رواية ترانيم في درب الهوى الفصل الخامس 5 بقلم دودو محمد


 رواية ترانيم في درب الهوى الفصل الخامس 


فلاااش باااك...

خرج سلطان بكسرة قلبه عندما فتحت له ترنيم جرحاً كان يحاول معالجته. صعد إلى سيارته، وبدأ يدور بها في شوارع الإسكندرية المتعرجة، دون وجهة معينة. كانت أصوات الحياة المحيطة به تتلاشى، ويحدثه ذهنه بصوت ترنيم، التي كانت توقظه بفارق السن بينها وبينه. أوقف السيارة بشكل مفاجئ، ونظر أمامه بعينين خاليتين، وقرر في تلك اللحظة الابتعاد عنها، إذ كشفت الستار عن معاناته، ويجب عليها أن تتحمل الألم، كما جرحت كبرياءه. لم يكن الهرب من التحدي مجرد خيار، بل كان بمثابة صرخة داخلية تعبر عن عذابه واستسلم ببطء للمشاعر المختلطة التي كانت تسكنه. تحرك بالسيارة نحو مقر شركته، وسرعان ما صعد إليها، عازماً على عدم العودة في تلك الليلة حتى لا يضعف أمام دموعها، التي كانت دائماً نقطة ضعفه في أحلك المشاكل.
في اليوم التالي، استيقظ سلطان من نومه برأس متيبس، اعتدل في جلسته، وعندما تذكر ما حدث بالأمس، اشتعلت النار داخله. شعور بالندم والحزن اجتاحت مشاعره، بينما ذكريات لحظاته السعيدة مع ترنيم تسيطر على تفكيره. نهض من مقعده وخرج، يتجول في الشوارع حتى وقف أمام البحر، حيث كان متضارب المشاعر - بين الرغبة في النسيان والحنين للماضي. ترجل من السيارة، وجلس قبالة الماء، حيث كانت تتراقص الأمواج أمامه، ويتذكر صورة محبوبته، وكأن كل شيء اتفق على تذكيره بها. وضعت فكرة الرحيل عن ترنيم في ذهنه كطريق للشفاء، وتغلبت على تلون مشاعره ضد ذلك الحزن العميق. لكن، كانت أحاسيسه تتصاعد حين وضع يده على وجهه، وفجأة انتفض عندما شعر بيد تتحرك على قدمه. نظر بجواره، فوجدها فريدة، كانت تقرب احد اصدقائه بالجامعه وكانت تحبه لكنه رفض حبها له، ابتسمت له وتحدثت بسعادة:
 "ياااه يا سلطان، بقالي زمن مشُوفتكش. أنا مصدقتش نفسي لما شُوفتك قاعد. جيت أتأكد إذا كنت أنت سلطان ولا لا. عامل إيه يا راجل؟"
ابتسم لها بحزن، وتحدث بنبرة مختنقة، وهو يحاول التحكم في مشاعره: 
"فريدة! اختارتي الوقت الصح اللي نتقابل فيه. عاملة إيه؟". 
لكن لم تكن إدراكات فريدة محدودّة، فقد لاحظت بوضوح ذلك التوتر الذي كان يعيشه. نظرت له باستغراب وقالت: 
"أنا كويسة، الحمد لله. لسه راجعة من أمريكا من كام شهر، اتجوزت وأطلَّقت، هي دي حياتي باختصار. وأنت بقى مالك؟ شكلك حزين ومضايق. فين سلطان جنتل مان الجامعة اللي البنات كلها كانت هتموت عليه؟" 
لطالما كانت فريدة تثمن تلك النظرة الشغوفة التي يحملها سلطان تجاه ترنيم، لكنها لم تدرك سر تلك الأوجاع التي تساكنه.
تنهد بضيق وتحدث بنبرة مختنقة: 
"ولسه زي ما أنا، يا فريدة، رافض أشوف أي واحدة. مافيش غيرها هي، بس للأسف فرق السن كبير، أنا اللي مربيها على أيدي." 
قرار وضع أسس حبه في سياق غير مألوف جعل من المشاعر المعقدة عبئًا ثقيلاً. نظرت له بصدمة وقالت: 
"اوعى يكون قصدك على بنت خالتك اللي كنت بتجيبها معاك في كل حتة، اللي كان عندها خمس سنين دي؟" 
أومأ برأسه بالتأكيد وقال: 
"أيوه، هي، يا فريدة. دلوقتي بقت في ثانوي، بس شقية أوي ومجنناني. وللأسف، حبيتها، وعيوني مش شايفة غيرها. بس هبقى أناني لو فكرت في كده." 
ووجدت فريدة نفسها في مأزق بين مشاعرها تجاه سلطان ومخاوفها المتزايدة حول صحة مشاعره تجاه ترنيم.
ردت عليه بالتأكيد وقالت: 
"طبعاً، يا سلطان، هتبقى أناني وظالم كمان. أنتوا فرق السن ما بينكم كبير أوي. أنت تعتبر قد باباها. يبقى إزاي تفكر فيها بالطريقة دي؟ لازم تشيل الفكرة دي من دماغك. مينفعش ده يحصل. والأحسن ليك تشوف واحدة بنت حلال من سنك تتجوزها. وأكيد لما تكون فيه واحدة مسؤولة منك، هتقدر تنساها وتسيبها تعيش حياتها مع واحد من سنها. ده اللي مفروض يحصل، صدقني." 
كان صوتها يحمل نوعًا من الثقة والود، لكن سلطان كان مقيّدًا بسلسلة من العواطف التي تمنعه من رؤية ما هو أبعد من حبه الجارف لتلك الفتاه. تنهد بضيق وأومأ برأسه وقال: 
"ربنا يسهل. هروح أنا بقى. من امبارح وأنا نايم بره البيت." 
كانت تلك الكلمات بمثابة اعتراف بمدى يأسه، ورغبة في العثور على مخرج من عالمه المضطرب.
تكلمت سريعاً وقالت: 
"هات رقمك طيب. ده أنا ما صدقت لاقيتك، وحشتني أوي والله." 
زفر بضيق، وكان يعلم  جيداً أنها مازالت تكن له بعض المشاعر بقلبها، ولكن لم يكن لدى سلطان القدرة على التصريح بذلك، فهو مضطرب للغاية. أعطاها الرقم وغادر المكان سريعاً، يحاول الهروب من المشاعر المتضاربة التي تعصف بقلبه.
نظرت إلى أثره بحب، وتحدثت بسعادة:
"معقولة تيجي لحد عندك كده بسهولة؟ يعني دورت عليه قد إيه لحد ما عرفت عنوانه، وكمان وصلت ليه في الوقت الصح؟ يا سلام عليكي يا بت يا ديدا، لما الحظ يلعبها معاكي صح." 
كانت فريدة تشعر بأنها في رحلة مع القدر، فانجذبت أكثر نحو سلطان، ومع مرور الأيام، كانت تحاول دون النجاح في ربط مشاعر الحزن التي تسكنه.
مر عدة أسابيع، وظلت فريدة تتقرب من سلطان لمساعدته. كانت تتحدث معه بالساعات على الهاتف، وأحياناً يلتقون بالخارج. ورغم عدم ارتياح سلطان لهذا التقرب، إلا أنها استغلته حتى يشغل وقته ويبعد تفكيره عن ترنيم. لكنها لم تدرك أن حب ترنيم كان كالمرض الممسك بصاحبه حتى آخر العمر. قاومت مشاعرها، لكنها سرعان ما استسلمت لما يبدو أن القدر قد رسمه لهما. وفي اليوم الذي قبل سلطان ترنيم، خرج من عندها بعدم تصديق، لا يصدق أنه انجرف خلف مشاعره بهذه السذاجة. أجرى اتصالاً على فريدة وكأنها المهرب له من فعلته تلك، مكتشفًا أنه بحاجة لرؤية تفاصيل أخرى عن الحياة. وعندما التقيا، كان يشعر بالحنق والكره لحاله لما فعله مع محبوبته، ولذا، استغلت فريدة الفرصة، وأشعرت سلطان بأهميته لديها، وأدخلت في عقله ضرورة اللجوء للزواج. وعليه، قال سلطان بصوت مختنق: "تتجوزيني يا فريدة؟"
حاولت إخفاء السعادة الواضحة على وجهها، وتحدثت بحزن مصطنع: 
"أنا مش بقولك كده علشان تتجوزني يا سلطان، أنا بحاول أوصل معاك لحل يساعدك تخرج من اللي أنت فيه ده." 
رد عليها بتوضيح: 
"فريدة، أنا مش هقولك بحبك، ولا هتبقي أنتي اللي في قلبي. لا، لأن ده عمره ما هيحصل. هيفضل حبها في قلبي لآخر لحظة في عمري، وعيوني عمرها ما هتشوف غيرها. بس على الأقل، عمري ما هقصر في حقوقك، وهراعي ربنا فيكي. البنات على أفا من يشيل، ويتمنوا المعلم سلطان يبص ليهم بصه، بس أنتي عرفاني ومتعودة عليا. وعارفة طبعي إزاي، وأنا كمان متأكد إنك لسه بتحبيني، وده واضح في عيونك ليا. لو موافقة، هاجي أتعرف على أهلك ونكتب الكتاب، وعندي شقة هعيشك فيها. وهوفر ليكي في البنك اللي يعيشك مرتاحة لو حصل ليا حاجة. بس شرطي الوحيد، محدش من أهلي يعرف بالجوازة دي، وفي الوقت المناسب هبلغهم بده." 
كانت فريدة تتأمل في كل كلمة، وتستشعر الوزن النفسي للقرار الذي اقترب منه سلطان، لكن نظرتها كانت مليئة بالأمل، وبدت كأنها تقرأ من خلال سطور قلبه.
نظرت له بضيق وقالت: 
"أنت مش عايز تبلغ أهلك بالجوازة دي علشانها هي يا سلطان." 
أومأ برأسه بالتأكيد وقال: 
"أيوه، يا فريدة. هي لسه صغيرة، وهيكون صدمة كبيرة عليها خبر جوازي. بس متقلقيش، هحط حدود ما بينا علشان تبطل تفكر فيا، وتشوف مستقبلها مع حد غيري. هي هتفضل ملزومة مني لحد ما أوصلها لبيت جوزها. وساعتها، أوعدك، هبلغهم بخبر جوازنا أنا وأنتي." 
أومأت برأسها بالموافقة وقالت: 
"موافقة يا سلطان، علشان أنا واثقة في كلمتك. ومدام وعدتني بحاجة، هتنفذها لو على رقبتك. ودي أكتر حاجة بحبها فيك."
نظر لها بحزن، وقلبه يدمي من الداخل من شدة الألم، حيث يشعر بالخيانة تجاه ترنيم. ومع ذلك، كان الأمر أشبه بمغامرة قاسية تتطلب منه التغلب على عواطفه، رغم أن الأحلام والطموحات التي نسجها بشغف مع ترنيم لا تزال كالشجيرات في روحه، تنبض بالحياة.
وبالفعل، تزوج سلطان فريدة، لكن تلك العلاقة الجديدة أصبحت كقلادة مشدودة حول عنقه. وظلت علاقتهما متوترة بسبب عدم استطاعة سلطان نسيان حب ترنيم، التي كانت تشعر به فريدة بسهولة. حتى تم الاتفاق على الانفصال، ولكن القدر أسفر عن مفاجأة، حيث أصبحت فريدة تحمل طفلة سلطان ببطنها، مما جعل كلا من سلطان وفريدة يتراجعان عن فكرة الطلاق ويستمران من أجل هذه الطفلة. لكن بشروط وضعها سلطان، وهي أولها عدم التحدث معه بعلاقته بترنيم نهائياً، مهما غاب عنها. لم تحاول الاتصال به أو التواصل معه بأي طريقة. أما هو، فعليه الاهتمام بمطالب ابنته، والتركيز على إعطاء الوقت اللازم ليبقى بجوارها، وتظل صورتهما دائماً مثالية أمام ابنتهما. وظلوا على هذا الوضع طوال السبع سنين إلى وقتهم الحالي، حيث باتت أيامهم تمر كقطار سريع، تحمل في طياتها لحظات من السعادة والمرارة وآمال غير مكتملة.
            ************************
بااااك...

فاق سلطان من تفكيره العميق على صوت فريدة، التي كانت تتمدد بجواره، تحاول تقبيله برقة، وهي تتحدث بنبرة تفيض بالشوق والحنان: 
"وحشتني اوي يا سلطان، أنا مش هقولك ليه الغياب ده كله ولا هنكد عليك، بس ارجوك فكر في بنتك شويه. البنت كبرت وبتسأل عليك على طول، حاول متتأخرش عليها اوي كده."  
كانت عيناها تحملان نظرة قلق عميق، وضعت يدها برفق على وجهه وكأنها تراعي وجع قلبه، و المعاناة التي يعيشها.
تنهد بضيق، واومأ رأسه بالموافقة قائلاً: 
"إن شاء الله يا فريدة."  
كان صوته عميقاً، تخترقه همسات الندم، وكأن هذه الكلمات هي حجر في مجرى نهر مشاعره المتجمدة، تشوبها كآبة الواقع الذي يعيشه. 
حركت يدها برفق على صدره، وكلمته بنبرة دلع مختلطة بالحزن: 
"وبتوحشني أنا كمان يا سلطان. أنا محتاجة جوزي يكون جنبي. أنت وعدتني إنك مش هتقصر في حقوقي، وانا كتير أوي بكون محتاجتك ومش بلاقيك. أنا لسه عند كلمتي، سلطان عمره ما يخلف وعده، ولو على رقبته. ارجوك متخلنيش اغير فكرتي عنك."  
كان حديثها يبدو كنداء مفعم بالحب، جسدته في لمسة يدها التي تعبر عن أملها في عودته إليها. 
ابتسم لها بحزن، وتكلم بنبرة مختنقة: "حقك عليا يا فريدة، هحاول متأخرش عنكم تاني."  
لكن تلك الابتسامة لم تكن تعكس الفرح، بل كانت كغيمة تخفي خلفها ضوء الشمس، مشاعر تتأرجح بين واجباته الأبوية وزوجته وحبيبته.
اقتربت منه، وضعت قبلة على شفتيه، وتكلمت بهمس متوسل: 
"طيب، ايه؟ هنقضي الليلة كلها كلام ولا أيه؟ بقولك وحشتني."  
كانت كلماتها تلعب على أوتار قلبه، معبرة عن انتظارها له، محملة بشعور الوحدة التي تعيشها كلما ابتعد عنها. 
أغلق سلطان عينيه، فقد جاءت اللحظة التي يشعر بعدها دائماً بالخيانة، ويشعر بندم على فعلته. تلك اللحظة التي يختلط فيها الحب بالذنب، ويتصارع فيها واجبه مع مشاعره الداخلية. لكنه يعترف أن هذا هو شرع الله وحق زوجته عليه، مهما كان شعوره الداخلي بالرفض. فهو ملزم بتلبية احتياجاتها، رغم أن قلبه يئن من ثقل المسئوليات.
أخذها داخل أحضانه وبدأ رحلة شاقة، يشعر فيها بالنفور وتأنيب الضمير تجاه محبوبته. حاول إنهاء ما يفعله سريعاً، إلا أن يده كانت تهتز برقة على جلدها الدافئ، وكأن مشاعره تحاربه في هذه اللحظة. بعد وقت امتدت بجوارها بأنفاس لاهثة، مقبل رأسها، وأغلق عينيه حتى لا ترى الحزن المتأجج داخله، وهو يرتدي قناع الفرح للتظاهر بأنه بخير. قبلت صدره العاري بسعادة، وسألته باستغراب: 
"أنت هتنام ولا أيه يا حبيبي؟"
أومأ برأسه تأكيداً، وقال: 
"أه يا فريدة، أنا صاحي من بدري بشوف أكل عيشي. تصبحي على خير."  
كلمات تبدو عادية، لكنها مُقيدة بأثقال ترتبط بوهم السعادة التي يحاول إدراكها, في وقتٍ يشعر فيه بنقص حاد في مشاعر الأمان والراحة. 
أنهى كلامه، وأعطاها ظهره، ونظر أمامه بحزن عميق، كأنه يحمل على عاتقه هموم العالم بأسره. تنهد بوجع، وشعر بمرارة الفراق تتسلل إلى قلبه، ثم أغلق عينيه وغاص في نوم عميق، هارباً من واقع مؤلم إلى عالم الأحلام الذي كان يتمناه بشدة. كان كل ما في داخله يتوق لتلك اللحظة التي يتمكن فيها من الفرار من كابوس اليقظة إلى أحلام شهدها في كثير من لياليه، حيث كل شيء كان يسير كما ينبغي، حيث الفرح ينتظره عند كل زاوية. كانت أحلامه ملاذه الوحيد، بعيدًا عن المتاعب والواقع القاسي الذي كان يعيشه يومياً.
نظرت إليه بضيق، غير قادرة على فهم مشاعره القوية والمتراكمة. كان يحاول إخفاء حزنه، لكنها كانت تدرك أن هناك شيئًا ما ينقصه، وأن عالم الحقيقة كثيرًا ما يفسد لحظات الصفاء. ثم أغلقت هي الأخرى عينيها، وبعد عدة ثوانٍ، ذهبت إلى النوم، محاولةً الهروب من تفكيرها المتنقل بين الشك والقلق. كان عقلها مشغولاً بمستقبل غامض.
            ***********************
في صباح اليوم التالي، استيقظت ترنيم بتكاسل، حيث تملكتها رغبة قوية في الاستمرار في النوم. كانت الغرفة ما تزال مظلمة قليلاً، وأشعة الشمس تتسلل من بين الستائر، مما جعلها تشعر بالنعاس أكثر. لكن، بضع تأملات سريعة حول الأيام الماضية، والتي كانت مليئة بالتوتر والقلق، دفعتها إلى النهوض، فذهبت إلى المرحاض. بعد فترة ليست بطويلة، خرجت من الحمام وهي تجهز نفسها، حيث قامت بتسريح شعرها وتخفيف بعض آثار الإرهاق من على وجهها، ثم غادرت غرفتها. نادت قائلة: 
"فوفه، أنا رايحة عند خالتو صباح."
الرد جاء سريعاً من داخل المطبخ بصوت ربما كان مشغولاً: 
"لو رايحة علشان سلطان، متتعبيش نفسك. سلطان نزل قبل ما الكل يصحى." 
شعرت ترنيم بنوع من الإحباط، فزفرت بضيق، حيث كان صوتها مختنقاً وهي تقول: 
"مدام مشي الصبح بدري كده، يبقى سافر وهيغيب يومين تلاته." 
لم تستطع التوقف عن التفكير في مدى قلقها من غيابه، بل كانت تشعر كأن الأيام القادمة ستكون خالية من الأمل والسعادة، وكأنها ستعاني من فراغ كبير بسبب ابتعاده.
عادت ترنيم إلى غرفتها، حيث امسكت بهاتفها وأجرت اتصالاً، لكن كالعادة، كان الهاتف مغلقاً. ألقت الهاتف بجوارها، حيث ظلّت تحرك ساقيها بقلق، ثم نهضت مرة أخرى، متجهة إلى شقة خالتها صباح، حيث كانت تأمل أن تجد فيه بعض الراحة من مشاعر القلق التي رافقتها. جلست بجوارها على الأريكة، وحاولت أن تخفي مشاعرها بقدر ما استطاعت، لكنها لم تستطع تجاهل الحزن في عينيها، وقالت بصوت مختنق: "سلطان سافر صح يا خالتو؟"
أومأت صباح برأسها تأكيداً، وأجابت: 
"أيوه، يا بنتي. دخلت الصبح عنده الأوضة، لاقيته مشي واحنا نايمين، والله أعلم هيجي امته." 
زفرت ترنيم بغضب، وتحدثت بصوت مملوء بالقلق: 
"هيكون أصعب أيام تعدي عليا. هو مينفعش يخدني معاه في الشنطة، مش هزعجه أبداً، والله." 
كانت كلماتها تعكس كل مخاوفها، حيث كانت تتمنى أن تستطع أن تذهب معه، مهما كانت الظروف، فوجوده بجانبها كان يعني لها الكثير.
ابتسمت صباح على كلمات ترنيم المجنونة، وكأنها تتفهم الفراغ الذي تعيشه. وفي تلك اللحظة، سمعوا صوت سميه، التي قالت لها مازحة: 
"هو ناقص بلاوي، يخدك فين؟ ده أنتي لو روحتي معاه، هتخلي عينه في وسط راسه، ومش هیعرف ينتبه لشغله." 
أضحكهم هذا الموقف قليلاً، لكنه كان يحمل في طياته قلقًا عميقاً عن ما إذا كان سلطان سيعود سريعاً أم ستستمر تلك الأيام الطويلة بدون وجوده، وكانت الفكرة تؤرق تفكير ترنيم أكثر من أي شيء آخر.
التفتت ترنيم نحو سميه، وتحدثت بنبرة غاضبة تفيض بالتوتر والضيق: 
"بلاش هزعلك، أنا مخنوقة ومش طايقة نفسي." 
كان واضحة على وجهها القلق، حيث كان التفكير في مغادرة سلطان المنزل  يشغل بالها بشكل دائم. ردت عليها سميه وهي تتجه إلى باب الشقة، وقد حاولت جاهدة التقليل من حدة الموقف بقولها: 
"جربي شويه من اللي بتعمليه فيا. أنا ماشيه، يا ماما، السواق مستني تحت بالعربية. سلطان قايله يوصلني الصبح، و يجيبني بعد الشغل." 
أومأت صباح برأسها بالموافقة، وقالت بلهجة مطمئنة: 
"ماشي يا بنتي، روحي، ربنا يوفقك." 
لكن ترنيم لم تستطع إخفاء مشاعرها، فتحدثت بسرعة وبتلهف: 
"خديني معاكي، أنا زهقانه أوي وسلطان مش هنا، ومش عارفه هروح استلم الشغل امته." 
كان صوتها يعبّر عن إحباطها وحاجتها للهرب من جدران البيت التي تشعرها بالاختناق.
رفعت سميه حاجبيها، وتحدثت بتهكم وكأنها تحاول إدخال بعض الفكاهة في الأجواء: 
"أخدك فين يا حلوة، ما انتي عارفه طبع سلطان، مانعك تخرجي من البيت طول ما هو مش موجود." 
كان هذا التهكم مجرد محاولة لإضفاء حيوية على أجواء الغرفة، لكن ترنيم لم تستجب، حيث زفرت بضيق وتحدثت بتبرم: 
"يووه بقى، ده ظلم والله." 
أنهت كلامها وعادت مرة أخرى إلى الشقة، وكأن القلب المثقل بالأفكار السوداء قد غرق في حالة من الكآبة.
ابتسمت سميه على حركات ترنيم الطفولية،  وتكلمت بمزاح: 
"الله يكون في عون أخويا سلطان، منها طفله والله." 
أنهت كلامها، وهبطت إلى الأسفل، عند دخولها السيارة، رأت حسام وهو يتحرك في الحارة، فهتفت إليه بفرح محتشم: "بشمهندس حسام!"
اقترب منها دون أن ينظر إليها، وتحدث بنبرة رسمية وكأنها كانت تصطدم بحقائق الحياة: 
"أمري، يا آنسة سميه." 
نظرت إليه بحب، لكن سرعان ما انتبهت لحالتها، حيث تنحنحت بتوتر وكأن الكلمات تكاد تتعثر في حلقها، ثم قالت: 
"أتفضل معايا، أوصلك الشركة. أحنا كده كده طريقنا واحد." 
حرك رأسه بالرفض قائلاً: 
"شكرًا يا ست البنات، بس ميصحش أركب معاكي العربية. اتفضلي أنتي، وأنا إن شاء الله هاجي وراه حضرتك على طول." 
كان صوته يحمل نوعاً من الاحترام الشديد.
تنهدت بحب، منهمكة في التفكير: 
"ماشي، ع عن إذنك." 
صعدت السيارة وهي تلاحظ كيف كانت عينا حسام تحمل نظراته تجاه الأرض، وكأنهما كانتا تتحدثان بلغة خاصة. تحركت السيارة بسميه، ومضت في طريقها، بينما نظر حسام إلى أثرها مبتسماً بسعادة، وكأن ابتسامتها كانت تحمل الأمل ليوحد أمور الحياة. بعد لحظة، تحرك إلى موقف الأوتوبيس، ويصعده، ثم يواصل الطريق إلى مقر الشركة.
          **********************
استيقظ سلطان على لمسات يد صغيرة ناعمة تداعب وجهه برقة كنسيم صباحي لطيف، فتفتح عيونه ببطء، تلتقط أنفاسها الهادئة في حضن الصمت، وابتسم بحب أبوي دافئ يغمر صدره. جلس متأملاً تلك اللحظة التي تربط قلبه الصغير بقلبه الكبير، ثم اعتدل على فراشه، قابلها بوجه مشرق كأنه شمس النهار، وقال بلحن المحبة والحنان:
"صباح الورد على زهرتي اللي بتملى دنيا بابا فرح."
ابتسمت بملائكية طفولية بريئة، عيناها تلمعان كنجوم الصباح، وردت بأصواتها الرقيقة كقطرات الندى:
"صباح النور يا بابي، مامي بتقولك يلا اصحى، الفطار جاهز."
قبل وجنتيها بحنان عميق ينبع من أعماق قلب رجل يحب بلا حدود، وأشار بإصبع يديه قائلاً بمرح:
"ماشي يا قلب بابا، روحي وأنا جاي وراكي حالاً."
هبطت على الأرض بخفة كريشة طايرة، ثم ركضت مسرعة نحو الخارج بفرح الطفلة التي تخوض مغامرتي الصباح، تناغم صوت خطواتها الخفيفة مع أشعة الشمس الذهبية التي بدأت تتسلل إلى الغرفة، تعبق المكان بدفء الحياة وتفاؤل يوم جديد.
تنهد سلطان بحزن دفين يثقل قلبه رغم ابتسامته اللطيفة، استقام بجسده وكأنه يستعيد قوته أمام مسؤولياته، توجه نحو الباب وأغلقه من الداخل بهدوء يحاكي صمت الغروب. عاد إلى السرير، جلس وهو يمسك هاتفه المحمول بإحكام، فتنتظره لحظة الاتصال المرتقبة بفارغ الصبر، كأن كل نبضة تنتظر سماع صوتها ليهدأ الألم. بعد ثوانٍ معدودة، سمع صوتها المتلهف، المحمّل بالحب والاشتياق، يقول له بكل حنان:
"سلطان وحشتني أوي، ليه لازم كل مرة تسافر وإحنا نايمين من غير ما تقول؟"
حاول أن يتحكم في صوته، أن يخفي حزنه كي لا تشعر به، وقال بنبرة طبيعية لكنها مختلطة بالشوق:
"اهدي يا مجنونة، وأنا كمان وحشتيني أوي. وبعدين المفروض تكوني اتعودتي، يعني بسافر وانتوا نايمين علشان طفلتي المجنونة هتقلب الدنيا مناحة وهتشبط فيا ومش هتخليني أمشي."
ردت عليه ببراءة وتذمر طفولي، كأن قلبها الصغير لم يستوعب فكرة البعد:
"طيب بعد كده خدني معاك، والله مش هزعجك خالص، المهم إنك متبعدش عني يا سلطان. الأيام بتبقى كئيبة أوي وانت مش فيها، والليل بيبقى أطول."
تنهد بوجع يثقل روحه، وتحدث بصوت مختنق ملؤه الألم والحنين:
"يا ريت كان ينفع يا قلب، وعمر سلطان."
شعرت بحزنه يغلف كلماته، فتكلمت بقلق مؤثر يعكس دفء مشاعرها:
"مالك يا سلطان؟ صوتك مضايق ليه؟"
أجاب بسرعة محاولاً التخفيف من وقع الحزن:
"مافيش يا حبيبي، بس تعبان شوية من الشغل والإرهاق."
ردت ببراءة وحنان ملؤهما الحب والاهتمام:
"طيب يا سلطان، ألبس هدوم كتيرة وكل حاجة تكون كويسة. يمكن تكون أخدت دور برد عشان تغير الجو."
خوفها وبراءتها جرحا قلبه، فتمزق بندم عميق وتأنّب ضمير، ورد بنبرة حزينة تعبر عن همومه:
"متخافيش عليا يا حبيبي، يلا بقى لازم أقفل علشان أشوف شغلي."
تكلمت بتوسل نابع من المحبة الصادقة والحرص على سلامته:
"علشان خاطري، خلى بالك من نفسك وأرجعلي بسرعة. محتاجاك جنبي."
تنهد بوجع وقال بملامح رجل يتمنى لو يستطيع أن يمحو كل أوجاع الحياة:
"حاضر يا قلب سلطان، سلام يا عمري."
أغلق الخط، واحتضن رأسه بوجع وكأنه يحاول أن يحمي قلبه المثقل بالأماني والآمال، همس بأسف حزين:
"حقك على قلبي يا بنت قلبي."
لحظات بعد ذلك، سمع صوت زوجته تهتف عليه من الخارج. أغلق الهاتف ووضعه برفق على السرير، ثم نهض بخطى ثقيلة وخرج من الغرفة. وجد زوجته وابنته تنتظرانه عند طاولة الطعام، حيث الإضاءة الدافئة تملأ المكان. اقترب من زوجته، قبل رأسها بمحبة وابتسامة حاول إخفاء ألمها، ثم جلس على المقعد. أمسك بيد ابنته الصغيرة وجلسها على قدميه، قبلها بلطف، وبدأوا يتناولون الطعام كأسرة سعيدة مترابطة، رغم ما يخفيه سلطان في قلبه لحبيبته ترنيم.
             **********************
وصلت سميه إلى الشركة وصعدت إلى مكتبها، حيث كانت السكرتيرة سيلا في انتظارها. ابتسمت سيلا بود وقالت: 
"اهلا وسهلا يا فندم، تؤمريني بأي حاجه؟"
حركت سميه رأسها بالرفض، وقالت بصوت هادئ:
"لا شكرا، أنا هستنى البشمهندس حسام علشان نبدأ الشغل."
كان لسميه أحلام كبيرة عن المشاريع التي ستعمل عليها، وقد كان حسام بالنسبة لها رمزاً للنجاح والتحدي. تذكرت الأيام التي قضتها تفكر في كيفية تنمية مهاراتها المهنية، وتأمل أن يتعاونوا في رفع مستوى الشركة ويحققوا إنجازات كبيرة. كانت الأجواء في المكتب تعكس طموحاتها. 
أومأت سيلا برأسها بالطاعة، ثم خرجت من المكتب وأغلقت الباب خلفها. 
جلست سميه على المقعد خلف مكتبها، ذهنها يبحر في أفكارها حول حسام. كانت تتساءل عما إذا كان بإمكانها إثبات كفاءتها أمامه، وكيف سيتقبّل أسلوبها في العمل. بعد عدة دقائق، سمعَت صوت طرقات على الباب. أذنت له بالدخول، وانفتح الباب، فظهر حسام بوجهه المُشرق. ابتسمت سميه بسعادة له، لكنه كان ينظر إلى الأرض.
تحدث بصوت رجولي، مملوء بالجدية:
"أنا آسف يا أنسه سمية على التأخير، الدنيا كانت زحمة."
حركت رأسها سريعاً، متجاوبةً:
"ولا يهمك، انت متأخرتش أصلاً."
جلس على المقعد وتحدث بنبرة جادة:
"نبدأ على طول علشان ما نضيعش وقت."
ردت عليه بصوت مرتبك:
"ط طيب، خد نفسك الأول وأشرب قهوتك."
حرك رأسه بالرفض، ثم قال بنبرة صارمة:
"شكرا، بس ده مش مكان للاستراحة. ده مكان أكل عيش، ولازم نكون قد المسؤولية. المعلم سلطان بيسيب الشركة أمانة معايا وهو واثق فيا أني هقدر أكون قد المسؤولية دي. علشان كده، لازم كل ثانية تكون لشغل وبس. وعلشان نبقى متفقين مع بعض، لازم تكوني فاهمة طريقتي في الشغل تمام يا أنسه سمية."
نظرت له بصدمة، فقد كانت هذه المرة الأولى التي يتحدث معها بصرامة بهذه الطريقة. تجمعت الدموع في عينيها، وأومأت برأسها بالموافقة:
"ف فاهمة، ب بس أنا مقولتش حاجه لكل ده."
زفر بضيق، ولأول مرة ينظر إليها مباشرة، وتحدث بنبرة جادة:
"أنسه سميه، أنا في الشغل بكون حاجة تانية. بحب كل حاجة ماشيه صح، مش بقبل بالغلط نهائي. والمعلم سلطان عارف كده وطلب مني أن أعلمك كل حاجة بأسلوبي وبطريقتي. علشان كده، ياريت حضرتك تتفهمي وضعي وتتعودي على طريقتي."
أومأت برأسها بالطاعة، وظلت صامته، مستسلمة لهيبة كلماته. كانت تشعر كأنها في امتحان، تتمنى أن تنجح في إقناع حسام بقدراتها. تذكرت كل تلك الساعات التي قضتها في التحضير للدور الجديد، وكل الأمل الذي كان يملأ قلبها؛ فهي لم تكن تسعى لكسب لقمة العيش، بل كانت تسعى لتحقيق حلمها في أن تصبح جزءًا من فريق ناجح.
ظل نظرة معلق عليها، ولأول مرة يراها بهذا الوضوح، لكن سريعاً انتبه لحاله ونظر إلى الاتجاه الآخر، ثم تنحنح برجولية وقال:
"ممكن نبدأ شغلنا بقى؟"
أومأت برأسها بالموافقة، وبدأوا العمل سوياً بينما كانت سميه تشعر بحزن في قلبها أمام صرامة أسلوب حسام في العمل. استشعرت أن هذه البدايات يمكن أن تكون فصلًا جديدًا في مسيرتها المهنية، لكن قلبها كان مليئًا بالقلق حيال التحديات التي تنتظرها.
               *********************
مرت عدة أيام بصعوبة على ترنيم، وكل يوم كان يبدو وكأنه يحمل معه ثقل الأزمان. رغم أنها كانت تتلقى اتصالات يومية منه، فإن مجرد سماع صوته لم يكن كافياً لسد الغياب الذي يعصف بقلبها. كانت تتوق إليه بشغف، وتتأمل في كل لحظةٍ تبتعد فيها عنه وكأنما تحفر في ذاكرتها تفاصيله: ضحكته المميزة، وطريقة حديثه، وحتى حركاته البسيطة التي كانت تثير الضحك فيها. أما هو، فكانت تلك الأيام تمر عليه وكأنها دهر، فكل لحظة بلاها كانت تضيف إلى لوعة الشوق والحنين، اشتاق لترنيم لدرجة الجنون، وعقله وقلبه كانا معها رغم الابتسامة الاصطناعية التي كان يجاهد في رسمها على وجهه أمام زوجته وابنته. كانت الأجواء في البيت مزدحمة بالحياة، ولكنه كان يشعر وكأن كل شيء من حوله مجرد ملامح فاترة، تحركت في ظلال عواطفه المتقدة بالتوق لحنان محبوبته.
في هذا الوقت، كانت ترنيم تجلس على الأريكة في شقتها، تتلاعب بهاتفها بملل وقلق، تتمنى أن يدق جرس الهاتف في أي لحظة. حاولت الاتصال بسلطان مجددًا، ولكن هاتفه كان خارج الخدمة، وكأنما هو يبتعد عنها بقدر ما تحاول الوصول إليه. ألقت بالهاتف بجوارها وزفرت بضيق شديد، شعور الوحدة بدأ يتسلل إلى قلبها كعاصفة رعدية، وكان يتكثف ويتراكم فوق جموح انتظارها. ولكن في تلك اللحظة الحرجة، تعالت دقات قلبها مثل طبول الحرب عندما سمعت ترحيب رجالته الحار. نهضت سريعاً ودققت النظر من الشرفة، لتجد سلطان يظهر أمامها بطلته الرجولية المذهلة، وابتسامة جميلة ارتسمت على وجهها وكادت أن تهبط عنده لتدخل في عناق، إلا أن نظراته التحذيرية منعتها من التحرك. كان يعلم جيداً تسرع هذه المجنونة وقد تنقض عليه أمام جميع من بالحارة، فاحتفاظه بالملامح الهادئة كان جزءًا من مخططه. أنهى الترحيب تحت نظراته المشتاقة لها، وصعد إلى الأعلى، وكأن كل خطوة له نحوها كانت كأسرع نبض في قلبها. وعندما رآته يدخل إلى العقار، دلفت إلى الداخل وركضت نحو الخارج لتستقبله على الدرج، بحركة تشبه اجتياح العواصف. وعندما رأته أمامها، ألقت بنفسها في أحضانه وتمسكت به وكأنما تخشى فقدانه من جديد، وقالت بشغف:
"وحشتني أوي يا سلطان، المرادي اتأخرت عليا أوي."
قبل رأسها بحب واشتياق، وتحدث بنبرة عاشقة مفعمة بالعواطف:
"غصب عني يا قلب، وعمر سلطان، أنا كنت هتجنن عليكي يا ترنيم. وحشتيني أوي، وحشني جنانك وشقاوتك، وحشني نظرة عيونك المليانه بالبراءة، وحشتني ريحتك، كل حاجة فيكي وحشتني."
ابتعدت عن حضنه وكأنها تحاول استيعاب كل لحظة، وتحدثت بحب وكأن كلماتها دفقات من قلبها:
"بعد كده يا سلطان، لما تسافر خدني معاك، مش أنا هبقى مراتك؟ يعني عادي أروح معاك في كل مكان."
ابتسم على كلماتها العفوية، وحرك أصابعه على وجنتها بلطف كمن يمررها بلمسة الطمأنينة، وقال:
"أهو أنا بمشي قبل ما إنتي تصحي علشان متشبطيش فيا زي الأطفال كده. امشي يلا يا مجنونة، خليني أسلم عليهم في البيت الأول، وبعد كده انزل أشوف شغلي."
تكلمت بتذمر طفولي، حيث كانت تعبر عن مشاعر الفقد ولو حتى لبضع ساعات، وقالت:
"تنزل تشوف شغلك!! إيه ده بقى إن شاء الله، يعني مش هتقعد معايا النهاردة؟ أنت وحشني أوي يا سلطان وملحقتش أشبع منك."
داعب وجنتها بأصابعه بلطف، مبتسمًا كأنها أثرت في قلبه بعمق واستحقت كل العناية، وقال بابتسامة جميلة:
"معلش، هنزل أطمن على الشغل بسرعة، وأجي أقعد معاكي طول النهار." 
احتضنت ذراعه بقوة كأنها تخشى فقدانه في أي لحظة، نظر لها بعينين مفعمتين بالحب والندم والأسف في ذات الوقت، وكل لحظة كانت تعكس مدى تعلّقها به، قبّل رأسها بلطف كما لو أنه يطلب منها أن تكون قوية. ثم صعدا إلى الأعلى، بعد الترحيب، جلس على الأريكة ومازالت ترنيم متشبثة به كطفل صغير يتطلب المزيد من الأمان، وكأنها تشعر أن كل لحظة معه هي هدية لا تعوض. تكلم سلطان بنبرة هادئة:
"أنا قررت، هنعمل الفرح الشهر الجاي.”
نظرت ترنيم له بعدم فهم، وقالت بتساءل:
"فرح مين؟ مش فاهمة!"
ابتسم على كلماتها، حيث أعطاه الفرح طاقة تجعله يكشف عن خطته، وقال بتوضيح يحكي فيه أسس الحب:
"فرحنا، أنا وإنتي يا توتة. مفيش داعي نأخره أكتر من كده، وبدل ما نعمل شبكة، لا، نعمل شبكة وكتب كتاب وفرح على طول."
وقفت ترنيم وظلت تقفز بسعادة مثل الطفل الصغير، فرحها كان يضيء وجهها بطريقة لم يشهدها أحد من قبل، وقالت بشغف:
"يعني أخيراً هنتجوز أنا وأنت يا سلطان، وهبقى مراتك، أنا فرحانة أوي! حلم حياتي بيتحقق! تخيلي، يا فوفة، هبقى عروسة!"
أمسك سلطان بيدها بلطف وأجلسها بجواره على الأريكة المريحة، حيث كانت الأجواء مليئة بالضحك والفرح. حاول أن يوجّه حديثه بنفاذ صبر، حيث شعر بأن حماستها قد تخرج عن السيطرة:
"اهدي يا مجنونة، واعقلي بقى، ده شكل واحدة فرحها كمان شهر!"
بدا التوتر على وجه وفاء، التي لطالما كانت حريصة على ما يجري بينهم، فقالت وهي تبتسم بين الحيرة والدهشة:
"طيب، مش كنت صبرت شويه يا ابن أختي، على الأقل كنت جبتلها شورها زي أي عروسة!"
رد سلطان عليها بشيء من الضيق ولكن بروح مرحة:
"ومن أمته وحد بيجيب ليها حاجة يا فوفه؟ ترنيم مسؤولة مني في كل حاجة، وأحسن حاجة هتيجي ليها زي أي بنت وأكتر كمان."
حركت صباح رأسها بتفهم لكنها لم تستطع إخفاء ابتسامتها، وكانت تبدي إعجابها بارتباط ابنها بتلك الفتاة الجميلة. تحدثت بنبرة هادئة وبساطة واضحة:
"خلاص يا وفاء، سلطان مش جديد عليكي، ما أنتي عارفه كويس ومستحيل يسمح لأي حد يصرف عليها جني واحد. سبيهم هما حرين مع بعض، المهم ربنا يجمعهم مع بعض على خير." 
تنهدت وفاء بضيق، فهي تعلم جيداً بأن صباح محقة في كل كلمة قالتها. وتمنت بصدق، في أعماق قلبها:
"ربنا يسعدكم ويهنيكم يا رب يا ولاد. وربنا يديم الحب ما بينكم!"
احتضنت ذراعه بسعادة غامرة، وتحدثت بعدم تصديق، كأن السعادة شدتها بعيدا عن الواقع:
"أنا فرحانة أوي يا سلطان، مش مصدقة نفسي، اقرصني علشان أصدق أن ده مش حلم وهصحى منه." 
نظرت وفاء لها بضيق، لكنها حاولت أن تكون حذرة وتعطيها نصيحة في نفس الوقت، وقالت بإصرار:
"يا بت، اختشي شويه، واحترمي نفسك، إحنا قاعدين، سلطان دلوقتي خطيبك المفروض تحافظي على المسافة اللي ما بينكم لحد ما تبقى مراته."
تكلمت ترنيم بضيق وقالت:
"أنا أخده على كده مع سلطان، وبعدين فيها إيه يعني لما أقعد وأنا ماسكة دراعه كده؟ ما أنا متعودة أن أقعد كده على طول. اطلعي منها أنتي يا فوفة، أنا وخطيبي حرين."
تعالت ضحكات سلطان، وتكلم بصعوبة:
"سبيها يا فوفة، متقلقيش عليها، أنا مش صغير ولا مراهق وبعرف أتحكم في نفسي كويس أوي."
أنهى كلامه وربت على يدها، وتحدث بنبرة هادئة:
"أنا هنزل أشوف شغلي زي ما اتفقنا، وشوية وهطلعلك ماشي؟"
نظرت له بضيق وتكلمت بتذمر:
"يووه، شغل شغل، ما أنت لسه راجع من السفر وملحقتش أشبع منك.”
رد عليها بتوضيح وقال:
"إحنا مش اتفقنا يا توتة، خلاص بقى، بلاش شغل العيال ده وتشبطي فيا زيهم."
استقامت بجسدها وتكلمت بتذمر:
"والله العظيم أنت غلس وبارد، وأنا بكرهك."
أنهت كلامها وتحركت إلى شقتها.
نظر إلى أثرها بابتسامة، وحرك رأسه على هذه المجنونة التي أسرت قلبه بحركاتها الشقية، فكرت أنه بالفعل ورغم كل شيء، كان يحس بشغفها وحماسها الذي يختلف عن أي شيء آخر. وهذا ما جعله يحبها أكثر، يراها مصدر حياة.
تكلمت وفاء وقالت بنفاذ صبر:
"عوض عليا عوض الصابرين يا رب، البت دي مش بتكبر أبداً."
ردت عليها صباح وقالت:
"بكرا تتجوز وتجيب حتة عيل وتبقى ماما وتعقل."
استقام سلطان بجسده وتحدث بنبرة عاشقة:
"أنا بعشقها في كل حالاتها، متشغلوش بالكم إنتوا بحاجة، أنا عايزها زي ما هي. كل ردود فعلها، بحبها."
أنهى كلامه وهبط إلى الحارة يتابع عمله، وهو يفكر كيف أن لحظات صغيرة تكوّن تفاصيل كبيرة في حياتنا، وكيف أن حبه لترنيم هو سبب سعادته الحقيقية بهذا الشكل.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1