رواية الراتل الفصل السادس بقلم اسماء ايهاب
مرت عليه الدقائق كخناجر مسمومة ، تنغرس في جسده وتنتزع روحه ببطء ، وكلما تحطم هيكل عرض أمام عينيه ، انكمش الهواء من حوله حتى كاد
أن يختنق ، تفصد العرق على جبهته حين اجتاحت الحرارة جسده أكثر .
مرر يده على جبهته يزيح حبات العرق ، وعيناه لا تنزاح عن أيدي الجنود التي تحطم الهياكل ، وكأنهم في معركة ما .
و أخيرًا ، جاء صوت الجندي يعلن عن انتهاء كربته :
_ مفيش حاجة يا فندم
عقب جملة الجندي اطلق حمزة تنهيدة ارتياح خافتة ، يستند بظهره على الحائط يلتقط أنفاسه المختنقة ، بينماظهر الغضب على وجه صادق ، واندفع بخطوات عنيفة إلى داخل المخزن ، يبحث بنفسه عما يأمل إيجاده ، وحين لم يجد أي شئ قد يدين شركة الشحن واصحابها "آل القاضي" خرج مسرعًا كالطلقة يأخذ طريقة نحو سيارة الشرطة و خلفه الجنود .
استكان حمزة ، وأخذ مقعد بلاستيكي يريح جسده المضطرب ، ثم أخرج هاتفه ، يهاتف داوود يبلغه بما حدث للتو ، وحين اتي إليه صوته حتى اندفع بالحديث قائلًا بنبرة خافتة :
_ داوود ، الحق المانيكانات مفيهاش حاجة ، الظابط اللي اسمه صادق طب علينا في المخزن و كسرها كلها و مفيهاش اي حاجة
قابل صوته الملهوف صوت داوود الهادئ من الطرف الآخر :
_ تمام ، تعالي على البيت عشان احنا مروحين
قطب حمزة جبينه وضاقت عيناه ، يهتف متعجبًا :
_ هو انت سمعتني
تنهد داوود بقوة قبل أن يتحدث من جديد بهدوء :
_ قولتلك تعالي يا حمزة ، مستنيك
أغلق الهاتف بعد أن أتم حديثه ، ليهب حمزة واقفًا عن المقعد يتقدم من السيارة بخطوات سريعة غاضبًا ، تاركًا العمال من خلفه متعجبين من ردة فعله المفاجئة ، بينما رفع داوود الهاتف على أذنه ، يهاتف عزيز الذي كان يتولى مهمة مثل خاصة حمزة ، لكن الاختلاف بينهما أن عزيز كان يتحمل مسئوليه نقل هياكل العرض التي تعج بالأسلحة ، وعندما اتى صوته ، سأل بنبرة هادئة :
_ طمني ، كله تمام ؟
ليأتي رد عزيز بكل جدية يخبره بالمستجدات :
_ المانيكانات اترصت في المخزن ، و اتحركت من مكاني جايلك اهو
فتح داوود مكبر الصوت ووضع الهاتف على المكتب ، يلملم بعض الأوراق أمامه ، قائلًا :
_ تعالي على البيت احنا هنروح
حمحم عزيز ، متحدثًا بهدوء :
_ تمام انا قريب اصلًا ، هسبقك على شقة عمتك
***********************************
وصل عزيز أمام بناية "آل القاضي" ، تنهد بقوة يخلع قبعته القماشية عن رأسه ، ترجل من السيارة يغلقها بإحكام ، في حين مرت من جواره سيارة مسرعة ، توقفت أمام سيارته تمامًا أمام مدخل البناية ، وعقبها وجد نغم تخرج من البناية على ثغرها ابتسامة لطيفة .
تحركت عيناه على السيارة التي يستقر بداخلها خطيبها بكر ، لتنشب النيران بقلبه ، وتسارعت أنفاسه بكل ما يعتمل صدره من حقد على ذلك البغيض ، فتحركت قدماه رغمًا عنه نحوها ، حتى وقف أمامها مباشرةً يهتف بحدة :
_ انتي رايحة فين ؟
شعرت بالضيق من حدته ، لتشير إليه بيدها موضحة أنها ستذهب مع خطيبها ليوصلها إلى الصالة الرياضية ، فمسح عزيز على وجهه يهدأ من موجة غضبه النابعة من غيرته ، ليسأل بنفس النبرة الحادة :
_ قولتي لحد من اخواتك أنه هيوصلك ؟
صمت هنيهة ، تبعد مرمى بصره عنه بارتباك ، ليعلم وقتها أنها لم تخبر أخويها ، فهو يحفظ كل تصرفاتها وردات فعلها عن ظهر قلب ، وضع يده على مؤخرة رأسه ، يشير بيده الأخرى إلى داخل البناية قائلًا بضيق :
_ طب اطلعي يا نغم و بلاش مشاكل
جاء صوت بكر من خلفه بعدما ترك سيارته وتوجه نحوهما :
_ مشاكل اية يا زوز بس ، دا انا هوصلها الچيم بس
التفت إليه عزيز بعنف ، وقد ازداد غضبه اضعاف حين وجده أمامه ، ليقبض على كف يده يقمع رغبته في لكمه بقوة واطراحه أرضًا حتى يهدأ غضبه ولو قليلًا ، فصاح بحدة :
_ و اظن ان داوود رفض خروجك معاها لوحدكم
ظهر التعجب جليًا على وجه بكر ، وقال باستغراب :
_ انت مكبر الموضوع لية
كاد عزيز أن يتحدث إلا أنه رأى داوود يخرج من سيارته متوجهًا نحوهم بخطى هادئة ، حتى وقف إلى جوارهم ، عيناه تمر سريعًا بينهم ، متسائلًا :
_ في اية ؟
أجاب بكر مشيرًا بضيق نحو عزيز :
_ انا كنت جاي اخد نغم اوصلها الچيم ، لقيت عزيز كبر الموضوع
التفت داوود إلى شقيقته ، رافعًا حاجبه الأيسر يتوعد لها بالكثير ، متسائلًا :
_ و مين اداك الأذن ؟
ربت بكف يده بقوة على كتف بكر ، وقال بهدوء :
_ مش انا قولت متركبش معاك العربية لوحدكم ؟
حين لم يجد رد من بكر أو شقيقته ، ربت بقوة على حقيبة سيارة بكر ، يتحدث بحدة :
_ روح شوف شغلك يا بكر ، و بلاش تعمل حاجة انا معترض عليها ، عشان مفضلش الجوازة دي و انا نفسي بصراحة
اعتذر بكر منه بصوت خافت ، وانصرف نحو سيارته بهدوء بعد أن ودع نغم ، ليلتفت داوود إلى شقيقته ، ينهرها بشدة :
_ اول و اخر مرة تكسري كلمة انا قولتها يا نغم ، مفيش خروج معاه حتى لو هيوصلك لاول الشارع ، فاهمة
ابتلعت ريقها بتوتر ، وأومأت إليه سريعًا متجهة نحو الداخل على الفور تتفادى غضب داوود ، تحتمي بأحضان عمتها حتى تمر زوبعة غضبه منها .
أحاط داوود كتف عزيز يشير له بالدخول ، وهمس بصوت خافت بالقرب منه :
_ نقدر نقولها متخرجش معاه دلوقتي ، لكن لما يكتب عليها ملناش نوقفها و لا اية
ابتلع عزيز غصة مريرة بحلقه ، والتزم الصمت ، لم يرغب في دخول نقاش مع داوود يعلم أنه سيخرج منه خاسر لا محال ، صعدا إلى شقة والدي داوود ، وأغلق الباب خلفه ، أسرع عزيز يريح عضلاته المتشنجة من شدة غضبه على الأريكة ، لكن أفسد عليه راحته سؤال داوود :
_ ها احكيلي التفاصيل مين أخد منك الشحنة ، رامي و لا هاني
تنهد عزيز بقوة قبل أن يعتدل بجلسته ، يقص عليه ما حدث بالتفصيل :
_ وصلت المخزن لقيت هاني هناك ، العمال بسرعة رصوا المانيكانات في المخزن و قفلوا عليها بباب مخفي عشان لو صادق طب علينا ميلقيش حاجة ، وحطينا المانيكانات الفاضية برا ، و شوية و رامي وصل و حول الفلوس ، و لا صادق جيه و لا شوفته ، كنت مشدود على الفاضي
كاد داوود أن يتحدث إلا أن قاطعه صوت طرقات قوية على باب الشقة ، وقف داوود ينزع عنه سترته الكلاسيكية ، وتقدم نحو الباب ليفتحه .
حين فُتح الباب اندفع جسد حمزة إلى الداخل ، يدفع داوود بكتفه بعنف ، صارخًا بعصبية :
_ انت بتلبسني يا داوود
حاول عزيز تهدئة حمزة ، لكن الأخير كان يشتعل أكثر ، الجميع يعلم أن حمزة المرح الذي يعشق المزاح عند الغضب يكون شخصًا آخر لا يعرف للبسمة طريق ، لسانه لا يصمت حتى يخرج ما بداخله كاملًا .
أشار حمزة بيده لعزيز بتحذير أن يقف أمامه ، وصاح بوجه داوود بصوت أكثر حدة :
_ لما انت عارف ان صادق جاي و عارف ان المانيكانات مفيهاش حاجة مقولتليش لية
دفعه بكتفه بعنف أكبر ، تهدجت أنفاسه من فرط عصبيته ورغم ذلك صرخ به :
_ انت عارف الكام دقيقة دي عدت عليا ازاي ، و انت كان ممكن تخليني مطمن لو قولتلي ان انا معيش ولا سلاح واحد
تنهد داوود بضيق من صوته المرتفع ، وأشار إلى الأريكة قائلًا بهدوء :
_ اقعد يا حمزة
هدوءه أثار حفيظة الآخر ليلكمه بصدره بقوة ، و استطرد حديثه :
_ بطل برود ، انا مولع قدامك و انت و لا على بالك ، كنت عايز توصل لاية يعني بالحركة الزبالة دي
وقف عزيز عن الأريكة ، يتقدم من حمزة يربت على كتفه بهدوء ، قائلًا :
_ يا حمزة احنا مكناش نعرف أن صادق رايح المخزن اللي انت روحته ، بالعكس احنا كنا فاكرين أنه هيروح مخزن هاني و اخوه عشان كدا كنت مرتبين معاهم كل حاجة
أزاح حمزة يده عنه بحدة ، ينظر إليه بأعين مشتعلة تنب أن لا سبيل من إخماد نيرانه ، يهتف بسخرية :
_ و طالما هتروح بالشحنة مخزن تاني ، تقولولي ان معايا الشحنة لية ، و لا انتم كنتم قاصدين تلبسوني بقى
جاء صوت داوود الأجش القوي يردع حمزة عن التمادى من حديثه ، قائلًا :
_ اعقل الكلام يا حمزة ، انت عارف اني لا هلبسك لا انت و لا غيرك
صمت حمزة يصك على أسنانه بقوة ، أنفاسه تتلاحق في لهاث متسارع ، صدره يعلو ويهبط بقوة ، فتقدم منه داوود واضعًا يده على مؤخرة رقبته يجذبه نحوه برفق ، قائلًا :
_ صدقني مكنتش اعرف ان صادق جاي ، و لو كنت اعرف مكنتش وديتك هناك اصلًا ، انا مقولتلكش أن المانيكانات فاضية عشان تكون حاسس بمسئولية ، حتى لو مسئولية اتجاه حاجة مش موجودة ، يكفي أنك اتكفلت بشحنة عارف أنك ماشي في خطر
ابتعد حمزة عنه ، يتحدث من بين أسنانه المطبقة :
_ انا مش عيل عشان عايز تديني درس ، و تحملني المسئولية ، روح اعمل كدا مع حد تاني مش معايا ، صدقني مش هنسى اللي عملته دا ابدًا
تركهما وغادر الشقة صافعًا الباب خلفه بقوة ، لينظر عزيز إلى صديقه ، يتحدث معاتبًا :
_ مكنش فيه لزوم يا داوود
ارتمى داوود جالسًا على الأريكة ، يضرب بسبابته على جانب رأسه ، قائلًا بحنق :
_ بقولك اية انت هتهب منك زيه و لا اية ، هو انا هفتح المندل يعني عشان اعرف صادق رايح المخزن التاني
أشار نحو الباب في عصبية ، يردف بحدة :
_ انا لو مكنتش شايف أن لازم يحس بمسئولية اللي بنعمله و تجارة الزفت اللي اتدبسنا فيه مكنتش وديته ، خلصت ؟
انهي جملته بكلمته المشهورة التي تلازمه دائمًا ، ضاربًا كفًا بالآخر ، ليتنهد عزيز ، مجيبًا :
_ خلصت يا صاحبي .
أخذ داوود سترته يخرج منها عُلبة السجائر الخاصة به ، يأخذ لفافة تبغ يحرق فقط ليطفئ بها غضبه ، يعلم أن حمزة حين يهدأ غضبه سيأتي إليه ، يمازحه ويتحدث معه كالمعتاد ، لكن نبرته الغاضبة التي تحمل من العتاب ما تحمل ، جعلته يشعر بالثقل والغضب ، رغم أنه لم يكن يدري أن الأمر سيصل إلى هنا ، لكنه لم يكن يريد أن يمر حمزة بذلك الضغط النفسي الذي واجه حين حضر صادق .
***********************************
كان إلياس يقود السيارة في طريق العودة إلى منزل العائلة بعد أن أتم مهتمه المُكلف بها من قبل داوود ، لمراقبة الشحنة اين استقر بها الطرف الآخر ، رفع هاتفه الذي تعالى رنينه يعلن عن مكالمة جديدة ، يجيب بهدوء ، وعيناه لا تفارقان الطريق :
_ ايوة يا داوود ، نقله الشحنة مخزن العجوزة
استمع إلى تحذير شقيقه له ، حين قال :
_ اوعى يكون حد فيكم خد باله انك مراقبهم
نفى إلياس برأسه ، وأخبره بهدوء :
_ لا متقلقش ، محدش خد باله مني نهائيًا ، على العموم انا جاي البيت و نبقى نتكلم ، سلام
اختصر الحديث ، وأغلق الهاتف يسرع في قيادته للسيارة ، ورغم انتباهه الشديد للطريق ، لكن أعينه التقطت تلك الفتاة التي تقف على جانب الطريق ، وجوارها بعض الحقائب البلاستيكية الكبيرة ، تلوح بعشوائية إلى سيارات الأجرة التي تمر أمامها بسرعة فائقة ، عقد حاجبيه ، هامسًا بتعجب :
_ مايان ؟!
توقف بسيارته أمامها ، لتبتعد هي تعتقد أن أحد الشباب الذي يريد إزعاجها ، ترجل إلياس من السيارة ، متقدمًا منها بهدوء قائلًا :
_ ازيك يا مايان
نظرت له باندهاش من تلك الصدفة التي جمعتهما بعد أن كانت تعتقد أنها لن تراه مرة أخرى ، وقف أمامها مباشرةً متسائلًا :
_ انتي كويسة ؟ ، واقفة كدا لية ؟
ابتلعت دهشتها ، وأجابته مشيرة نحو محل تجاري قريب :
_ ازيك يا استاذ إلياس ، كنت في الفرع التاني للمحل بجيب حاجات ناقصة عندنا ، و مستنية تاكسي
أومأ إليها متفهمًا ، وأشار إلى سيارته قائلًا :
_ طب تعالي ، اوصلك بالعربية
رفعت حاجبيها نافية ، وتحدثت بجدية :
_ شكرًا ليك بجد ، بس معلش ميصحش
_ انا كدا كدا رايح نفس المكان ، و اكيد مش هأذيكي
قالها إلياس مُصرًا على إيصالها ، لتنفي برأسها ، ثم تحدث موضحة له وجهة نظرها :
_ مش القصد و الله ، بس مينفعش اركب مع حضرتك خالص لوحدي
تفهم حديثها ، والتفت يبحث عن سيارة أجرة ، أشار بيده لتتوقف أحدى السيارات ، ليشير إليها أن تصعد السيارة ، قائلًا :
_ اتفضلي
ابتسمت تشكره ممتنة له على مساعدتها ، وكاد تنحني لتأخذ الحقائب عن الارض ، لكنه منعها حين سبقها ينحني ليحمل الحقائب قائلًا :
_ لا ، سبيهم هحطهم في شنطة العربية
صعد السيارة غالقة الباب خلفها ، ووضع إلياس كل ما يخصها بحقيبة السيارة ، ثم تقدم من السائق يدفع له مستحقه مسبقًا ، تخضبت وجنتيها بالحمرة بخجل ، تهتف بحرج :
_ انا معايا و الله
لوح لها بالوداع تاركًا إياها ، متوجهًا نحو سيارته ، انطلق خلفها بهدوء حتى وصلت إلى المحل التجاري التي تعمله به ، ترجل من جديد حتى يخرج لها الحقائب ، ووضعها أمام باب المحل ، ثم التفت إليها مودعًا إياه بهدوء قبل أن ينطلق بسيارته نحو وجهته .
ما أن دلفت مايان إلى داخل المحل حتى جذبتها صديقتها "سهيلة" تهمس بانبهار :
_ مين القمر دا يا مايان ؟
تنهدت مايان قبل أن تجيب بصوت خافت :
_ دا الاستاذ اللي حكتلك عنه ، قابلته صدفة و ركبني تاكس
غمزت سهيلة بعينها اليسرى قائلة بمزاح :
_ شكل الواد وقع ولا اية
ظهر التهكم جليًا على ملامح مايان ، تتحدث ساخرة :
_ اكيد و لا اية ، وقع اية يا بنتي و على اية بس
غمزتها سهيلة بذراعها ، قائلة بحب :
_ هو في احلى منك يا بت
ارتسمت ابتسامة حزينة على ثغر مايان ، تنظر إلى قدميها بحسرة ، قائلة بنبرة هادئة يتخللها الألم :
_ لا في كتير احلى مني ، انا عارفة قيمة نفسي كويس و مبعلقش نفسي باحلام فاضية
محت ابتسامتها وألمها ، تلتفت إليها تهتف بمزاح مزيف حاولت رسمه بمهارة كعادتها في إخفاء حزنها عن من حولها ، مكتفية أن تكنه داخل صدرها تخبر نفسها بما يؤرق حياتها :
واحد اشفق عليا و ساعدني خلاص هشوفه فتى احلامي ، وسعي يا سهيلة خليني ارجع شغلي
عادت تندمج في عملها سريعًا ، تتغاضى عن تلك الغصة التي تشكلت بحلقها كالعلقم ، وضعتها إعاقتها موضع شفقة من الجميع ، وهذا ما تتقبله منذ طفولتها ، لكن اليوم شعرت بالحزن يعتمل بداخلها ، وداهمتها نوبة بكاء عنيفة ، لتقرر الاختلاء بنفسها في المرحاض التابع للمحل ، لتحاول استجماع نفسها ، ورسم القوة من جديد على ملامحها .
***********************************
وقفت يثرب ترتجف بتوتر بالغ خلف باب غرفتها ، ترهف السمع إلى ما يحدث بالخارج ، فقد أتى صهيب منذ قليل ويجلس مع والدها بالخارج ، ضربت البرودة أطرافها ، وتسارعت دقات قلبها بقوة بين ضلوعها حين سمعت والدتها تخبرهم أنها ستأتي بها ، ابتعدت عن الباب سريعًا تمرر يدها على ثوبها الأبيض الفضفاض تخفي ارتباكها وارتجافة يديها .
طرقت والدتها الباب ودلفت إلى الداخل تبتسم بسعادة متقدمة نحو ابنتها قائلة :
_ يلا يا يثرب نزلي نقابك و تعالي معايا
ازدادت وجنتيها توهجًا ، وأمسكت بيد والدتها تسأل بصوت مرتجف :
_ طب مين معاه برا ، هما كتير ؟
ربتت والدتها على كتفها حتى تهدأ قليلًا ، قائلة بهدوء :
_ لا دا هو و عمتو بس ، عمك حسين عرفهم على بعض و مشى ، يلا بقى انا طلعت لهم ضيافة يعني مش هتقدملهم حاجة سلمي على الست و اقعدي و خلاص
أخذت والدتها يدها تجذبها معها إلى الخارج بعد أن ارخت النقاب على وجهها . دلفت إلى الغرفة خلف والدتها ، تلقي السلام بخفوت على الضيوف ، لتقف السيدة لقاء لتستقبلها بالاحضان والقبلات ، وأجلستها إلى جوارها ، لم تلتفت له ولم تلقي عليه نظرة عابرة حتى ، تحدث صهيب بهدوء موجهًا حديثه إلى محمد والد يثرب :
_ انا عندي شقتي يا حاج ، وشغال في مستشفى خصوصي
بعد التعارف العام بينهم ، طلبت والدة يثرب عن ترفع النقاب عن وجهها لبضع ثوان ليس إلا ، نظرت يثرب إلى والدها تطلب منه الأذن ، ليهز محمد رأسه يأذن لها بذلك ، رفعت أناملها المرتجفة ترفع النقاب عن وجهها ، ليظهر وجهها المستدير وبشرتها حنطية ، عيناها الملفتة المحاطة بكحل اسود يبرز لونهما .
تلاقت أعينهما للحظات ، جالت بعينيها على وجهه الوسيم ، عينا بنية ، بشرته خمرية ، أنف أرستقراطية مرفوعة ، يزينه شارب ولحية طويلة بعض الشئ ، ابتلعت ريقها وازداد توترها من طلته ، لترخي النقاب على وجهها على الفور مرتجفة .
تهللت السيدة لقاء تمدح حسنها ورقتها ، بينما تنحنح هو مرتبكًا ، يمرر يده على لحيته الكثة ، لمست طلتها قلبه ومرت رجفة قوية بجسده ، مد يده يأخذ كوب الماء الموضوع على الطاولة يرتشف منها يرطب جوفه الجاف ، ألقى الله في قلبه القبول بشكل واضح أثار تعجبه .
***********************************
انتهى اللقاء على خير ، وأصرت السيدة لقاء على صهيب أن يرافقها إلى منزل العائلة ، جلس الجميع في الردهة تتحدث السيدة لقاء بحماس عن تجهيزات خطبة صهيب أن وافقت العروس وأهلها .
وقف داوود يقترب من حمزة الذي يظهر غضبه اتجاهه بوضوح ، جلس إلى جواره على الأريكة ، أحاط كتفه يحاول مشاكسته ، قائلًا :
_ هتفضل ضارب بوز كدا يالا
حاول حمزة ازاحته عنه قائلة بضيق :
_ ملكش دعوة بيا يا داوود
ضرب داوود رأس حمزة برأسه برفق ، يتحدث بخفوت :
_ ياض خلاص بقى فك ، خلاص هجبلك سكرتيرة سيئة السمعة زي ما انت عايز
قال حمزة مصطنع الضيق :
_ و عايز اغير العربية
دفعه داوود عنه حين أيقن أنه لم يعد غاضبًا منه ، يتحدث بحنق :
_ لا ازعل يا حمزة ، مش عايز اصالحك ، هتكلفني كتير
كاد حمزة أن يتحدث إلا أن قاطعه صوت رنين هاتفه ، أخرج الهاتف ليجد المتصل زوجته ، ابتهج وجهه وفتح الاتصال يمازحها بمرح :
_ اية القمر رضا عني
اختفت ابتسامته ، وانتفض مذعورًا من بكائها ، وصوتها الصارخ تهتف بخوف شديد :
_ الحقني يا حمزة ، في ناس خطفوا رحيل من قدام البيوتي سنتر