رواية اوار ( جنية الظلام ) الفصل الرابع 4 بقلم ندى محمود توفيق


 رواية اوار ( جنية الظلام ) الفصل الرابع بقلم ندى محمود توفيق



الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل بنفس موقع الحادث العجيب الذى تعرض له فارس داخل المقبرة الفرعونية، كانت الشوارع هادئة وحركة السيارات قليلة حتى خطوات الناس شبه منعدمة، خصوصًا في منطقة أثرية وصحرواية كهذه، كان الظلام يحاوط الاتجاهات الأربعة في تلك الصحراء وهناك ضوء ضعيف منبعث من بدر السماء.
توقف فارس بسيارته ثم راح يتلفت بنظره حوله يتأكد من عدم وجود أحد، وكذلك عز الجالس بجواره الذي قال بقلق ملحوظ:
_كان لازم يعني نيجي في نص الليل يافارس ما الصباح رباح

اجابه فارس بصوت قوي دون أن يحيد بنظره عن المنطقة حوله يبحث عن مكان المقبرة بالضبط:
_نيجي الصبح عشان حد يشوفنا ونطرد أنا وأنت من الشغل، لازم نيجي دلوقتي عشان ناخد راحتنا
تنهد عز الصعداء بقلة حيلة وهتف:
_طيب يلا ننزل عشان نشوف المقبرة دي ونخلص ونمشي

فتح فارس باب السيارة ونزل ثم لحقه عز، وقفوا بجوار بعضهم أمام السيارة يتفحصوا المنطقة بعيناهم، كانت نظرات فارس متحدية كلها شجاعة وحماس عازمة على إيجاد ما جاء للبحث عنه، أما عز فكان القلق والخوف مهيمنان عليه ولا يشعر بالراحة أبدًا في وجوده في هذا المكان وبذلك الوقت المتأخر.
ابتعد فارس عن صديقه واتجه لحقيبة السيارة يفتحها ليخرج منها اجهزته ومعداته الخاصة بالتنقيب، مسك واحدة واعطى الثانية لـ ” عز ” الذي سأله بغلظة صوته الرجولي:
_فاكر مكانها فين بظبط ولا هننقب عنها عشوائي
لم يجيب فارس وراح يتجول بنظره حوله محاولًا تذكر المكان بالتحديد، يتذكر خطواته إلى أين قادته وأين توقف، أو أين استيقظ بالصباح حتى أشار بسبابته على بقعة بعيدة نسبيًا عنهم وقال:
_هناك، تعالى يلا
سار ” عز ” خلفه متلفتًا حوله ليطمئن من عدم وجود أي أنظار تراقبهم فأن اكتشف أحد ما يفعلوه لن تكون النتائج مرضية أبدًا، بعد السير لمسافة قليلة توقف فارس بنفس النقطة تحديدًا التي جرح فيها اصبعه ثم هبت العاصفة الترابية، سكن للحظات يستعيد ذكريات تلك الليلة كلها ثم نظر لصديقه وقال بجدية تامة:
_هنا ياعز بظبط، يلا هنبدأ
أخذ ” عز ” نفسًا طويلًا وأخرجه زفيرًا متهملًا، ثم بدأ كل منهما يستخدم الجهاز المتطور الذي بين يديه لينقب به ويبحث عن النقطة المحددة للمقبرة وبوابتها، لكن طال بحثهم ومحاولاتهم المتكررة في نفس النقطة وبكل مرة يفشل الجهاز في إعطاء أي إشارة، فهز فارس رأسه بالرفض الممتزج بسخطه:
_أكيد الجهاز في مشكلة أنا متأكد أن المقبرة تحت هنا وظهرت أول ما قامت العاصفة
تنهد عز وقال برازنة بعدما ترك الجهاز من يديه:
_الجهاز مفهوش أي مشكلة يافارس، المقبرة مش موجودة أصلا، ومش منطقي أن عاصفة ترابية مكنتش قوية جامد تظهر مقبرة كاملة مدفونة تحت الأرض
صاح فارس منفعلًا:
_ازاي يعني مش موجودة امال اللي حصل معايا ده كان إيه وأنا كنت فين طول الليل، اللي شفته كان حقيقي ياعز مش تهيؤات متعاملنيش معاملة المجانين!
اقترب عز منه وربت على كتفه برفق وقال في صوت رخيم محاولًا امتصاص غضبه:
_ أنا مقولتش كدا ياصاحبي، بس أنا ذات نفسي مش فاهم أنت اللي شفته واللي حصل معاك ده كان إيه ومش مستوعب أن في مقبرة بالشكل ده، ده غير أني مش مطمن أبدًا وفي حاجة مش مريحة في المكان وفي الموضوع كله، خلينا نمشي ياصاحبي وانسى اللي حصل ده نهائي كأنه محصلش، أنا خايف عليك والله

ظل فارس بأرضه جامدًا ونظراته كلها نقم وغيظ ينظر للأرض والمكان من حوله بتحدى، ثم اندفع عائدًا لسيارته وسط نظرات عز المستفهمة، فوجده يفتح حقيبة السيارة ويخرج منها مجرفة للحفر ثم يعود إليه وفي عيناه نظرة الأصرار، ثم غرز المجرفة بالأرض وبدأ يملأها بالتراب ويليقه بعيدًا.. يحفر متحديًا كل شيء وعازمًا على إيجاد تلك المقبرة الغامضة وفهم ما الذي حدث معه.. متجاهلًا الآم جسده وحالته الصحية التي لم تتحسن كليًا بعد، وسط نظرات عز المندهشة منه ثم اسرع إليه هاتفًا وهو يمسك بذراعه يحاول إيقافه:
_فارس بتعمل إيه بلاش جنان أنت إيه فهمك في الحفر وهتحفر عن إيه أصلًا عن حاجة مش موجودة، خلينا نمشي ياصاحبي ابوس ايدك قبل ما حد يشوفنا

رمقه فارس بنظرة نارية وقال في صوت رجولي مهيب:
_المقبرة موجودة ياعز قولتلك، أنا عارف أنا بقول إيه كويس وفاهم، ومش همشي غير لما افهم كل حاجة والاقيها

رفع “عز” كفه لرأسه وراح يمسح على شعره نزولًا إلى وجهه متأففًا بقلة حيلة من عناد صديقه، وعيناه تراقب المكان من حوله بقلق فقد كان يداهمه شعور غريب بأن هناك انفاس شخص ثالث معهم يراقبهم، تحلى بالثبات التام وتجاهل ذلك الشعور المريب وترك فارس ينفذ ما عزم عليه فهو لن يتمكن من ردعه مهما فعل.
كان فارس يحفر بغضب هستيري وعيناه لا ترى شيء أمامه سوى هدفه الذي عزم على الوصول إليه مهما كلفه الأمر، لكنه فجأة تصلب مكانه وتجمدت يده وجحظت عيناه بدهشة عندما سمع نفس ذلك الصوت الذي خرج من الذئب في الصحراء يهمس في أذنه بلهجة ساخرة:
_ألم أخبرك أن لا تبحث عني يافارس؟.. توقف!
انتصب في وقفته وراح يتلفت حوله كالمجنون يبحث عن صاحب ذلك الصوت ولكن لم يجد أمامه سوى جسد صديقه أمام الذي سأله بتعجب:
_في إيه مالك؟
للحظة شك قد تهيأ له أن ما سمعه كان صوت ” عز ” ليس ذلك الذئب فراح يسأله بعينان مرتابة:
_أنت اتكلمت وقولتلي حاجة دلوقتي
ضيق عز عينيه باستغراب وأجابه بالنفي:
_ لا مقولتش حاجة
أذا لم يكن يتهيأ وما سمعه لم يكن صوت صديقه بل صوت مجهول من العدم غير مرئي أخبره أو أمره بالمعنى الأدق أن يتوقف عن البحث، وقف بصدمة وراح يتلفت حوله برأسه محاولًا التقاط أي شيء ليكتشف هوية ذلك الشيء الذي تحدث إليه، لكن الفراغ كان هو الوحيد الذى التقتطه عيناه، أما ” عز ” فقد زاد إحساسه بالخطر بعد عبارة صديقه وتأكد أنهم ليس بمفردهم بالفعل، فاقترب من فارس وأمسك بذراعه يحثه على الرحيل:
_يلا يافارس قولتلك وجودنا هنا مش مطمن وخطر يلا بينا

ظل فارس بأرضه دون حركة وهو شارد الذهن يحاول تفسير ما حدث ومن الذى تحدث إليه، حتى فاق على صيحة صديقه الغاضب:
_يلا بقى يا فارس أنت واقف مستنى إيه، احنا مش ناقصين مصايب
ثم انحنى ” عز ” على الأرض والتقط المجرفة بيده والأخرى كان يحمل بها جهاز التنقيب وسار مع فارس تجاه السيارة، وضع الأدوات بالحقيبة ثم اتجه إلى باب المقعد المجاور لفارس واستقل به، انطلق فارس بالسيارة وعيناه عالقة على الطريق لكن عقله شارد بذلك الخطر المجهول، أتاه صوت ” عز ” يسأله بعدم فهم:
_هو حصل إيه؟!
قال فارس بعقل تائه:
_سمعت نفس الصوت في ودني أنا وبحفر بيقولي متدورش عليا يافارس
طالت نظرات عز له في عدم استيعاب ودهشة، ثم رفع أنامله يحك في ذقنه ولحيته الخفيفة محاولًا تمالك أعصابه حتى لا ينفعل ثم هتف بلهجة حازمة شبه آمرة:
_حلو اوي، اسمع بقى.. أنت روحت وأنا روحت معاك عشان نتأكد بنفسنا لو في مقبرة فعلًا ولا لا وملقيناش حاجة، وحتى لو في هنعتبرها مش موجودة ومش هتفتح السيرة دي تاني يافارس، بكرا هنبدأ شغل في المهمة اللي جايين عشانها وهنخلص شغلنا ونرجع البيت وننسى كل ده ونكمل حياتنا وشغلنا طبيعي خالص، تمام ؟

لم يجيبه فارس وفضل الصمت وهو يفكر بكل تلك الظواهر الغريبة التي تعرض لها منذ أمس، حتى سمع صوت ” عز ” بحدة وهو يؤكد عليه شبه تعليماته:
_رد عليا يافارس، تمام ولا لا هنقفل على الموضوع ده تمامًا ياصاحبي وننساه!
هتف فارس بنفاذ صبر وحنق:
_ماشي ياعز خلاص ياعم
صك سمعه صوت رنين هاتفه فالتقطه ونظر في شاشته التي انيرت باسم زوجته، فأجاب ووضع الهاتف على أذنه:
_ايوة يا ليلى
وصله صوتها القلق والمستاء:
_أنت فين يافارس لغاية دلوقتي وأنت لسا تعبان؟!
اجابها بصوت هادئ:
_أنا جاي دلوقتي متقلقيش
هزت رأسها براحة خلف شاشة الهاتف ثم هتفت بنبرة خافتة بعد تفكير من التردد:
_طيب خد بالك من نفسك
_حاضر يا ليلى سلام
أنهى معها الاتصال ثم نظر لصديقه الذي كان يرمقه بعدم رضا عن ما يفعله سواء في علاقته مع زوجته أو حتى إخفائه عنها ما يحدث معه وإصرار على السير إلى المجهول والجحيم بقدميه.
***
نصف ساعة مرت وهي تنتظره، فمنذ تلك الليلة التي غاب فيها عن المنزل واصابها هوس القلق والخوف الهستيري عليه، فالحالة التي جاء بها للمنزل في الصباح كانت كفيلة لجعلها تفقد عقلها.

كانت جالسة على الأريكة المقابلة للتلفاز وعيناها عالقة على الشاشة لكن ذهنها مشغول به، تفكر وتحلل سبب خروجه في منتصف الليل مع صديقه وهيئته الغريبة حتى نظراته وهو يغادر لم تكن طبيعية، إلى أين ذهبوا؟.. وماذا فعلوا؟.. والأهم من كل هذا ماذا يخفون عنها؟!!.
فاقت من دوامة تحليلها على صوت الباب فالتفتت فورًا بتلهف إليه لتجده يدخل ويغلق الباب خلفه بتعبيرات وجه مريبة مزيج بين الغضب والتيه، لدرجة أنه لم ينظر لها فقط قاد خطواته إلى غرفته بصمت دون أن يتفوه بحرف واحدة، وسط نظراتها المغتاظة والمندهشة من تصرفه أو تجاهله لها بالمعنى الأدق، وثبت واقفة بعد دقائق من الهدوء المزيف ومحاولاتها في تمالك زمام أعصابها لكنها فشلت فلحقت به إلى غرفته وفتحت الباب ودخلت لتجده جالس على الفراش دافن رأسه بين راحتي كفيه، كانت قد اتت إليه متحفزة ومشتعلة لكنها تجمدت بأرضها عندما رأته هكذا، وازدادت الشكوك في قلبها حول إخفائه عنها شيء خطير، فهو لا يكون بهذه الحالة أبدًا إلا أذا كان الأمر يستحق.
تقدمت إليه بخطى رقيقة ثم جلست بجواره وسألته بترقب وعينان حائرة:
_مالك يا فارس.. وكنت فين مع عز في الوقت ده وأنت تعبان اصلًا؟

أجابها بصوت خافت دون أن يرفع رأسه عن كفيه وينظر لها:
_روحنا نخلص شوية شغل قبل ما نبدأ في الحفر بكرا والتنقيب
هزت رأسها وهي تزم شفتيها بعدم اقتناع ثم همست له بلهجة مختلفة ليست رقيقة وناعمة كطبيعتها:
_فارس أنت مخبي عليا إيه؟!
رفع رأسه أخيرًا ونظر لها بنفاذ صبر وقال في حنق:
_لو بتلمحي على موضوع اني متجوز عليكي والهبل ده صدقيني أنا مش قادر اناهت معاكي أبدًا يا ليلى.. اجلي شكك فيا ده بعدين لو سمحتي.. ممكن؟
هتفت ليلى بغضب وحدة فور ذكره زواجه عليها:
_أنا مقولتش كدا ومجبتش سيرة حاجة ولا لمحت أنا بسألك سؤال واضح وصريح، أنت اللي مش طبيعي من وقت ما جينا هنا وأنا متأكدة أن في حاجة أنت مخبيها عني
مسح على وجهه بقلة حيلة وأخذ نفسًا عميقًا مخرجًا إياه بزفيرًا أشبه بتأفف وقال في جدية:
_هكون مخبي عليكي إيه يا ليلى، اللي حصل امبارح وغيابي عن البيت قولتلك سببه وأعتقد أن كان واضح عليا أصلا من اللي أنا كنت فيه أني مكنتش بكدب

هتفت ليلى بعصبية شديدة وقلق ملحوظ في نبرة صوتها:
_مهو المشكلة كلها في امبارح أنت شايفني ساذجة للدرجة دي عشان اصدق الكلام اللي قولته، أنت مكنش مغمى عليك يافارس وحصلت معاك حاجة مش عايز تحكهالي
اطال النظر في وجهها بصمت لا يعرف بماذا يجيبها فمهما قال هو يدرك جيدًا أن زوجته ليست حمقاء لتصدق تلك التراهات ولكنه كان يحاول اسكاتها بها فقط، لكن حتى محاولاته لاسكاتها فشلت، جملتها التالية كانت كافية لتضحكه من القلب وسط حالته المزرية والمصائب التي تتصارع عليه، حيث سألته بنظرات مهتمة وقلقة بعدما مالت بوجهها عليه واخفضت نبرة صوتها وهي تحدثه كدليل على جديتها:
_اتخانقت مع حد طيب شوية بلطجية يعني وهما اللي عملوا فيك كدا وضربوك؟
أجابها من بين ضحكه مازحًا وهو يرفع حاجبه بثقة:
_إيه يا ليلى أنتي نسيتي جوزك ولا إيه، هو أنا برضوا حد يقدر يثبتني نسيتي اللي عملته مع العيال اللي حاولوا يعكاسوكي ويقربوا منك وأنتي ماشية معايا أيام الخطوبة.. عيب لما تقولي كدا في وشي

سكنت بعد كلماته وسرحت متذكرة ذلك اليوم وعلى ثغرها ابتسامة مغرمة لا إراديًا، كانوا مازالوا في فترة الخطوبة وخرجت للتنزه معه وتأخر الوقت عليهم فاقترحت هي عليه أن يوصلها لمنزلها مشيًا.. معللة أن تحب السير معه كثيرًا فلم يرفض طلبها ولبى رغبتها على الفور بكل حب، وبينما كانوا يسيرون في طريق منزلها، كان هناك ثلاث شباب يسيرون في الاتجاه المعاكس لهم ولا يحيدون بنظراتهم الوقحة عنها التي تتفحصها بجرأة، فلاحظهم فارس وغلت الدماء في عروقه وكان سينقض عليهم لولا أنها أسرعت واحتضنت كفه الكبير بين كفها الناعم وهمست له بحب:
_بليز يا فارس أهدى سيبك منهم دول شوية شباب مش محترمة ميستحقوش
لمستها الجميلة جعلت أعصابه ترتخي كالسحر وتمالك انفعالاته حتى لا ينقض على هؤلاء السفلة لكنه لم يحرمهم من نظراته القاتلة يرسل من خلالها إشارات الإنذار أن ينزلوا تلك العيون عن فتاته وحبيبته قبل أن يفقدهم إياها تمامًا، لكن لا حياة لمن تنادى بل تمادوا إلى أن أحد منهم أثناء مروره بجانب ليلى همس لها بكلمة شنيعة وحاول لمسها، لا تذكر بعدها ما الذى حدث فقد كان فارس كأسد فتحوا له القفص وانطلق لاصطياد فريسته، دارت معركة عنيفة بينهم يتبادلون فيها اللكلمات والضرب وهي تقف في الزاوية مبتعدة تصرخ عليه وعيناها دامعة من فرط الخوف، كان المهين في تلك المعركة هو فارس بسبب قوته البدنية وجسده الرياضي مفتول العضلات نظرًا لمواظبته على النادي الرياضي والألعاب الرياضية يوميًا، وبعدما انتهى الشجار بينهم وابرحهم ضربًا لم يكتف بذلك بل أجرى اتصال بأحد أصدقائه من ضباط الشرطة وطلب منه أن يرسل سيارة شرطة ويأخذ هؤلاء الشباب.
فاقت من تلك الذكرى الجميلة وهي مازالت تبتسم وراحت تنظر لجسده الذي لم تتغير معالمه أبدًا فمازال كما هو محافظ على ليقاته البدنية وجسده الرياضي، رغم أنه لا يذهب للصالة الرياضية بالتزام كالسابق إلا أنه لم يفقد عضلات ذراعيه أو حتى صدره إلى الآن.

شعرت وكأنها ستفتن به من جديد كأول مرة بل وستنهار بين ذراعيه معلنة استسلامها وتراجعها عن ذلك القرار السخيف الخاص بطلاقهم معترفة بعشقها الجنوني له، لكنها فورًا تذكرت كل تلك الأحداث التي توالت في الحدوث معهم بداية من افشائه عن عدم رغبته في إنجاب الأطفال الآن التي أدت بدورها إلى تصدعات خطيرة في زواجهم لينتهي المطاف بهم على حافة الانفصال.
لاحظت نظراته المتعجبة من تأملها به فانزوت نظراتها المفتونة عنه وقالت بنظرة تحمل العتاب والحزن:
_صحيح احنا خلاص هننفصل وكل واحد فينا هيروح في طريق بس اعتقد اننا حتى لو أطلقنا هنفضل أصدقاء زي ما كنا يافارس قبل الجواز، فأنت معقول وصل الحال بينا إنك معندكش ثقة فيا تحكيلي إيه اللي بيحصل معاك؟

” ما تلك التراهات التي تتفوه بها ومن الأصدقاء وثقة من؟ ” كان يهمس في عقله بتلك الكلمات وهو ينظر لها باستغراب، ليتها تفهم أن ما يخفيه عنها لمصلحتها ولخوفه عليها ليس انعدام ثقة كما تعتقد.
هتف فارس بنظرة تحمل معاني العتاب والعشق كلها بعدما استقام واقفًا:
_أنا بثق فيكي يا ليلى يمكن أحيانا اكتر من نفسي كمان ولو في حاجة أنا مخبيها عنك فـ اتأكدي أنك أول واحدة هتعرفي لو الأمر يستدعى إنك تعرفي، ثانيًا بقى والأهم احنا عمرنا ما كنا صحاب ولا عمرنا هنكون حتى بعد انفصالنا.. لو أنتي عندك القدرة إنك تبصيلي وتعامليني معاملة الصديق فأنا مش هعرف
أنهى كلماته وهم بأن ينصرف ويتركها لكنها قبضت على ذراعه توقفه عنوة وتهتف بعينان غارقة في الدموع:
_لما أنت لسا بتحبني خليتنا نوصل للنقطة دي ليه.. ليه مش عايزني اخلف ولا عايز أولاد مني طالما بتحبني ومش بتخوني زي ما بتقول
صاح بنبرة صوت ساخطة ومرتفعة:
_مش أنا اللي وصلتنا لكدا، أنتي اللي وصلتينا فاكرة ولا نسيتي اللي عملتيه
كادت أن تجيبه وتبدأ حلقة إلقاء التهم ولوم كل منهم الآخر كما اعتادوا لكن فجأة ضرب الهواء باب الشرفة بعنف فانفتح على مصراعيه وسقطت المزهرية الصغيرة على الأرض متناثرة إلى أجزاء صغيرة في كل مكان بفعل شدة الهواء، وبنفس اللحظة مع كل هذا انقطعت الكهرباء عن المنزل كله، وقفت ليلى مندهشة تتلفت حولها بعدم فهم وهي لا تبصر شيء سوى الظلام، أما فارس فكانت نظراته مختلفة عن ليلى كان يتجول بنظره في الظلام من حوله بانتظار أن يرى أي شيء يثبت له شكوكه، فهو لا يمكنه التغاضي عن شعوره بتلك الأنفاس التي تشاركهم الغرفة.
خرج صوت ليلى متعجبًا بعدما رأت من الشرفة الانوار في كل مكان بالخارج:
_هو النور قطع في شقتنا بس ولا إيه؟
فاق فارس من حالة الترقب المريبة التي هيمنت عليه وقال:
_هروح اشوف الكهرباء يمكن السكينة نزلت
تحسست ليلى على الفراش حتى وجدت هاتفها واضاءت كشافه ثم قالت لفارس بهدوء وعدم خوف وهي تجلس على الفراش:
_تمام روح شوف وأنا هستناك هنا
التفت وكان سيهم بتركها والذهاب ليفحص الكهرباء الخاصة بالمنزل، لكنه توقف عندما التقطتت عيناه لمعان قطع المزهرية المتناثرة في الأرض، فشعر بعدم الارتياح والخطر من مجهول لا يفهمه وعاد يلتفت لها مجددًا ليمسك بيدها ويجذبها معه هاتفًا:
_لا متقعديش وحدك تعالى معايا يلا
رمقته بحيرة وقالت في عدم فهم مازحة:
_في إيه يا فارس هو أنا عيلة صغيرة هخاف من الضلمة، مشغلة كشاف التلفون أهو والأوضة منورة
فارس بحدة ونظرة تحمل الخوف والاهتمام الحقيقي بأمرها:
_ليلى قولتلك متقعديش وحدك متعانديش بقى
ضيقت عيناها باستغراب شديد من أمره وسارت معه وهو مازال مقبض على كفها يحتضنه بقوة بين كفه الكبير، همست له بقوة:
_طيب ماسك ايدي كدا ليه ما أنا جاية معاك أساسا
نظر لها وابتسم بحب حتى لا يشعرها بارتيعاده وخوفه عليها من كائن مجهول يلاحقه ولا يفهم ماذا يريد منه، لف ذراعه حول كتفها وضمها إلى صدره يقول مازحًا:
_الاحتياط واجب برضوا يالؤلؤة
اتسعت عيناها بصدمة من تبدله الجذري معها بعدما كان يصيح ويتشاجر معها، وما زادها صدمة اكثر هو مناداته لها بـ ” لؤلؤة ” فهي حتى لا تذكر متى كانت المرة الأخيرة التي سمعته يناديها باسماء الدلع، بعد شجاراتهم المتكررة وقرار انفصالهم لم تعد تسمع من شفتيه سوى اسمها فقط حتى كلمة ” حبيبتي ” التي اعتاد عليها توقف عنها.
سارت معه للخارج وهي تتطلعه بتركيز شديد، تراقب تعبيرات وجهه الغريبة وهو يتلفت حوله ويضمها لصدره بإحكام شديد كأنه أن افلتها وخرجت من بين ذراعيه للحظة واحدة ستخطف ولن تعود له ثانية، كانت مدركة تمامًا لحالاته المريبة ومتأكدة من أنه يخفي عنها أمرًا خطيرًا يجعله بكل هذا الخوف، وصلوا أخيرًا إلى صندوق الكهرباء بالمنزل وتركها أخيرًا ليبدأ فحص الأسلاك والكهرباء وهي تنير له بكشاف هاتفها لتسمعه يقول بحنق شديد في نبرة صوته:
_الأسلاك والسكينة اتحرقت كويس أنها معملتش ماس كهربائي
ليلى بكل بساطة وهدوء:
_طيب خلاص أنت متعصب ليه بكرا أن شاء الله نجيب الكهربائي ويصلحها، مش مشكلة ننام الليلة في الضلمة والحمدلله أننا في الشتاء يعني والجو مش حر
أخذ نفسًا عميقًا وأخرجه زفيرًا قوي في حنق ثم رفع كفه ومسح على وجهه متأففًا وقال محدثًا إياها بقلة حيلة:
_انتي هتنامي دلوقتي ولا لسا هتقعدي صاحية شوية؟
ليلى بخمول وإرهاق:
_لا أنا عليا النوم جدًا هطلع انام وأنت كمان روح نام وارتاح عشان بكرا هتبدوا الحفر والشغل
هز رأسه لها بالموافقة في أعين تحمل نظرات لم تفهمها، خوف أم حب أم ماذا لكنها لم تكترث كثيرًا واستدارت تقود خطواتها متجهة لغرفتها المنفصلة عنه، وسط عيناه المترقبة والمهتمة التي تراقبها خطوة بخطوة، كم يود أن يمنعها ويجبرها على النوم معه في غرفته بتلك الليلة المرعبة التي لا يشعر فيها بالراحة ابدًا، لكنها سترفض وسيزداد شكها أكثر وستبدأ في طرح الاسئلة المختلفة عليه وهو غير مستعد الآن لإخبارها بشئ لم يفهمه بعد.
فتحت باب غرفتها وقبل أن تدخل توقفت على أثر صوته والتفتت برأسها له تتطلعه باستغراب وهو يقول:
_لو احتجتي أي حاجة أو حسيتي أنك مش مرتاحة أو خايفة اندهي عليا يا ليلى أنا قاعد صاحي

اطالت النظر في تعبيراته المضطربة وضيقت عيناها بعدم فهم، ثم تنهدت وهزت رأسها له بالموافقة ودخلت وهي تطرح الاف الأسئلة في عقلها أهمهم ” ياترى ماذا تخفي عني يافارس ؟ ”
أما هو فقد اتجه إلى المطبخ ليجلب شمعة وعاد ثم جلس على الأريكة ووضعها بجواره على المنضدة واشعلها، بقى ساكنًا وهو يفكر ويحلل يحاول إيجاد تفسير لما يحدث معه، حتى تذكر تلك المخطوطة فلمعت عيناه وهب واقفًا مندفعًا إلى غرفته بسرعة ليجلبها ويحاول دراستها جيدًا عله يجد أي ثغرة تمكنه من حل ذلك اللغز.
جلس على الأريكة مجددًا بعد عودته من الغرفة وفتح البردية على الطاولة أمامه وراح يتفحصها على ضوء الشمعة يقرأ كل رمز فيها ويفك شفرة كل رمز قرأه أكثر من عشر مرات وكل مرة تكون النتيجة واحدة لا جديد، لكن سقطت عيناه على رمز صغير جدًا في نهاية المخطوطة يمكن رؤيته بصعوبة، دقق النظر به محاولًا فك شفراته وترجمته لكن ذلك الرمز لم يكن رمز فرعوني أو أي من رموز اللغات الأخرى التي عرفها، اطال فارس النظر في الرمز بتفحص وتفكير عميق فإذا به ينتبه على شعلة الشمعة التي بدأت تتمايل وتتراقص يمينًا ويسارًا على الرغم من عدم وجود أي نسمة هواء حوله فجميع النوافذ مغلقة، ازداد تراقصها حتى انطفت فجأة فالتفت حوله بقلق بسيط وقد تأكد من وجود ذلك الكائن المجهول حوله.. هو لا يراه لكنه يشعر به، التقطت اذناه صوت خطوات مسموعة تسير باتجاه غرفة زوجته، ففغر شفتيه وعيناه بصدمة ووثب واقفًا مزعورًا وهرول ركضًا لغرفتها غير مباليًا بأي شيء، فتح الباب على مصراعيه وبحث عنها بلهفة فوجدها نائمة في فراشها بثبات، لكنه تصلب بأرضه مصدومًا عندما رأى المقعد الهزاز لزوجته الموضوع بجوار الشرفة يهتز ببطء، ظل جاحظًا عيناه مثبتهم على المعقد بعد استيعاب حتى توقف وحده فجأة، التفت برأسه تجاه ليلى واقترب منها بخطوات متعثرة من دهشته وارتيعاده عليها، جلس بجوارها على حافة الفراش وانحنى عليها يلثم شعرها ورأسها بقبلات طويلة ثم رجع للخلف سنتي مترات قليلة وهمس لها وهو يمسح على شعرها بحنو محاولًا السيطرة على نبضات قلبه:
_ليلى اصحى.. ليلى
ثم التفت برأسه تجاه المقعد فوجده ثابت ليعود إلى زوجته مجددًا يعيد همسه عليها لكن بنبرة أعلى قليلًا ففتحت عيناها هي بنعاس وردت بصوت ضعيف متعجبة من اقترابه الحميمي هكذا:
_فارس!!.. في إيه؟!
رد بصوت رجولي هادئ:
_مفيش حاجة تعالي معايا الأوضة نامي جمبي هناك
ضيقت عيناها بدهشة من طلبه وقد فر النوم من عينيها فقالت:
_أنام جمبك؟!!
فارس بضيق بسيط وجدية:
_ايوة فيها إيه غريب دي يا ليلى مراتي وعايزك تنامي جمبي، وهنا سرير اوضتك دي صغير مش هيسعنا فتعالي في اوضتي
هبت جالسة ونظرت له بحدة راحت تسأله صراحة بغيظ:
_أنت في إيه مالك النهاردة مش طبيعي كدا ليه، ايه اللي بيحصل فهمني؟
فارس بنفاذ صبر وهو يستقيم واقفًا:
_ايوة أنا مجنون ممكن بقى تاخديني على قد عقلي وتسمعي كلامي
ليلى بعناد وإصرار تام:
_لا مش هتحرك من مكاني غير لما تفهمني كل حاجة
استغفر ربه بعصبية ثم مسح على شعره وهو يتأفف وينظر لها بغيظ فإذا به ينحنى عليها فجأة ويحملها بين ذراعيه ويتجه بها لخارج غرفتها يسير نحو غرفته وسط صدمتها منه وصوتها الغاضب وهي تقول:
_أنت اتجننت رسمي بجد، بتعمل إيه نزلني يافارس بلاش جنان

لم يكترث لها وتجاهل طلبها وغضبها حتى وصلوا لغرفته فانزلها على الفراش ونظر مطولًا لها بدفء هذه المرة عكس ما كان منذ قليل ثم همس:
_أنا مش حابب أنك تنامي في اوضة وأنا في اوضة ياليلى عايزاك تكوني جمبي، يعني من هنا ورايح هتنامي جمبي مكانك هنا، تمام

اطالت التحديق به في نظرات مستفهمة لكنها تحكمت بانفعالاتها وحاولت التصرف بذكاء لتكتشف ما يخفيه عنها، حيث سألته بكل لطافة وهي تبدي عن انصياعها التام لأوامره:
_اوكي يافارس وأنا موافقة، بس ممكن افهم السبب؟
هتف بكل ثقة وثبات وهو مبتسمًا:
_هو اللي أنا قولته ده مش سبب كافي بنسبالك!!.. بقولك عايزك تكوني جمبي
حدقها لثواني بعد انتهاء عبارته يفحص تعبيراتها ويقرأ مشاعرها فوجد الصمت النابع من صدمتها وحيرتها هو المهيمن عليها، أخذ نفسًا عميقًا وابتعد عنها بخطواته يتجه نحو الخزانة ليخرج كشافًا كبيرًا كان قد قام بشرائه في زيارتهم السابقة لهنا، وضعه بزاوية مناسبة ليستطيع إنارة الغرفة بأكملها، ثم اقترب من فراشه ليتسطح عليه بجوارها لكنه تذكر المخطوطة التي تركها بالصالة وهرول مفزوعًا لزوجته، فنظر لـ ليلى وقال بلهجة رجولية قوية:
_أنا هروح الصالة اجيب حاجة نسيتها وراجع
هزت رأسها بالموافقة له بينما هو فأسرع في خطاه للخارج يتجه إلى المنضدة الموضوعة فوقها المخطوطة بتلهف خشية من أن تكون اختفت وقام ذلك الكائن بأخذها، لكنه تنفس الصعداء براحة عندما وجدها بمكانها فاتجه نحوها والتقطها ثم طواها ووضعها بجيبه.. قبل أن يخرج يده من جيبه صك سمعه صوت صفع باب غرفة نومه بقوة فالتفت برأسه للخلف وصاح مناديًا على زوجته بتعجب:
_لــيلــي انتي كويسة ؟
سمع صوتها المرتفع من الداخل تحدثه:
_كنت جاية ليك والباب قفل مرة واحدة يافارس ومش راضي يفتح

اتسعت عيناه بذهول وبسرعة ركض إلى غرفته وراح يحاول فتح الباب وليلى تقف خلف الباب من الداخل مباشرة تحاول هي أيضًا معه فتحه هاتفة:
_أنا مش عارفة ازاي قفل كدا!!
فارس بصوت مزعور:
_خليكي واقفة ورا الباب متتحركيش
طالت محاولاته البائسة في فتح الباب وهي انقطع صوتها تمامًا عنه فهتف يناديها باهتمام:
_ليلى أنتي فين؟
وصله صوتها الخائف على غير عادتها وهي تهمس له:
_الكشاف طفى والأوضة ضلمة أوي، هو في إيه يافارس أنا خايفة اتصرف وافتح الباب بسرعة عشان خاطري

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1