رواية خذلان الماضي الفصل الخامس 5 بقلم دودو محمد


 رواية خذلان الماضي الفصل الخامس 

ظلت راما حبيسة غرفتها، محاطة بالظلام الذي يعكس دموعها التي تتساقط كالأمطار الغزيرة، في حيرة عما يؤلمها أكثر: الفراق عن زوجها السابق، أم ضياع شخصيتها القديمة التي تلاشت كفكرة غير مكتملة. عدم قدرتها على إصلاح ما أفسدته تلك العلاقة كأنها جرح نازف، بينما يبدأ شعور آخر يكتنف قلبها تجاه عمر. توقفت أفكارها فجأة، لتغمرها تساؤلات تطاردها: لماذا أفقدت نفسها في حب مرة أخرى؟ لماذا تنازلت بهذه السهولة وسمحت لقلبها بالالتفات لشخص آخر؟ لماذا تستمر في تكرار نفس الأخطاء، كأنها أسيرة لا تستطيع الفكاك من أسر الرجل؟ حركت رأسها في رفض، مستخدمة ظهر يدها لمسح دموعها المتعطشة للهدوء، ثم تحدثت بنبرة غاضبة:
“لا مش هسمحلك تعملي كده في نفسك، مش هسمحلك تتعلق براجل تاني. كفاية ضعف وسذاجة بقى، أنا لازم انزل وأدور على شغل وأشغل وقتي فيه.”
وفي تلك اللحظة، تذكرت الشركة الذي يعمل بها عمر، وتوترت نظرتها، قائلة:
“بدل ما أنزل أدور وملاقيش، أروح الشركة اللي قالي عليها. وأنا كده كده، هتجاهل وجوده. أيوه كده، مافيش قدامي حل غير كده.”
ولكن، بينما كانت تتأمل في أفكارها، شعرت برغبة قوية في التغيير، رغبة في استعادة ذاتها المفقودة. كانت بحاجة إلى نوع من القوة، قوة تعيد لها شغف الحياة، وليست مجرد وسيلة للهروب من المواقف المحبطة التي تعاني منها.خرجت من غرفتها متجهة نحو غرفة مي، حيث طرقت على الباب وانتظرت بقلق لبضع ثوانٍ. بعد قليل، فتحت مي الباب باستغراب، متسائلة:
“راما!! مالك انتي تعبانه ولا حاجة؟”
حركت راما رأسها في حركة نفي، معبرة بتوتر:
“ا أنا كويسة بس… احم، كنت عايزة رقم عمر!”
نظرت مي لها بلؤم، ثم ردت:
“رقم عمررر، من عيوني الجوز ومناخيري اللوز، ثواني والرقم يكون عندك.”
ركضت مي إلى الداخل، تخترق الغرفة بسرعة، وعادت وهي تحمل الهاتف، قائلة:
“رقم عمر، اهو سجلي عندك.”
نظرت راما إليها بضيق، مستندة على الهاتف، وقالت:
“على فكرة، أنا واخدة الرقم علشان أكلمه على الشغل، مش علشان اللي في دماغك السو دي.”
عانقت مي ذراعيها حول صدرها، وأجابت بمزاح:
“ايوه ايوه، ما انا فاهمة. ربنا يوفقكم في الشغل ويكون فتحت خير عليكم.”
زفرت راما بضيق، وبنبرة خالية من الصبر:
“الكلام معاكي يجيب الضغط.”
ثم تركتها وعادت إلى غرفتها مجددًا. دندنت مي برقة بصوت مرتفع، قائلة بمزاح:
“يا دبلة الخطوبة، عقبالنا كلنا.”
خرجت راما من غرفتها، محذرة:
“أقسم بالله، لو محتطيش لسانك في بؤقك يا مي، هاجي أقطعهولك.”
أنهت كلامها ودفعت الباب بغضب. وضعت مي يدها على فمها، وابتسمت بسعادة، كأنما تستمتع بلعبة التحدي بينهما.
………………………………………………….
كان عمر يجلس في مكتبه، محاطاً بأوراق العمل المبعثرة وأضواء الحاسوب الخافتة، مشغولاً بالتفكير في راما، تلك الفتاة التي أسرت قلبه منذ اللحظة الأولى التي التقيا فيها. كان يبحث بشغف عن وسيلة تفتح له قلبها، يتساءل في نفسه كيف يمكنه كسر الجليد الذي يحيط بمشاعرها تجاهه. شعوره بالقلق يتصاعد بينه وبين نفسه، وصورته الترويحية عن الغد كانت تتلاشى شيئاً فشيئاً. في تلك اللحظة، قطع تفكيره رنين هاتفه، مما جعل تنهدات الإحباط تخرج من صدره. كان الصوت المزعج وكأنه يذكّره بمدى استبعاده في عالمها، لكن فضوله التهمه عندما نظر إلى الشاشة، حدق بها في دهشة، وكأن دقات قلبه ستخترق صدره من كثرة التوتر. أجاب على الاتصال بصوت هادئ يكسوه الاسترخاء، بينما في داخله كان يصرخ من شدة السعادة:
“السلام عليكم، عاملة إيه؟”
تحدثت راما باستغراب، متسائلة:
“الحمد لله، بس عرفت إزاي أن الرقم ده بتاعي؟”
تنحنح عمر بتوتر، محاولاً توضيح موقفه:
“ها… ك ك كنت واخده من مي علشان أطمن عليكي لما كنتي تعبانة، لكن بعد اللي حصل، مرضتش أزعجك بالاتصال.”
ردت عليه بتوتر، قائلة:
“م م ماشي، ا ا أنا كنت متصلة بيك علشان أسألك، الوظيفة لسه موجودة ولا انشغلت؟”
أجابها بسرعة، وكأن التصديق لم يتسرب إلى عقله بعد:
“موجودة طبعًا، ولو عايزة تيجي دلوقتي علشان تستلمي الشغل، مافيش مانع.”
تحدثت بأستغراب، وقالت:
“استلم دلوقتي! مالك بتتكلم بثقة كده؟”
رد عليها بسعادة، معبراً عن سروره:
“لا عادي، بس أنا والمدير أصدقاء، وعلشان كده هو ما هيصدق إني جبت ليه حد من طرفي.”
ظلت صامتة لبضع ثوانِ، ثم قالت بحذر:
“تمام، بكرة إن شاء الله هجيب السي ڤي بتاعي وهاجي الشركة، بس ليّا طلب، ياريت حضرتك لما أجي أشتغل، بلاش موضوع الصداقة والعشم الزيادة. يعني لما تشوفني، ملكش أي دعوة بيا، متكلمنيش خالص، ولا أكلمك. يا أما كده، يا بلاش منها الشغلانة دي.”
زفر بضيق، متحدثاً بصوت مختنق:
“على فكرة، أنا عمري ما اتعديت حدودي، وعارف الأصول كويس أوي، وهحميكي من بعيد، ده لأنك أخت صاحبي.”
ردت عليه بضيق، قائلة:
“تمام، شكراً لحضرتك، سلام.”
نظر عمر إلى الهاتف بضيق عندما أغلقت الخط قبل أن تستمع لصوته، لكنه شعر بدقات قلبه تتراقص من فرحة حقيقية، خاصة لأنها لجأت له في هذا الوقت، مما يعني أنها بدأت تتقبله كصديق في حياتها، على الرغم من أنه كان يأمل في أكثر من ذلك. تنهد بتمني، قائلاً:
“ربنا يهديكي يا راما وتحسي بيا بقى.”
أنهى حديثه وبدأ يتابع عمله، والسعادة تتلألأ في عينيه كشاب مراهق أسعدته أول كلمة جميلة نطقت بها فتاة. في أعماق نفسه، كان يدرك أن هذه البداية قد تكون فرصة لتغيير مجرى الأمور بينهما، وأنه سيكون مستعداً لفعل أي شيء ليكون قريباً منها دون أن يتجاوز حدود الصداقة التي وضعتها بنفسها. لقد قرر أن يظل صبوراً، ويعمل بجد لتحقيق هذه اللحظة التي قد تجمعهما معاً في مستقبل قريب.
………………………………………………….
في صباح اليوم التالي…
استيقظت راما وهي تشعر بالنشاط والحيوية، وهو إحساس غير معتاد لها في الآونة الأخيرة. نهضت من على سريرها الدافئ، حيث كان الضوء الخافت يتسلل من النوافذ ببطء، وكأنها أشعة شمس داعبة تدعوها للانطلاق. اتجهت إلى المرحاض، بعد فترة قصيرة، خرجت، ترتدي ملابسها الأنيقة التي تعكس ثقتها بنفسها وحبها للأناقة؛ كانت تنورة ذات قصّة مميزة مع بلوزة بسيطة، مما أضفى عليها طابعًا عصريًا استثنائيًا. مشطت شعرها الطويل بدقة، حيث تركت خصلات منه تنسل كالشلال على كتفيها. أدت فرضها بتأمل وهدوء، وكأن تلك اللحظات كانت مناسبة لتجديد الروح، ثم خرجت من غرفتها، لتجد أخيها رامي يخرج من غرفته هو الآخر، متجهًا إلى العمل. أطلق صفره من بين شفتيه بإعجاب، وجعلها تشعر كأنها نجم أمام عدسات الكاميرات، وقال:
“اوعى بقى على الجمدان ايه القمر ده يا بت سيدة أعمال بجد.”
ابتسمت له بتلأللأ في عينيها، وكأنها معزوفة تنبعث من قلبها، وتكلمت بتهكم:
“ربنا يجبر بخاطرك يا اخويا القرد في عين اخوها غزال.”
تعالت ضحكاته، وكأن صداها يعكس فرحتهم، وتكلم بصعوبة جراء الضحك:
“طيب يلا يا قردة اوصلك على سكتي.”
ألقت عليه حقيبة يدها، وتكلمت بمزاح:
“تصدق انك رخم، امشي بقى من قصادي.”
ظل يقهقه على تذمرها، حيث كانت تلك المواقف تشكل جزءًا متصلًا من حياتهم، وضع يده على كتفها وقبل وجنتها برفق، قائلاً بمداعبة:
“عسل يا اخوووواتي.”
ابتسمت له بحب، وتحركا سويًا نحو الباب. هبطا معًا إلى الأسفل، حيث أوقف رامي سيارة أجرة بجوار الرصيف، مملوءة بألوان الصباح، واتجه بهم إلى الشركة التي يعمل بها عمر، بينما كان الهواء النقي ينعش وجوههم، تخترق ابتساماتهم الأجواء وتنعكس البهجة في الصباح الذي يعد بمغامرات وفرص جديدة.
………………………………………………….
كان عمر يجلس في مكتبه، مشاعر الترقب تتلاعب في داخله كأحر من الجمر، ينتظر وصول راما بفارغ صبر بعد وقت مر عليه بصعوبة. سمع صوت طرقات خفيفة على الباب، فتشكلت ابتسامة عريضة على وجهه، واستقام على مقعده، متظاهراً بأنه مشغول بالملفات المبعثرة أمامه. قال بصوت رجولي مفعم بالثقة:
“ادخل.” دخلت راما، بشرتها تتلألأ بشعاع من الإشراق، لكن توترها كان واضحاً. تحدثت بصوت مرتعش:
“ا ا السلام عليكم.”
رفع عمر رأسه ونظر إليها، فشعر برغبة في ابتلاع ريقه بصعوبة حين رأى طلتها الفاتنة التي تخطف الأنظار في غرفة مليئة بالأداء والعمل الذي اعتاد عليه. أخذ نفساً عميقاً، وأخرجه ببطء، ثم قال بتلعثم:
“و و وعليكم السلام، اتفضلي يا مدام راما.”
تحركت نحو مقعدها وجلست بملل واضح، ثم قالت بضيق:
“ممكن بعد إذنك بلاش تقولي مدام راما، ممكن تقولي أستاذة راما أو راما بس، من غير ألقاب، المهم بلاش كلمة مدام دي.”
ابتسم بترحاب وقال بسعادة:
“طبعاً ينفع جداً أوي، أنا أصلاً مكنتش برتاح لما لساني ينطق اللقب ده.”
تنحنحت بتوتر، ثم قالت:
“تمام، م م ممكن بقى نروح المقابلة؟”
أومأ برأسه بالموافقة، ثم استقام بجسده وقال:
“اتفضلي معايا.” وقفت من مقعدها وتحركت أمامه نحو الباب، وخرجت منه. تبعها عمر، مشياً بجوارها، حيث كانا متجهين إلى أحد المكاتب الأكثر فخامة في المكان، المزين بقطع فنية تتراقص تحت الأضواء الهادئة. طرق على الباب، وسمع صوت يأذن له بالدخول. فتح الباب ودلف إلى الداخل بابتسامة هادئة، قائلاً:
“أستاذة راما اللي كلمتك عليها اهي.”
تكلم بلهجة هادئة، مضيفاً بترحاب:
“أهلا وسهلا يا أستاذة راما، اتفضلي.”
تحركت بتوتر وجلست على المقعد، وردت بصوت مهتز:
“أهلا بحضرتك.” ابتسم لها، وأضفى على الأجواء روح الدعابة قائلاً:
“شكلُك مهمة أوي عند سي عمر، من أمبارح مصدعني بيكي وعمال يوصيني عليكي كأنك جاية تحاربي، مش تشتغلي في المحاسبة.”
ضغط عمر على أسنانه بنفاذ صبر، وقال بحذر:
“خف تعوم يا حليوة ها!”
انفجرت ضحكاته، وقال بصوت محشرج من الضحك:
“طيب يا سي روميو، وريني عرض كتافك علشان أبدأ الانترفيو معاها.”
نظر له بتوعد، قائلاً بضيق:
“ماشي ماشي، احلو براحتك، فيه بيت يجمعنا.”
نظرت إليهم باستغراب، وسألت:
“انتوا قرايب!؟”
أومأ برأسه، وقال موضحاً:
“أيوه، يا ستي، للأسف عمر يبقى ابن خالتي.”
رفعت حاجبيها في دهشة، وردت باستغراب:
“ولاد خاله؟ بس أستاذ عمر مقالش كده، قالي أنكم أصدقاء.”
رد عمر سريعاً:
“أيوه، ما أنا مبحبش أقول إننا ولاد خاله علشان الناس متفكرش إن شغال هنا بوسطة وكده.”
أومأت برأسها بضيق، وقالت:
“ماشي، ممكن نتكلم في الشغل بقى.”
أومأ برأسه بالموافقة وقال:
“طبعاً، نبدأ، بس الأول أعرفك على نفسي، أنا سيف إبراهيم، ابن خال الولا ده.”
وأشار بأصابعه على عمر، ثم تكلم بنفاذ صبر:
“يا ابني، انت واقف ليه كده؟ مش قولتلك تروح تشوف شغلك.”
ضغط عمر على أسنانه بضيق، وقال:
“ماشي يا شيفو، براحتك، أنا ماشي أهو.”
وتحرك ببطء، ثم نظر مرة أخرى له، قائلاً:
“أنا خارج ها.”
ابتسم له، وأشار إليه بأن يخرج. كانت تتابعهم وهي محتفظة بابتسامتها، ثم قالت:
“انتوا على طول كده مع بعض؟”
أومأ برأسه بالتأكيد، وقال بابتسامة:
“أحنا كده طول الوقت عاملين شبه الأطفال مع بعض، عمر أصلاً دمه خفيف جداً، وطول ما هو موجود في القعدة، مش بنبطل ضحك.”
تنحنحت بتوتر، وقالت:
“أحم، ربنا يخليكم لبعض.”
رد عليها بتمني:
“يارب، بسم الله، نبدأ.”
وبدأوا عمل الانترفيو لبدء العمل، في جو من التوتر والترقب، بينما كانت عيون راما متلألئة بالأمل وملامحها تدل على تصميمها القوي. كان أمامها فرصة جديدة، وهي تعرف تماماً أنها تحتاج إلى إثبات نفسها لتكون جزءاً من هذا الفريق الحيوي.
………………………………………………….
مر عدة أسابيع…
بدأت راما تتأقلم مع وجود عمر في حياتها، إذ أثبتت براعتها في العمل حتى أشاد بها الجميع. كانت تتعامل مع ضغوطات العمل بكل شجاعة، وتخرج بابتسامة رغم ما يعتريها من مشاعر مختلطة. في المقابل، كان عمر يقضي أسعد أيام حياته لوجود راما بالقرب منه، وشعر كما لو أنه يعيش في أحلام العصور الذهبية، حيث عادت له مشاعر الشباب والحماس، وكأنها كانت له فجرًا جديدًا بعد ظلام طويل.عندما أنهت راما العمل، خرجت من مكتبها واتجهت نحو مكتب عمر، تتمنى أن تقضى معه بضع لحظات ممتعة. طرقت الباب ودلفت إلى الداخل بابتسامة تضيء وجهها، لكنها مندهشة بشكل مفاجئ عندما رأت فتاة تمسك يد عمر وتبتسم له بسعادة، وكأنهما في عالم آخر. لحظات ظلت فيها راما جامدة، بينما ذكريات خيانة زوجها السابق في موقف مشابه كانت تتدفق في عقلها كالأمواج العاتية، مما جعل قلبها ينبض بشدة. تكلمت بصعوبة، ودموعها تتقدّم على وجنتيها، وقالت:
“ا ا أنا آسفة، معرفش أنك مشغول.”
ركضت خارجاً، والدموع تتسابق على وجهها، وهي لا تشعر بالوقت ولا بالمكان، بل كل ما كان يشغلها هو الألم الذي أحست به. هبطت إلى الأسفل، مثيرةً ضجيج خطواتها المتسرعة، وكأنها تحاول ضبط فوضى مشاعرها. حاولت التلويح لسيارة أجرة، لكن كل جهدها كان بدون جدوى. تفاجأت بعمر يمسك ذراعها، يشدها بلطف، ويقول بأنفاس لاهثة:
“راما، مالك خرجتي تجري ليه من المكتب؟ قعدت أنادي عليكي مردتيش؟”.
كانت عينيه مليئتين بالقلق، وملامحه تعبر عن رغبة عميقة في فهم ما يحدث لها.نظرت في الاتجاه الآخر، متجنبًة مواجهته، ثم تكلمت بصوت مختنق:
“مافيش، أنا بس عايزة أروح ضروري.”
كان الصوت الذي خرج منها بعيدًا عن حدود الكمال، واختلط فيه الشك والحزن. مد يده وحرك وجهها برفق، أُرغمها على النظر إليه بأسلوب يجمع بين القلق والحنان، ثم قال بنبرة هادئة:
“مالك يا راما، بتعيطي ليه؟”.
حاولت أن تمنع دموعها، ولكنها كانت تتزايد أكثر مع كل لحظة، وكأنها تعكس كل الألم الذي في قلبها. تكلمت بصعوبة، متوسلة:
“ارجوك يا عمر، سيبني أمشي.”
كانت الكلمات تخرج كما لو كانت نابعة من أعماق جرحها، وكانت تحاول أن تظهر بمظهر القوية، إلا أن صوتها خانها.هزّ رأسه بالرفض، وبنبرة حنونة، قال:
“لا يا راما، مش هسيبك تمشي بالشكل ده، مش هكون مطمن عليكي.”
كلماته خففت من وطأة الكآبة، لكنها لم تكن كافية لتخفف من عاصفة مشاعرها. أخذت نفساً عميقاً، وعبرت بصعوبة:
“أنت عارف سبب طلاقي إيه يا عمر؟”
كانت عينيها تلمعان بالرجاء أن يفهم عمق معاناتها.هزّ رأسه بعدم معرفة، وكأن السؤال لم يكن مجرد كلمات، بل بوابة مفتوحة لعالم من الألم. تعالت شهقاتها، وتحدثت بصوت حزين منكسر:
“علشان كان بيخوني يا عمر. دخلت عليه وهو مع السكرتيرة في مكتبه، ولما حاولت أغضب وأرفض الوضع ده، قالي إن جوازنا كان مجرد متعة ليه، وإنه اتجوزني علشان رفض يقرب مني من غير جواز. ما صدق اللي حصل ده، علشان يطلقني ويخلص مني. ذلني بالفلوس اللي صرفها عليّا وعلى أهلي. كسر قلبي اللي حبه بصدق، حبه هو مش فلوسه. يومها حلفت أني مش هسلم قلبي لحد تاني مهما حصل، بس للأسف قلبي خانني هو كمان وضعف. مبتعلمش من أخطائي. النهارده ولتاني مرة شفت نفس مشهد الخيانة.”
كانت كلماتها تحمل ثقل الذكريات الأليمة، وكأنها تنقل له كافة الألغاز التي كانت تحيط بقلبها المنكسر، آملة أن يتمكن من فهم ما كان في جعبتها لتحاول الشفاء سويًا.عقد بين حاجبيه بعدم فهم، ثم تساءل ببراءة واضحة:
“خيانة إيه؟ أنا مش فاهم حاجة يا راما، إيه سبب كلامك ده؟”
أزالت عبراتها بأناملها المرتجفة، ثم قالت بصوت مختنق من شدة البكاء:
“انسى يا عمر الكلام اللي قلته، واضح أني بقيت حساسة شويتين.”
نظر إليها بنظرة مطولة مليئة بالقلق، وكأنما بحث في عيونها عن أمل أو تفسير. ثم تذكر الفتاة التي رأها، وضحك ضحكة عميقة، خطفته السعادة رغم كل شيء، وكاد قلبه يتوقف من شدة الضحك، قال بسعادة:
“إنتي غيرانة عليا يا راما؟ مش معقول!”
رفعت حاجبيها إلى الأعلى وعبَّرت بضيق، ربما لعدم قدرتها على إخفاء مشاعرها:
“و و و أنا هغير عليك بصفتي إيه؟”
اقترب منها، وأمسك يدها بنعومة قال بنبرة تحمل الكثير من الشغف:
“بصفتك حبيبتي، يا راما…”
ثم تنهد بعدم تصديق، واستمر في حديثه:
“أنا كنت مستني اللحظة دي من زمان أوي. كل يوم أصحى من نومي على أمل أنك تحسي بحبي ليكي، بس اليوم كان بيخلص وأفقد الأمل. راما اللي شفتيها فوق في المكتب دي أختي الصغيرة، ومخطوبة لسيف ابن خالتي. كانت جايه لخطيبها وعدت عليّا بس كده.”
أرجعت شعرها خلف أذنيها، مع شعور بالقلق، وقالت بتوتر:
“و و و أنا مالي إذا كانت أختك ولا حبيبتك؟ على فكرة، أنا مضايقتش منها أصلاً!”
أومأ برأسه بابتسامة مريحة وقال:
“أيوه، أيوه، ما هو واضح أهو إنك مش فارق معاكي.”
تراجعت إلى الخلف وعقدت ذراعيها على صدرها، ونظرت في الاتجاه الآخر، بينما وضعت في قلبها قولها بصوت متردد:
“متتريقش لو سمحت، وفعلاً انت مش فارق معايا.”
أخذ نفساً عميقاً وتكلم بنبرة عاشقة تحمل الكثير من الثقة:
“راما، أنا بحبك ومش من دلوقتي، لا من أيام ما كنتي لسه في إعدادي. خطفتي قلبي بخفة دمك وجمالك. كنت مستني أنك تتخرجي وأتقدملك، بس لاقيتك اشتغلتي في الشركة، ومافيش كام شهر أتجوزتي. اتقهرت وقلبي انكسر، بس قولت أكيد مافيش نصيب. رضيت بأمر ربنا، بس مقدرتش أشوف واحده غيرك. رغم محاولات مي معايا وأمي،وكلهم كنت شيفهم عادي، إلا أنتي بشوفك استثنائية. ولما رجعتي وعرفت من رامي أنك اطلقتي، اتجدد الأمل جوايا من جديد. حسيت أن طلاقك ده عوض ربنا ليا. واخدت عهد على نفسي أني مش هفرط فيكي، وأول فرصة هتيجي ليا هعترفلك بحبي، وأتجوزك. هعمل كل حاجة عشان أحببك فيا، والحمدلله أهي الفرصة جات وبدأتي تحبيني. علشان كده أنا بقولك، أهوو هتجوزك يعني هتجوزك.”
انهمرت دموعها بغزارة، وحركت رأسها بالرفض، وقالت:
“مينفعش يا عمر، صدقني مينفعش، أنا مش هقدر أكرر اللي عشته تاني، مش هقدر والله.”
أمسك يدها وتحدث بحب، قائلاً بوعد:
“أنا مش زيه يا راما، صوابعك مش زي بعض. أنا بحبك بجد، وعلشان كده عشت عمري كله مستني فرصة واحدة تقربني ليكي. يبقى بعد ده كله، هكون عايز أتسلى بيكي. سيبي نفسك ليا، وأنا هنسيكي كل الماضي.”
ظلت تنظر له، ثم تحركت بسرعة، أوقفت سيارة أجرة وصعدت بها وغادرت المكان.ظل يتابعها عمر بنفاذ صبر، وقال بتوعد:
“اهربي زي ما انتي عايزة يا راما، في الآخر قلبك هيرق وهتوافقي تتجوزيني.”
ثم عاد مرة أخرى إلى الشركة لمتابعة عمله، لكن خيالاته عن راما ما زالت تعصف بأفكاره، ملمحاً للأمل بأن مستقبلهم قد يكون مشتركاً يوماً ما.
………………………………………………….

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1