و شوفتها راكبة عربية مع اتنين رجالة ، بس كدبت نفسي و قولت رحيل اية اللي هيوديها القاهرة .

اتسعت ابتسامة سعدون تدريجيًا ، وقفز الخبث إلى مقلتيه ، ليربت على كتف حمدي ، قائلًا بامتنان حقيقي :
_ ألف شكر يا حمدي ، انت عملت فيا جميل عمري ما هنساه ، أمانة عليك خلي الموضوع سر بنا .

ثم تفرقا ، كلاهما مضى في طريقه بعد أن ودعه سعدون بحرارة ، وتوجه سريعًا إلى منزل رحيل ليخبر والدتها لما علم للتو ، ومن بعدها ستوجه إلى القاهرة ليبحث عنها وسط أكثر من عشرة ملايين شخص ، لتنال عقابها منه حتى تتوسل له الرحمة .

***********************************
فرغ صهيب من صلاة العشاء بالمسجد القريب من منزله ، وخرج بهدوء ليعود إلى منزله حتى ينعم بنوم هنيأ ، لكن أوقفه صوت أمام المسجد مناديًا بأسمه ، التفت صهيب إليه يبتسم ببشاشة بوجهه ، متسائلًا بهدوء :
_ خير يا حاج "حسين"

ربت "حسين" على كتفه ، ثم تحدث بهدوء :
_ عايزك في موضوع مهم 

_ اتفضل يا حاج

قالها صهيب بفضول ، ليشير حسين إلى الطريق قائلًا :
_ تعالي بس نتمشي شوية 

أومأ إليه صهيب وتحرك معه نحو الطريق العام ، وما أن ابتعدا عن المسجد حتى تحدث حسين بهدوء :
_ جايبلك عروسة بنت حلال و متربية 

عقد صهيب حاجبيه ، وتحدث بتعجب :
_ عروسة ! مفكرتش في الموضوع دا دلوقتي 

ربت حسين على ظهره ، يتحدث بهدوء محاولًا إقناعه :
_ هتفضل قاعد لوحدك يا بني ، لازم تكمل نص دينك 

حين صمت صهيب مفكرًا ، استطرد حسين حديثه :
_ "يثرب" بنت الشيخ "محمد" ، بنت محترمة و متدينة ، و متعلمة ، عندها ٢٣ سنة خريج كلية تربية بتشتغل في حضانة 

نظر صهيب إليه بتردد قبل أن يتحدث بهدوء :
_ هصلي استخارة يا حاج و هرد عليك 

_ خلاص يا حبيب ابوك  ، صلي و قولي هتعمل اية ، على فكرة هي منتقبة

قالها حسين مبتسمًا ، يعلم طبع صهيب منذ أن لجأ إليه لينتشله من بقعة السوداء التي تكاد تبتلعه ، و أصبح الرفيق له ، وأعتبره بمثابة إبن له حتي أنه يبحث له عن عروس مناسبة منذ فترة حتى وصل إلى صديقه الشيخ محمد ، وابنته يثرب ، ويدعو الله أن يوفقه معها حتى تدب البهجة في حياته الباهتة .

***********************************
تقلب إلياس في مضجعة كمن يستلقي على أشواك من نار تنغز به دون رحمة . جافاه النوم وعيناه لم تعرفا للسكينة سبيلًا ، فتح عينيه الخضراوين بتبرم ، منزعجًا من حاله ، ومن تلك الهواجس التي تنهش برأسه .
منذ أن ترك تلك الفتاة مع شقيقها ورحل ، وعقله لا يهدأ من التفكير بحالتها المأساوية ، وبكائها يتردد بأذنه يثير شفقته على حالها ، لم يبارح ذهنه مشهد لقائها بشقيقها الذي جعل الحزن يدب قلبه عليها كلما حاول إغماض جفنيه .

دلف إلى المحل التجاري ليأخذ المفتاح حتى يغلق الباب ، فوقع بصره على حذائها الممزق ملقى على الأرض . ضم شفتيه بضيق ، وانحنى ليلتقطه ،
أغلق الباب الخارجي للمحل بإحكام ، وتوجه نحوها .
مد لها بالمفاتيح ، أخذتها منه بأنامل مرتجفة ، ثم رفعت عينيها إليه ، وقد اغرورقتا بالدموع ، وهمست بصوت خافت يشوبه الامتنان :
_ شكرًا .. و معلش لو عطلتك .

أثارت نظراتها المنهكة شيئًا ما بداخله ، تأملها بصمت ، وامتلئ قلبه شفقة على حالها، بدت علتها واضحة له منذ أن رأى حذائها الطبي ، فنفى برأسه قائلًا بهدوء :
_ لا ابدًا .. مفيش اي مشكلة ، هفضل معاكي لحد ما اخوكي يجي 

أزاحت دموعها برفق وكأن جلدها لا يتحمل يدها ، وهمست بنبرة متحشرجة :
_ لا ملوش لازمة البيت قريب و زمانه جاي 

صمتت لوهلة تتابع الطريق بأعين مترقبة ، حتى التقطت عيناها شقيقها يركض متوجهًا نحوها ، لتهتف بصوت مرتفع :
_ عـمـر ، انا هنا 

التفت إلياس ليرى شقيقها يركض أسرع حتى يصل إليها ، وعندما وصل أمامها جلس إلى جوارها على الأرض ، وجذبها سريعًا إلى أحضانه يضمها بقوة ، تناثرت أنفاسه اللاهثة بقوة جوار أذنها حين سأل بقلق :
_ انتي كويسة يا مايان رجلك حصلها حاجة 

مررت يدها بلطف على رأسه حتى يهدأ ، تهمس بصوت خافت :
_ هي بس وجعاني شوية متخافش 

ابتعد عنها ، ينظر إلى وجهها الذي بدا عليه الارهاق ، وحاوط رأسها بين راحتي يده ، يقبل جبهتها بحب ، عاد عقلها يدور كالطاحون ماذا ستفعل دون حذائها المخصص لحالتها ، وكيف سيستقبل والدها الخبر ، وما رد فعله أن طلبت غيره .
وجدت دموعها طريق إلى وجنتيها المتوهجتين ، تهمس بمرارة :
_ الجزمة اتقطعت ، مش هيرضى يجبلي غيرها .

كان تقصد والدها في جملتها السابقة ، افطن شقيقها ذلك ، فادمعت عيناه ، يعتصر قلبه شعوره بقلة الحيلة ، وقبل رأسها معتذرًا بنبرة يتخللها الحزن :
_ حقك عليا ، حقك عليا

تركها عمر ، يقف عن الأرض يساعدها على الوقوف محاوطًا خصرها . استندت عليه بقوة ، ترمق قدميها الحافتين بألم ، وهمست بصوت يكاد يُسمع :
_ مش عارفة هعمل اية من غيرها و همشي ازاي ؟

التفت عمر إلى إلياس يشكره بامتنان على مساعدته لشقيقه ، ابتسم إلياس وأشار إلى سيارته المصفوفة بالقرب منهم قائلًا :
_ طب تقبل مساعدتي للاخر و اوصلكم للبيت 

ارتسم التردد على ملامح عمر ، بينما انعكس الرفض بوضوح على وجه مايان التي كادت أن تتحدث إلا أنه قاطعها قائلًا بهدوء :
_ انا فاضي ، و راجع للمكان اللي انت راجع منه عشان نسيت حاجة مهمة 

أشار من جديد إلى سيارته ، يدعوهما بابتسامة هادئة لقبول مساعدته في إيصالهما منزلهما . نظر عمر إلى حالة شقيقته التي لا تستدعي الرفض ، فأنحنى يحملها ويتوجه نحو السيارة ليضعها بالمقعد الخلفي .
استغل إلياس انشغال عمر مع شقيقه ، فمال يلتقط الحذاء عن الأرض ، ويسرع بخطواته ليضعه بحقيبة العربية دون أن يعطي نفسه مبرر واحد لفعلته التلقائية .

تنحنح يخرج نفسه من دوامة شروده ، يمرر يده بخصلات شعره الناعمة ، وبيده الأخرى أخذ الهاتف ليجري إتصال ما ، انتظر حتى أتي صوت الطرف الآخر ناعسًا يبدو أنه كان يغرق بنوم هنيأ قبل أن يوقظه رنين الهاتف ، ليتحدث إلياس على الفور :
_ بقولك يا ممدوح ، عايزك تعرفلي الجزم الطبية دي اعملها فين ، معايا جزمة عايزة اعمل مقاسها بالظبط

انهى إلياس جملته وساد الصمت بينهما ، لوهلة ظن إلياس أنه قد غفى من جديد ، ولكنه استمع إلى صوت ممدوح الغاضب من الطرف الآخر :
_ يعني انت مصحيني الفجر تسأل على جزم ! ، و بعدين انت مالك بالجزم الطبية اصلًا 

زفر إلياس بضيق ، وهتف بحنق :
_ ما تعمل اللي بقولك عليه و انت ساكت ، هبعتلك صورة الجزمة 

أغلق الهاتف ، وأسرع يتوجه نحو الأسفل ، ليلتقط صورة للحذاء الذي وضعه بحقيبة السيارة ، وشعوره بالمسئولية اتجاه تلك الفتاة يتفاقم داخله يؤرق نومه ، ويجعله يفكر في طريقة مناسبة الآن ليهديها الحذاء .

***********************************
صباحًا ، في غرفة مكتب والد داوود ، والتي آلت إليه الآن ، كان يجلس على الأريكة المخملية ، يحتسي كوبًا من القهوة الطازجة التي فاح عبقها في أرجاء الشقة ، يرافقه صوت العندليب "عبدالحليم حافظ" يشدو بإحدى أغانيه .
كلمات اغنية "قارئة الفنجان" التي سمعها مرارًا أخذت تجذبه للتأمل بها :
"بحياتك يا ولدي إمرأة عيناها سبحان المعبود
فمهــا مـرسـوم كالـعنقـود
ضحكتها أنــغام و ورود
والشعر الـغجري المجنـون يسافر في كل الدنـيا"

نسجت كلمات الأغنية صورة تلك الغجرية الحسناء ، التي اقتحمت خياله بغتة ، ملامحها تلوح في ذهنه مع كل كلمة ، متوغلة في تفكيره بلا استئذان .
وبتلقائية ، ارتسمت على ثغره ابتسامة هادئة ، اعتراف ضمني أنها نالت إعجابه بالفعل . 
و تساءل في سره بدهشة صامتة كيف لأغنية أن تصبح واقعًا ، وتصفها بكل هذه الدقة ؟!
تلاشت صورتها كموجة جاءت على عجل ، وابتلعت رسمة بريئة على رمال الشاطئ حين استمع إلى طرقات على باب الغرفة .
تنهد بقوة ، ووضع القدح على الطاولة الصغيرة أمامه ، يأذن للطارق بالدخول ، وحينها دلف إلياس إلى الغرفة ، يلقي تحية الصباح عليه بهدوء ، ثم انحنى يأخذ القدح عن الطاولة ، قائلًا :
_ انت عامل قهوة لنفسك بس 

ارتشف إلياس من القدح رغم علمه بضيق شقيقه من تصرفه ، ليزفر داوود بغضب ، قائلًا بغيظ :
_ يادي قلة المزاج ، كملها بقى مبشربش ورا حد 

أكمل إلياس القهوة ، ووضع القدح الفارغ على الطاولة مجددًا ، يشير له بالنهوض ، قائلًا :
_ طب يلا عشان عمتك بتنادي علينا نفطر معاها 

أومأ داوود ، ووقف عن الأريكة ، متسائلًا بهدوء :
_ نغم صحيت ؟

أغلق إلياس الأغنية التي لازالت تصدح بالغرفة ، ثم أجاب بهدوء :
_ و نزلت لعمتك كمان 

عدل داوود من ياقة كنزته السوداء ، وتحدث بجدية :
_ بقولك اية .. انا هخلص فطار و هسبقك على هنا و حصلني انت و حمزة 

سأل إلياس بفضول :
_ لية .. تسليم جديد ؟

ارتسمت بسمة خبيثة على ثغر داوود ، يهمس بغموض :
_ تسليم فريد من نوعه 

أقترب منه إلياس يحاوط كتفه ، يشير بسبابته إلى وجه أخيه ، قائلًا بشك :
_ مبخافش من حاجة قد نظرات الديابة بتاعتك دي 

ضحك داوود ، يبعد ذراع شقيقه عن كتفه ، لينحني أخذًا الهاتف ، وما كاد أن يخرج من الغرفة حتى التفت إلى شقيقه يخبره بهدوء :
_ اه صحيح .. بكر خطيب نغم كلمني تاني عشان يحجز قاعة الفرح بس انا أجلت الفرح شوية ، و لو كلمك انت كشمله 

ظهرت السخرية جلية على وجه إلياس ، وتحدث متهكمًا :
_ لسة واثق أن عزيز هيمنعها تتجوزه 

رفع داوود كتفيه بعدم اهتمام ، قائلًا بجمود :
_ و لو ممنعهاش ، انا همنعها .

_ مش فاهمك ؟

سأل إلياس بتوجس ، ليتنهد داوود بقوة ، مفسرًا له الحديث بهدوء :
_ مش مطمنله ، بس لسة مفيش في ايدي اي دليل عليه 

فتح باب الغرفة لكى يخرج ، وتبعه شقيقه يسأل من جديد :
_ انت كلمت عزيز عشان التسليم الجديد 

نظر داوود إلى مظهره بالمرآة المعلقة بالقرب من باب الشقة ، يرتب خصلات شعره التي بدت مبعثرة ، يجيبه بجدية :
_ لا ، هقوله بعدين 

خرج إلياس من باب الشقة يسبق شقيقه نحو الطابق السفلي ، حيث شقة عمته لقاء ، في حين توقف داوود تنظر إلى وجهه ، شاردًا في نقطة ما يحرك سبابته اليمنى على عضمة أنفه ، وفجأة ، ابتسم كالمجانين وكأنه وجد حل للغز تحير له العلماء ، ليعتدل بوقفته يرفع رأسه بشموخ ، يهمس بنبرة هادئة :
_ لازم نطلع مواهب الراتل بردو

***********************************
تجلس على الأريكة في غرفة مكتب كنزي ، تمسك بيدها بطاقة التعريف الشخصية الخاصة به ، تتأمل صورته المطبوع عليها بكامل اناقته .
ارتسمت على شفتيها ابتسامة حالمة ، وتتسع كلما غرقت أكثر في ملامحه الرجولية التي أسرت قلبها منذ اللحظة الأولى ، تحيط به هيبة تفرض عليك احترامه و ، حبه !
إلى الآن ، لا تكاد تصدق أنها وقعت بغرامه بهذا الجنون ، دون أن تتبادل الحديث معه ، دون معرفة شخصيته حتى ، لم تنكر أنها قلبها ارتجف بخوف
حين رأته يطلق النار على أحدهم بذلك برود ، لكن قلبها الخائن ظل متمسكًا به ، وبدأ عقلها بنسج مبررات واهية لتصرفه .
تنهدت بقوة ، تمرر أناملها بهدوء على صورته في رقة ، انتفضت حين انتشل أحدهم البطاقة من بين يدها على حين غرة ، صرخت بفزع ، ورفعت رأسها سريعًا لتواجه كنزي التي تنظر للبطاقة بنظرات خبيثة لا تقل شيئ عن ابتسامتها ، تهمس بنبرة ماكرة :
_ داوود ، هاا 

وقفت رحيل ، و انتزعت البطاقة من يدها بارتباك ، تبرر بتلعثم :
_ كنت بشوف الكارت مش اكتر 

نظرت إليها كنزي تتفحص وجهها الذي توهج بالاحمرار ، ونظراتها الخجولة التي تبعدها عنها ، تهمس بمزاح :
_ يا شيخة بجد ! 

غمزت كنزي بعينها اليسرى ، واردفت بمكر :
_ هو فعلًا كاريزما و يوقع 

تأففت رحيل تواليها ظهرها ، ثم تحدثت بضيق :
_ خلاص يا كنزي ، مليش دعوة بيه 

كتمت كنزي ضحكته ، وتقدمت منها تتحدث بنبرة مرحة مشيرة إلى عينيها :
_ هصدقك و اخـ.زق عنيا ، حاضر 

التفتت إليها رحيل ، وزجرتها بنظرات حانقة ، لتضحك كنزي ، ثم أخرجت مبلغ مالي من جيب بنطالها ، ثم استطرد حديثها :
_ خلاص خلاص ، المهم انا جبتلك مرتب شهرين مقدمًا عشان تنزلي تشتري لبس ليكي و انا هاجي معاكي 

ارتسمت ابتسامة هادئة على ثغر رحيل ، وأخذت الأموال من يدها ، تتحدث بامتنان :
_ شكرًا بجد يا كنزي مش عارفة اقولك اية ، بس انا كنت عايزة اشوف شقة صغيرة كدا للايجار يعني 

أحاطت كنزي كتفها ، تشير نحو الأموال ، قائلة بتهكم :
_ طيبة اوي انتي يا رحيل ، الفلوس دي متقضيش تأمين و اول شهر ايجار يا حبيبتي 

مررت يدها على خصلات شعر رحيل ، تردف بحنو :
_ و بعدين يا حبيبتي انتي منوراني على ما دنيتك تتظبط ، لا انا و لا ماما مضايقين من وجودك 

_ مش عارفة اردلك كل دا ازاي 

قالتها رحيل بنبرة خافتة تخفي صوتها الباكي ، لتحاول كنزي تغيير مجرى الحديث ، فابتعدت مشيرة نحو تلك العلامة المميزة بعنقها :
_ هو انتي ازاي استحملتي ألم إبرة التاتو في رقبتك بجد ، دا انا كنت راحة اجرب يا دوب راحة تلمس ايدي صوت و لميت الناس عليا و معملتش حاجة

رفعت رحيل يدها ، تتحسس عنقها ، تفسر بهدوء :
_ دي مش تاتو ، دي وحمة 

قطبت كنزي حاجبيها باستغراب ، وسألت بتعجب :
_ مامتك اتوحمت على وردة !

ضحكت رحيل بصخب ، ثم جلست على الأريكة من جديد ، ثم قالت مفسرة لها الأمر :
_ دي زهرة الرمان ، ماما اتوحمت على الرمان بزهرته .. هي كلت الرمان و انا كان من نصيبي زهرته 

ازدادت دهشة كنزي التي جلست إلى جوارها تتأمل تلك الزهرة في ذهول ، تهمس بانبهار :
_ سبحان الله ، شكلها تحفة و لونها يجنن 

ابتسمت رحيل على ردة فعلها اللطيفة ، ثم نظرت إلى الأموال بيدها ، متسائلة :
_ طب هتكوني فاضية النهاردة نروح نشتري الهدوم 

أومأت إليها كنزي ، تعيد خصلة متمردة من شعرها خلف أذنها ، قائلة :
_ ايوة فاضية .. و انا كمان عايزة اشتري فستان جديد عشان عندي خطوبة .

استمعتا إلى طرقات على الباب الغرفة ، عقبها دخول نهال التي نظرت بضيق نحو رحيل دون مبرر ، ثم حركت عيناها نحو كنزي ، قائلة بجمود :
_ كنزي ، في زباين بتسأل عليكي 

_ حاضر يا نهال جاية اهو 

أشارت إليها كنزي أن تنصرف ، ثم التفتت إلى رحيل تخبرها أنها ستنتهي سريعًا حتى تذهب معها لشراء الملابس ، خرجت كنزي تتبع خطوات نهال التي بدت منزعجة منها ، وتركت رحيل تعود إلى تأمل صورة داوود من جديد كحلم وردي من أحلامها  التي لا تنتهي .

***********************************
اجتمع داوود مع إلياس وحمزة بغرفة المكتب ، يُطلعهما على ترتيباته لتسليم شحنة الأسلحة الجديدة ، ويلقي أوامر صارمة على كلاهما بما يتوجب عليهما فعله بتلك المهمة .
كانت عيناه تجول بينهما بدقة ، تراقب ردود فعلهما ، حتى استقرت على وجه حمزة ، فتأفف بضيق ، يتكأ بظهره على مقعد المكتب ، قائلًا :
_ و الله ما في حاجة مخوفني اد ما انت عامل فيها مركز ، و بتهز في دماغك على اي كلمة بقولها 

نظر حمزة إليه بغيظ ، وأشار إلى نفسه ، يهتف بحنق :
_ يعني الحق عليا اني بفهمك اني مركز ؟

أطلق إلياس زفرة بضيق ، وهو يعلم أن الجدال بينهما لن ينتهي ، ليطرق على سطح المكتب ليقاطعهما ، قائلًا بجدية :
_ خلاص يا داوود ، فهمنا و الله و الدنيا تمام 

ضيق داوود عينيه على حمزة في توعد صريح أن أخطأ بحرف واحد مما أمره به ، ثم التفت فجأة إلى إلياس حين داهمه شيء أكثر أهمية ، وتغيرت تعابير وجهه دفعة واحدة ، احتد فكه ولمعت عيناه السوداوان بشرر الغضب الذي انفجر داخله بغتة ، يسأل بصوت حاد :
_ عرفت حاجة جديدة عن رؤوف العجمي ؟

تنهد إلياس بثقل ، ونفى برأسه ، قائلًا بهدوء يتخلله الحزن :
_ لا ، لسة بندور عليه ، أهدي انت بس و احنا وراه 

تقلصت ملامح داوود بالحزن ، يقبض على كف يده بعنف ، يضرب بها عدة مرات على سطح المكتب ، لعله يخرج الغضب الذي عصف بكيانه كلما تذكر ذلك الشخص ، يهتف بصوت مرتفع غاضب :
_ عمري ما ههدي و لا ارتاح إلا لما يبقى بين ايديا ، و اخد حق دهب منه بالتمام 

ردد حمزة يحاول التخفيف عنه :
_ هنلاقيه و هناخد حقها ، بس انت متحملش نفسك 
ذنب اكتر من كدا 

وضع داوود يده على عينيه ، وكأنه يحاول محو تلك الصورة المرعبة التي تداهم ذاكرته بين وقت وآخر ، يهمس بصوت خفيض :
_ صورتها و هي غرقانة في دمها تحت رجلي ، عمرها ما هتروح من بالي ، و هيفضل يفكرني اني مكنتش اد حمايتها 

توقف إلياس ، ووقف جوار أخيه ليواسيه ، ربت على كتفه ، قائلًا :
_ كلنا عملنا اللي علينا عشان نمنع جوازتها دي ، بس دا نصيبها 

هب داوود واقفًا عن مقعده ، وتقدم من الأريكة تستند على ظهرها بكلتا كفيه ، تتسارع أنفاسه بغضب ساحق ، ثم تحدث من بين أسنانه المطبقة بعصبية :
_ الجبان ، اختار انه يهرب و انا بدفن أختي ، عشان مكنش فاضي اجيبه .. بس و ربي ما هسيبه 

نظر إلياس إلى حمزة بقلة حيلة لا يعلم كيف يمكنه التهوين على شقيقه ، وفجأة ، جاء رنين هاتف داوود كنجدة لخروجه من دوامة ذكرياته البشعة التي تسحبه إلى قاع بئر مظلم لا سبيل للنجأة منه .
أخرج هاتفه من جيب بنطاله ، وفتح الإتصال سريعًا حين وجد المتصل هو عزيز ، تنهد بقوة حتى تهدأ أنفاسه ، قائلًا :
_ ايوة يا عزيز .. احنا لسة في البيت 

اعتدل داوود بوقفته ، وتحفزت كل خلية بجسده حين قال عزيز بجدية :
_ تعالي بسرعة يا داوود في ظابط هنا 

سأل داوود بتوجس :
_ ظابط ! و جاي لية ؟

زفر عزيز بقوة ، وتحدث بأنفعال :
_ حد مبلغ عن الشركة ، و اننا بتشتغل شغل شمال ، المهم متتأخرش مسافة السكة و تكون هنا 

أغلق داوود الهاتف ، صك على أسنانه بعنف كأنه يريد تحطيمها ، وشعر بالحرارة تدب بأوردته ، والدماء تفور كبركان تتفاقم به الحمم ، تسأل إلياس وحمزة عن سبب تواجد الضابط ، ليمسك داوود سترته عن مقعد المكتب يرتديها على عجل ، مجيبًا بصوت حاد :
_ بلاغ متقدم فينا ، حد فيكم يكلم المحامي .

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1