رواية الراتل الفصل الخامس بقلم اسماء ايهاب
كان داوود يقف بثبات يُحسد عليه ، رافعًا رأسه بكبرياء أشبه بطاووس يتباهي بزهوه وسلطته . نظراته الهادئة المتمهلة تنضح بالثقة ، وكأن ما يحدث الآن لا يمت له بصلة ، الجنود ينتشرون بكل مكان بشركته ، والضابط أمامه ينهال عليه بالأسئلة بنبرة متعجرفة أثارت استفزاز الجميع إلا هو ، كان يجيب على كل سؤال بهدوء تام .
كاد إلياس أن يندفع بحديث يليق بعجرفته ، لكن منعه يد داوود الذي قبض على كتفه بقوة ، ينظر إليه بتحذير ، ليصمت على الفور تجنبًا لغضب شقيقه .
تحركت عينا داوود حتى استقرت على وجه الضابط ، يتحدث بهدوء :
_ يا فندم فين الدليل على كدا ؟ ، مش كل شركات الشحن يكونوا مهربين أو تجار سلاح مثلًا
صمت الضابط ينظر إليه بترقب ، فأردف داوود مشيرًا نحو اركان الغرفة :
_ على العموم ، حضرتك تقدر تفتش كويس اي شحنات خارجة من الشركة ، عشان تتأكد انه بلاغ كيدي
انهى حديثه بابتسامة هادئة ، بدت أنها أثارت حفيظة الآخر ، لينادي بصوت حاد على أحد الجنود يلقي بأوامره بصرامة :
_ مفيش شحنة هتخرج من الشركة إلا لما تتفتش كويس
انصرف الجندي لتنفيذ أمره ، فمال حمزة على أذن عزيز يهمس ساخرًا :
_ شنبه شبه شنب تامر حسني في فيلم البدلة
أزاحه عزيز من جواره ، يهمس بغيظ :
_ اسكت يا بني بقى
تأفف حمزة بغيظ وتوجه ليقف جوار إلياس ، ووقف الجميع ينتظر بتملل حتى جاء الجندي من جديد ، يتحدث بهدوء :
_ ملقناش حاجة يا فندم
استقام داوود بعد أن كان يجلس باريحية على الأريكة الجلدية ينتظر انتهاء فحص الشاحنات ، قائلًا بهدوء :
_ قولتلك يا فندم أنه بلاغ كيدي
مد يده ليصافح الضابط الذي يبدو عليه الانزعاج من فشل مهمته ، يتحدث بابتسامة واثقة أثارت غضب الآخر قائًلًا :
_ شرفتنا يا "صادق" بيه
صافحه الضابط "صادق" معتذرًا على مضض ، ثم توجه نحو الباب مغادرًا الشركة ، تنهد داوود بقوة ، وخلع سترته الكلاسيكي يضعها على ظهر مقعد مكتبه الذي جلس عليه بهدوء ، قائلًا :
_ اللي حصل مش هينتهي بسهولة ، الظابط دا هيفضل ورانا خدوا بالكم
شمر ذراعي قميصه الأبيض كاشفًا عن ساعديه ، يهتف بجدية :
_ يلا كل واحد على شغله
انصرف عزيز ليتابع عمله ، وجلس إلياس على المقعد أمام المكتب ، بينما أقترب حمزة من داوود يتحدث بضيق :
_ انت جايبلي راجل شنبه اد الشماعة يبقي سكرتيري
رفع داوود نظره إليه يهتف متسائلًا :
_اومال انت عايز اية ؟
جلس حمزة على طرف المكتب يتحدث بنبرة حالمة :
_ سكرتيرة سيئة السمعة ترتدي تنورة قصيرة لا تخفي شيء إلا النية
رفع داوود طرف شفتيه في ابتسامة ساخرة ، قبل أن يتهكم قائلًا :
_ مش عايزني اركب لمبة حمرا قدام باب مكتبك كمان ؟
نفى حمزة برأسه يهتف بجدية :
_ لا انا هبقى اقفل الباب كويس
أخرج داوود هاتفه من جيب سترته المعلقة يجري اتصالًا ، وضع الهاتف على أذنه حين سأل حمزة بفضول :
_ بتكلم مين ؟
راقب داوود شاشة الهاتف حتى يستقبل الطرف الآخر اتصاله ، يخبره بهدوء :
_ بكلم كنزي اسألها لو تعرف سكرتيرة سيئة السمعة تشتغل مع جوزها
اتسعت أعين حمزة بصدمة ، وتحرك بسرعة يحاول أن ينتزع الهاتف منه قائلًا بابتسامة بلهاء :
_ و ربنا كنت بهزر ، مالك قفوش لية كدا ، انا مش ناقص موال جديد الله يكرمك
فتحت كنزي الإتصال ، ليضع الهاتف على أذنه ، قائلًا :
_ الو ، ازيك يا كنزي
ترجاه حمزة بنظراته ، وداخله يقين أن داوود يفعل ذلك غير مبالي بالعواقب التي ستقع على عاتقه ، حين تصدق زوجته المجنونة حديث داوود وستزداد تلك الفجوة بعلاقتهما ، ليرحمه أخيرًا داوود الذي ابعد الهاتف عن أذنه ، يهمس له بتحذير :
_ ارجع على مكتبك و مشوفش وشك لآخر اليوم
أومأ إليه حمزة ، ومال يقبل وجنته بامتنان ، هامسًا :
_ ابو الرجولة و الله
مسح داوود وجنته ، وبدا على ملامحه الاشمئزاز من فعلت الآخر ، يهمس بغيظ :
_ غور الله يقرفك
غادر حمزة الغرفة سريعًا ، فوضع داوود الهاتف على أذنه من جديد ، فوصله صوت كنزي المرتجف بارتباك خشية أن يكون قد أصاب زوجها مكروه وخصيصًا بعد صمت داوود الذي طال :
_ الو ، الو يا داوود روحت فين ، حمزة كويس ؟
أخبرها داوود سريعًا :
_ لا متقلقيش هو تمام ، انا بكلمك بس اسأل على البنت اللي عندك
تنهدت كنزي بارتياح أن الأمر لا يعني حمزة بشيء ، لتتحدث بهدوء :
_ رحيل تمام ، هي الحمد لله نزلت تشتغل معايا في البيوتي سنتر
همهم بتفهم يمرر يده على ذقنه النامية ، ثم سأل بجدية :
_ طب هي لسة قاعدة معاكي في البيت ؟
كادت أن تجيب إلا أن قطعها داوود ، يتحدث بهدوء ليرفع عنها الحرج :
_ اسمعي يا كنزي لو مضايقة من وجودها انا عندي شقة فاضية تقدر تاخد المفتاح و تقعد فيها
استغلت كنزي الموقف حتى تفتح مجال للحديث بينهما ، لتتحدث سريعًا :
_ انا مش مضايقة من وجودها و لا حاجة ، بس ممكن انت تكلمها عشان لو هي اللي مضايقة من وجودها عندي هتتكسف تقولي
_ تمام
مرت دقيقة كانت فيها كنزي تحاول دفع الهاتف إلى رحيل التي ترفض بخجل مهاتفته ، وأخيرًا استطاعت أن تضعها أمام الأمر الواقع ، ليصله صوتها الهادئ ، ليتحدث بهدوء :
_ ازيك يا رحيل
صوته الأجش جعل رجفة قوية تمر بجسدها ، لتتلعثم باجابتها بتوتر :
_ الحمد لله ، بخير
حمحم بقوة ، وسألها بهدوء :
_ اية اخبارك في بيت كنزي ، مرتاحة هناك ؟
ارتجف قلبها كونه يريد الاطمئنان عليها ، لتقول بهدوء حاولت إيجاده بصعوبة :
_ ايوة الحمد لله ، هي بجد طيبة جدًا و محسساني اني من أهل البيت
فاضت على شفتيه ابتسامة خافتة ، حين ادرك كم تجاهد لتخرج صوتها ثابتًا ، رغم الرجفة التي لم تخف عنه ، حرك المقعد ليوالي ظهره إلى إلياس ، ثم قال بجدية :
_ لو عايزة تمشي من عندها لاي سبب كان كلميني ، و انا هوديكي مكان تاني ، امان بردو
تحدثت بامتنان شاكرًا اياه :
_ شكرًا أوي ، مش عارفة اقولك اية
حرك المقعد من جديد ليقابل نظرات إلياس الماكرة ، ليتحدث حتى ينهي المكالمة :
_ متقوليش حاجة ، لو محتاجة حاجة كلميني من غير تردد
ألقى عليها السلام قبل أن يغلق الهاتف ، ليتحدث إلياس متسائلًا بفضول :
_ اية الحوار
وضع داوود الهاتف على المكتب أمامه ، ثم فسر له قائلًا :
_ حوار اية ، دي البنت اللي ساعدتها و ودتها عند كنزي ، كنت بطمن عليها بعد دبست كنزي فيها و مشيت
ضاقت عينا إلياس عليه ، يتحدث بنبرة ماكرة :
_ اومال مالك كدا ، اللي يشوفك يقول مش عايز تقفل معاها
أشار داوود إلى باب الغرفة ، وقال بحدة :
_ اطلع برا يا إلياس ، روح شوف شغلك
وقف إلياس عن مقعده ، متوجهًا نحو الباب للخروج ، وما أن فتح الباب حتى التفت إلى أخيه مجددًا يتحدث بغمزة من عينه اليسرى :
_ هروح ، بس لو عايز حاجة كلمني من غير تردد
أخذ داوود لافتة خشبية ثقيلة مدون عليها أسمه "داوود القاضي" ، وكاد يلقيها عليه إلا أن أغلق إلياس الباب سريعًا ، وضحكته تتعالى من خلف الباب ، تنهد داوود يضع اللافتة محلها ، ثم اتكأ بظهره على المقعد ، يتذكر صوتها المرتجف بارتباك ، ليتأفف قائلًا بغيظ :
_ هنخيب و لا اية
**********************************
صف إلياس سيارته أمام منزل مايان ، التفت برأسه ينظر إلى الحقيبة البلاستيكية الموجودة على المقعد المجاور له ، ثم تحرك عيناه على المنزل بتردد ، لكنه أخذ الحقيبة ، وترجل من السيارة ، متجهًا إلى المنزل بخطوات هادئة .
طرق الباب ، وابتعد خطوة إلى الوراء منتظر فتح الباب ، لحظات مرت وفتحت مايان الباب ، ترتدي جلبابًا ورديًا ناعمًا ، انعكست ألوانه على بشرتها البيضاء ، تزيدها توهجًا .
يدها ترتب خصلات شعرها المجعدة ، والأخرى تتكئ على الحائط حتى لا يختل توازنها ، ما أن رآته حتى ظهرت الدهشة على ملامحها ، تهمس بذهول :
_ استاذ إلياس !
ابتسم إلياس بلطف ، ومد يده لمصافحتها ، قائلًا :
_ اخبارك اية النهاردة ، احسن ؟
صافحته على استحياء ، تجيبه بهدوء :
_ الحمد لله ، شكرًا
ابتعدت عن الباب ، تشير إليه بالدخول ، قائلة بحرج :
_ اتفضل
لاحظ هو حرجها ، لينفي برأسه قائلًا :
_ معلش مستعجل ، اتفضلي دي
مد لها الحقيبة ، لتعقد حاجبيها متعجبة ، تشير إليها قائلة :
_ اية دا ؟
أجابها بهدوء ، مشيرًا بعينه على الحقيبة :
_ دي جزمة جديدة بدل اللي اتقطعت
سألت باستغراب :
_ ازاي ؟
حمحم بحرج لم يعتده في نفسه ، ثم أجاب بهدوء :
_ اخدت الجزمة القديمة و عملتلك واحدة تانية
اضطربت بخجل ، ازداد توهج وجنتيها ، لتهمس بتلعثم :
_ تعبت نفسك لية بس ، مكنش ليه لزوم و الله .. طب كلفتك كام ؟
رغم سؤالها عن السعر إلا أنها لا تملك قرشًا واحدًا حتى ترد له ثمنها ، غير ما ستواجه من غضب والدها ، لكنه أسدل عليها السكينة حين قال بهدوء :
_ ليا واحد صاحبي عنده مصنع للاحذية دي و دي جمايل بنا ، مكلفتنيش حاجة
كادت أن تطلق تنهيدة ارتياح إلا أنها تماسكت ، واظهرت ثبات غائبًا عن نفسها ، ثم مدت يدها تأخذ الحقيبة تشكره بلطف :
_ شكرًا بجد ، انا مش عارفة اردهالك ازاي
رغم شعوره بالضيق لأنه اضطر للكذب ، إلا أنه ارسل لها ابتسامة صغيرة ، وقال :
_ مش محتاجة ترديها ، جربيها بس عشان لو فيها حاجة نصلحها
ضمت شفتيها تقمع ارتجافتها كادت تفضحها إذ باغتتها نوبة بكاء خامدة ، وقد سيطر عليها شعورها بالعجز والضعف ، لتهمس بصوت خافت مستأذنة :
_ طب معلش هدخل اقيسها عشان اقعد على كرسي
أشار لها بالدخول بهدوء ، وعاد إلى الخلف خطوة ليمنعها مساحة كافية .
دقيقتان وخرجت هي تقف معتدلة بواسطة الحذاء الجديد الذي اخفى عرجتها إلى حد كبير ، انفرجت أسارير وجهها ، وارتسمت ابتسامة واسعة لطيفة على ثغرها ، وكأنها طفلة صغيرة حازت على مكافأة من والدها للتو .
ضمت كفيها إلي بعضها ، وتحدثت بحماس كبير يظهر براءة روحها :
_ مظبوطة اكتر من التانية كمان ، بجد شكرًا شكرًا ، ربنا يجزيك خير
ابتسم إلياس على أثر حديثها ، ودس يديه بجيب بنطاله ، قائلًا :
_ مبارك عليكي
أومأت إليه ، ونظرت إلى الحذاء بأعين لامعة بسعادة غامرة ، فأن توسلت وتذللت لوالدها فلن يبتاع لها آخر ، وشقيقها ليس بيده حيلة ولن يقدر على مساعدتها مهما فعل ، كانت هذه الهدية معجزة من الله .
فاقت من شرودها ، على صوته الهادئ يخبرها :
_ طب انا همشي ، وصلي سلامي لعمر
تحدث سريعًا بامتنان :
_ أكيد ، شكرًا مرة تانية
تركها ، وانصرف نحو السيارة ، عيناه لا تفارقان سعادتها التي تظهر بوضوح ، وجعلته يشعر بارتياح كبير ، وضميره سكن أخيرًا ، وشعره بالحزن على حالها الذي يؤرق نومه ، سيبيت هادئ البال ، قرير العين ، و ابتسامتها السعيدة لن تفارق ذاكرته ابدًا .
************************************
جاء الأربعاء ، موعد حفل خطبة "ريهام" .
وقفت كنزي أمام المرآة تستعد بهدوء للذهاب للحفل ، حيث ارتدت ثوب طويل من اللون الأزرق الداكن ذات أكمام منفصلة عنه ، فأصبحت أكتافها عارية .
أمسكت بوشاح ثقيل نفس لون الثوب ، ناظرته للحظة ، فظهرت ابتسامة ماكرة على ثغرها ، وألقت به على الفراش بهدوء ، فقد قررت التلاعب عنه قليلًا ، لتثير غضبه بلا سبب ، لكنها ستشعر بالراحة في ذلك .
رن هاتفها وكان زوجها المتصل ، لتنتظر لحظات وفتحت الإتصال مجيبة بصوت هادئ :
_ الو يا حمزة ، وصلت ؟
جاء صوت حمزة من الطرف الآخر ، يخبرها :
_ انا قدام البيت لو جاهزة ، اطلعي
ازدادت دقات قلبها لثوان ، فوضعت يدها على قلبها لعلها تهدأ من اضطرابها المفاجئ ، وهمست بهدوء قبل أن تغلق الهاتف :
_ ماشي ، سلام
التفتت إلى المرآة تنظر إلى نفسها تبث الثبات لنفسها المشتاقة له ، تخشي أن تركض لاحضانه فور رؤيته ، وتذهب خطتها هباء ، اطلقت زفرة قوية ، وهي ترتب خصلات شعرها البرتقالية .
خرجت من غرفتها متوجهة نحو الخارج بعد أن ودعت والدتها ، فتحت باب السيارة ، وجلست على المقعد المجاور له تتحدث بهدوء :
_ انا جيت
شملها بنظراته ، ليأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يسأل بهدوء :
_ فين الشال اللي جاي مع الفستان دا ؟
رفعت كتفيها ، تقول بلامبالاة :
_ مش لاقياه ، عادي يعني
علم بكذبها ، فهي تهتم بكل ما يخصها بعناية شديدة فقط تريد أثارت غضبه ، ليشير إلى منزلها ، قائلًا بجدية :
_ ادخلي هاتيه يا كنزي
سيطر عليها عنادها ، فعقدت ذراعيها أمام صدرها ، تهتف بضيق :
_ مش عايزة
مال بجسده نحوها ، يمد يده ليفتح الباب جوارها ، يهتف بحدة :
_ ادخلي هاتيه يا كنزي ، ياما تدخلي و متطلعيش و مش هتروحي في حتة
تأففت بضيق ، وكادت أن تتحدث إلا أنه قاطعها حين أشار على أنفها ، قائلًا بغضب :
_ و شيلي الحلق اللي في مناخيرك دا ، متعصبنيش عليكي
شعرت أن خطتها في غضبه قد باءت بالفشل ، لتعترض قائلة بضيق :
_ مش هشيله ، شكله حلو عليا
أكثر ما يثير غضبه ، هو عنادها الذي يزداد يومًا بعد يوم ، فدفعها بكتفها بغضب ، وهتف بحدة :
_ شيليه بدل ما اشيل مناخيرك خالص و اعيشك زي ابو الهول
رمقته بغضب ، قبل أن تخرج من السيارة متوجهة مجددًا إلى داخل المنزل ، دخلت غرفتها أزالت القرط الصغير عن أنفها ، وأخذت الوشاح تضعه على كتفيها ، ثم عادت إليه تجلس جواره غالقة الباب خلفها بعنف .
ابتسم بخفة ، ومال يطبع قبلة لطيفة على وجنتها ، قائلة بهدوء :
_ كدا اقدر اقولك ان شكلك زي القمر
كادت أن تفلت منها ابتسامة ، لكنها منعتها بصعوبة ، وأشاحت بوجهها عنه تنظر إلى الخارج ، بينما أنطلق هو بالسيارة متتبع الموقع الجغرافي الذي يظهر على هاتفه .
مرت دقائق من الصمت بينهما قطعها هو حين قال بهدوء :
_ جهزتي شنطتك عشان نرجع ناخدها بعد الخطوبة و نروح بيتنا
التفتت إليه ، ثم أجابت بتعجب :
_ احنا متفقناش اني هروح معاك البيت
ارتسمت ابتسامة خبيثة على محياه ، وقال بجدية :
_ هنشوف الموضوع دا بعد الخطوبة دي ما تخلص
تنهدت بقوة ، وفضلت الصمت حتى لا يحتد النقاش بينهما .
وصلا إلى مكان الحفل ، صف حمزة سيارته ، وترجل من السيارة ، فتح لها باب السيارة ، وأخذ يدها متوجهًا نحو الداخل .
تجمد جسدها ، واتسعت عيناها حين رأت ريهام وخطيبها ، التفتت ترمق حمزة بنظرة خاطفة ، لتجده منشغل بالهاتف ، لتعود بنظرها إلى ريهام ، تهمس بحنق :
_ يخربيتك هو اي حاجة من ريحتي و خلاص
أمسكت بذراع حمزة ، فرفع رأسه ينظر إليها ، لتهمس برجاء :
_ ممكن نروح لو سمحت
_ لية ؟
سأل بتعجب من تغيرها المفاجئ ، ثم رفع رأسه ليرى ما يمكنه ان يغير رأيها ، ليجد ريهام جوار نفس الشاب الذي تقدم يومًا لخطبة زوجته ، ابتسم ساخرًا ، وهتف متهكمًا :
_ اتخطبت لياسر ، عشان كدا كانت مصرة اننا نحضر
مررت يدها على كتفه برفق ، تشير بعينيها إلى السيارة قائلة :
_ حمزة يلا نروح ، عشان خاطري
أمسك بكف يدها يحتويه في كفه ، وتوجه معها إلى منصة العروسين ، قائلًا بنبرة جامدة :
_ يلا نباركلهم ، نمشي لية
صافح المدعو ياسر ضاغطًا على يده بقوة ، ولم يلقي عليه حتى تهنئة ، في حين قبلت كنزي وجنتي ريهام قائلة :
_ مبارك يا ريهام
ازاحت ريهام خصلة شعر من أمام عينها ، تتحدث بحماس مراقبة بخبث ردة فعل حمزة :
_ الله يبارك فيكي يا حبيبتي ، شوفتي المفاجأة
أشارت في نهاية جملتها على ياسر ، لكن كنزي لم تلتفت إليه حتى تتجنب غضب زوجها ، ليحاوط حمزة خصر كنزي بتملك تحكم به ، وتحدث بنبرة مازحة مشيرًا بيده بين ريهام وخطيبها :
_ و الله انا من زمان اقول انك اكتر واحدة لايقة على ياسر ، حتى كنت عارف ان ورا اصرارك اني احضر حاجة بردو
بهت وجه ريهام ، لم تكن تتوقع هدوء حمزة ، بل أرادت أن تشعل الأجواء ، لتبدأ معركة بينه وبين كنزي أمام عينيها .
ازداد ضيقها ، وشحوب وجهها حين مال حمزة قليلًا ينظر إليها بغضب يتطاير الشرر من عينيه ، وهمس بحدة محذرًا :
_ يمين بالله لو عرفت انك عتبتي السنتر بتاع كنزي او لمحت اسمك على تليفونها ، هيكون ليا تصرف عمرك ما كنتي تحلمي انك تعشيه ابدًا
اعتدل بوقفته يضم زوجته إليه أكثر ، يتحدث بمرح :
_ طب تستأذن احنا يا عصافير الحب
أخذ زوجته وتوجه إلى الخارج تاركًا ريهام تشتعل غضبًا ، وعيناها تراقبهما بحقد لم تسطع قمعه ، ليظهر واضحًا على ملامحها .
جلست إلى جواره بسيارته ، تضع يدها على ذراعه تستشف مدى غضبه مهما حدث ، اجفلت حين باغتها جاذبًا إياها بقوة لتستقر بين ذراعيه ، يضمها إليه ، رغم هدوء ملامحه إلا أن عيناه تفضحان ما يعتريه من غضب شديد ، وعقله يدفع له ذكرى قديمة حاول
دثرها بين سنوات زواجهما الأربعة .
تلك الحمقاء التي تضمه إليها الآن تمسد على كتفه حتى يهدأ ، قررت تركه بعد مشادة كلامية بينهما قبل خطبتهما بشهرًا واحدًا ، ووافقت على خطبتها لياسر ، لكنها تراجعت حين حدد والدها ميعاد لاتفاق الأهل ، لتركض إليه تهاتفه باكية ، تطلب منه المساعدة ، وبعد أن ثارت ثائرته على تصرفها الأحمق ركض ليتحدث مع والدها حتى يتراجع عن تلك الخطوة .
تنهد بقوة حين همست بصوت مرتجف :
_ انا آسفة
ابعدها عنه قليلًا يناظر وجهها المتوهج ، وعيناها التي فاضت بها الدموع ، مرر إبهامه على وجنتها التي تشع حرارة ، قائلًا :
_ وقتها كان جوايا غضب كفيل اني اشيلك و ارميكي في النيل
ضحكت بخفة ومالت برأسها على كتفه ، تبرر قائلة :
_ هرمونات و الله ، و عرفت غلطي ، يومها مرتاحتش غير لما جيت قعدت مع بابا
ثوان ، رفعت رأسها إليه من جديد تدفع بكتفه ، قائلة بضيق :
_ على اساس انك سيبت حقك ، ما انت فضلت تزعق لحد ما قولت خلاص مش هيجي
أمسك بذقنها ، يتحدث بمزاح غامرًا بعينه اليسرى :
_ مقدرش اسيب المانجا بتاعتي لحد
شردت بعينيه التي تتأملها بحب واضح ، لتحسم أمرها ، ستخبره بحملها ، سيعلم أنه سيكون أبًا خلال شهور فقط .
حمحمت بارتباك معتدلة بجلستها ، تهمس بخفوت :
_ انا عايزة اقولك على حاجة
انتبه إليها ، وحثها على الحديث ، فأغمضت عيناها تستجمع شجاعتها قبل أن تهمس بتوتر :
_ انا .. حـــ.
قاطعها رنين هاتفه يبتلع كلماتها ، لتتنهد بقوة ، حين أخرج الهاتف يجيب على شقيقه :
_ ايوة يا صهيب
عقد حاجبيه بتعجب ، متسائلًا :
_ خير موضوع اية ؟
صمت يستمع إلى حديث شقيقه ، ثم أجابه بجدية :
_ طيب انا جايلك و نتكلم بالتفصيل
أغلق الهاتف ، والتفت إليها لتكمل حديثها ، ولكنها تراجعت عن أخباره ، تخشي ذلك العالم الذي أدخل نفسه به ولا تريد المخاطرة بجنينها بتلك البقعة المظلمة التي ستكون عواقبها وخيمة ، ابتسمت ببهوت ، تبتلع ريقها كالعلقم ، ليمرر يده على خصلات شعرها قائلًا بلطف :
_ مع اني كنت ناوي اخطفك و نروح بيتنا ، هسيبك النهاردة تجهزي امورك ، و بكرا اجي اخدك
أومأت إليه تهمس بخفوت ، وعيناها تهرب من الالتقاء بعينيه :
_ بكرا لازم نحط النقط على الحروف ، لازم نتكلم .
***********************************
خرجت من المرحاض بعد الاستحمام ، ترتدي منامة حريرية بلون بني دافئ ، وتجفف خصلات شعرها الأسود القصير ، وضعت المنشفة على ظهر المقعد ، وراحت عينيها العسليتين المائلتين إلى الخضرة تبحث عن المجفف الكهربائي .
استمعت إلى صوت طرقات هادئة على باب غرفتها ، أذنت للطارق بالدخول بصوتها الرفيع ، لتدخل والدتها بجسدها البدين ، تبتسم ببشاشة قائلة :
_ كويس انك لسة صاحية يا "يثرب"
توجهت "يثرب" إلى والدتها ، تسأل بتعجب :
_ خير يا ماما ؟
اتسعت ابتسامة والدتها عندما جلست على الفراش ، ثم ربتت إلى جوارها ، تدعو ابنتها قائلة بهدوء :
_ تعالي يا حبيبتي اقعدي جنبي
تقدمت "يثرب" تريح جسدها المكتنز على الفراش ، ربتت والدتها على ظهرها ، تتحدث بهدوء ولم تنزاح تلك الابتسامة عن محياها :
_ الحاج حسين كلم ابوكي من شوية ، جايبلك عريس
اعترضت يثرب على الفور ، قائلة باندفاع :
_ لا ، مبفكرش في الجواز دلوقتي
أمسك والدتها بذراعها حين كادت أن تبتعد عنها ، لتقربها منها أكثر تضمها بحنو إليها ، قائلة :
_ اسمعيني يا قلب أمك .. هو بيقول شكله كويس وعنده ٢٩ سنة و دكتور ، عنده شقته بعيد عن بيت عيلته ، متدين و ماشاءالله عليه
تحدثت يثرب سريعًا :
_ يا ماما مش عايزة
مررت والدتها يدها بخصلات شعرها المبللة ، تستطرد حديثها :
_ اقعدي معاه بس ، و احنا مش هنغصبك على حاجة يا بنتي ، لو قولتي لا ، خلاص مش هتسمعي كلمة في الموضوع دا تاني
كادت أن تعترض يثرب من جديد إلا أن أوقفتها والدتها حين طبعت قبلة على رأسه ، قائلة :
_ هو جاي يوم الجمعة مع عمتو تقريبًا
تنهدت بقوة ، وابتعدتها عنها قليلًا ، تنهي حديثها بتمني :
_ ربنا يكتبلك الخير يا حبيبتي ، و يكون من نصيبك
قبلت وجنتيها ، وخرجت من الغرفة غالقة الباب خلفها .
ما أن خرجت والدتها حتى أطلقت العنان لدموعها ، وأخذت وسادتها تكبح بها صوتها وشهقاتها ، بكل مرة يحترم والديها رغبة في عدم الزواج حتى أن كان بشكل مؤقت ، اليوم فرضت عليها والدتها اطاعتهما في الأمر الثقيل على قلبها كحجر لا سبيل من النجأة منه .
***********************************
_ خليك واثق من نفسك ، انت من شركة الشحن اللي وصلت طلبية المانيكانات للمحل ، متنطقش بحاجة تانية
استعاد عقل حمزة حديث داوود قبل الخروج لانهاء تلك المهمة بمفرده ، رغم القلق الذي تجلى على ملامحه إلا أنه يحاول الثبات بكل الطرق ، ابتلع لعابه بارتباك حين توقفت سيارة الشحن أمام أحد المحلات التجارية لبيع الملابس النسائية ، عدل الكِمامة على وجهه تخفي جزء كبير من وجهه ، وتوجه مع العمال لنقل هياكل عرض الملابس بحرص شديد إلى المحل .
بدأ العمال في ادخال الهياكل إلى المخزن المجاور للمحل ، وحين كاد الأمر ينتهي على خير ، تجمد جسده وانحسرت أنفاسه داخل صدره عندما رأى سيارة الشرطة تتوقف أمامهم ، ويخرج منها الضابط "صادق" ، يصيح بعنف مشيرًا إلى هياكل العرض :
_ محدش يحرك حاجة من مكانها ، هنفتش المانيكانات دي
شعر بالدوار ، والبرودة تجتاح جسده ، أن فحص هياكل العرض ، سيجدها ممتلئة بالأسلحة ، ويصبح هو بخبر كان ، بدأ الجنود باقتحام المخزن وتحطيم الهياكل ، وكان هو يبحث عن طريق النجأة من هذا المأزق الذي سيؤدي بشبابه في السجن بين أربعة جدران باردة .