رواية لعنة الضريح الفصل السابع بقلم منى حارس
ظلَّ فهمي يركض خلف أينور ، وكانت هي تركض مسرعة وتختفي وسط المقابر المظلمة بفستانها الأبيض الطويل وقدميها العاريتتين ، ونادى الأب كثيرًا وظلَّ ينادي وينادي بصوت عالي قائلًا:
إستني يا أينور إستني يا بنتي، أرجوكي متبعديش مش قادر اجري اكتر من كدة انا تعبان ومرهق ، إنتي رايحة فين قوليلي بس وليه بتعملي كدة معايا ؟ ولكن الفتاة اختفت وسط المقابر وظل الأب الملتاع يبحث عنها هنا وهناك ويرجوها أن تعود من أجله , فلن يتحمل الفراق عنها , وكيف يفترق المرء عن قلبه , أخذ ينادي بصوتٍ مرتفعٍ:
أينوررررر وتردد صدى صوته العالي وسط المقابر المتناثرة هنا وهناك عاليا ، واخذ يتردد في أذنيه ولكنه بالنهاية لم يسمع إجابة منها لتريح قلبه المتسارع دقاته وتهدىء نفسه المحتارة , اقترب ببطىء من أحد المقابر المفتوحة على مصرعيها , وكأن أحدهم قد نسى إغلاق باب المقبرة ،..
كان يتسأل بصمت من الذي ترك ذلك القبر مفتوحًا ، أمازال القبر ينادي على غيره ليقفل , كانت الرائحة كريه والمكان بالداخل مظلم ومعتم , وهنا شعر بضربات الهواء البارد على وجهه لتخترق كيانه و اعماقة , لتخبره أنه عليه أن يبتعد الآن فليس هذا المكان الذي يمكنك إختراق ظلمته .
ولكنه أقترب أكثر فأكثر من المقبرة الملعونة الملونة , نظر برعب ودقات قلبه تتسارع واخذ يردد الكلمات المحفورة على رخامه , فردَّد بصوتٍ عالٍ:
"شاهد الشواهد .. اقترب أكثر فتشاهد"
ردد الكلمات بتعجب شديد وحيرة , هو لا يفهم شيء ، ولكن من أجل حبيبته سيقترب اقترب أكثر كرر الجملة بصوت أعلى "شاهد الشواهد"..
وهنا قاطعه صوت ابنته وهي تخرج من ظلمة القبر صارخة برعب شديد وفزع:
إسكت متكملش واهرب اهرب بسرعة يا بابا مفيش وقت قبل مايأخدوا بالهم من وجودك ووقتها هيئذوك مش هيسيبوك ابدا .
فصرخ الأب بلوعة من بين دموعة قائلًا:
إيه اللي جابك هنا يا حبيتي تعالي نروَّح على البيت , ماما قلقانة عليكي انت خرجتي لوحدك ليه من غير متقولي لحد يا أينور .
فردَّت برجاء قائلة :
مقدرش اتحرك من الضريح ابدا ، دا بيتي دلوقتي وأنا محبوسة فيه للأبد ومقدرش اتحرك من غير ما استئذن مش هيخوني أخروج ابدا .
فردَّ بتعجب:
ضريح أيه وتستئذني من مين مش فاهم , أنا ابوكى اينور , ومحدش هيقدر يأذيك طول ما أنا عايش هاتي إيدك ويلا نبعد عن المكان الوحش دا واوعي تيجي هنا تاني لوحدك يا حبيبيتي .
وهنا ترد بخوفٍ شديد وصوتها يملؤه الألم:
مش هقدر اروح معاك يا بابا ، أرجوك إمشي دلوقتي بسرعة، بلاش حد يشوفك معايا في الضريح , إنت بتئذيني بتئذينى وبعدها صرخت صرخة عالية لتمزق كيان الأب من الداخل .
فردَّ والألم يعتصر فؤاده :
مقدرش اسيبك هنا يا بنتي لوحدك .
وصرخت هي برعبٍ قائلة:
أرجوك إمشي قبل ما حد يشوفك ، وانا هزورك كل فترة اطمّن عليك وعلى ماما واخواتي كلهم.
وبعدها صمتت قليلًا ثم أكملت قائلة بطريقة غامضة :
ومتثقش في أينور يا بابا ، متثقش في أينوررررر وتردد صدى كلماتها الأخيرة وسط المقابر عاليا ، وكأنها تتألم , وهنا ظهرت العديد من الأيادٍ السوداء المشعرة بكثافة كجلود الماعز , وهنا جذبت الفتاة إلى داخل القبر المظلم بسرعة ، حاول الأب أن يجذب ابنته إليه ويخلصها من تلك الأيادي السوداء ، ولكنه فشل فلقد مر كل شيء بسرعة كبيرة , ولم يستطع غير تمزيق قطعة من ثوبها الأبيض الطويل , وظلت قطعة القماش في يده ينظر لها غير مصدق الأب أن يفقد إبنته , وبعدها صرخ بقوة قائلًا:
أينوررر لااااااا ..
وفي تلك اللحظة شعر بمن يجذبه بشدة وينادي عليه ، ويهزه بقوة فصرخ برعبٍ و...
"فهمي مالك اصحى" وكانت هناء تهزه بعنف مرددة :
"إصحى يا فهمي فوق انت بتحلم دا كابوس انت بخير بسم الله الرحمن الرحيم ؟
فتح عينيه والعرق يغمر وجهه قائلًا:
لااااا فين أينور ؟
في أوضتها بتذاكر يا حبيبي مالك بس فيه إيه ، وأكملت وهي تناول زوجها كوبًا من الماء البارد:
أنا عارفة إيه اللي جرالنا كلنا، من ساعة ماخدنا الشقة الشؤم دي والبيت كله اتشقلب حاله، إيناس وإيهاب قافلين عليهم الأوضة ودايمًا مرعوبين وكأن في حاجة رعباهم في البيت وبتخوفهم ، وأينور اتغيرت أوي يا فهمي وحتى مبقتش بتروح الدرس وبتروح المقابر وبتقول اسمها شواهد، يظهر اننا اتحسدنا .
وظلت هناء تتحدث وتتحدث إلى زوجها بقلق كبير كل مخاوفها وما يحدث معها بالمنزل ، ولكنه لم يستمع لأي كلمة مما تقولها، فقد كان ينظر برعبٍ إلى يديه وإلى قطعة القماش البيضاء الصغيرة التي كان يمسكها بين أصابعه وتذكر الحلم .
وهنا صرخ الأب بعنفٍ مناديًا بلوعة باسم ابنته:
أينورررررر.
&&&
في حجرة إيناس وايهاب كان الطفلان يتحدثان بصوتٍ منخفض حتى لايستمع أحدٌ إليهما ، كان يبدوا عليها الرعب الشديد والخوف فقال إيهاب برعب:
أنا خايف يا إيناس من أينور أحسن تاكلنى زي ماكلت ميكي.
فقالت إيناس بشكٍّ:
أينور هتاكل القط ميكي ازاي يعني، أكيد القطة هربت.
وينفجر الطفل في البكاء:
إنتي مش مصدقاني أنا شفتها وهي بتاكله، صدقيني دي مش اختنا أبدًا دي شيطان يا ايناس شيطان ، وهنا صمتت الفتاة قليلًا وهي تتذكر أختها الكبيرة قبل الإنتقال لتلك الشقة الجديدة ؛ كانت طيبة القلب وتحبها هي وأخيها وتلعب معهما ، وتشتري لهما الحلويات من مصروفها الشخصي، لكن الآن تغيرت كثيرًا وأصبحت مُرعِبة وخصوصًا عندما تلمع عيناها ويتغير لونها إلى اللون البنفسجي، فقالت بصوتٍ منخفض وشك:
يمكن بيتهيألك يا إيهاب.
فردَّ بإصرارٍ غريبٍ:
لا اللي عايشة معانا دي مش هي أينور، دي واحدة تانية وكأنها شيطانة.. وسكتت إيناس وهي تنظر لأخيها الصغير؛ فهي ايضا تصدق كل ما يقول، فقالت بحذر :
الأول ملناش دعوة بيها خالص ومنعملش معها مشاكل , ونراقبها من بعيد لغاية مانعرف مين دي أختنا ولا واحدة تانية, لانى خايفة منها اكتر منك .
&&&
كانت هناء تتحدث مع زوجها بخصوص ابنتها التي تغيَّر حالها كثيرا منذ قدومهم لتلك الشقة الغريبة ، فقالت بجدية :
انا عاوزة اودي أينور لدكتور نفسي، صاحبتها كلمتني النهاردة وبتقول انها بتغيب من الدرس ولما كلمتها بتقول كلام مش مفهوم.. وهنا قطعت كلامها عندما لاحظت سرحان زوجها وعدم اهتمامه بكلامها ولا ما تقول فهو ليس معها وفي عالم اخر ؛ فكان الرجل يفكر في الحُلم، وقطعة القماش، وفي ابنته أينور،وشقة جاره والمقابر والغرفة ولم يسمع أيَّ كلمة مما قالتها زوجته، فزفرت بقوة وقالت بغضب :
ماترد عليا وتعبرني شوية يا فهمي فيه إيه بالظبط مش فاهمة .
إنتي بتقولي حاجة يا هناء.
فردت بغضبٍ:
لا الموضوع فيه إن مالك يا فهمي.
فيه موضوع شاغلني شوية في الشغل ودماغي مشغولة غصب عني ، أنا آسف يا حبيبتي، إنتي بتقولي إيه ؟
فقالت هناء بعتاب وهي تنظر له تريد معرفة ما يدور في عقله :
كنت بقول ان أينور مش طبيعية وعايزة اكشف عليها عند دكتور نفسي يعرف في إيه وحد زعّلها في المدرسة ؟
ردَّ بشرودٍ:
إعملي اللي انتي شايفاه في مصلحة البنت وسيبيني دلوقتي لوسمحتي لأني هخرج شوية مع صحابي.
فقالت بفتور:
ماشي يا فهمي اللي تشوفه .
فكَّر في الحاج المصرى جاره، وقال لنفسه:
أكيد يعرف حاجة عن الشقة دي لأنه ارتبك لما عرف اني ساكن فيها، أنا لازم اروح اعرف منه حكاية الشقة والمقابر دي ومين اللي عايشة معانا دي بنتي ولا لا وفين أينور بنتي و مش هي ..
وخرج سريعا من باب الغرفة بعد ارتداء ملابسه لزيارة جاره ومعرفة الحقيقة ، وفي تلك اللحظة وجدها تقف أمام باب الغرفة وهي تبتسم ابتسامة صفراء ساخرة وبعينين بنفسجيتي اللون تقول:
إنزل يا بابا عزّي جارنا، أصل ابوه المصري مااااااااااااااات.. .....وبعدها اطلقت ضحكة عالية تردد صداها في أذنه وسقط فهمي على أقرب مقعد منهارًا وينظر لابنته بذهولٍ لا يصدق ما قالته وكيف عرفت ما يفكر فيه هو لا يفهم شيء .