رواية اوار ( جنية الظلام ) الفصل الخامس بقلم ندى محمود توفيق
تسارعت نبضات قلبه لهفة وارتيعاد عليها بعدما سمع صوتها الخائف وهي تستنجد به فاجابها بحنو محاولًا تهدأتها:
_اهدى متخافيش ياحبيبتي ده تلاقي هبطارية الكشاف خلصت، ارجعي أنتي بس خطوتين لورا كدا عشان هكسر الباب
امتثلت له فورًا وتقهقرت للخلف وهي تتلفت حولها بخوف، في العادة هي لا تخشى الظلام وخوفها الآن ليس طبيعيًا فقد كانت تشعر بأنفاس مجهولة تشاركها الغرفة في الظلام الدامس، ثم عادت تنظر للباب بارتيعاد وهي على أحر من الجمر تنتظر اللحظة التي سيفتح بها الباب ويدخل زوجها، مع كل دفعة من جسده للباب لكي يكسره كانت أنفاسها تتسارع رعبًا أكثر، أخيرًا بعد لحظات مرت كالساعات من حبس الأنفاس انفتح الباب على مصراعيه وظهر فارس وهي يبحث عنها بتلهف، اقتربت هي منه والقت بجسدها بين ذراعيه وعيناها تذرف الدموع الحارة على صدره بصمت، أخذ يمسح هو على ظهرها وشعرها بدفء وبشفتيه بقبل جبهتها، بينما هي فبرغم من انهيار أعصابها وخوفها كانت اذناها تسمع صوت دقات قلبه العنيفة فابتسمت بحب وهمست له بصوت مبحوح:
_أنا مش بخاف من الضلمة أنت عارف بس معرفش إيه اللي حصل دلوقتي كنت حاسة بحاجة غريبة وكأن في حد معايا في الأوضة
هتف بخفوت جميل وهو مازال يمسح على شعرها ليهدأ من روعها ويطرد عن ذهنها أي فكرة من هذه الأفكار التي لا يريدها أن تترسخ في عقلها:
_ده عشان انتي بس اتخضيتي مش اكتر، متفكريش خلاص موقف وعدى يا ليلى الحمدلله
ابتعدت عنه ورفعت أناملها تجفف عبراتها ثم نظرت له مبتسمة بخبث وقالت في رقة:
_واضح أنك أنت كمان اتخضيت عليا عشان كدا قلبك بيدق جامد
رفع حاجبه بتعجب من نظرتها وأسلوبها الجديد وهمس بعبث:
_مش عارف، بس جايز برضوا ليه لا
ابتسمت بنظرة ذات معنى تحمل من الود ما يكفي لإثبات حبها له، بينما هو فاقترب من الفراش وتسطح عليه وقام بتشغيل كشاف هاتفه ووضعه بجوار الفراش لينير الغرفة، تمددت هي بجواره وكلاهما نائمًا على ظهره يحدق في السقف بشرود أما هي فكانت تخطف النظرات خلسة إليه ونفسها تلح عليها لكي تأخذ الخطوة وتفعل ما يريده قلبها الآن.. لكن علاقتهم المذبذبة وظروفهم تمعنها، ظلت هكذا لدقيقتين وهي في صراع بين عقلها وقلبها فاختارت القلب بالنهاية ونظرت له على استحياء وهمست:
_فارس ممكن تاخدني في حضنك؟!
رمقها بدهشة وعدم استيعاب لما طلبته للتو، فقد كانت منذ قليل ترفض مشاركته الغرفة حتى.. والآن تطلب منه أن يضمها ويأخذها بين ذراعيه، ما الذى يحدث مع هذه المرأة اهي تحبه أم تبغضه.. تريده أم تنفر منه؟، ليته يفهم كيف يعمل عقلها.
بسط ذراعه على الفراش بالمنتصف بينهما ونظر لها مبتسمًا بحب يعطيها إشارته المرحبة بانضمامها لاحضانه، تهللت اساريرها واقتربت منه تضع رأسها فوق صدره فيغلق هو ذراعه عليها ويضمها إليه أكثر، ليهيمن الصمت عليهم منذ هذه اللحظة، هي شاردة بتلك اللحظة الجميلة التي حرمت منها منذ شهور وعادت تفكر وتسأل نفسها في أسى، هل أنا ظالمة وظلمته عندما اتهمته بالخيانة وعدم حبه لي؟.
بينما هو فقد كان عقله شارد بعالم آخر تمامّا تحديدًا بذلك العالم الذي دخل إليه ومنذ عودته لعالمه الخاص تغير كل شيء، أصبح هناك روح مجهولة تطارده ويخشى أن تؤذى زوجته، ولسوء الحظ أنه لا يعرف هوية هذه الروح ولا من أين أتت ولا حتى كيف يتخلص منها، والآن هو يضم ليلى بحضنه ليس تلبية لرغباتها بقدر ماهو خوفًا عليها ولأنها الطريقة الوحيدة التي ستجعله ينام مطمئن عندما تكون بين ذراعيه هكذا ويحكم قبضته ويضمها إليه بقوة حتى لا يفقدها.
***
بصباح اليوم التالي في القاهرة بمنزل والد فارس تحديدًا بغرفة أخيه ماهر، الذي كان يستعد ويرتدي ملابسه للذهاب إلى عيادته الخاصة فتذكر شقيقه الذي يحاول الاتصال به منذ يومين ولا يجيب، التقط هاتفه وجلس على اقرب مقعد وظل يعبث في هاتفه يبحث عن رقمه ثم ضغط على الاتصال ورفع الهاتف لأذنه يستمع لصوت الرنين الذي طال وعلى آخر لحظة أجاب فارس بصوت ناعس:
_الو
ماهر بقلق ونبرة غليظة:
_إيه يابني أنت فين، لينا يومين أنا وأمك وابوك بنحاول نوصلك ومش عارفين وحتى ليلى مش بترد على تلفونها
رفع فارس انامله لعيناه يفركهما بخمول ثم اخفض نظره إلى زوجته التي مازالت على وضعها نائمة في حضنه، وقد تسللت أشعة الشمس والضوء إلى الغرفة معلنة عن انتهاء ظلام تلك الليلة المرعبة، أجاب على أخيه بخفوت:
_خليك معايا طيب ثانية كدا يا ماهر
ترك فارس الهاتف على المنضدة بجوار الفراش كما كان وصب تركيزه على زوجته يبعدها عنه ببطء شديد وحرص حتى لا يوقظها، أسند رأسها على الوسادة بعدما سحب ذراعه من اسفلها وعاد يلتقط هاتفه ويقود خطواته الحذرة إلى خارج الغرفة ليجيب على أخيه بصوت قوي:
_أنا من ساعة ما جيت هنا وفي حجات غريبة بتحصل معايا ياماهر عشان كدا مش لاحق اتصل بيك ولا بـ ماما وبابا
اجابه ماهر مضيقًا عيناه بعدم فهم:
_حجات غريبة ازاي يعني؟
فارس بحنق وقلة حيلة:
_الموضوع ده مش هينفع يتحكي في التلفون لما ارجع القاهرة هبقى احكيلك، المهم أنت متجبش سيرة لبابا وماما وطمنهم عليا أنا شوية كدا لما أفضى هتصل بيهم
هتف ماهر بقلق ملحوظ في نبرته:
_طيب في إيه طمني أنت كويس وليلى كويسة؟
فارس بإيجاز:
_كويسين اطمن، هبقى احكيلك بعدين يلا بقى سلام قبل ما ليلى تصحى عشان أنا مش معرفها حاجة
أنهى الاتصال مع أخيه ودخل مجددًا لغرفته فوجدها مازالت نائمة، اتجه نحو الحمام ليأخذ حمامه الصباحي ويستعد للذهاب لعمله قبل أن يتأخر.
أما ماهر فقد كان عقله مشغول بأخيه ويستاءل بحيرة عن ذلك الأمر الغريب الذي لا يمكنه الحديث عنه بالهاتف، نبرته لم تكن طبيعية ومريبة مما يؤكد له خطورة الأمر، انفتح الباب ودخلت سحر وهي مبتسمة بإشراقة وجه تهتف:
_خلصت ياحبيبي يلا عشان الفطار جاهز
أجابها ماهر بابتسامة دافئة:
_خلصت ياست الكل دقيقتين وآجي وراكي، صحيح أنا كلمت فارس هو كويس اطمني وقالي شوية كدا هيبقى يتصل بيكم
ظهرت اللهفة في عيون الام واندفعت نحو ماهر تسأله بقلق:
_يعني اخوك كويس ياماهر بجد اوعى تكوني مخبي عني حاجة أنا قولتلك مش مرتاحة لغيبته دي عني، فارس كل يوم بيكلمني لما يكون مسافر
مد ماهر كفه لوجهها ومسح على وجنتها بحنو متمتمًا:
_صدقيني كويس وزي الفل بس قالي كان مشغول شوية في الشغل ومش لاقي وقت يكلمك
تنهدت الأم بتفهم وبعض الراحة سكنت في صدرها رغم أن مازال هناك شعور غريب لا تفهمه يهمين عليها لكنها قررت الاستماع لكلام ابنها الأكبر وهتفت بحنو أمومي:
_طيب ياحبيبي الحمدلله أنه كويس، يلا أنت خلص لبسك وتعالى عشان تفطر
هز رأسه لها بالموافقة وراقبها بنظراته وهي تسير إلى باب الغرفة حتى انصرفت، فأخذ نفسًا عميقًا وأخرجه زفيرًا متمهلًا مفكرًا في أمر أخيه.
***
عودة إلى الأقصر.. تحديدًا بموقع العمل الخاص بفارس توقف بسيارته، وظل بالداخل لبرهة من الوقت دون أن ينزل يفكر في زوجته التي تركها نائمة بالمنزل، لكن ما يطمئنه أن تلك الظواهر الغريبة لا تحدث إلا ليلًا وتحديدًا بالظلام لذلك سيحرص على أن يعود لزوجته قبل غروب الشمس.
أخذ نفسًا عميقًا يحاول تصفية ذهنه والعودة لطبيعته العملية المتفانية في عملها والجادة التي لا ترى فيها سوى الثبات والقوة والثقة.
فتح باب سيارته ونزل وهو مرتديًا نظارته الشمسية السوداء المشابهة لبنطاله الأسود الذي يعلوه قميص من اللون الازرق وبإحدى كفيه هاتفه والآخر مفاتيحه الخاصة، القى نظرة على الموقع فوجد الجميع مجتمع ويبدو أنهم بانتظاره باستثناء أفراد هيئة الآثار لم يصلوا بعد وهم الذى سيؤدوا مهمة الإشراف التام على عملية التنقيب الأثري، تقدم نحوهم فارس بخطوات واثقة تعكس قوة شخصيته، من يراه بتلك الهيئة المهيبة يظن أن كل ما مر به في اليومين السابقين كان مجرد حلم.
كان كل من عز وراندا يجلسون على مقعدين بجوار بعض يتحدثون وفور انتباه راندا لوصوله هبت واقفة بلهفة وقالت بعينان لامعة:
_فارس
أجابهم مبتسمًا بثبات جذاب:
_صباح الخير امال فين الباقي محدش جه لسا ليه؟
لم تكترث راندا لسؤاله بل اقتربت منه باشتياق وبكل جراءة لفت ذراعيها حول رقبته وعانقته بقوة، فغضن هو حاجبيه مندهشًا من تصرفها وهي تضمه بكل هذه الحميمية وراح ينظر لصديقه ” عز ” الذي كان يقف خلف راندا وهز رأسه له بعدم فهم يسأله بنظراته عن ماذا حدث، فيزم ” عز ” شفتيه الامام بجهل وضيق ملحوظ على تعابيره، أما راندا فهمست لفارس بصوت ناعم وهي تعاتبه بحزن:
_كدا يافارس ده احنا كنا هنموت من القلق عليك في الليلة إياها، أنت كويس؟
مسح على ظهرها بسطحية تامة وهو مبتسمًا بود اخوي ثم ابعدها عنه برفق وقال:
_أنا كويس ياراندا الحمدلله متخافيش
راندا بصوت عابس وكله رقة:
_أنا كنت هيجيلك اطمن عليك في البيت أول ما عرفت أنك رجعت بس ” عز ” منعني
رفع فارس نظره لصديقه الذي كان يقف عاقدًا ذراعيه أمام صدره ويتابعهم بانزعاج ملحوظ، فخُلق شك في ثناياه حول ” عز ” لكنه قرر التريث حتى يتأكد، وعاد ينظر لراندا ويجيبها برزانة:
_كويس أنه منعك ملوش لزمة تتعبي نفسك أنا كويس أصلًا
هتفت راندا بتساءل وفضول:
_طيب هو إيه اللي حصل معاك بظبط فهمني عشان عز محكليش كل حاجة
نظر فارس لـ ” عز ” بحزم يرسل له اشاراته الغاضبة و يسأله من خلال نظراته” هل أخبرتها ؟ ” ، فهم عز ما يريد فارس قوله وهو رأسه له بالنفي يطمئنه أنه لم يخبر أحد، فتنهد الصعداء براحة وراح ” عز ” يجيب هذه المرة على راندا بنبرة صارمة واضح عليه الحنق:
_أنا حكيتلك كل حاجة أنتي اللي مصممة أني مخبي عنك حاجة تاني ومش مصدقة اللي حكيته، اسأليه وشوفيه هيرد يقولك إيه
قال فارس مازحًا محاولًا تلطيف الأجواء بينهم حتى لا ينشد جدال عنيف الآن:
_اهدى يابشمهندس مالك خلاص، مكنتش ليلة دي اللي غبتها.. أنا كنت بشوف غلاوتي عندكم بس
مال ” عز ” بوجهه للجانب متأففًا بغيظ أما راندا فكانت في عالم آخر منشغلة بالتأمل في فارس الذي فور انتباهه لنظراتها المريبة اشاح بوجهه تجاه صديقه واتجه نحوه يلف ذراعه حول كتفه ويسحبه معه بعيدًا عن الجميع ويسأله باهتمام:
_مالك ياعز أنت مضايق مني في حاجة ولا إيه؟!
أطلق ” عز ” زفيرًا قوي وقال بهدوء:
_لا ياعم هضايق منك ليه، أنا بس مضغوط اليومين دول متشغلش بالك بيا، المهم أنت إيه الأخبار عندك طمني
انزل فارس ذراعه عن كتف صديقه ورفع كفه لوجهه يمسح عليه وهو يتأفف بضيق وغضب ويقول:
_شكلي كدا حررت حاجة في المقبرة دي مكنش ينفع تطلع
سأل عز بعدم فهم:
_حررت إيه وحاجة إيه بظبط أنا مش فاهم؟
فارس بتوضيح أكثر ونظرة قوية:
_روح يا “عز ” حررت روح جن هكون حررت إيه يعني!
أجاب عز بعدم تصديق وجدية:
_إيه الكلام ده ياعم أنت بتجيبه من فين؟!!
هتف فارس بنظرة لا تبشر بالخير أبدًا :
_الليلة اللي عشتها امبارح ملهاش تفسير غير كدا، وعشان كدا لازم اوصل للمقبرة دي بأي تمن واتخلص من اللي بيطاردني ده قبل ما يأذيني ويأذي مراتي
شعر ” عز ” بخطورة الأمر حقًا بعد نبرة فارس المتوعدة وإصراره على الوصول لتلك المقبرة ثانية، فهتف يسأله باهتمام:
_طيب ما تفهمني حصل إيه امبارح خلاك كدا ؟
ربت فارس على كتفه بنظرة متجبرة وابتسامة شيطانية وقال:
_هقولك بعدين، بس يلا دلوقتي عشان نبدأ الشغل ونخلص بدري عشان مش هينفع اسيب ليلى وحدها بليل
***
بتمام الساعة التاسعة مساءًا داخل منزل فارس وليلى، كان هو جالسًا بغرفة الصالون الصغيرة وأمامه مجموعة من كتب الحضارة المصرية الفرعونية، قد أخرج كل الكتب والمخطوطات والمقالات الخاصة بالآثار الفرعونية وملوك الفراعنة ووضعهم أمامه يفحصهم واحد تلو الآخر يبحث عن أي معلومات حول ذلك الملك المجهول صاحب المقبرة.
انفتح الباب ببطء ودخلت ليلى حاملة فوق يديها كوب الشاي الذى طلبه منها واقتربت منه حتى جلست بجواره على الأريكة ووضعت الكوب على الطاولة وراحت تتفحص بنظرها الغرفة المبعثرة من حوله بالكتب والورق فسألته باستغراب:
_إيه كل ده يافارس أنت بتعمل إيه؟
نظر لها واجاب بهدوء وهو يلتقط كوب الشاي ويرفعه لفمه يرتشف منه:
_شغل يا ليلى شغل
لفت نظرها المخطوطة الصغيرة وسط الكتب فمدت يدها تلتقطها وتنظر بها باستغراب ثم سألته:
_وإيه البردية دي؟
رفع نظرها له ورآه وهي ممسكة بالمخطوطة تتفحصها بتركيز فسحبها من يدها فورًا وقال بخفوت:
_روحي انتي يا ليلى اسمعي التلفزيون برا هتقعدي معايا تعملي إيه، اطلعي وأنا هخلص شغلي واجيلك
رفعت ليلى حاجبها وقالت بذكاء انثوي بعدما فهمت محاولاته لإخراجها:
_أنت بتطردني بس بشياكة مش كدا؟
حول فارس الأجواء للمرح حتى لا ينشغل بـ اسألتها وشكوكها وهتف:
_الصراحة آه، ما أنتي عارفة أنا مبعرفش اشتغل وحد جمبي
ابتسمت بتفهم واستقامت واقفة تقول له:
_اوكي أنت خلص شغلك وابقى تعالي أنا هقعد برا
راقبها بتركيز في خطواتها حتى غادرت الغرفة تمامًا فتنهد الصعداء وعاد يكمل مهمة بحثه عن ذلك الملك الذي حتى الآن كل محاولاته في العثور عليه يحتضنها الفشل واليأس.
جلست ليلى على الأريكة بالصالة أمام التلفاز وامسكت جهاز التحكم الخاص به بيدها ووجهته نحو التلفاز لتغير القناة، فوجدت قناة تعرض أحد المسلسلات الحديثة على مشهد رومانسي ودافئ بين زوجين، كانت الزوجة حامل في الشهور الأخيرة وبطنها مرتفعة أمامها وبجوارها زوجها يمد لها يده بصحن من الفاكهة وهم يتبادلون الحديث في مرح وضحك ثم وضع كفه فوق بطنها رغبة منه في الشعور بحركة طفله داخل رحم أمه.
شردت في ذلك المشهد أمامها بأسى وتذكرت مشاهدها هي المأساوية مع زوجها عندما أخبرته بحملها…
كانت تنتظر عودته بفارغ الصبر في ذلك اليوم والغرفة لا تسع أجنحتها من فرط الفرحة، كل ثانية تذهب للشرفة تراقب الشارع هل وصل أم لا، وبأحدى مرات تفقدها للشارع رأت سيارته تصتف أمام البناية فتهللت اساريرها واتسعت بسمتها حتى كادت تشق طريقها لأذنيها، اخذت نفسًا عميقًا ودخلت للغرفة وجلست على الفراش تنتظره بحماس شديد وهي تحاول توقع ردة فعله حين تخبره بهذا الخبر.
دقائق معدودة وسمعت صوت باب المنزل يفتح ثم سمعت خطواته وهي تقترب من غرفتهم وفور دخوله استقامت واقفة وأخذت تحدقه بابتسامة عريضة وعينان لامعة بوميض مختلف، فتوقف هو مكانه ورمقها باستغراب لكنه ابتسم على ابتسامتها الجميلة وسألها بفضول:
_خير فرحيني معاكي في حاجة حصلت ولا إيه؟
هزت رأسها له بالإيجاب وهرولت إليه بتلهف وارتمت في حضنه تلف ذراعيها حول رقبته هاتفة:
_أنا حامل
ارتخت قبضة يده على ظهرها وتلاشت ابتسامته تدريجيًا حتى اختفت تمامًا، وظل متسمرًا بأرضه مندهشًا لا يصدق ما قالته للتو، ابتعدت هي عنه بعد لحظات في تشويق لترى تعابير وجهه ولكنها صدمت بجموده ونظراته القوية لها التي تبعها سؤاله المستفهم:
_حامل ازاي أنتي مش بتاخدي البرشام؟
تعجبت من لهجته ونظراته الجافة لكن أجابت بهدوء وهي مازالت تحاول الحفاظ على ابتسامتها وفرحتها:
_وقفته من فترة احنا لينا فترة طويلة متجوزين وأنا نفسي في طفل، أنا أتوقعت إنك هتفرح لما تعرف.. أنت مفرحتش ولا إيه يافارس؟
رفع يده إلى وجهه ومسح عليه بتوتر ملحوظ عليه ولا إراديًا صاح منفعلًا عليها:
_وتوقفيه من غير ما تقوليلي ازاي ياليلى؟!!
اختفت ابتسامتها فورًا بعد انفعاله الغير مبرر عليها وقالت بغضب بسيط:
_في إيه يافارس أنت متعصب كدا ليه هو أنا عملت جرم، ده بدل ما تفرح أن هيبقى عندنا طفل
ابتعد عنها وهو يمسح على شعره ويهمس بصوت محتقن بالضيق والخوف:
_افرح إيه ما أنتي مش فاهمة حاجة
ثم التفت لها وقال بسخط شديد غير واعيًا لقسوته عليها:
_هو احنا مش متفقين أننا هنأجل الخلفة دي دلوقتي ومتوقفيش البرشام نهائي، بتتصرفي من دماغك ليه من غير ما تقوليلي
اندفعت إليه ثائرة وصاحت:
_هو أنت في إيه مالك بالظبط.. لو مش عايز تجيب مني عيال قولها بدل اللف والدوران ده والعصبية اللي على الفاضي دي
ضيق عينيه بدهشة من طريقة تفكيرها وأجابها بسخرية:
_إيه الكلام ده الفارغ اللي بتقوليه ده!!!
صاحت ليلى بهياج قوي:
_أنا برضوا اللي بقوله فارغ ولا اللي أنت بتعمله اللي ملوش معنى غير كدا
فارس بصوت رجولي مرعب:
_ياسلام يعني ده معناه إني مش عايز عيال منك، ناقص كمان تقوليلي إني بخونك!
سكنت تمامًا وارتخت عضلات وجهها المتشنجة حتى قالت بعينان تحمل الشك الحقيقي:
_ليه لا، بعد اللي انت عملته ده دلوقتي مستبعدش أنك تكون بتخوني فعلًا وعشان كدا العصبية دي كلها لما عرفت أني حامل
فغر عيناه بذهول منا تفوهت به وقال ساخرًا بعدم استيعاب:
_واضح كدا أن اعصابك تعبانة ومش واعية للي أنتي بتقوليه، لما تفوقي وتهدي نبقى نتكلم ونشوف هنعمل إيه
ثم قاد خطواته لخارج الغرفة ليسمعها وهي تصيح عليه بتحدى وغضب هادر:
_مفيش حاجة هتتعمل الولد دي هيفضل في بطني غصب عنك يافارس سواء كنت عايزه أو لا.. ســـامـعــني
فاقت من بحر ذكرياتها المؤلم على صوته بعدما جلس بجوارها وسألها بهدوء:
_بتتفرجي إيه؟
استقرت عيناه على التلفاز وانتبه لذلك المشهد الذي تشاهده ثم التفت لها فرأى الدموع سابحة في عيناها، أدرك فورًا بما تفكر وماذا تذكرت فظهر العبوس على محياه وظل يتمعنها بحزن حتى سمع صوتها المبحوح في ألم:
_كأنه حس أن أبوه مش عايزه وهو بنفسه قرر ميجيش الدنيا
أنهت العبارة وأخذت نفسًا عميق قبل أن تكمل بابتسامة مريرة وقد انسابت دموعها على وجنتيها:
_أنت تعرف أنا موجعنيش أني اجهضت قد ما وجعتني أنت لما مشوفتش في عينك أي حزن عليه رغم أننا لينا سنين متجوزين وربنا مكرمناش بطفل ولما اخيرًا ربنا كرمنا أنت مفرحتش ولما نزل حتى مزعلتش بل بالعكس حسيتك ارتحت وفرحان، وقتها فعلًا أنا حسيت أننا مينفعش نكمل مع بعض ولازم نتطلق
لقد سأم وتعب من الظهور أمامها بمظهر المسخ والرجل عديم الشعور والحب، القاسي الذي لا يحبها ولا يريد أطفال منها، سيخبرها بكل شيء ويترك النتائج تأتي كما تأتي.
تنهد الصعداء بنظرة دافئة وفتح فمه يقول:
_ليلى أنتي مــ…..
قاطعته بقسوة وقالت بثبات وهي تستقيم واقفة:
_أنا لسا مغيرتش رأى واعتقد أنت كمان زي، فـ أرجوك تخلص كل الأجراءات بسرعة عشان أول ما نرجع القاهرة نتطلق
ألقت سهامها القاسية التي لا ترحم واندفعت نحو الغرفة تاركة إياه بمكانه ثابتًا كالصنم والحنق والحزن يهيمن على ملامحه.
***
في القاهرة داخل إحدى المقاهي الراقية والهادئة كان ماهر جالسًا وأمامه كوب قهوته المفضل يحتسي منه ببطء وعيناه تتجول حوله على الطاولات الصغيرة فيجد حول كل طاولة مقعدين مقابلين لبعضهم البعض ويجلس رجل وامرأة بعضهم يتحدث أما بمرح أو جدية والبعض الآخر غارق في تفاصيل الهوى ويوجد البعض منهم الذي وجد الوقت والمكان المناسب للعتاب وتصفية الحسابات التي ربما قد تضع النهايات لتلك العلاقة.
انتفض فجأة في مقعده مفزوعًا على أثر صراخ امرأة، فترك الكوب من يده فورًا والتفت برأسه للخلف يبحث بنظره عن تلك المرأة فوجدها فتاة تجلس بجوار صديقتها على الأرض التي سقطت من على مقعده وانتابتها حالة تشنجات عنيفة، وثب واقفًا فورًا وهرول ركضًا إليهم وقد كانت الناس بالفعل تجمعت حولهم انحني على الفتاة التي لا تتوقف عن الصراخ خوفًا على صديقتها وهتف لها بثقة:
_اهدى اهدى هي بتعاني من التشنجات دي أو عندها مرض معين
قالت صديقتها وهي تبكي بهستيريا:
_لا دي أول مرة هي معندهاش حاجة
نظر ماهر للفتاة التي مازالت تتشنج في الأرض وتنظر له نظرات مريبة ليست طبيعية أبدًا، اقترب منها وحاول احتواء الحالة طبيًا إلى حين وصول الأسعاف التي شرع فورًا بالاتصال بها لكن الفتاة فقدت وعيها، فانهارت صديقتها أكثر وأخذت تصرخ وتبكي من الخوف فهتف ماهر بثبات ليطمئنها:
_اهدى هتبقى كويسة مفيش حاجة هي فقدت وعيها بس.. أنا دكتور والأسعاف جاي دلوقتي
ارتخت عضلاتها المتشجنة وظهر الاطمئنان قليلًا على محياها بعد معرفتها بوظيفة ماهر وأنه طبيب، وكانت دقائق معدودة ووصلت سيارة الأسعاف فحملت الفتاة وصعد كل من ماهر وصديقتها معها في السيارة.
فور وصولهم المستشفى قاموا بنقل الفتاة لغرفة خاصة بالفحوصات والتحاليل اللازمة التي سيقومون بإجرائها لها حتى يكتشفوا سبب تلك التشنجات التي اصابتها، دخل ماهر معها للغرفة ووقف ثابتًا لا يفعل شيء نظرًا لأنه ليس تخصصه، لكن دخلت طبيبة شابه تاركة العنان لشعرها الأسود وترتدي الزي الطبي وفور رؤيتها لماهر قالت باستغراب:
_أنت تعرفها ولا إيه ياماهر
هز رأسه بالنفي وأجابها بهدوء:
_لا كانت قاعدة معايا في نفس الكافيه وتعبت هناك فجبتها المستشفى
هزت رأسها له بالموافقة وهي تبتسم بود ثم اقترب من تلك الفتاة الفاقدة لوعيها وبدأت هي وطاقم الممرضين المساعدين معها بإجراء الفحوصات اللازمة لها وهو يقف يتابعهم وبعد برهة من الوقت بعد انتهائهم سأل ماهر بفضول:
_إيه ياسمر عندها إيه؟
هزت رأسها بالنفي في حيرة واجابته بنظرات تحمل علامات الاستفهام:
_مش واضح حالتها غريبة وكل مؤشراتها سليمة معندهاش أي حاجة بس هننتظر نتيجة التحاليل لما تطلع وهي هتكشف كل حاجة
رفع حاجبه باستغراب لكن هز رأسه بتفهم بينما سمر فغادرت الغرفة متجهة إلى معمل المستشفى وكذلك الممرضين لحقوا بها، أما ماهر فظل واقفًا بجوار فراش تلك الفتاة يحدق بها بقوة متذكرًا نظراتها المرعبة له قبل أن تفقد وعيها، تلك الفتاة بها شيء غريب لا يفهمه، ويشعر كأن قدماه مكبلة بالأرض لا يستطيع الحركة من جوار فراشها، لكنه حارب ذلك الشعور الغريب وفاق من شروده بها وكان على وشك أن يخطو اولى خطواته بعيدًا عنها، فتصلب مكانه عندما شعر بكفها يقبض على رسغه فالتفت برأسه للخلف فورًا مندهشًا ليجدها تنظر له بابتسامة شيطانية وعينان مخيفة تكاد تكون قد تجردت من بؤبؤيها وأصبحت بيضاء تمامًا، ثم خرج منها صوت شيطاني غليظ ومخيف وهي تلقي عليه تحذيراتها المميتة:
_اخبره أنه يتوقف عن محاولاته في الوصول إلي والتخلص مني وإلا سأقتل كل من يهتم بأمره وسأبدأ بك أنت ياماهر وخلفك ستكون زوجته
انتفض مزعورًا ودفع يدها بعيدًا عنه وهو يتقهقهر للخلف وينظر لها بذهول فاغرًا شفتيه وعينيه بالأخص بعدما رآه وهي تقف على قدميها وتقود خطواتها إلى خارج الغرفة بخطوات لا تشبه خطى انسان طبيعي أبدًا
وقف مذهولًا لا ينطق بحرف واحد حتى دخلت سمر التي نظرت على الفراش مكان الفتاة وراحت تسأل ماهر بتعجب:
_راحت فين البنت ياماهر؟
رمقها ماهر بصدمة وهو جاحظًا عيناه وهتف بصوت ليس طبيعيًا:
_أنتي مشوفتهاش وهي طالعة، دي لسا طالعة دلوقتي قبل ما أنتي تدخلي بثانية؟!!!
غضنت سمر حاجبيها باستغراب وأجابت بالنفي:
_لا مفيش حد طلع من الأوضة أنا كنت واقفة أصلا برا من وقت بتكلم مع دكتور محمد
ضحك بسخرية وقال بعدم تصديق:
_ازاي يعني مشوفتيهاش انتي بتهزري امال انا كنت شايف إيه خيال مثلا، دي طلعت قدامي دلوقتي
اندفع لخارج الغرفة ثائرًا ووقف بمنتصف الردهة يتلفت حوله يمينًا ويسارًا بحثًا عنها لكن لا أثر لها وحتى صديقتها اختفت، خرجت سمر خلفه ووقفت بجواره وراحت تمسك كفه برقة لتهدأ من روعه وتسأله بحيرة وقلق:
_في إيه مالك ياماهر.. هو إيه اللي حصل طيب فهمني؟ ، هي فاقت ولقت نفسها كويسة وأصرت تمشي ولا إيه بظبط؟
نظر ماهر لها بعينان ضائعة واجاب بصوت خافت:
_معرفش ياسمر معرفش أنا مش فاهم اللي حصل اصلا ومين دي وراحت فين
ضغطت على كفه اكثر بدفء وقالت له مبتسمة:
_طب أهدى وتعالى معايا جوا في مكتبي نتكلم ونشرب حاجة وتحكيلي كل حاجة
ثم التفتت وصاحت على أحد أفراد الأمن وأخبرته أن ينظر للكاميرات ليعرفوا أين ذهبت تلك الفتاة وصديقتها، بينما ماهر فسار معها وكأنه مغيبًا يفكر فيما حدث ويتذكر كلمات تلك الفتاة وتحذيراتها المرعبة له.
***
داخل منزل فارس بالأقصر، كانت ليلى تقف بالمطبخ تقوم بتحضير كوب عصير طازج لها وعقلها شارد بزوجها وزواجهم الذي على حافة الانهيار، لا يمكنها إنكار حبها وعشقها له لكنها أيضًا لا تستطيع التغاضي عن كل ما مروا به وكأنه لم يحدث شيء.
وضعت كوب العصير على المنضدة بعدما انتهت من تحضيره والتفتت تجاه حوض الغسيل تولي ظهرها للمنضدة والكوب وإذا بها فجأة تنتفض مفزوعة على صوت تهشيم الكوب الزجاجي الي أشلاء على الأرض التي تلطخت كلها بالعصير، ففغرت شفتيها وفمها بذهول تحاول استيعاب كيف سقط ذلك الكوب وهي كانت تضعه بمنتصف المنضدة، اخذت نفسًا عميقًا واستعاذت بالله من الشيطان الرجيم ثم جلست القرفصاء على الأرض وهي تستغفر وبدأت في جمع أشلاء الزجاج فإذا بزجاجة حادة تجرحها في اصبعها فاطلقت تأوهًا بسيطًا متألمة وهي تنظر لتلك الدماء التي بدأت في السيلاان من اصبعها وبنفس اللحظة بظبط سمعت صوت باب المنزل يفتح فضيقت عيناها باستغراب وصاحت على فارس الذي كانت تظنه نائم:
_فارس أنت طالع ولا إيه؟
لم تسمع أي رد منه فضغطت بأصبعها السليم على اصبعها المجروح حتى توقف نزيف الدماء واستقامت واقفة وغادرت المطبخ متجهة إلى باب المنزل لتعرف زوجها إلى ذاهب في هذا الوقت المتأخر من الليل، فرأته يخرج من المنزل.. صاحت منادية عليه بتعجب:
_فارس رايح فين؟
ولكنه لم يجب عليها حتى أنه لم يلتفت لها من الأساس فغضنت حاجبيها بحيرة وهرولت خلفه وهي مازالت تصيح عليه وقد انفعلت بشدة وهي تراه ينزل الدرج ولا يجيب عليها ولا يلتفت لها حتى متجاهلًا إياها وكأنه لا يسمعها…..