رواية يوميات دكتور نفسي الفصل السادس بقلم صبحى المصري
أنا قابلت في شغلي ك دكتور نفسي حالات كتير…
ناس بتحلم أحلام غريبة، ناس بتسمع أصوات، ناس بتفقد الوعي وتصحى في أماكن مش متوقعة…
بس الحالة دي؟
مفيش علم ولا تفسير دقيق يشرحها بالكامل.
كان شاب في أوائل التلاتينات، اسمه حسام، ملامحه باهتة، عينه فيها خوف مش طبيعي.
دخل العيادة وقعد قدامي وقاللي أول جملة خلّت قلبي يضرب بسرعة:
"أنا صحيت في أوضة مقفولة… في بيت مهجور… بس أنا نمت في بيتي."
سألته:
"فاكر حاجة؟ أي حاجة؟"
هز راسه وقال:
>"كنت زهقان… قاعد لوحدي، مافيش صوت غير صوت التكييف والساعة اللي بتعدّ…
مسكت الموبايل، وبقلب عالفيس، لقيت إعلان غريب… كان شكله قديم، الخلفية سودا والكتابة بلون دهبي كأنها محفورة:
(جرب لعبة "انعكاس" لو عندك الجرأة تشوف نفسك الحقيقي).
ضغطت… ومن هنا بدأ كل شيء."
اللعبة بسيطة ظاهريًا…
بيقول إنه حط الموبايل على حامل، ووقّف قدام مراية،
وظهر عدّاد على الشاشة: "3:00"...
كان لازم يبص لنفسه في المراية تلات دقايق، من غير رمشة عين.
وبعدها يظهرله سؤال واحد:
"لو قابلت نسخة تانية منك… هتقتلها؟ ولا تسيبها تعيش؟"
بيقول إنه ضحك وقال:
"هقتلها… أنا مش طايق نفسي أصلاً."
وبعدها… الدنيا اسودّت.
حس بصداع شديد ودوخه ونام
---
صحى في مكان مابيتوصفش…
بيت مهجور، جدرانه مقشرة، ريحة العفن خانقة، والتراب مالي المكان كأنه ما تلمسش من سنين.
كل الأبواب مقفولة، والنور ضعيف زي شمعة بتموت…
بس اللي كان مرعب فعلًا؟
المرايات.
مرايات كتير… معلقة على كل حيط، وكل واحدة فيها صورته، بس مش صورته العادية.
كل مراية كانت بتوري "نسخة تانية" منه… وشّه مشوّه شوية، مبتسم ابتسامة كلها شماتة… وعيونه فيها حقد.
وكل ما يقرب من مراية، يسمع همسة:
"اخترت تقتل نفسك؟
طب تعالى شوف الموت بأشكاله."
بيقول إنه قضى يومين كاملين جوه البيت ده…
من غير أكل… من غير مية…
ماكانش بيموت، بس ماكانش عايش.
كل ما يغمض عينه، يشوف نفسه بيموت:
مرة بيغرق في المية…
مرة بيتشنق…
مرة بينط من شباك عالي…
وكل طريقة فيها مراية بتعكس موته.
بيقول إنه سمع صراخ كتير، صوت أمه بتنادي عليه، صوت طفل بيعيط،
وأكتر حاجة وجعته؟
صوته هو… بيصرخ من جوا المرايات، كأنه محبوس فيها.
---
وفجأة، لقى باب…
بس ماكانش موجود قبل كده.
باب خشب قديم، عليه نقش غريب… كأنه مرآة مكسورة.
فتحه… والدنيا اسودّت.
وصحي على سريره!
بس الحكاية ما انتهتش.
---
من ساعتها، حياته بقت كابوس.
كل مراية يشوف فيها نفسه… بس مش هو.
نسخته التانية بقت بتظهر ورا ضهره، وتبتسم.
أوقات يسمع صوته بينادي عليه من جوه التليفزيون أو الحيطان.
وأوقات… المرايات تتشقق لوحدها!
جالي مرعوب، جسمه بيرتعش، مش عارف ينام، خايف يروح الحمام لوحده.
بدأنا جلسات نفسية…
وكان واضح إنه عنده اضطراب ما بعد الصدمة وهلاوس.
بس في جلسة التنويم الإيحائي، حصل حاجة ماحصلتش معايا قبل كده.
صوته اتغير… وبقى أهدى، وابتسم وقال:
>"هو اللي اختار…
أنا ما دخلتش بالعافية."
---
في اللحظة دي، جبت صديقي الشيخ "كامل"، راجل عالم، بيؤمن بالقرآن وبالعقل.
قعد معانا، قرأ عليه من سوره "يس" و"الصافات"،
والشاب بدأ يصرخ، والمراية اللي في أوضة العيادة… اتشقّت بالنص قدامي!
الشيخ قاللي بهدوء:
> "ده مش جن، ولا شيطان عادي.
ده كيان اتخلق من كُرهه لنفسه…
وكل ما يكره نفسه أكتر، الكيان بيقوى، ويسيطر على المرايات…
لأن المراية بتكشف اللي جوانا، مش اللي باين علينا."
---
بدأنا رحلة علاج مزدوجة:
جلسات نفسية تبني ثقته بنفسه من أول وجديد،
وقراءة يومية بصوته هو… علشان يسمّع نفسه كلام ربنا.
كان بيقعد قدام المراية، ويقرأ بصوت عالي، حتى وهو مرعوب…
وفي كل مرة، "نسخته" التانية بتضعف.
حدّ ما جه اليوم الحاسم:
وقف قدام المراية، والدموع في عينه، وقال:
"أنا مش عدو نفسي…
أنا مش هقتلني علشان أهرب.
أنا هستحمل، وهعيش، وهحب نفسي زي ما هي."
المراية ماعملتش حاجة.
لا صوت، لا شق، لا ابتسامة.
هدوء غريب.
ومن بعدها… ما شافش "نفسه التانية" تاني.
---
دلوقتي؟
هو بيساعد شباب تانين في الجلسات الجماعية.
بيقولهم:
"أنا مريت بجحيم مش طبيعي…
بس لما فهمت إني مش ضعيف، اتحررت.
الكيان اللي كان جوه المراية… ماكنش عدو.
كان نسخة مني… كنت أنا اللي سايبها تحكمني."
---
مش كل حاجة مرعبة لازم يكون سببها جن أو كائن خارجي…
أوقات الرعب الحقيقي بيبدأ من جوانا…
من جرح قديم، من كراهية للنفس، من يأس دفناه.
لكن الشفا؟
في إننا نصالح نفسنا…
وفي إن المراية تبقى مجرد مراية… مش بوابة لجحيم.