رواية الراتل الفصل الثامن بقلم اسماء ايهاب
مر عليها الليل بصعوبة ، لم يغمض لها جفن ، ومرت الدقائق ببطء حتى خُيل لها أنها لا تمر أصلًا ، خوفها الذي ينهش أعماقها جعلها حبيسة غرفتها منذ أن عادت هي ووالدتها إلى المنزل ، دموعها لم تجف وكلما هدأت جاءها صدى صوته بأسم تلك الفتاة المجهولة كأشارة لها لتبدأ نوبة أخرى من البكاء الذي كاد يوقف قلبها من شدته ، تسأل نفسها هل يمكن لشخص اقترب من حلمه أن يندم على الحلم به منذ البداية ، هل يتحول حلم وردي لطيف إلى كارثة ، قتل أملها في مهده ، وجعلها نادمة على كل شعور بالحب منحته له ، بينما هو "كما تظن" يعشق أخرى .
حين أشرقت الشمس بنورها ، استمعت إلى طرقات عنيفة على باب الغرفة ، وصوت صياح والدتها من خلفه غاضبة :
_ اصحي ياختي ، اجهزي عشان عريس الغفلة مستعجل
وقفت عن فراشها البسيط الذي يتوسط الأرض بغرفتها الطينية ، تتقدم بحذر من الباب ترهف السمع إلى الخارج ، كانت أصوات متداخلة خافتة من الخارج بدت مألوفة لها ايقظت الطمأنينة في صدرها .
تنهدت بارتياح ؛ فوجود الفتيات عشيرتها بالخارج يعني أنها ستجد ملاذًا من بطش والدتها ، فتحت الباب بحرص وخرجت بهدوء ، وما أن أطلت عليهن ، ارتفع تهليل الفتيات بصوت مرتفع وأحدهن بدأت بالغناء بعض من مقاطع أغنيتهن التقليدية الموروثة ، فأرتسمت ابتسامة باهتة على وجه رحيل سرعان ما تلاشت حين دفعتها والدتها بقوة ، تهتف بغضب :
_ اعملي اللي في دماغك كله يا رحيل ، بس لما ترجعيلي تاني و دمعتك على خدك مش هفتحلك بابي .
انهت حديثها القاسي وتركتها مغادرة المنزل بأكمله ، تركتها وحيدة رغم الضجيج حولها ، لم تكن ترغب سوا في عناق دافئ منها وكلمة طيبة تلتئم لها جروحها ، لكنها رأت أنه كثير عليها ، تقدمت منها أحدهن تواسيها ، وتربت على ظهرها بحنو ، هامسة :
_ يلا يا حبيبتي عشان تجهزي مفيش وقت
أومأت إليها رحيل ، تمسح دموعها التي سالت بغزارة على وجنتيها بعدما امتلئ قلبها بالحسرة ، أخذتها الفتيات لكي تستعد للزفاف ، لكن عقلها كان شارد فيما هي مقدمة عليه .. تتزوج ممن تحب لأجل حمايتها ، هي يحب أخرى وغير معلوم ما ستكون عليه علاقتهما ، كلما حاولت الهدوء هاجمتها الأفكار أسرع وأشرس ، ليصبح أفضل يوم بالنسبة لها بمثابة حرب نفسية ستهلك طاقتها وتحطم قلبها .
***********************************
توقفت السيارة في منتصف الساحة ، خرج منها حمزة يحمل حقيبة جلدية سوداء في يده ، وأخرى مماثلة لها لكن أصغر حجمًا . تأفف بضيق يلقي الحقيبة الثقيلة إلى داوود الذي كان يقف ينتظره منذ فترة ، فقد تذكر في اللحظة الأخيرة أن اليوم هو السبت "إجازة البنوك" ، فبعث بحمزة إلى القاهرة في الفجر ليجلب الأموال .
أخذ داوود الحقيبة يهتف بحنق :
_ سنة على ما تيجي ! ، اية التأخير دا كله ؟
تأفف حمزة مجددًا بعدما أمر السائق بالعودة إلى خارج العشيرة ، وتقدم من داوود يتحدث بضجر ، مستعرضًا خط سيره منذ أن وصل القاهرة :
_ هو انا راكب طيارة يابا و لا اية ، انا يدوب روحت اطمن على مراتي ، وبعدها روحت شقتك جبت الفلوس و قعدت اعدها جنية جنية .. بعدين اخدتها و نزلت
ثم لانت ملامحه ، ورسم البراءة على وجهه ، يستأنف حديثه بهدوء :
_ بس للأمانة يعني اخدت ازيد من اللي قولتلي عليه
عقد داوود حاجبيه متعجبًا ، قبل أن يسأل :
_ لية ؟
أضاء الحماس ملامح حمزة قبل أن يخرج الهاتف من جيب بنطاله قائلًا :
_ لقيت عرض على التليفون اللي نفسي اجيبه
وحين ارتسم الغضب على ملامح داوود ، أشهر حمزة ظهر الهاتف أمام وجهه قائلًا بتوسل طريف :
_ كان معاه كاڤر هدية يا داوود
زفر داوود بقوة ، رافعًا رأسه إلى الأعلى داعيًا :
_ يارب الصبر من عندك
ثم التفت مبتعدًا ، عائدًا إلى الخيمة مجددًا ليستعد للزفاف . وجد إلياس يتفحص الثوب المُعد له من جلبابًا أسود وغطاء رأس من نفس اللون مزود بخيوط فضية مبالغ بها . امتعض وجهه بضيق أخذًا الثوب من يد أخيه ، ليضطر إلى ارتدائه حتى ينتهي من ذلك الزمان الزفاف سريعًا .
انتهى من تجهيزاته بدا وسيم بشكل مختلف ، لاقت به ثياب الغجر بطريقة لم يتوقعها أحد منهم ، فتقدم منه حمزة يخرج هاتفه لكي يلتقط له صورة فوتوغرافية قائلًا بمرح :
_ عايزلك صورة بالتليفون الجديد باللبس المشخلل دا ، الفرق بينك و بين احمد عز في المصلحة الجنيهات اللي معلقنها في الشال .
دفعه عزيز من أمام داوود ، يتحدث بغيظ :
_ روح انت يا حمزة ، انت فضيحة لينا يا حبيبي و الله
نظر إليه حمزة شزرًا ، وتحدث بابتسامة ممتعضة :
_ تسلم يا عجل و الله
قطع حديثهم صوت شاب يستأذن بالدخول ، فأذن له داوود ، ليدلف أحد شباب العشيرة مبتسمًا ، يخبره بهدوء :
_ الريس عمران بيبلغك تروحله هنبدأ المجلس العرفي
أومأ إليه داوود ، فأنصرف الشاب ، حينها تحدث إلياس يسأل بتوجس :
_ انت متأكد من اللي بتعمله يا داوود ؟
رتب داوود من هيئته أمام مرآة مكسورة بالخيمة ، واجاب بثقة مما هو مُقدم عليه :
_ أكيد
توجه داوود واخوته إلى خيمة الريس عمران الذي كان يجلس بصدر الخيمة وإلى جواره رجلان مُسنان ، شهود المجلس ، وخلفه شبان العشيرة ممن أختيروا للحضور ، تقدم داوود نحوه بخطى ثابتة حتى وقف أمامه وسط الحاضرين من رجال العشيرة ، ألقى عليه السلام ، ووضع حقائب الأموال أمامه على الأرض .
حينها جاءت العروس بضجة كبيرة من فتيات العشيرة ، دلفت إلى الخيمة بهدوء ، ترتدي عباءة غجرية مطرزة باللون الأحمر الناري ، ينسدل منها وشاح يغطي جزءًا من وجهها ، لكن عينيها السوداوين كان تُظهر مدى توترها بوضوح ، تنتقل بين الرجال بحذر شديد ، حتى توقفت إلى جوار داوود ، أصابتها رجفة قوية واخذ قلبها يخفق بقوة بين ضلوعها حين أُعلن بداية مجلس زواجهما .
امر الريس عمران الجميع بالصمت ، ثم نظر بين داوود ورحيل المرتجفة ، قبل أن يتحدث بصوت جهوري ليسمع الحاضرين :
_ داوود ابن المرحوم محمد القاضي ، هل تقبل برحيل بنت جليلة بنت غياث زوجة ليك على سنة الله و رسوله و على عرفنا الغجري و بحضور رجال العشيرة ؟
شعور لطيف أصابه فور انتهاء عمران من الحديث ، لا يدري لأنه كان السبب في إنقاذها من زواج فُرض عليها أم أن الأمر قد راق له ، أخذ نفسًا عميقًا قبل أن يتحدث بصوت مرتفع يُسمع الحضور :
_ أقبل ، و رضيت بها زوجة أمام الله و الحاضرين
ارتسمت بسمة هادئة على ثغرها عندما لمست موافقته قلبها ، وتنحى ضيقها وغيرتها عليه جانبًا لتفرض السعادة نفسها بقوة على روحها المُهلكة .
حينها وجه لها الريس عمران السؤال لها :
_ رحيل بنت جليلة بنت غياث ، تقبلي بداوود زوج ليكي ؟
رفعت عينيها إليه تطمئن قلبها بحقيقة وجوده إلى جوارها ، لا تغوص بأحلامها كالسابق ، ثم تحدث بهدوء رغم ضجيج قلبها النابض :
_ أقبل
دقت الدفوف ثلاث مرات متتالية كإشارة لإعلان الزواج ، وقد تم العقد العرفي أصبحا زوجًا وزوجة بالأعراف الغجرية ، وتعالت الزغاريد من النساء ،
وابتسم الرجال ابتسامات خفيفة تبادلوا خلالها عبارات المباركة .
التفت داوود إليها يراقب ملامح وجهها من خلف الوشاح ، وابتسامتها البشوشة ، دنى نحوها يهمس بهدوء :
_ من النهاردة ، انتي تحت جناحي و في حمايتي .. محدش هيقدر يقربلك أو يأذيكي
ازدادت ابتسامتها اتساعًا ، ونظرت إلى الأسفل بخجل ، بينما كان حمزة متعجبًا من الأجواء الغريبة حوله ، فمال نحو عزيز يتحدث بذهول :
_ هما كدا اتجوزوا ، فين المأذون ؟
همس عزيز بصوت خافت مجيبًا :
_ مفيش مأذون ، الغجر معندهمش ورق رسمي للجواز
مرر حمزة عينيه المذهولتين على جميع المتواجدين ، متسائلًا بدهشة :
_ كل دول مفيش ورقة تثبت انهم متجوزين
ثم مال نحو أذن عزيز يهمس بمزاح :
_ دا لو بوكس معدي بضهره من هنا هيشرد عائلات
كتم عزيز ضحكته بصعوبة ، ثم أشار إليه أن يتبعه إلى الخارج .
انتهى المجلس وقدم الجميع عبارات المباركة اللطيفة لرحيل ابنة عشيرتهم وزوجها ، وبدأت الفتيات بالغناء وعزف موسيقى الالات بدائية ، يزفون العروس إلى الساحة حيث جلست رحيل إلى جوار داوود على أريكة خشبية بالمنتصف ، والتفت الفتيات من حولهما ، يتعالى صوت غنائهن ، ورقصاتهن الاستعراضية المناسبة للاحتفال .
تنهدت رحيل بارتياح تسلل إلى قلبها ، ثم رفعت بصرها نحوه تتحدث بصوت يكاد يُسمع من ارتفاع صوت الاحتفالات :
_ شكرًا
التفت إليها يتطلع إليها بهدوء قبل أن ترتسم ابتسامة هادئة على ثغره ، قائلًا :
_ لما ننزل القاهرة هكتب عليكي باوراق رسمية ، معاكي بطاقة ؟
كادت أن تقفز من محلها من شدة سعادتها أنه لم يكتفي بزواج عرفيًا بين عشيرتها ، سيجعلها زوجته بأوراق رسمية أمام الجميع ، لتجيب بهدوء مبتسمة :
_ كنزي ساعدتني اعملها ، و هتطلع كمان ٣ او ٤ ايام
أومأ إليها بصمت ، أما هي فكانت ترغب في الاستماع إليه إلى الأبد دون ملل ، كانت تأمل ألا يصمت سريعًا ، لم تكن منتبهة إلى اي مما يحدث حولها ، عيناها لم تنزاح عنه ولو لثوان ، كانت تعتقد أن الأحلام هي افضل شعور قد تشعر به يومًا ، لكن الآن تعترف أن للحقيقة مذاق مختلف وفريد ، يجعلها ترى الحياة وردية بالكامل أمامها ، تكاد تصرخ وتخبر الجميع أنها لم تكن ترغب إلا في ارتباط أسمه بها ولا تريد أحد سواه .
بعد قليل أخذ يدها التي ارتجفت بين يده ، ووقف عن الأريكة ينهي الاحتفال لكي يغادر مع زوجته إلى القاهرة ، ودعهما الريس عمران الذي أوصى داوود على رحيل .
كانت عيناها تدور بين الجميع تبحث بلهفة عن والدتها ، لكنها لم تجدها ، ذهبت وتركتها دون توديعها ، ابتلعت غصتها المريرة على تصرفات والدتها الغير مبررة بالنسبة لها ، وتوجهت بصمت مع داوود خارج العشيرة حيث السيارات تنتظرهم جميعًا ، لتنتقل إلى حياة أخرى مختلفة كل الاختلاف عن حياتها السابقة ، لتكن أولى خطواتها إلى هدفها .. الا وهو قلبه حتى وإن كان على علاقة بغيرها ، ستسعى جاهدة حتى يكون قلبه ملكًا لها إلى الأبد .
***********************************
فتح داوود باب الشقة الخاصة بأهل والدته التي آلت إليه بعد وفاتها ، ثم أشار لرحيل بالدخول بعدما تنحى جانبًا يفسح لها المجال .
دلفت بخطى بطيئة مرتجفة ، تمرر بصرها على تفاصيل الردهة الراقية بلونها الرمادي الباهت .
انتفضت مرتعبة حين أغلق الباب خلفه ، والتفتت إليه بارتباك تزيح الوشاح عن رأسها تمامًا .
تحدث هو ليكسر الصمت المربك بينهما :
_ هي شقة أهل أمي ، هتفضلي فيها بس لحد ما نكتب الكتاب باوراق رسمية و مع اهلي
أومأت إليه وتنقلت بخفة في الارجاء حتى وصلت أمام أحدى الغرف ، وما أن همت بفتح بابها حتى حذرها هو سريعًا :
_ متفتحيش الباب ، الأوضة فيها أسد
انتفضت بقوة وتراجعت بذعر حتى وصلت إلى جواره ، وقد شحب وجهها بخوف شديد ، أناملها ترتجف بشكل ملحوظ ، ليحاول التخفيف من خوفها حين قال :
_ متخافيش هاخده معايا و انا نازل
سألت بتلعثم مشيرة بعينها نحو الغرفة :
_ انت مربي أسد لية ؟
ابتسم بخفة قبل أن يجيبها :
_ الأسد دا ورثته عن والدي ، بعد وفاته الأسد دخل في اكتئاب و كان هيموت ، لحد ما بدأت ادخل احطله أكل و اقعد معاه وخرجته من حالته و بقي أمانة عندي
هزت رأسها متفهمة وجلست على الأريكة ، تلتقط أنفاسها المسلوبة ، بينما غاب من أمامها ثوان ، ثم عاد وبيده زجاجة من الماء يقدمها لها ، قائلًا :
_ خدي نفس
التقطت الزجاجة من يده بامتنان ، ترتشف منها بعض رشفات قليلة ، ثم وضعتها على الطاولة أمامها ، رفعت رأسها تتأمل ملامح وجهه التي تحفظها عن ظهر قلب .
لم يُخفى عنه ابتسامتها ونظراتها السعيدة وكأنها ظفرت في أحد انتصاراتها ، خمن هو أنها سعيدة بفرارها من الزواج من سعدون ، لكن سؤالها الخافت الذي لمح فيه الرجاء جعل تفكيره يأخذ منحنى آخر :
_ هو احنا جوازنا هيكون طبيعي يعني زي اي زوجين و لا لا ؟
لم تكن تريد التعجل في هذا السؤال ، لكن دفعتها أفكارها وعاطفتها الهوجاء ليتضح الطريق أمامها ، وكم ستعاني في سبيل الوصول إليه .
تنهد بقوة وجلس إلى جوارها ، يتحدث بهدوء :
_ مجاش في بالي اننا مش هنكون زوجين طبيعين ، بصي يا رحيل ، احنا الاتنين اتجوزنا بغض النظر عن السبب .. كل واحد فينا لازم يتحمل مسئولية الجواز دا و نساعد بعض أنه ياخد فرصة
حاول بث فيها الطمأنينة أنه لم يكن مجبرًا على الزواج منها ، وبالفعل سكنت روحها وتوردت وجنتيها تتحدث بنبرة متحمسة :
_ أكيد ، انا بس كنت بسأل
تنهد مجددًا قبل أن يقف عن الأريكة ، قائلًا بهدوء :
_ طيب انا هاخد ضرغام اوديه البيت عندنا و هجبلك طلبات للتلاجة عشان فاضية
خطى خطوتين اتجاه الغرفة كي يأخذ الأسد ، لتهمس بلوع :
_ مكنتش اول مرة اشوفك فيها .
لم تقدر أذنيه على التقاط جملتها بشكل صحيح لذا التفت إليها متسائلًا بهدوء :
_ بتقولي اية ؟
تراجعت عن تصريحها بلقاءها الأول به ، واعتدلت بجلستها تلملم خصلات شعرها الغجرية إلى الأعلى ، قائلة بارتباك :
_ و لا حاجة ، كنت عايزك بس تطمن كنزي عليا
لمح تلك العلامة المميزة بعنقها ، لكنه لم يعلق عليها معتقدًا أنه وشم طبعته أثناء إقامتها مع عشيرتها ، وهو أكثر من ينفر من الوشوم ، ابتلع ملامحه المشمئزة من ذلك الوشم ، وتحدث بهدوء :
_ أكيد حمزة قالها
فتح باب الغرفة لتستمع إلى زئير الأسد بالداخل ، فانتفضت واقفة على الأريكة ملتصقة بالحائط خلفها ، وضربت البرودة جسدها بقوة حين ظهر ذلك الأسد إلى جوارها ، وضعت يدها على رأسها عندما شعرت بالدوار يداهمها بقوة ، تصرخ بارتعاب :
_ هياكلني اقسم بالله ، بيبص عليا
كبح ابتسامته بصعوبة عليها ، وجذب الأسد معه نحو الباب ، يتحدث بمزاح حتى يخفف من خوفها :
_ متخافيش دا معجب بس
فتح باب الشقة واخرج الأسد إلى الخارج لكنه ما زال يمسك بالحبل المقيد به ، ينظر نحوها قائلًا :
_ ساعة و هاجي ، متفتحيش الباب لحد انا معايا مفتاح
خرج غالقًا الباب خلفه ، لتنهار قدماها التي كانت كالهلال لا تقوى على حملها أكثر من ذلك ، فجلست على الأريكة منكمشة على نفسها تحاول السيطرة على ارتجافتها ، تخشى التحرك من محلها حتى لا تتفاجأ بحيوان آخر أكثر شراسة .
************************************
طرق حمزة باب منزل كنزي عدة مرات حتى فتحت هي يبدو عليها النعاس ، نظرت إليه بعين مفتوحة وأخرى مغلقة ، ثم التفتت تدخل المنزل تاركة الباب مفتوح دون حتى أن تطلب منه الدخول .
نظر بين الباب وبين الداخل قبل أن يخطو بهدوء إلى الداخل غالقًا الباب خلفه ، تقدم من غرفتها التي دخلت للتو تتسطح على الفراش من جديد ، ضرب كف بالآخر ، قائلًا بتهكم :
_ ملقط جامد انتي للحرامية ، اي حد يخبط تفتحي و تسبيله الباب مفتوح ينطلق في البيت
أخذت الوسادة تحتضنها تهمس بصوت ناعم :
_ عرفت انه انت ، دايخة و عايزة انام
أغلق باب الغرفة ، وتقدم من الفراش متسائلًا :
_ أمك فين ؟
_ عند خالتو
همست من جديد تحاول الاستغراق من جديد في النوم التي اصبحت تفضله دائمًا تلك الفترة ، فخلع نعليه وسترته ، وتسطح إلى جوارها على الفراش ، يضمها إليه محاوطًا خصرها بذراعه ، يهمس إليها بهدوء :
_ وحشني حضنك
لم تكن بحاجة إلى الحديث وشرح كم اشتاقت له لم يكن بداخلها طاقة للحديث ، لتلتفت بجسدها إليه تضم نفسها إلى صدره ، ترفع كفها تمرره على وجهه بحنو في إجابة صريحة منها لشعورها بالاشتياق أكثر منه .
تنهد بقوة يمرر يده على خصلات شعرها برفق ، يتحدث بهدوء :
_ كنزي ، انا عايزك ترجعي معايا البيت
دام الصمت ثوان قبل أن تهز رأسها موافقة ، ثم همست :
_ حاضر
قبل رأسها مرارًا وقد شعر بالسعادة كونها ستعود لتنير حياته من جديد ، ستملئ الفراغ التي احدثته خلفها عندما تركته مقررة الانفصال .
رفعت رأسها إليه لترى السعادة تزين عيناه اللامعة ، لتأخذ نفسًا عميقًا قبل أن تقول :
_ كنت عايزة اقولك حاجة مهمة
كادت أن تخبره بحملها لتتضاعف سعادته ، لكنه أغمض عيناه ، يزيد من ضمها إليه وكأنه سيدخلها بين أضلاعه لتستقر في أمان هناك ، قائلًا بنبرة بدت مرهقة :
_ مش وقته ، خليني انام شوية لاني منمتش من امبارح و مرهق جدًا .
أومأت إليه وقررت تأجيل الحديث بالأمر حتى يحين الموعد المناسب لاخباره ، أغمضت عينيها كي تغرق في النوم بعد عدة ثوان فقط ، تنعم في أمان ودفء زوجها التي حرمت نفسها منه لشهور .
************************************
وضع داوود الأسد بغرفة صغيرة على سطح المنزل ، تركتها عمته لتضع بها ما لا يلزمها ، واغلق الباب عليه جيدًا ، ثم مر على غرفة أخرى مجاور لها تخص شقيقته دهب ، شعر بالغصة تتشكل بحلقه وفتح الباب ببطء ليكشف عن غرفة مليئة بالألوان الزاهية ، ولوحات فنية متقنة منها المُعلق على الحائط ومنها المتراص على الأرض ، دلف إلى الداخل وأصوات متداخلة تتسارع داخل أذنه لضحكات و حديث مشترك بينه وبين شقيقته ، وشريط الذكريات يعيد عليه تلك الذكرى للمرة الألف يتذكر ما وقع على شقيقته بسبب والدهما الذي أجبرها قصرًا على الزواج من صديقه وهي لازالت فتاة بريئة تحلم بالمستقبل ، وحين رفض هو وإلياس تلك الزيجة عقد قرانها في عدم وجودهما مستغلًا سفرهما لأمر هام .
تدفق إلى ذهنه يوم زفافها ، وبكائها الذي يتردد بأذنه إلى يومنا هذا .
خرجت من السيارة بثوبها الأبيض تجره جرًا بعنف ، كأنه أشواك من نار تخترق جسدها لتنال من العذاب نصيب زائد ، التفتت إلى شقيقها داوود المقرب إليها أكثر من أي احد آخر ، وبدأت الدموع بالهبوط بغزارة من عينيها التي تشبه خاصة أخيها .
تمسكت بيده وصوت شهقاتها ترتفع أكثر ، تهمس بصوت متحشرج :
_ هتوحشني اوي يا داوود ، اوي و الله
أمسك برأسها يطبع قبلة حانية على جبهتها ، في محاولة صامتة لمواساتها رغم ما يعتمل داخل صدره من نيران تريد التهام ذلك الحقير زوجها الذي يتابعهما بأعين تنضح بالخبث ، ليضمها تلقائيًا بحماية إلى صدره قائلًا :
_ حقك عليا يا دهب ، مقدرتش احميكي .. بس و الله ما هسيبك و هخلصك من اللي وقعتي فيه
استمع إلى ضحكة ساخرة من فم رؤوف يتهكم على حديثه معها ، التفت وهم بالانقضاض عليه إلا أن منعته يد شقيقته التي جذبته إليه تمنعه من ذلك ، ثم مررت يدها على ذراعه تهمس :
_ روح انت يا حبيبي و متقلقش عليا
تجاهلت والدها ، وودعت إلياس ، ثم عادت تودعه مرة أخرى وتركته مغادرة مع زوجها إلى الأعلى حيث شقتها بالطابق الخامس ، كان قلبه ينبض بعنف قلقًا وخوفًا عليها ، لا تهون على قلبه أن يتركها ويغادر تواجه مصيرها بمفردها .
حاول أبيه أخذه والذهاب لكنه رفض أن يتزحزح من أمام البناية ، حينها طلب إلياس من والدهما أن يغادر إلى المنزل ، وسيظل هو إلى جوار داوود .
كلما مرت عليه الدقائق كلما شعر بالاختناق أكثر وكأن يدي رؤوف تخنقه دون سبيل للنجأة ، تنفس بقوة يجلب إلى رئتيه الهواء ، ثم وبلحظة متهورة كاد أن يصعد ليجلب شقيقته دون الالتفات إلى أمر أبيه ، لكن منعته هذا المرة يد إلياس يرجوه ألا يثير المشاكل ، ووسط الجدال بينه وبين شقيقه سمع صرخة عالية تخص شقيقته دهب واستقر جسدها أمام قدميه بالضبط ، ودمائها تنتشر أسفلها تبتلعها الأرض بظمأ ، تجمد جسده وانحسرت أنفاسه داخل صدره لم يصدق أن شقيقته قد لقت حتفها للتو أمام عينيه .
عند هذا النقطة ، وعاد من شروده على أختناق يكاد يزهق روحه ، تتسارع أنفاسه داخل صدره ، فخرج بخطى سريعة خارج الغرفة غالقًا الباب خلفه ، يهرب من تلك الذكرى المشئومة التي ستظل تطارده إلى أن يأخذ بثأر شقيقته ، جلس على الدرج المؤدي إلى الأسفل ، يقبض على كف يده بقوة ثم ضرب فخذيه بقسوة ، هامسًا من بين أسنانه :
_ وربي ما هسيبك يا رؤوف