رواية ترانيم في درب الهوى الفصل السابع 7 بقلم دودو محمد


 رواية ترانيم في درب الهوى الفصل السابع 


وقف سلطان في مكانه، مصدوماً، وعينيه تتجول بالمكان عندما رآى زوجته وابنته. عندما لاحظت ترنيم شرود سلطان، التفتت لتنظر إلى نفس المكان الذي شتته، لكنها لم تفهم شيئاً. أعادت النظر إليه ثم تكلمت بتساءل:
"فيه أيه يا سلطان؟"
انتبَه لها وابتسم بتوتر، محاولة منه لإخفاء انزعاجه، وقال:
"مافيش يا قلبي، يلا ادخلي عند دكتور عصام علشان يسلمك الشغل."
أومأت برأسها بالموافقة، واحتضنت سلطان بسعادة، متوجهة له بالشكر والامتنان:
"شكراً يا سلطان على كل حاجة حلوة عملتها معايا، أنا بحبك أوي."
ربت على ظهرها بحنو بينما نظرت عينيه بتركيز إلى زوجته وابنته. قال بصوت مفعم بالعاطفة:
"وانا بعشقك يا روح وقلب سلطان."
ثم ابتعد عنها وقبل رأسها برفق، مُكرراً:
"يلا يا حبيبي، ادخلي جوه."
أومأت برأسها مرة أخرى بالموافقة، وتحركت إلى داخل المكتب. لكن سلطان، مع الضغط على أسنانه من الغضب، خرج بسرعة من المشفى، أمسك بهاتفه وأجرى اتصالاً على فريدة، منتظراً رداً.
عندما سمع صوتها، تكلم بغضب:
"انتي أيه نزلك من البيت من غير ما تقولي؟"
ردت عليه بصوت مختنق، مشاعرها تتصاعد مثل بركان يغلي:
"ايه، كنت خايف أجي وأقطع عليكم لحظتكم. متخافش، مش وقته يا سلطان. أنا أهم حاجة عندي دلوقتي بنتي وصحتها. نزلت ليه لأن البنت نفسها اتكتم فجأة وكان لازم تاخد جلسة نفس، لأنها مريضة حساسية صدر، وده طبعاً متعرفهوش، ما إحنا آخر همك. ومنعنى اتصل بيك مهما كانت الأسباب، انت عايش حياتك تحب وتعيش مراهقة متأخرة، وأنا وهي نولع. لا وكمان بتتصل تتعصب عليا علشان نزلت أنقذ بنتي اللي مليش غيرها في الدنيا. اقفل يا سلطان وروح شوف السنيورة بتاعتك أحسن، ما تحس بغيابك تدور عليك وتسمع مكالمتك معايا اللي منبه عليا متصلش بيك طول ما انت جنبها."
ضغط على أسنانه بغضب وتحدث بتوعد:
"كلامك ده هحسبك عليه بعدين، وهعرفك ازاي تتكلمي معايا بالطريقة دي. دلوقتي طمنيني على بنتي، عاملة إيه؟"
ردت عليه بصوت مختنق، وكأن كل كلمة تتطلب مجهوداً كبيراً بسبب التوتر والإرهاق:
"بتاخد الجلسة، وكمان نص ساعة هروح بيها."
تكلم بصوت مختنق، مشاعره تتقلب بين القلق والاستسلام:
"أنا جاي بليل. سلام."
أنهى كلامه وأغلق الخط دون أن يستمع لما قالته. صعد سيارته، وضرب المقود بغضب شديد، وأسند برأسه عليه ليلتقط أنفاسه، وكأن كل شيء حوله قد انهار. بعد وقت، اعتدل على مقعده، نظر إلى باب المشفى بحزن وألم، ثم أدار السيارة عائداً إلى الحارة ليتابع عمله، وعقله مليء بالأسئلة والمخاوف التي تنتظره في تلك الليلة.
           ***********************
عند سميه...

وصلت الشركة بتوتر شديد، حيث كانت تفكر في ما قاله لها حسام. كلما اقتربت من المكتب، كانت دقات قلبها ترتفع وتصبح أكثر تسارعًا. وضعت يدها على مقبض الباب، أغلقت عينيها وأخذت نفسًا عميقًا كي تهدأ، ثم فتحت الباب ودلفت إلى الداخل. شعرت بالخجل الشديد عندما وجدت حسام يجلس على مقعده، مركزًا على الأوراق المتواجدة أمامه على سطح المكتب. جاهدت لتخرج صوتها، وقالت بتلعثم: 
"ص صباح الخير."
رد حسام بغضب، موجهًا كلمات قاسية نحوها: 
"أنتي متأخرة ساعة عن ميعاد الشغل، وقولت ماشي، يمكن يكون السبب الزحمة، مع أن ده مش مبرر، كان ممكن تخرجي بدري شوية من بيتكم. إنما تغلطي في الشغل وتكلفينا معدات، ده اللي مش هقبل بي. سبق وقولتلك إني مش بقبل الغلط في شغلي."
انتفضت في مكانها من صوت حسام الغاضب، وتجولت الدموع في عينيها، وتحدثت بصعوبة: 
"ا أنا مش فاهمة حاجة!"
ألقى الأوراق أمامها بغضب على المكتب، وقال: 
"أتفضلي شوفي، وإنتي هتفهمي كلامي ده لو بتفهمي أصلاً."
تسابقت الدموع على خدها، وأمسكت الأوراق بيد مرتعشة، ونظرت إليهن، واتسعت عيناها بصدمة، ونطقت: 
"ا أنا م مكنتش عاملاهم كده والله، حد لاعب في الورق ده."
صرخ بها بغضب، وبنبرة غير مصدقة:
"بلاش كدب لو سمحتي، مش هيحصل حاجة لو اعترفتي بغلطك وحاولتي تصليحه."
حركت رأسها بالرفض، وكلامها اختلط بين شهقاتها: 
"مش بكدب والله العظيم، ما بكدب، صدقني، أنا مكنتش عاملة التصاميم دي كده يا حسام. أنا متأكدة أن شغلي كان صح، حد لاعب في الورق ده." 
صرخ بها وقال: 
"بشمهندس حسام، وبعدين هيعملوا كده ليه؟ دي أول مرة تحصل، ومحصلتش إلا لما انتي جيتي. ياريتك ما جيتي، أول مرة أفشل في مشروع وبسببك." 
ثم نهض من مقعده وقال: 
"أتفضلي اشتغلي عليهم، وحاولي تشوفي صرفه نعوض بيها الخسارة دي."
أنهى كلامه وخرج من المكتب بغضب شديد. نظرت سميه إلى أثره بحزن وألم وشعور بالقهر والظلم، ثم جلست على المقعد وتعالت شهقاتها، وتحدثت بتأكيد:
"والله العظيم ما بكدب، مظلومة." 
كانت كلمات حسام تتردد في ذهنها كصدى مؤلم، فكيف أصبح الوضع على هذا النحو؟ أثقلتها الضغوطات وضياع الثقة، فكل ما أرادته هو أن تظهر بشكل جيد في عملها الذي تحبه. ومع كل دمعة تنهمر، زادت عزمها وثقتها في نفسها. 
"إذا كان هناك من لعب في الأوراق، فسيظهر ذلك في النهاية"
فكرت في نفسها، وهي تسعى لاستعادة كرامتها والتأكيد على قدرتها على تجاوز هذه المحنة.
          ************************
بالمساء...

وصل سلطان بسيارته أمام المشفى، حيث كانت الأضواء تتلألأ في المساء، انتظر خروج ترنيم من الداخل. بعد عدة ثوانٍ، فتحت الباب وصعدت بجواره، مبتسمة، وأعطته قبلة حارة على خده بينما تحدثت بسعادة وسط نسمات هواء الليل: 
"أنا فرحانه اوي يا سلطان، اليوم النهاردة كان جميل وكشفت على ناس وشخصتهم صح، والدكتور عصام كان مبسوط مني اوي."
ابتسم لها بحزن، عاكساً مشاعر مختلطة، فقال: 
"الله ينور يا حبيبي، أنا واثق أن بنت قلبي هتشرفني في أي مكان." 
ظلت عينيه مركّزة على ساعة يده، مرتبكاً بين الفخر بإنجازاتها والقلق الذي يرافقه بسبب قلقه على أبنته. حتى في تلك اللحظة، كان يحاول أن يتذكر كيف كانت الأيام تمر دون أن يشعر بالوقت، وكيف كان يحرص دائماً على وجودها بجانبه في الأوقات العصيبة. لكن العبارات التي شدت انتباهه في تلك الأمسية لم تكن سوى صدى لمشاعر أعقد تعمقت في قلبه.
شعرت بحزن سلطان، فابتسمت له وتسألت بنبرة قلق: 
"مالك يا سلطان؟ حاسه انك مضايق، حصل حاجه في البيت ولا أيه؟" 
كانت تعتقد أن هناك شيء يُثقل كاهله، وكانت في رغبة عارمة لمحاولة تخفيف آلامه. كانت تتمنى أن تستطيع فتح قلبه وإخراج كل ما يعتمل فيه.
حرك رأسه بالرفض وتحدث بابتسامة حزينه: 
"لا يا قلبي، متقلقيش، كله تمام بس عندي شغل كتير اوي النهاردة." 
ورغم كلمات الطمأنة، كانت تُدرك عمق تلك الكلمات، التي كانت كفيلة بتمهيد الطريق لليالي العديدة التي سيقضيها بعيداً عنها.
أمسكت يده وقبلتها بحب، عازمة على تخصيص بعض الوقت له، وقالت: 
"سلطان قلبي قدها وقدود." 
أضافت تلك الجملة بلمسة من لهجة الأطفال، التي طالما جعلته يبتسم.
ابتسم لها بحب وأجاب: 
"انتي اجمل حاجة في دنيتي يا مصيبة قلبي." 
غير أن ذلك الابتسامة على وجهه بدت وكأنها تذوب وسط جنبات القلق، كانت تتأمل في عينيه وتخيلت أعباء الحياة تضغط على كتفيه. كانت تعلم أن شعورها بالحب تجاهه غالباً ما كان يُخفف من ثقل الأيام، ولكن تلك اللحظات القصيرة من التفاعل بينهما لم تكن كافية لتقليل ما يختزنه من مشاعر كدرك الجبال.
ثم اعتدل على مقعده وأدار السيارة، انطلق بها عبر الشوارع المضيئة. بعد فترة، وصلوا إلى الحارة ووقف أسفل العقار، نظر إلى ترنيم وقال: 
"يلا يا قلبي، انزلي علشان أنا عندي مشوار مهم دلوقتي." 
كان صوته يحمل نغمة توحي بالجدية، كأن كل ما قاله في تلك اللحظات كان يكشف عن خبايا لا يُرغب في إظهارها، ومشاعر متراوحة بين الحب والقلق.
نظرت له باستغراب، وكأنها سمعت شيئاً غير متوقع، وقالت بتساؤل: 
"مشوار ايه ده يا سلطان؟" 
نظر لها بتوتر وسمات القلق تملأ عينيه، فقال: 
"مشوار تبع الشغل يا ترنيم، يلا بقى، هتأخر كده، أنا مرضتش ابعت السواق يجيبك واروح أنا مشواري." 
كلماته جاءت بحدة، بينما كانت تعكس حقيقة مشاعره، قلقة على مستقبله ومجريات الأمور التي قد تتأثر بتلك الأعباء المتزايدة.
نظرت له بترجي، تتوسل إليه بحماسة مفرطة من طفولتها: 
"علشان خاطري، خدني معاك يا سلطان، وانا والله مش هعمل اي دوشه، هقعد بهدوء." 
كان لديها شعور داخلي بأن وجودها بجانبه قد يُخفف عنه بعض الآلام.
نظر لها بصدمة وكأن كلماتها رمته بعيداً، قال: 
"تروحي فين يا ترنيم؟ انتي أتجننتي، ده شغل يا حبيبتي، مش فسحه، يلا بقى انزلي اخلصي." 
تكلمت بتذمر طفولي، عابسة وهى تعقد ذراعيها على صدرها: 
"مليش دعوة يا سلطان، انت وحشني اوي، ومدام هتروح الشغل دلوقتي، يبقى هترجع البيت متأخر لما الكل ينام، ومش هلحق أقعد معاك شوية، كفايه امبارح مرضتش تسهر معايا." 
الجملة الأخيرة أشعلت فتيل الغضب داخله.
وضع يده على وجهه وتكلم بنفاذ صبر:
"ترنيم، ارحميني بقى وأخلصي، هتأخر كده."
أمسكت يده بترجي أخرى محملة بالأمل:
"علشان خاطري يا سلطان، خدني معاك."
ترجل من السيارة بغضب، متجهاً نحو الاتجاه الآخر، فتح الباب وأمسكها من ذراعها قسرياً، أرغمها على النزول. تحرك نحو باب العقار، ودفعها داخله بكثير من الغضب، قائلاً: 
"ماسكه فيا شبه الأطفال، وكمان مش بتسمعي الكلام، حاجة تقرف." 
لم يكن يدرك أن تلك الكلمات كانت لها أثراً بالغاً في قلبها، كما لو أنها طعنة مؤلمة في روحها المتعبة بالفعل. 
أنهى حديثه واستدارت عينيه نحو السيارة، أدارها وانطلق بسرعة. كان قلبه يسابق دقات عقرب الساعة التي تذكّره بالوقت المهدور، وفي عمق مشاعره كانت تتصارع السعادة والقلق، وبينما قلبيهما كانا على مفترق طرق.
نظرت أمامها بصدمة، وانفجر الغضب بداخلها كبركان متفجر، وضعت يدها على خصرها، وصرخت بتوعد: 
"ماشي يا سلطان، أنا هوريك."
صعدت إلى الأعلى، دخلت غرفتها بغضب يعكس حالة قلبها، وجلست على السرير، تحرك ساقيها بضيق، وكأن جسدها حتى لم يعد يستجيب لمشاعرها. كانت لحظات البكاء والمشاعر المختلطة تتقافز في عينيها.
دخلت والدتها خلفها، عابسة بأسئلة: 
"بت يا ترنيم، مالك؟ وشك عامل كده ليه، مش شكل واحدة مبسوطه في أول يوم شغل يعني." 
زفرت بضيق، وكأن الدهشة تضغط على صدغيها، وقالت: 
"بالله عليكي، سبيني يا فوفه، أنا مخنوقه ومش طايقه نفسي." 
كانت كلماتها تعبر عن مستوى عمق الإحباط الذي اختنق في روحها، متمنيةً ألا تحمل أي تقلبات أخرى في مشاعرها.
رفعت وفاء أحد حاجبيها في استفسار، مقابل إيجاد مكمن الخلاف: 
"مدام مش طايقه نفسك، يبقى متخانقه انتي وسلطان، هببتي ايه تاني؟" 
كانت تحاول أن تجد حلاً، ولكن كلما غصت في نقاشهم المخنوق، كلما ازدادت تعقيد الأمور.
تكلمت بصوت مختنق، فراقاً بصوتها الداخلي: 
"معملتش حاجه يا فوفه، وانا وسلطان زي الفل، سبيني بقى." 
نظرت لها والدتها بضيق، ثم تحركت إلى الخارج، تاركة إياها في زعزعة مشاعرها. وفي تلك اللحظة، بينما كانت والدتها تبتعد، عادت الدموع لتخترق قلبها، لتعود بها لحظات الماضي القاسية.
حركت ترنيم رأسها بتحدي، وقالت بلون مناصر: 
"تمام يا سلطان، استحمل بقى اللي هعمله فيك." 
لم تكن تعي بوضوح كيف ستكون تلك الكلمات عائقاً في طريقهما، لكن الأمور كانت تخرج عن نطاق سيطرتها بشكل غير متوقع.
أنهت كلامها ونهضت من مقعدها، وبدأت تبدل ملابسها. كانت تشعر باستعداد داخلي كلما تحركت، وكأنها كانت تخطط لشيء مختلف، فكرة كانت تتبلور وتزهر في حالتها المعقدة، لكنها كانت متحفظة.
             ***********************
أنهت سميه عملها الخاص بحزن شديد، وكانت دموعها تترقرق في عينيها بينما كان قلبها يعتصره شعور الظلم والوجع. كل ورقة وضعتها أمامها كانت تحمل في طياتها مشاعر الإحباط، والإرهاق، والاحتياج إلى التعويض عن كل ما فقدته بسبب التفكير الخاطئ للآخرين. خرجت من المكتب، وتوجهت إلى مكتب حسام، طرقت على الباب ودلفت إلى الداخل بوجه متجهم يعكس الصراع الداخلي الذي تعيشه. وضعت الأوراق أمامه على المكتب كما لو كانت تضع جميع الأحمال الثقيلة الخاصة بها، وتحدثت بصوت مختنق حافل بالتوتر:
"المشروع عندك أهو منتهي، جبته المرادي بنفسي علشان محدش يغيره زي ما حصل في المرة الأولى. متقلقش، ده هيعوض الخسارة وكمان منظم أكتر. عن إذنك."
أنهت كلامها وتحركت نحو الباب، بينما استقام حسام سريعاً وركض خلفها متحدثاً بنبرة هادئة تعكس مدى قلقه: 
"انسه سمية، استني لو سمحتي."
وقفت في مكانها، وأغلقت عينيها بإحكام حتى لا تخدعها الدموع وتنسكب أمامه، ثم قالت بصوت مختنق يعكس المرارة التي تشعر بها: "أفندم."
وقف أمامها وقال بأسف عميق، كأنه يحمل أعباء العالم على كاهله: 
"أنا آسف، متزعليش مني علشان انفعلت عليكي شويه، بس ده غصب عني. أنا أول مرة أفشل في مشروع وتحصل غلطة زي دي من يوم ما مسكت الشغل في الشركة دي." 
كان صوته مليئاً بالتوتر، وكأن رمي الكرة في ملعبه يزيد من وطأة الموقف على كاهله. 
فتحت عينيها، وسمحت لدموعها بالهطول، وهي تلاحظ كم كان حسام مشغولاً بمشاعره، بينما لم تتلقَ الدعم الذي كانت تأمل فيه. قالت بحزم غير معتاد: 
"وانا مش قابله أسفك، لأنك ظلمتني ومش مسامحة في حقي. قولتلك الشغل ده مش شغلي وحد غيره، وانت مصدقتش كلامي. يبقى روح دور على الحقيقي، وشوف مين اللي عمل كده وليه أصلاً أتصرف بالشكل ده. أما أنا، ملكش دعوة بيا نهائي. ليك شغلك، هيوصلك لحد مكتبك، غير كده ملكش كلام معايا، فاهم يا بشمهندس حسام؟" 
أنهت كلامها وهي تشهق بشدة، وكأن الكلمات كانت تعتصر قلبها قبل أن تخرج. خرجت من المكتب، تاركة وراءها أثراً من التوتر والوجع، كأن الهواء الذي مر بها في المكان قد تأثر بلحظاتها المليئة بالمشاعر القوية. كان من الواضح أن رحلتها لم تنتهي بعد، بل كانت بداية طريق جديد يتطلب القوة والعزيمة.
زفر حسام بضيق، وحرك يده على رأسه، مُدركاً صدق كلماتها التي تركت جراحاً عميقة في نفسه. كان يعرف أن سمية ليست من النوع الذي يبالغ في مشاعرها أو تتفاعل بمشاعر غير حقيقية، وهذا ما زاد من شعوره بالقلق! لكن السؤال الذي كان يطارده لم يفارق ذهنه: من كان وراء هذه المهزلة التي دمرت أجواء العمل في الشركة؟ كانت الأحداث تتوالى بصورة سريعة وكأنها فرس هائج. بعد لحظات من التفكير، قرر أنه لن يستسلم، وبدأ يشعر بضرورة تحقيق العدالة. أخذ سترته سريعاً، وركض خلف سمية، مُهتفاً باسمها بصوت مرتفع، علّه يتمكن من استرجاع بعض من تلك الثقة الضائعة والعودة بها إلى حالة الهدوء، لكنها تجاهلته ولم تلتفت، بل صعدت إلى السيارة مُعطية أوامر للسائق بالتحرك بها سريعاً إلى الحارة، وكأنها تريد الهروب من كل ما رأته وسمعته. نظر إلى أثرها وهي تبتعد بحزن شديد، إذ أدرك أن الفجوة بينهما تتسع، فارتفعت دقات قلبه في صدره كوقع خطوات عابرة على رمال الشاطئ. ثم أشار بيده إلى سيارة أجرة، أوقفها وصعد بها ليقله إلى الحارة، متمنياً أن يصل إلى هناك قبل أن تستقر سمية في خندق الألم، ويكتفي بالذهاب إلى جدران حالمة، بعيدة عن كل ما يمكن أن يذكرها بذلك الصراع المؤلم الذي دار بينهما.
           ***********************
وصل سلطان المنزل يشعر بمشاعر مختلطة من الحزن والقلق وتأنيب الضمير ووجع ترنيم، وكأن كل شيء اتفق عليه في تلك اللحظة. فتح الباب ودلف إلى الداخل، وأغلق الباب خلفه. بعينيه بحث عن فريدة ورنيم، ولكنه لم يجدهم. تحرك ببطء نحو غرفة ابنته وفتح الباب ليجد فريدة ممددة بجوار رنيم على السرير، تعانقها داخل أحضانها. ببطء شديد، جلس بجوار ابنته، قبّل رأسها بحب، وظل يملس على شعرها، يراقبها بأسف وندم.
شعرت فريدة بوجوده، وفتحت عينيها نظرت له بضيق، وتكلّمت بصوت هامس:
"أخيرًا، حنية على بنتك وجيت تشوفها."
في ذلك الوقت، كان صوتها يحتوي على الكثير من الحزن والتعب، وكأن الكلمات ترتجف من شدة المشاعر المحتبسة بداخلها. ضغط على أسنانه بغضب وقال:
"قسماً بالله، لو أسلوبك في الكلام متعدلش يا فريدة، لأكون قطعلك لسانك ده." 
كان يشعر بالغضب، ولكنه كان أيضًا مذنبًا، يدرك تمامًا أنه لم يكن هناك فعلاً تواصل حقيقي بينهما، وأن كل لحظة حرص على أن يبرر نفسه كزوج كان يحاول أن يخفي بها عواطفه الحقيقية.
استقامت بجسدها، ونظرت له بضيق، ثم خرجت من الغرفة وتركته. زفر بضيق، قبل رأس ابنته، وضع عليها الغطاء، واستقام بجسده ليخرج من الغرفة، أغلق الباب بهدوء. نظر إلى فريدة الجالسة على الأريكة بوجه متجهم، وتحرك نحوها سائلاً: 
"من إمتى ورنيم عندها الحساسية دي؟"
ولكن تلك اللحظة كانت أكثر من مجرد سؤال، كانت لحظة تقاطع بين التردد والندم، لحظة كان فيها سلطان يدرك أنه أخفق في كثير من الأمور التي كان يجب أن تكون أولوياته.
ردت عليه بصوت مختنق: 
"من وهي عندها أربع سنين. تعبت وروحت أكشف ليها، والدكتور قال لازم تاخد جلسة نفس ضروري لأنها عندها حساسية صدر، وبقالها سنة على نفس الوضع ده. كل فترة يجي ليها الدور ده. جبت الجهاز في البيت، بس معرفتش أستعمله." 
لم يكن هناك مجال للإنكار، كان عليه أن يتقبل الحقيقة المريرة، أنه كان بعيدًا عما يجري في حياة ابنته، عن المعاناة التي كانت تمر بها، وهو كان غارقًا في مشاعره وعلاقته الثانية. كل تلك العواطف كانت تتجمع فوق رأسه كالسحاب الداكن الذي لا ينتهي، وكان يحاول جاهدًا أن يتعامل مع هذا الثقل المرتبط بالحب والندم.
ضغط على أسنانه بغضب وقال: 
"ولما كل ده حصل ليه، مقولتيش ليا؟"
كانت كلماته تعكس قلقه، ولكن في الداخل كان يدرك تمامًا أن جهله بمشاكل عائلته يعود إلى إهماله التام في عالم منفصل، حيث كان يعيش كما لو أن كل شيء يسير على ما يرام.
نظرت له وابتسمت بمرارة وقالت: 
"أقولك إمتى يا سلطان؟ أنت مانعني أتصل بيك في أي وقت. ولما بتيجي تقعد معانا، اليومين تقعد شويه معانا، وبعد كده تدخل أوضة المكتب وتقفل على نفسك علشان تكلم السنيورة وتحب فيها. يعني أنت مش معانا طول الوقت، حتى وأنت موجود هنا."
شعرت وهي تنطق بهذه الكلمات بتلك الفجوة العميقة التي تولدت بينهما بسبب قلة الحوار وفقدان الثقة. كان هناك ألم مع كل كلمة تكلمت بها، وكأنها تحاول أن تلقي باللوم عليه، ولكنه كان يشعر بالعجز عن الرد. لقد كانت تحمل في صوتها الكثير من الحقيقة التي تخنقه، وللحظة أدرك كم كان مبعثرًا ووحده.
جلس على المقعد وتكلم بتحذير: 
"متجبيش سيرتها على لسانك يا فريدة. ودي حاجة مش جديدة عليكي. أنتي لما قبلتي الجواز، مضحكتش عليكي. قولتلك إن مافيش في قلبي غيرها، وعمري ما هفكر في حد تاني. وعدك حقوقك كلها مش هقصر فيها. وأعتقد من يومها وأنا مقصرتش فيهم."
ولكنه شعر بضعف موقفه، حيث أشعلت كلماته جمرات من الشك في قلبه، وكانت عبارة "الحب" تفقد معناها أمام مرآة الحقيقة البشعة.
تكلمت بصراخ والدموع تنهمر من عينيها، وقالت: 
"لا، قصرت يا سلطان، قصرت في حق بنتك اللي حرمتها منك علشان تفضل جنب العيله التانية. قصرت لما أكون محتاجك ومش بلاقيك جنبي. وحتى لما بتكون جنبي ومعايا، بتبقى جسم بس، إنما قلبك وعقلك معاها هي. سبع سنين متحملة الوضع على أمل إنك تنساها وتنتبه لينا، بس للأسف الحال بيسوء أكتر من الأول. عايش حياتك مع حبيبة القلب، وإحنا آخر همك. زيارتك لينا تأدية واجب مش أكتر. حتى نومك معايا يا سلطان من غير مشاعر، بتحاول تنهي اللحظة علشان الخيانة اللي بتحسها تجاه التانية، مع إن المفروض العكس. أنت خاين وظالم يا سلطان، ودي الحقيقة اللي أنت بتحاول تهرب منها. خاين ليا وظالم لبنتك، وكل ده تحت مسمى الحب لطفلة أنت ربتها وطمعت فيها لنفسك." 
كانت كلماتها تجسد قلق الأم، شعور الوحدة في خضم العواصف، وكانت كل عبارة تنزف بأصوات مهيبة من مشاعرها القاسية.
أنهت كلامها واتجهت إلى غرفتها، وأغلقت الباب بقوة خلفها. للمرة الأولى، وقف سلطان لا يستطيع الرد، ربما لأنها محقة وكشفت الستار عن حقيقته، أو ربما لأنه شعر بثقل المسؤولية على عاتقه، أم لأنها كشفت حقيقة كان يحاول إخفائها أمام نفسه، أنه يعشق طفلة قام بتربيتها وطمع بها لنفسه. أشياء كثيرة تجمعت أمامه جعلته غير قادر على مواجهة فريدة. في تلك اللحظة، أدرك أنه ليس هناك هروب من حقيقة عائلته، وأن التفكير في نفسه فقط قد يجعله يسقط في فخ الندم. 
تحرك بخطوات بطيئة نحو غرفة ابنته، فتح الباب وتمتدت بجوار رنيم على السرير. شعرت بوجوده، وفتحت عينيها، مبتسمة له ببراءة الطفولة، ونامت داخل أحضانه، تمسكت به بسعادة وقالت: 
"أنت جيت يا بابي؟ وحشتني أوي." 
كانت تلك الابتسامة تشبه شعاع الضوء في عتمة قلبه، حيث سرعان ما بدأت تذيب همومه وكأن كل شيء قد ولى. 
ضمها بقوة داخل أحضانه، قبّل رأسها بأسف، وقال: 
"وأنتي وحشتيني أوي يا قلب، وعمر بابا. ألف سلامة عليكي يا حبيبتي، أنا كنت هموت من الخوف عليكي." 
كانت مشاعره تجاهها تمثل الأمل الذي توارى لفترة طويلة، وعبر عن الثقل الذي يحمله من المسؤولية والتقصير. كان ذلك متشابهًا مع عودته إلى حضن الأمان بعد أن تجول بعيدًا في دوامة من الخسارة.
تكلمت بزعل طفولي، وقالت: 
"أنا أصلاً أصلاً مخصماك، علشان بتوحشني كتير أوي يا بابي." 
تعالت دقات قلبه بعد سماع تلك الجملة. تذكر ترنيم، متى أصبحت تشبهها لهذا الحد أو لربما يشعر بتلك الشبه لأنه كشف الستار بعشقه لطفلته التي تشبهها. كانت هذه اللحظة تمسك بتلابيب قلبه، حيث أدرك أن تجاهله لمشاعر فريدة وابنته زعزع استقراره الأسري. 
أخرج تنهيدة حارة وتكلم بحزن: 
"وأنا مقدرش على زعلك مني يا نور عيوني." 
ثم ضمها داخل أحضانه، وقبّل رأسها وقال:
"يلا نامي يا حبيبتي، أنا النهاردة هنام جنبك ومش هسيبك." 
كانت قوة مشاعره تجاهها تضعه أمام مرآة من الحب والشفقة، تجعله مضطرًا لمواجهة كل ما كان يهرب منه.
تهللت أساريرها ببراءة، وقالت: 
"هيييه، أحلى وأجمل بابي في الدنيا." 
ولكن في تلك اللحظة، تمزق قلبه بوجع، وظل يملس على شعرها حتى غفت في النوم. نظر إليها، وجدها نائمة، علق نظره إلى الأعلى، وظل يفكر في كلام فريدة له. عليه أن يأخذ قرارًا ربما يكون صعبًا عليه، لكن هذا ما تطلبه الحياة. في تلك اللحظة، تداخلت مشاعره، وتحركت الرياح في داخله، حيث شعر أن هناك شيئًا حتميًا كان يجب أن يتغير، شيئًا يجعله يتصالح مع نفسه ويكون الشخص الذي يحتاجه كل من حوله.
           ***********************
في صباح اليوم الجديد، استيقظت ترنيم من نومها وهي تشعر بثقل في صدرها، كأنما تجسد كل هموم العالم في تلك اللحظة، مما فعله معها سلطان بالأمس. كانت تلك الحادثة قد تركت جروحًا عميقة في قلبها، لكنها قررت أن تعلمه درسًا قاسيًا لن ينساه بسهولة، رغم أنها كانت تدرك تمامًا أن ما ستفعله قد لا يمر بخير. نهضت من فراشها، وقررت أن تبدأ يومها بطريقة مغايرة. اتجهت نحو المرحاض، حيث أخذت حمامًا دافئًا ملأ الغرفة بالبخار وأشعرها بالانتعاش والتجديد، وكأنها تغسل همومها بعيدًا. 
خرجت من الحمام، متوجهة نحو خزانة ملابسها التي كانت تختزن فيها. وقفت أمامها لوهلة، تألقت عيناها بعزم واضح، وكأنها تقاوم كل مخاوفها. أخرجت بنطال جينز يطلق عليه"وايد ليج"، عكس روحها الحرة، وعليه بدي بأكمام قصيرة يجسد قوتها. بدأت ترتديهم بدقة، وكأن كل حركة كانت بمثابة خطوة نحو استعادة سيطرتها. 
وقفت أمام المرآة، تنظر إلى انعكاسها بابتسامة لئيمة، وقد كان ذلك انعكاسًا لفتاة مصممة على استعادة كرامتها. أسدل شعرها الطويل على ظهرها وأطلقته بحرية، وكأنها تشق طريقها نحو التحرر. وضعت القليل من مساحيق التجميل، لتبدو في أفضل حالاتها، واكتفت بنظرة إعجاب لنفسها، وكأنها تؤكد أنها أقوى مما تعتقد. 
ثم خرجت من غرفتها، وجمعت شجاعتها، وقالت:  
"أنا نازله الشغل يا ماما، وياريت تعملي محشي كرنب النهاردة نفسي فيه."  
أنهت كلامها وخرجت من الشقة بخطوات ثابتة ومصممة. عند الباب، لمحت شقة سلطان، وتذكرت أنه الآن في المقهى؛ لأنه متعود دائمًا عندما يكون لديه عمل في المساء أن يعود صباحًا ليظل في المقهى. كان عليه أن يعرف أن الأمور لن تبقى كما كانت، وأن درسها لن يظل دون إجابة.
هبطت من على الدرج ووقفت على الباب، أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تتحرك إلى الخارج. كانت دقات قلبها تتزايد من شدة الخوف، لكن كرامتها أجبرتها على فعل ذلك حتى تعطي درسًا قاسيًا لسلطان. تذكرّت كيف أنها لم تكن تخشى أحدًا من قبل، لكنها الآن كانت وقوفها على عتبة هذا القرار أشبه بالوقوف على شفير الهاوية. كانت تلك الخطوة نحو مواجهة سلطان تحمل في طياتها خليطًا من الإرادة والعناد، خاصة بعد أن استنفذت جميع الطرق للتفاهم معه. في تلك الأثناء، كان سلطان يجلس في المقهى، وعقله مشغول بما حدث أمس، يراجع في ذهنه الخيار الذي اتخذه مع نفسه، الحزن بالمقابل يثقل كاهله. كان يفكر في القرارات التي قد تؤثر على حياته وحياة من حوله، ولكنه كان يعرف في قرارة نفسه أنه لم يكن لديه خيار آخر. وفجأة، وقف مشدوهًا مما رأى، ونهض ببطء من على مقعده، وألقى بالشيشة بغضب قبل أن يتحرك سريعًا خارج المقهى، وكأنما رصاصة شقت الهواء حوله. اقترب من تلك الفتاة التي كادت أن تأكل عقله، وأمسك بذراعها بعنف، متحدثًا بنفاذ صبر:  
"أيه اللي انتي لابساه ده؟ نهار أبوكي مش فايت."  
كانت نظراته تحمل مزيجًا من الغضب والقلق، فهو يعرف أنها ليست قادرة على تحمل ضغوط المجتمع، لكن كبرياؤه كان يمنعه من إظهار أي نوع من التعاطف. نظرت إليه بتحدٍ، وأبعدت يده عنها، متحدثة بنبرة قوية:  
"ايدك لاقطعها ليك يا عسل، انت مالك ألبس أيه انشالله لو مشيت من غير هدوم خااالص، حاجة متخصكش، خليك في حالك يا كبير." 
ضغط على أسنانه بغضب، وواصل حديثه بنفاذ صبر:  
"قسماً عظماً لو مطلعتيش دلوقتي بيتك وغيرتي الزفت اللي عليكي ده، لكون مكسر رقبتك العوجة دي يا بت الطلبجي."  
كانت كلماته كالرصاص، تصيب الهدف، لكنها لم تكن تقتلع شجاعتها. نظرت له والشرر يتطاير من عينيها، وقالت:  
"أقولك الطلبجي يبقى مين ومتزعلش؟ بلاش أنا، احسنلك يا كبير الحتة."  
أمسك بذراعها بغضب، وأرغمها على التحرك نحو العقار الخاص بها، وكأنما كان يقودها إلى حتفها، ولم يتجرأ أحد على الاقتراب منهما. أغلق باب العقار، ودفعها على الحائط، ونظر إليها بعينين مشتعلتين من شدة الغضب قبل أن يقترب منها حتى التصقت أجسادهم، وكأنهما عاصفة تتلاقى، متحدثًا بخطورة:  
"وحياتك عندي، لاقطعلك لسان أمك، ده اللي فرحانة بيه."  
كانت كلمات سلطان كالسحر الأسود، تسحبها نحو قاع من الارتباك، وفي اللحظة ذاتها، أحست أن الأمر قد يتخطى الحدود التي رسمتها لنفسها، فمع كل كلمة كانوا يتبادلونها كانت العلاقة بينهما تتقلب بين الحب والعناد، كما لو كانت تمثل مجرى نهر جارٍ يجمع بين ضفتين متناقضتين.
شعرت بالرهبة من هيبته، فنظرت إليه بدلال محموم كأنها تحاول استمالته برقة، وقالت:  
"أهون عليك يا سوسو."  
رفع إحدى حاجبيه بتعجب واستنكار، وكأنه يعتبر ما تنطقه غير مسبوق، قبل أن يتحدث بصوت مرتفع يُظهر امتعاضه:
"سوسو! على أخر الزمان معلم سلطان كبير الحتة كلها يتقاله سوسو؟"  
حركت يدها برقة على وجنته، ملامسة بشرته الخشنة، وتحدثت بدلال أكثر، عازمةً على استمالة قلبه:  
"كبير الحتة كلها ألا أنا يا روحي."  
ضغط على شفتيه بغضب مكتوم يُخفي تناقض مشاعره، وقال:  
"وحياة أمك! أنا كبير عليكي غصب عن أهلك كلهم."  
اقتربت بوجهها حتى لفحت أنفاسها الندية وجهه، متعمدة جعل كل كلمة تكاد تتسرب من بين شفتيها همسا أسيراً يشعل النار بداخله:  
"لا عاش ولا كان اللي يغصب ترنيم الدسوقي، على حاجة يا سوسو."  
أنهت كلامها واستغلت حالة سلطان الهائمة، فقامت بدفعه بقوة بعيدا عنها، وكأنها تقطع وشاح القيود التي ربطتهما، وركضت سريعًا خارج العقار، بينما كانت ابتسامة النصر مرسومة على وجهها، كأنها احتفلت بانتزاعها لأسر تلك اللحظة. نظر أمامه في صدمة، ثم تحدث بعدم تصديق، وكلمات الغضب تختلط بالدهشة:  
"البت أكلتك البسبوسة، يا سلطان، واكلت بعقلك الحلاوة، وحياتك عندي لكسرك رقبتك العوجة دي يا ترنيم."  
ثم اعتدل بجسده، يلملم آثار مشاعر حميمة استغلتها هذه المصيبة الصغيرة، وكأن قلبه الذي يشعله الهمّ وقع فجأة في فخ معركة بميدان من قلبه.
تذكر القرار الذي اتخذه في خضم كل هذه الفوضى، ركض سريعًا خلفها كمن يحاول إنقاذ شيء ثمين، وأمسكها من ذراعها بقوة تحاكي قوة الاحتياج العاطفي الذي كان يشعر به، وضغط على أسنانه بشدة قائلاً بنبرة غاضبة، كأنما يُذيع حكما:  
"وديني وما أعبد لو مطلعتيش دلوقتي حالا غيرتي هدومك دي يا ترنيم هحلف عليكي ما في شغل تاني ووريني رجلك هتخطي ازاى بره عتبة الباب وشعر أمك ده يتلم." 
نظرت له بغضب، وعاد ذلك الحماس إلى عينيها، لتعود مرة أخرى إلى العقار، وهمست بكلمات غير مفهومة، وكأنها تلقن له درساً يزرع في قلبه الخوف من فقدانها. صعدت إلى الأعلى، وبدلت ملابسها بشيء آخر أكثر احترامًا، وما أن هبطت إلى الأسفل حتى كانت كالعاصفة، تتحرك باتجاه السيارة وكأنها تتحدى سطوة الانتظار، فقامت بالصعود بها وعقدت ذراعيها بغضب متأجج، وظلت صامتة، لكن ملامحها كانت تعلن فوضى مشاعرها وتصدح بصوتٍ غير مرئي للحواس. 
صعد سلطان أمام المقود، وتحرك بالسيارة بغضب، بينما كان قلبه يثقل بالحيرة والقلق. كانت الأنوار تضرب على زجاج السيارة، ولكن عقله كان بعيدًا جدًا عن الطريق. وبعد فترة، لمحت ترنيم أنه يسير في طريق غير معروف، بعيد عن المستشفى حيث كانت تأمل أن يتوجها. نظرت له بتساؤل معبرة عن قلقها:  
"احنا رايحين فين كده ده مش طريق المستشفى؟" 
كان صوته مختنقًا، ممزوجًا بعواطف متضاربة، وعينيه منصبّتين على الطريق، كما لو كان يحاول فك شفرة موقف لم يستطع تفسيره لنفسه بعد:  
"هنقعد في أي مكان بعيد عن البيت والشغل، عايز أتكلم معاكي كلمتين."  
شعرت بجسده مشحونًا بالتوتر، مما زاد من قلقها، وأومأت برأسها ببطء، متسائلة في سرها عما قد يريد قوله. كانت تلك المرة الأولى التي تراه فيها بهذه الجدية، وعينيه لمحتما عبء حزن عميق وكأنهما تخبئان جبلًا من الألم لم يبوح به حتى الآن.
بينما كانت الأفكار تتلاطم في ذهنها كالرياح العاتية، كان سلطان يختلس النظر إليها برغبة في مشاركة وطأة حزنه. ومع كل لحظة تمر، زادت القسوة في الهواء بينهما، حتى توقف أمام إحدى الكافيهات التي كانت تنبض بالحياة؛ ولكن بالنسبة لهما، بدا كل شيء في حالة من الفوضى والغرابة. ترجل بسرعة من السيارة، وذهب إلى الجانب الآخر، غير عابئ بالضوضاء من حوله، حيث فتح الباب لها بلطف وساعدها في النزول كما لو كان يحاول استعادة بعض من اللحظات التي فقدها. دخلا معًا إلى الداخل وجلسا على المقاعد، وكان الهواء مليئًا بالشعور بأن كل شيء غير متوازن. نظرت ترنيم له بقلق، وكأن كلماتها يمكن أن تعيد توازن الأمور:  
"فيه أيه يا سلطان، حاسه انك فيك حاجه مش طبيعية؟"  
تنهد بحزن عميق، وكأنما كان يتخلص من هموم ثقيلة لم يستطع حملها أكثر، ثم تكلم بصوت مختنق:  
"ترنيم، احنا مش هينفع نكمل مع بعض!" 
كانت كلماته كطعنات خنجر، وكأنهما كانا على شفا الهاوية، يتصارعان مع المشاعر المتضاربة التي الآن بدأت تتفجر.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1