رواية اوار ( جنية الظلام ) الفصل السادس 6 بقلم ندى محمود توفيق


 رواية اوار ( جنية الظلام ) الفصل السادس بقلم ندى محمود توفيق


توقفت بمنتصف الدرج وهي تلحق بزوجها الذي يتجاهلها ولا يجيب عليها عندما سمعت صوته خلفها أمام باب منزلهم وهو يهتف مناديًا عليها ويسألها:
_ليلى رايحة فين دلوقتي وطالعة ازاي باللبس ده كدا !!!
تسمرت مكانها فور سماعها صوته وكأن عقرب لدغتها التفتت بفزع خلفها تنظر في وجه فارس بصدمة ثم عادت ونظرت إلى الدرج مجددًا لترى من ذلك الرجل الذي كانت تلاحقه ولكنها لم ترى سوى سراب وظلام، وقفت تحدق في الفراغ بذهول ثم عادت تنظر لفارس ثانية وتسأله بصوت مرتعد:
_هو أنت مش طلعت دلوقتي وكنت نازل على السلم وأنا طلعت وراك وبنده عليك وأنت مش بترد عليا
حدقها فارس متعجبًا وهتف بعدم فهم:
_نازل على السلم ازاي وأنا واقف اهو قدامك أنا اصلا كنت نايم وصحيت اشرب ولقيت باب الشقة مفتوح
ظلت متسمرة بأرضها تحدق في الدرج بعدم استيعاب على أثر ذلك السراب الذي رأته للتو ثم هتفت بصوت مرتجف:
_كنت نايم ازاي امال اللي أنا شوفته ده كان مين؟!!
التزم فارس الصمت للحظات يتمعن في زوجته متعجبًا، وسرعان ما تحولت نظراته للحدة والاضطراب عندما فكر أن ربما ما رأته ليلى كان حقيقيًا ولم تكن تتوهم، لكن ذلك الرجل الذي رأته لم يكن هو بل كان تلك الروح التي تلاحقه، وما صابه بالذعر أكثر أنها بدأت تلاحق زوجته، من يعلم إلى أين كانت ستقود زوجته قبل قليل أن لم يتدخل في الوقت المناسب وينقذها.
أخذ نفسًا عميقًا وحاول إظهار ثباته الانفعالي حتى لا يفزعها أكثر واقترب منها ثم حاوط كتفيها بذراعه وضمها لصدره متمتمًا برزانة:
_اكيد اختلط عليكي يا ليلى أو هو كان حد شبهي وأنتي افتكرتيه أنا
نظرت له بغضب عندما أحست أنه لا يصدقها وقالت منفعلة:
_اختلط عليا إيه يافارس، ده كان طالع من بيتنا وفتح الباب وطلع.. هو في حد غيري أنا وأنت في البيت!!.. أنا مش مجنونة انا متأكدة أنه كان أنت
زاد اضطرابه وحنقه بعدما تأكد أن ذلك الشبح كان يقود زوجته للمجهول أو ربما للجحيم، لكنه بذكاء حاول احتواء الموقف وضمها لحضنه أكثر متمتمًا بحنو:
_بعد الشر عليكي ياحبيبتي من الجنان هو أنا قولت كدا برضوا، أهدى أنتي بس وتعالي ندخل البيت الأول أنتي مش ملاحظة إنك واقفة بقميص نوم على السلم
قال آخر عباراته بلهجة حازمة ونظرات غاضبه تنم عن غيرته وسخطه الحقيقي، فانزلت هي نظرها وتفحصت ملابسها وهيئتها وهي ترتدي تلك الملابس التي تظهر معالم أنوثتها بشكل مثير، فازدردت ريقها بإحراج وسارت معه لداخل المنزل دون أي نقاش لعلمها بأنه لديه الحق كله في الغضب.
اغلق فارس الباب ثم التفت خلفه بجسده كله فوجدها تقف أمامه مباشرة ومعالم الرعب تبدو على معالمها كلها حتى جسدها انكمش كالطفل الصغير وهي تحدقه بضعف وخوف هامسة:
_هو إيه اللي حصل ده يافارس، احنا في حجات غريبة بتحصل معانا من وقت ما جينا هنا وأنا مش فاهمة في إيه، لو مخبي عليا حاجة قولي أرجوك
حدقها صامتًا لا يعرف بماذا يجيبها حتى يطمئنها أو حتى كيف يكذب عليها أكثر، حتى سمعها تكمل بصوت محتقن بالدموع ونظرات مرتعدة كالأطفال:
_أنا خايفة أوي خلينا نرجع بيتنا ابوس ايدك
نظراتها وهي تستنجد به وكأنه طوق النجاة الوحيد لها ترسل له إشارات عشق بأنها ليس لديها أحد سواه وهو وحده ملجأها الآمن، جعلت حصونه تنهار وينسى كل شيء بينهم حتى شجارهم الليلة الذى انتهى بأنها أوضحت له عن إصرارها في قرار الانفصال وأنها لن تتراجع عنه، تلك المشاعر التي اجتاحته جعلته دون تردد يضمها لصدره يحتويها بكلتا ذراعيه في حب ويهتف بصوت رجولي قوي يلقي وعوده التي لن يخنثها مهما حدث:
_متخافيش طول ما أنا معاكي ياحبيبتي مفيش حاجة تقدر تمسك، أنا هفضل جمبك وعمري ما هسيبك ولا اتخلى عنك حتى لو أنتي اللي طلبتي
أغلقت عيناها باطمئنان وسكينة بين ذراعيه بعد سماعها لصوته الرجولي ووعوده بأنه لن يتركها وسيحميها، كانت منتشية داخل أحضانه وملاذها الآمن للحد الذي جعلها تسخر من نفسها كيف لها أن تكون بكل تلك مشاعر العشق والهيام به وبنفس ذات اللحظة تريد الانفصال عنه، كيف تريد هجره وكيف لها أن تسعد لمجرد سماعها وعوده أنه لن يتركها أو يتخلى عنها؟.. باتت لا تفهم ذاتها وأصبحت تتساءل في ثناياها بحيرة.. هل هي حقًا تريد الانفصال عنه أم لا؟.. والسؤال الأهم هو هل ستتمكن من مواصلة حياتها بطبيعية دونه، فهي لا تطيق الابتعاد عنه لبضع أيام، أذا كيف لها أن تتحمل فراق لبقية عمرها؟!!…
***
داخل المستشفى بالقاهرة.. تحديدًا بغرفة الطبيبة سمر وكان معها ماهر يجلس بجوارها، ينظر لشاشة الحاسوب أمامه معها وهم يتفقدون كاميرات المراقبة بالمستشفى ليعرفوا إلى أين ذهبت تلك الفتاة وصديقتها، لكن جميع لقطات الكاميرا تم محوها تمامًا.
نظرت سمر لماهر وقالت بتعجب:
_مفيش أي مشاهد في الكاميرات من وقت ما دخلت البنت دي المستشفى ياماهر
هتف بانزعاج شديد وهو يبحث في شاشة الحاسوب بتركيز أكثر وقد تولى هو مهمة البحث عن أي مشاهد تظهر بها تلك الفتاة المريبة:
_مفيش ازاي يعني ياسمر امال العفاريت مسحت كاميرات المراقبة مثلًا ولا….
لم يكمل كلماته حيث ابتلع بقية حروفه في جوفه وقد تجمدت يداه على الحاسوب وجحظت عيناه هو وسمر وهم ينظرون للشاشة بعدما عثروا على إحدى مشاهد الكاميرا عندما كان ماهر مع تلك الفتاة بمفرده في الغرفة، ما صابهم بالصدمة والزعر هو أن كاميرات المراقبة لا تظهر سوى ماهر فقط وكان ينظر للفراش وذراعه ممتد أمامه وكأن هناك كيان خفي ممسك بيده وماهر وحده من يراه ويتحدث معه، انتهى المشهد بانتفاضة ماهر وهو ينتشل يده بارتيعاد من ذلك الكيان الغامض ويرتد للخلف ثم ينظر للباب يراقبه وهو يرحل.
حدقت سمر بماهر في ذهول وهمست بعدم استيعاب:
_إيه ده ياماهر؟!!
اخذ ماهر يحدق في الشاشة وعلامات الدهشة تحتل ملامحه لكنه كان ساكن تمامًا وهادئ على عكس المتوقع حتى أنه أجاب عليها بصوت رجولي غليظ ورخيم:
_كل حاجة وضحت البنت دي مش انسان دي جن، وبذات بعد كلامها ليا
اتسعت عيناه بذهول بعدما قاله متذكرًا تحذيراتها له وكلماتها وهي تهدده بوعيد شيطاني مرعب ” اخبره أنه يتوقف عن محاولاته في الوصول إلي والتخلص مني وإلا سأقتل كل من يهتم بأمره وسأبدأ بك أنت ياماهر وخلفك ستكون زوجته “، وثبت ماهر واقفًا وهتف مرتعدًا على أخيه:
_فارس
التقط هاتفه بلهفة ليتصل بأخيه ويطمئن عليه ويحذره من ذلك الخطر الوشيك، لكن سمر أوقفته عندما قبضت على ذراعه بإحكام وقالت في اهتياج:
_كلمني الأول ياماهر وفهمني إيه اللي بيحصل وإيه الكلام اللي بتقوله ده؟!
نظر لها ماهر بكل هدوء وحاول امتصاص ثورانها بنظراته الدافئة متمتمًا:
_اهدى مفيش حاجة أنا هكلم فارس بس اطمن عليه وبعدين هفهمك
هتفت سمر ثائرة بصوت مبحوح:
_اهدى ازاي والتخاريف اللي بتقولها دي معناها إيه جن ومعرفش إيه
أصدر ماهر تأففًا حارًا وقال بلهجة رجولية صارمة:
_مش تخاريف ياسمر ما أنتي شوفتي قصاد عينك البنت مش ظاهرة في الكاميرات أنا بس اللي موجود، أصلًا اللي شفته جوا منها ملوش تفسير غير كدا، كانت بتهددني أنها هتقتلني وتأذي فارس ومراته وصوتها كان مرعب حتى عينها كانت كلها بيضا هي وبتكلمني
اطالت سمر النظر في وجهه فاغرة شفتيها وعيناها بذهول حتى أن يدها قبضت على يده بقوة أكثر وتطلعت إليه بعينان يسبحان بهم الرعب الحقيقي والصدمة ثم همست له بصوت يكاد لا يسمع:
_قولي أن الكلام ده مش حقيقي ومفيش حاجة زي كدا ابوس ايدك
رفع ماهر حاجبيها باستغراب وهتف مبتسمًا:
_انتي خايفة لا إيه؟!!
هتفت بغضب وصوت مرتعش:
_طبعا خايفة أنا كشفت عليها ياماهر البنت دي ولمستها، ازاي تطلع عفريت يعني وهي مالها باخوك وتهددك ليه، هو إيه اللي بيحصل أصلًا أنا مش فاهمة حاجة
لا إراديًا دون أن يشعر بعدما رأى خوفها الشديد ونظراتها العالقة عليه تطلب منه الآمان.. تذكر صداقتهم الطويلة معًا وكيف كانت دومًا تلوذ إليه عندما يواجهها أي مكروه وكانت تتطلع إليه بنفس النظرات، ابتسم لها بدفء رجولي ومد كفيه يحتضن كفيها بين كفيه هامسًا:
_صدقيني حتى أنا مش فاهم إيه علاقتها بفارس وليه بتهددنا وليه ظهرتلي أصلًا، بس اكيد فارس عنده الأجابة وعارف هي مين، فمتخافيش هي خلاص مش موجودة أصلا دلوقتي
تلفتت حولها بهلع وقالت:
_مش موجودة ازاي وإيه عرفك ماهي عفريتة ممكن تبقى معانا في الأوضة واحنا مش شايفنها
حدقها ماهر بنظرة ثاقبة وقال في صوت رزين وجميل:
_ياسمر مفيش حاجة ومفيش حد غيرنا في الأوضة أهدى أنا معاكي
سكتت للحظات قبل أن ترمقه بعينان تحمل الاهتمام والخوف الصادق عليه:
_هي ممكن تأذيك فعلًا ؟
تعجب من سؤالها ونظراتها التي تضمر خلفها مشاعر خفية هو لا يفهمها بشكل كامل، لكنه تجاهل شكوكه واجابها:
_ لا متقلقيش عليا مفيش حاجة تقدر تأذيني
هزت رأسها بالإيجاب في عينان تتحدث عن الكثير الذي لا يستطيع لسانها التفوه به، فقال هو بجدية:
_أنا همشي دلوقتي عشان اكلم فارس وافهم منه إيه اللي بيحصل وهبقى اكلمك تمام ؟
إجابته بتلقائية في ابتسامة هادئة:
_تمام، خد بالك من نفسك
حدقها بنظرة تحمل من المعاني الكثير بين حيرة وشك وود، لكنه اكتفى بهز رأسه بالموافقة وترك يدها واتجه لخارج الغرفة مغادرًا يتركها وحيدة وهي تقف تحدق في أثره بشرود، لكن سرعان ما عادت تتلفت حولها برعب بعدما تذكرت ما رأته في الحاسوب وما سرده لها عن تلك الفتاة فاندفعت لخارج الغرفة بسرعة خوفًا من البقاء وحدها…
***
عودة لمنزل فارس بالأقصر كان جالسًا في الصالة على الأريكة ونظراته عالقة في اللاشيء يفكر في أحداث تلك الليلة، يبدو أن ذلك الكائن يستهدف زوجته ويحاول اذيتها، لكنه لن يسمح له بإلحاق الضرر بها.. هو الذي أخرجه من جحيمه والآن يقسم في ثناياه متحديًا كل شيء أنه سيعيده إلى جحيمه حتى لو كلفه ذلك حياته، لكن أولًا يجب عليه كشف هوية ذلك الكائن.
مال برأسه للجانب متمعنًا في زوجته النائمة بجواره، فقد رفضت بشدة الذهاب لغرفتها من خوفها متزعمة أنها لا تشعر بالنعاس، لكنها غفت بجواره بعدما اطمئنت بوجوده، ارتخت عضلات وجهه المتشنجة من الغضب وتحولت لأخرى دافئة ومال عليها يمد أنامله ويمسح على شعرها بحب ثم يهمس لها:
_مش هسمح أبدًا لحاجة أنها تأذيكي ياحبيبتي، متخافيش أنا معاكي وزي ما فتحت الباب للجحيم ده علينا هقفله تاني
دنى أكثر منها ليطبع قبلة حانية فوق جبهتها ولم يبتعد عنها ألا عندما صدح صوت رنين هاتفه فالتقطه وأجاب فورًا على المتصل الذي كان أخيه هاتفًا:
_الو.. ازيك ياماهر؟
هتف ماهر بصوت غليظ:
_ سيبك مني المهم أنت طمني أنت وليلى كويسين ؟!
غضن حاجبيه باستغراب من سؤاله ولهجته فأجابه بسؤال:
_كويسين في حاجة حصلت ولا إيه ؟!
ماهر بصوت قوي ومهتم:
_أنت كنت بتقولي أن في حجات غريبة حاصلة معاك ولما ترجع القاهرة هتحكيلي
تمام فارس بتأكيد متسائلًا:
_أه إيه اللي خلاك تفتح الموضوع تاني دلوقتي ومتصل مخصوص عشانه
وصله صوت أخيه الصلب وهو يتحدث بلهجة تظهر خطورة الأمر حقًا:
_أنا غالبًا عرفت إيه الحجات الغريبة اللي بتحصل معاك لأنها ظهرتلي النهاردة
اتسعت عين فارس بصدمة وألقى نظرة سريعة على زوجته النائمة وهب واقفًا مبتعدًا بخطواته عنها حتى لا تستقيظ وتسمع حديثه وراح يجيب على أخيه بقوة:
_هي إيه دي اللي ظهرتلك ياماهر؟!!
أجاب ماهر:
_اللي بتلاحقك وهددتني إنك لو موقفتش محاولاتك إنك تتخلص منها هتأذي ليلى وهتأذيني وهتأذي كل اللي حواليك
استحوذ الذهول على فارس وهو لا يستوعب ما يسمعه من أخيه، فقد تعدى الخطر زوجته بمراحل حتى أنه بدأ يدور حول عائلته بأكمله، خرج صوت فارس متحشرجًا من السخط والخوف هاتفًا:
_شوفتها ازاي ياماهر وعملتلك إيه احكيلي
تنهد ماهر الصعداء ثم بدأ يسرد لأخيه ما حدث معه بالضبط بداية من ظهورها له بالمقهى حتى اكتشافه حقيقة أنها ليست بشر بعد رؤيته لكاميرات المراقبة مع سمر، وانهى حديثه بسؤاله لفارس:
_مين دي وعايزة منك إيه؟
أخذ فارس نفسًا عميقًا وأخرجه زفيرًا متهملًا في حنق مجيبًا على أخيه:
_الموضوع كبير ومعقد أوي ياماهر، اللي حصل معايا مفيش عقل يستوعبه، دخلت مقبرة مكنش ينفع ادخلها والمقبرة دي وراها سر خطير أوي معرفش هي إيه وواضح أني لما دخلتها خرجت كيان شيطاني كان محبوس جواها وهي بالفعل حاولت اكتر من مرة تأذى ليلى وأنا الحمدلله كنت بلحقها
هتف ماهر بعدم فهم:
_مقبرة إيه وطالما أنت عارف ان السر في المقبرة ما تدخلها تاني يمكن تلاقي ثغرة ولا أي حاجة تخلصك من الشر ده
أجاب فارس ضاحكًا بسخرية:
_وهو أنا لو عارف اوصل للمقبرة تاني كنت هستنى ده كله ليه، المقبرة ملهاش وجود اختفت ومش عارف أوصلها تاني
_ إيه اللي انت بتقوله ده يافارس ازاي اختفت يعني ؟!!
قال فارس بنفس النبرة السابقة:
_هي ياريتها على كدا بس، الباقي مفيش عقل يستوعبه بقولك، عمومًا انا بكرا هكلمك احكيلك كل حاجة بالتفاصيل وأنت خد بالك من نفسك المهم
تمتم ماهر بهدوء رغم قلقه على أخيه وزوجته:
_ماشي يافارس وأنت خد بالك من ليلى
رد عليه بالإيجاب وانهى الاتصال لينظر في الفراغ بنظرات تحدي وغل، عازمًا النية على كشف هوية ذلك الكيان الليلة، لن يتركه يسعى خلف عائلته أكثر من ذلك.
اتجه نحو زوجته وانحنى عليها ليحملها ويتجه بها نحو غرفتهم لكنها انتفضت مفزوعة فور شعورها بيديه على جسدها وانكمشت في الأريكة بخوف، حدقها بحنان وقال في صوت انسدل كالحرير ناعمًا يملأه الحب:
_متخافيش ده أنا ياليلى!
ارتحت عضلاتها المتشنجة بعدما أدركت ملامح وجهه بوضوح وتأكدت أنه زوجها فراحت تسأله:
_كنت بتعمل إيه؟!
ابتسم بدفء وأجابها:
_كنت هشيلك واوديكي الأوضة
تنهدت بهدوء ولم تجيبه فقط نظرت له بسكون تام حتى وجدته يعود ينحني عليها مجددًا ويحملها بين ذراعيه فاطلقت شهقة مندهشة وهتفت بجدية:
_بتعمل إيه يافارس أنا صحيت خلاص هروح وحدي الأوضة بتشيلني ليه؟!!
همس عابثًا وهو ينظر لها بطرف عينه:
_مراتي وعايز ادلعها فيها مشكلة دي
حدقته بذهول وعينان متسعة من صراحته الصادمة، فقد كان ذلك هو آخر رد يمكنها توقعها منه لكنه دمر سقف توقعاتها بعبارته، جعلها تتمعن به في صمت قاتل وانعقد لسانها فلم تجد ما تجيبه وفضلت الصمت كأفضل رد في مثل تلك اللحظات، في عقلها ألف سؤال كلهم يدورون في حلقة مغلقة ليس لها بداية أو نهاية.. أهمهم هو ما سبب تحوله الجذري معها.. لماذا أصبح بكل هذه الحنية والمشاعر الجيَّاشة.. والأهم ماسبب شعور الخوف عليها الذي يلمع في عينيه وتراه دومًا بهم؟!.
وصل بها إلى غرفته ودخل ثم اتجه نحو الفراش فسمعها تهتف بتعجب:
_ليه جبتني اوضتك؟
أجاب فارس بكل هدوء وبساطة:
_عشان أنا سبق وقولتلك أن مفيش اوض منفصلة تاني و هتنامي جمبي
لا تعرف ما الذي يحدث بلسانها كلما يتحدث لماذا تفقد القدرة على الرد عليه أو مجادلته وعناده كما تفعل دومًا، لماذا منصاعة بطاعة تامة هكذا؟.. والآن هي بدت راضية تمامًا بل وكأنها كانت تتمنى أن يأخذها بجواره أيضًا الليلة كليلة أمس، لم تفق من شرودها إلا عندما وجدته يضعها على الفراش برفق ويستقيم واقفًا ينظر لها ويهتف بلطف:
_أنا هنزل تحت هخلص شغل وارجعلك
هم بالاستدارة لكنها أوقفته بصوتها الناعم وهي ترمقه بعينان أنثوية رقيقة تخر أمامها اقوى واعتى الرجال راكعة:
_لا خليك معايا لغاية ما أنام عشان خايفة
التفت لها وتمعنها مطولًا مبتسمًا ثم اقترب منها وجلس بجوارها على حافة الفراش وتمدد بنصف جسده، التزمت هي الصمت لدقيقتين وهي مازالت مستيقظة ثم هتفت فجأة بجدية:
_بس أنا متأكدة أن اللي شوفته كان أنت ومكنتش بتخيل
نظر لها وقال بلهجة رجولية منزعجة:
_وبعدين ياليلى مش قولنا خلاص انسي ومتفكريش في الموضوع ده تاني
جحظت عيناها باندهاش من رده الذي أثار جنونها وجعلها تثب جالسة وتنظر لها بعصبية هادرة صائحة:
_أنت ليه محسسني أن الموضوع تافه وعادي جدًا ، بقولك راجل كان طالع من البيت وكان أنت.. وأنا طلعت وراه وأنت تقولي متفكريش قال أنت هتجنني يافارس، مهو اللي حصل ده ملوش غير تفسير واحد أن الشقة دي مسكونة ودي حاجة وحدها تخليني اترعب ومقعدش في البيت ده لحظة واحدة
كان فارس يحدقها ويعاين انفعالها وثورانها اللطيف رغم كل هذا الصياح، حتى أن كلماتها كانت تدفعه للضحك ففشل هو في حجب ضحكاته وراح يجيبه وسط قهقهته:
_أنا بقولك متفكريش عشان متخافيش اكتر وتفضلي حاطة الموضوع في دماغك، بعدين إيه مسكونة دي ثم إن انتي مش امتى كنتي بتخافي بالشكل ده ياليلى ما احنا كنا دائما مع بعض في الشغل وكنا بنكون في مواقع هي بقى فعلًا مسكونة وبننزل مقابر في نص الليل
نظرت له بقوة وقالت مغتاظة:
_وكنت بعمل إيه في المواقع دي.. معقول نسيت؟!!
سكت وهو يتذكر كيف كانت تلازمه طوال الوقت ولا تفارقه للحظة واحدة من فرط خوفها، حتى أنها ترفض نزول المقابر وحدها سوى معه، كانوا في ذلك الوقت كلاهما يعلم بمشاعر الآخر لكن لم يعترف أي منهم، حتى وضع فلرس النقاط على الحروف وقرر إنهاء ذلك العبث الذي يحدث بينهم واعترف لها بحبه وعرض عليها الزواج فوافقت على الفور وبادلته هي أيضًا اعترافها بعشقها له.
فاق من ذكرياته الجميلة معها وابتسم لها بخبث وراح يغمز لها هاتفًا:
_كنتي بتبقى طول الحفر والتنقيب مش بتفارقيني قال يعني بتتناقشي معايا في الشغل و تفاصيل المقبرة وأنتي أصلا خايفة وبتحاولي تداري خوفك عن الكل عشان محدش يلاحظ
تحولت في لحظة للمرح ونست خوفها وغضبها واندمجت معه حيث قهقهت بقوة وقالت برقة:
_المشكلة أنك كنت قافشني وفاهم وعامل نفسك عبيط
عاد يغمز لها مجددًا لكن بلؤم أكثر ونظرات محبة:
_عشان كان عاجبني وعلى هوايا ولو كنت حسستك أني فاهم كنتي هتبعدي وأنا كنت حابب قربك
تمعنته مطولًا في صمت بعد رده ثم مال ثغرها للجانب واشاحت بوجهها عنه مبتسمة في خجل وغرام، واللحظة التالية فورًا وجدها تعود وتمدد جسدها على الفراش مكانها هامسة في نعومة تذيب القلب:
_وأنا كمان كنت بطمن وأنت جمبي وبحس بالآمان
فارس بنظرة ذات معنى رافعًا حاجبه بازدراء:
_كنتي؟!
فهمت سؤاله فضحكت وصححت عباراتها بهيام:
_ومازالت طبعًا أنت مش شايف الدليل قصادك!
فهم مقصدها أن دليلها أنها مازالت حتى الآن تأمن بوجوده ولذلك طلبت أن يبقى معها حتى تنام وتطمئن، فابتسم لها بعشق وكم تمنى في داخله أن يسرد لها كل شيء ويشاركها همومه ولكنه لا يستطيع أن يجعلها تعيش في هذا الرعب، نعيم الجهل أفضل لها.
بسط ذراعه على الوسادة بجواره وهمس لها غامزًا بمكر ومداعبة:
_طيب تعالى يالؤلؤتي في حضني عشان تتطمني كويس والعفاريت في الشقة المسكونة دي ميقدروش يقربولك
رمقته بغيظ وهتف معاتبة إياه بحدة وخوف بعد ذكره وتأكيده على أن تلك الشقة مسكونة بالأشباح:
_فــارس!!!
جذبها من خصرها فسقطت في حضنه وهو يضحك عليها ويقول:
_نامي بلاش هبل قال البيت مسكون
ابتسمت على سخريته منها وسكنت بين ذراعيه واطمئنت ثم أغلقت عيناها براحة تامة محاولة الانغماس في النوم، بينما هو فحدق أمامه في الفراغ جامدًا الوجه ويفكر في ثنايا عقله ماذا سيفعل بعد خلود زوجته للنوم وكيف سيظهر ذلك الكائن ويكشف هويته.
***
بمكان آخر داخل منزل راندا التي كانت جالسة على فراشها ممسكة بهاتفها وتقلب بين صور فارس تتأملها بعينان لامعة بوميض الحب رغم أن تعابير وجهها لا تظهر سوى العبوس والحزن لأنها لا تستطيع أن تجتمع به و لا تعرف هل سينفصل عن زوجته أم لا، ورغم جميع محاولاتها في التفرقة بينهم إلا أنهم مازالوا ملتصقين ببعضهم بطريقة غريبة كأنهم يحاولوا أخبارها أن لا شيء يمكن أن يفصلهم سوى الموت.
أخذت نفسًا عميقًا في عبوس ويأس وأغلقت هاتفها ثم القته بجوارها في عصبية، لكن جذب حواسها له مجددًا عندما سمعت رنينه فالتفتت بطرف عينها ولمحت اسم المتصل الذي كان ” عز ” تجاهلت رنينه في البداية وهي تلوى فمها بحنق لكنها تأففت بنفاذ صبر عندما وجدته يتصل بإصرار وقررت الرد عليه لمعرفة ماهو الأمر المهم الذي يدفعه للرنين المتكرر، ضغطت بأصبعها على شاشة الهاتف التي تعمل باللمس وأجابت على الاتصال ثم وضعت الهاتف على أذنها وأجابت عليه بصوت كئيب:
_الو ياعز
شعر بغرابة صوتها فكان أول سؤال يطرحه عليها هو:
_مال صوتك أنتي كويسة؟
تأففت بيأس وهتفت بخفوت وصوت رقيق:
_مليش مكتئبة وزهقانة شوية.. أنت في حاجة حصلت ولا إيه عشان بتتصل كتير كدا
أجابها عز بابتسامة خلف الشاشة لا تراها لكن صوته يظهر اهتمامه ولطفه الساحر:
_لا مفيش كنت بطمن عليكي وقلقت لما مردتيش.. أنتي بقى إيه اللي مزعلك ياقطة
تبدلت نبرتها فورًا من الرقة للغيظ مجيبة عليه:
_متقوليش ياقطة بتعصبني، وعشان قطة دي بقى ملكش دعوة بيا
قهقه عز عاليًا على انفعالها الطفولي وقال بكل دفء:
_لما مليش دعوة بيكي امال يبقى ليا دعوة بمين عيب الكلام ده ياراندا، عمومًا متزعليش ياستي إيه رأيك اجيلك دلوقتي ونطلع واعزمك على العشاء ونحاول نعالج الاكتئاب ده
سكتت للحظة وهي تفكر في عرضه المغري وقالت بنبرة ماكرة:
_امممم طيب هتعزمني فين؟
أجاب بصوته الضاحك في نبرة رجولية قوية:
_المكان اللي تحبيه ياقطة.. اليوم يومك
لمعت عيناها مندهشة وراحت تجيبه مازحة وقد نست أحزانها:
_إيه ياعز أنت طالع تحارب بكرا ولا إيه وبتودعني إيه الدلع ده كله!!
بادلها المزاح لكن بلهجة عتاب بسيطة:
_تصدقي إنك زي القطط فعلًا ناكرة للجميل، هو في حد مدلعك غيري اصلًا.. قال يعني أنا أول مرة اعزمك وادلعك كدا
لوت فمها بعبوس مزيف وقالت وهي تكبح ضحكتها:
_أنت هتزلني ولا إيه.. طب مش طالعة
وصلها صوته الرجولي الحازم وهو يلقي عليها أوامره:
_قومي البسي يلا بلاش كلام كتير أنا برا ومعايا نص ساعة بالكتير واوصل عندك
رفعت راندا نظرها لساعة الحائط التي أمامها معلقة على مرمي نظرها وقالت له بتردد:
_طيب أنت مش شايف أن الوقت متأخر شوية؟!
هتف عز بكل بساطة وصوت رجولي غليظ:
_إيه يعني متأخر هو أنتي طالعة مع بنت خالتك ما أنا معاكي
ضحكت بخفة واجابته متخطية ما قالته وما سمعته منه بعدم اهتمام:
_مكتش قصدي كدا طبعًا ياعز بس عموما أنا هقوم البس وأنت متتأخرش
أنهى الاتصال معها بعدما أجابها بالموافقة مؤكدًا أنه لن يتأخر، أما هي فظلت مكانها على الفراش تحدق في اللاشيء أمامها بشرود، للحظة ندمت أنها انصاعت له ووافقت على عرضه فهي ليست في مزاج يسمح لها بالتنزه، لكن ما باليد حيلة سترافقه الليلة لا محال، فقط تتأمل في ثناياها أن تلك الليلة تجدي نفعها وتنسيها همومها.
***
داخل منزل فارس تحديدًا بغرفة مكتبه الخاصة….
ترك ليلى بعدما تأكد من خلودها للنوم وجاء لغرفته ليبدأ في تنفيذ ما عزم عليه، اغلق الباب خلفه واتجه نحو اريكته المفضلة ليجلس عليها ويدور برأسه حوله وعيناه تتجول على كل ركن في الغرفة، أخرج تلك المخطوطة الملعونة ووضعها على الطاولة الصغيرة أمامه وكل شيء يخص بحثه عن تلك المقبرة وذلك الملك المجهول وراح بتمعن النظر بهم وكامل حواسه منتظرة التقاط إشارة محددة.
فجأة بدأت أضواء الغرفة تتلاعب بسرعة مرعبة فابتسم هو بخبث ونصر حتى وجد نفسه في الظلام الدامس بعد انطفاء الأضواء فاستقام واقفًا وأضاء كشاف هاتفه وهو يهتف بصوت رجولي يحمل من الشجاعة والقوة ما تليق به:
_مش كفاية لغاية كدا ولا إيه والوقت جه إنك تعرفيني بنفسك!
صك سمعه صوت قهقهة شيطانية مرعبة حوله وصوت مخيف يهتف:
_اعجبتني شجاعتك لكن احذر من أن تقودك للهاوية
اخذ يتلفت حوله بتلهف بحثًا عنها في الغرفة حوله حتى سقط ضوء هاتفه على كيان مرعب يقف بالزاوية يوليه ظهره ومرتديًا زيًا اسود اللون أشبه بفستان الزفاف وعلى رأسه طرحة زفاف سوداء شفافة تغطي وجهه……..

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1