رواية ترانيم في درب الهوى الفصل التاسع
رغم حالة النشوة الذي وصل لها سلطان، استدرك قلبه المفعم بالعاطفة قبل أن يُقدم على فعلٍ يجعله يندم. كانت مشاعره المتصارعة تعصف به، وكأن صوت عقله يهمس له بأن تغمره العواطف لن يؤدي إلا إلى الفوضى. ابتعد عنها سريعًا وجلس على حافة سريره، يلتقط أنفاسه بصعوبة في محاولة لتهدئة نفسه. أغلق عينيه بضيق، علامات الصراع واضحة على وجهه، وتحدث بصوت مختنق وحزين:
"روحي على اوضك يا ترنيم."
كانت كلماته كالرصاص تنفذ إلى قلبها، والشعور البرّيء بالحب تحول إلى سلاح يجرح.
اعتدلت ترنيم في جلستها، وبدت دموعها تسيل على خديها كالمطر الذي يسقط على زهور ذابلة، وهي تقول:
"أنا آسفة يا سلطان، أنت السبب اللي وصلتني أعمل كده. خوفي من أنك تبعد عني تاني وتسيبني، خلاني أفكر أسلمك نفسي، لأني متأكدة لو حصل بينا كده، مستحيل هتتخلى عني. أنا بحبك يا سلطان، ومستعدة أعمل أي حاجة علشان تفضل جنبي ومتسبنيش."
كانت كلماتها تحمل في طياتها هزة من الحزن والشغف، كأنها تسكب كل ما يجول في قلبها، إلا أن هذه الشجاعة لم تخفف من وطأة الموقف.
استشاط غضبًا، وضع يده على وجهه وكأنه يحاول إقناع نفسه بأن هذا الوضع غير مقبول:
"روحي على اوضك يا ترنيم، الصبح نبقى نتكلم."
كلماته كانت جافة وكأنها تحاول قطع الخيوط الرقيقة التي تربطهما، لكن قلبه وعقله كانا في صراع غير مكتمل.
نظرت له نظرة مطولة، تحمل الكثير من الاستفهامات، ثم استقامت بجسدها وتحركت باتجاه الباب، وقبل أن تخرج، سألت بشيء من القلق:
"هو أنا كده أبقى رخيصة يا سلطان؟"
كان صوتها خافتًا، واهتزازات صوتها تعبر عن مقدار الذعر الذي يعصف بها، وكأنها تخشى أن تفقد كل شيء.
انتبه لها بكل حواسه، استقام بجسده وتحرك نحوها، وقف أمامها وكوب وجهها بين يديه كما لو كان يحمل قطعة من قلبه، وقال بنبرة عاشقة:
"قطع لسان اللي يقول عليكي كده. أنتي ست الناس كلها وبنت قلبي، وعارف تربية سلطان إيه، فاهم دماغك وعارف انتي بتفكري إزاي. علشان كده مَطَوّعتش تفكيرك، يا ترنيم. أنتي ملكة تاج العفة والشرف متوج فوق راسك، وأنا اللي بأيدي لبسته ليكي. مينفعش أجي أشيله بأيدي دلوقتي حتى لو هموت على ده، أنا نفسي ده يحصل بينا أكتر منك، بس بالحلال، لأن ترنيم الدسوقي يليق عليها الأبيض، وهي زينة البنات وبشرفها، تبقى بس مراتي على سنة الله ورسوله، وهعمل معاكي كل حاجة بحلال ربنا."
كانت كلماته بمثابة تعويذة تأمنها من جميع المخاوف، وتعيد إليهما الأمل في غدٍ أفضل، مفعم بالمشاعر النقية والوعد بحياة قائمة على الاحترام والحب الحقيقي.
ارتمت داخل أحضانه، تمسكت به بقوة كأنها تجد في وجوده ملاذاً آمناً من كل مخاوفها والآلام التي مرت بها. كانت دموعها تتساقط كحبات المطر، بينما احتضنها برفق وبحنان، كأنه يحميها من كل شيء قد يسيء إليها. ربَت على ظهرها بحنو، وكلماته كانت كالعسل تنساب في أذنيها، فقال:
"شش، اهدي يا بنت قلبي. شيلي اللي حصل ده من دماغك، أنا وانتي ستر وغطا على بعض، وهتفضلي في عيني أشرف وأجمل بنت شوفتها، وهفضل محافظ عليكي لحد ما تبقي على ذمتي."
تكلمت من بين شهقاتها، تعبر عن الخوف الذي يملأ قلبها، قائلة:
"اوعى تسيبني يا سلطان، المرادي ولو ده حصل وسبتيني، هروح فيها بجد."
كان صوتها يرتجف، كأنها تخشى فقدانه، وكأن كل ما مر بها من مصاعب قد أغرقها في ظلام لا خروج منه دون وجوده. شعرت بشيء يضغط على صدرها، فبينما كانت تنهار، أحاط بها بحبه ودعمه.
قبل رأسها بحب، بلطف كأنها أغلى ما يملك، وقال:
"مقدرش أسيبك يا ترنيم، حاولت ومقدرتش. الحياة كانت وحشة أوي من غيرك. اطمني أنا عمري ما هبعد عنك حتى لو انتي اللي طلبتي مني ده."
كان صوته مليئًا بالعاطفة، وعده كان كتعويذة تمنحها الأمل والأمان في هذا العالم القاسي.
ابتعدت عن حضنه، نظرت له بعينيها اللامعتين وكأنها تبحث عن الحقيقة في عينيه، وقالت:
"بحبك يا سلطان وعمري ما هطلب منك البعد. هفضل ماسكة فيك لآخر يوم في عمري."
أزال دموعها عن وجهها بحذر، محاولاً أن يمحو كل أثر للألم، وقبل وجنتيها برفق وكأنها زهرة تتفتح تحت أشعة الشمس، وقال:
"أحلى وأجمل ماسكة في الدنيا، يلا قلب سلطان، روحي نامي، تصبحي على خير."
كانت كلماته تملأ الجو حولهم بالحنان، وكأنهم في عالم خاص بعيد عن كل الضغوطات والمشاكل.
ابتسمت له بحب عميق، ردت بنبرة مليئة بالحب والثقة:
"وأنت من أهله يا سلطان قلبي وزمانه."
كان صوتها مليئًا بالامتنان، كأنها كانت تدرك أنه هو النور الذي ينتشلها من حياة الظلام.
أنهت كلامها وخرجت تركض من عنده، وكأن قلبها يحثها على العودة بمجرد أن تبتعد. نظر إلى أثرها بحب وتنهد بقلق من فقدانها، كما لو أن غيابها يعيد ذكريات الألم إلى حياته. ثم عاد مرة أخرى إلى فراشه، يلملم مشاعره التي اجتاحته من قرب ترنيم له، بينما كانت همسات قلبه تخبره بأنه لن يسمح لنفسه أبدًا بفقدان هذه الفتاة التي أصبحت كل عالمه.
**************************
في صباح اليوم التالي...
خرجت سميه من غرفتها بوجه عابس، تعبث بخصلات شعرها وهي تجلس على الأريكة بجوار والدتها. كانت نظراتها تحمل الكثير من القلق الذي لم تستطع إخفاءه، وكأنها تحمل هموم العالم على عاتقها. نظرت إليها بقلق وسألت بتساءل:
"صباح الخير يا ماما، هي البت ترنيم فين؟ صحيت ملاقتهاش؟"
ردت عليها والدتها بأسف، مشيرة إلى عدم معرفتها:
"مش عارفه، بس شكلها كده رجعت اوضتها بليل واحنا نايمين."
أومأت سميه برأسها بتفهم، لكنها شعرت بقلق تجاه ما ينتظرها في يوم عمل جديد. كأن كل شيء في الحياة بات محاطًا بغيمة من الشكوك والمشاعر المتضاربة:
"ماشي، هروح أنا بقى الشغل."
نظرت لها والدتها باستغراب، متسائلة بلهجة مليئة بالحنان:
"مالك يا بنتي؟ بقالك كذا يوم مطفيه كده وحزينه."
تنهدت سميه بحزن، وحاولت كتم مشاعرها فتكلمت بصوت مختنق:
"مافيش، يا ماما... مخنوقه شوية بسبب الموضوع اللي اتكلم فيه سلطان امبارح."
ربتت والدتها على يدها بحنو وتحدثت بنبرة هادئة:
"معلش يا حبيبتي... طولي بالك شويه. حسام شاب كويس وخلوق وكل الحته بتحلف بأدبه. واخوكي قالك هيعرف مين السبب في اللي حصل ده وهيردلك اعتبارك. أهم حاجه تشوفي شغلك وخلي مصلحة الشركه قبل أي حاجه."
ابتسمت سميه لوالدتها بحب، وأومأت برأسها بتفهم:
"حاضر يا أجمل صبوحة في الدنيا! هروح أنا بقى علشان متأخرش، والبشمهندس حسام يلاقي حجة يتعصب عليها."
أنهت كلامها واستقامت بجسدها، قبلت رأس والدتها ثم انطلقت بسرعة نحو الباب. شعرت بشيء من الإلحاح الذي يدفعها للخروج، كأن هناك أمورًا غير محسومة تنتظرها في المكتب. هبطت السلم بسرعة، وعندما وصلت إلى السيارة، رأت حسام يتحرك أمامها لكنه لم يستحوذ على انتباها. صعدت السيارة تحت نظراته الغاضبة، وانطلقت بسرعة نحو الشركة، حيث كانت الأجواء مشحونة بالتوتر قُبيل بدء يوم العمل.
حرك حسام رأسه بضيق حين غادرت، ثم خرج من الحارة واستقل سيارة أجرة متجهاً إلى الشركة. كان ذهول مشاعره واضحًا، وكأن كل خطوة يخطوها كانت تحمل أعباء ثقيلة. بعد مرور بعض الوقت، صعد إلى مكتبه وطلب من السكرتيرة أن تبلغ سميه أن تحضر عنده. لم تمضِ ثوانٍ حتى جاءت سميه، نظرت له بضيق وقالت:
"أفندم!"
أخذ حسام نفسًا عميقًا ليهدئ من نفسه، لكن صوته كان مشحونًا بالتوتر:
"حضرتك فيه شغل بقاله اسبوع متأجل عندك. ممكن أفهم هستلمه امتى؟"
وضعت سميه الأوراق أمامه على سطح المكتب، قائله:
"اتفضل، الشغل اهو خالص بقاله يومين، بس حضرتك اللي مطلبتهوش."
ضغط حسام على أسنانه بنفاذ صبر، وعيناه تشعان بالغضب:
"يعني أنا بعته مع السكرتيره وقولتلها تقولك تخلصي بسرعه. وجايه بعد أسبوع تقوليلي خالص بقاله يومين وأنا اللي مطلبتهوش! قوليلي اعمل معاكي إيه؟ لما بتعصب عليكي بتفضلي تعيطي شبه الأطفال، ولما أسكت تسوء فيها."
نظرت سميه بعيدًا، وتحدثت بصوت مختنق:
"ولا ده ولا ده... ممكن حضرتك تطلب من سلطان يمشيني من الشركه أو ينقلني قسم تاني بعيد عنك."
نهض حسام من على مقعده واقترب منها، وتمتم بغضب:
"هو ده اللي عندك؟ أخرك يعني؟ فين العزيمة والإرادة علشان تنجحي؟ شغلك لازم تحبيه، لازم تتمسكي بيه وتديله كل اهتمامك. لازم تفهمي مفاتيح الشغلانه صح تكون هي رقم واحد في حياتك. لو عملتي كده هتنجحي وتحققي حلمك اللي قعدتي تدرسي فيه كام سنه من عمرك. علشان تبقي ناجحة في حياتك المهنيه، لازم تتقبلي النصيحة في الشغل حتى لو كانت قاسية."
نظرت سميه له بحزن، وكلماتها رُسمت على شفتيها بصعوبة:
"أنا دخلت الهندسة مش حبًا فيها، أنا دخلتها علشان أبقى زيك. بس لو كنت عارفة أن دي هتكون النتيجة، كنت دخلت أي كلية تانية."
تكلم حسام بنبرة جادة:
"وانتي لو عايزة تبقي زي، تقدري تعملي ده بسهولة. شوفي بعمل إيه واعملي زي، وأنا أوعدك في المستقبل هتبقى أحسن مني كمان."
نظرت سميه إلى الأرض، وظلت تبكي بصمت، كأن دموعها كانت تعبر عن كل مشاعرها المكبوتة، آمالها المكسورة، والضغط الذي شعرت به في أنها قد لا تحقق ما يرجوه منها الآخرون.
نظر إليها حسام، وتنهد بضيق، وخاطبها بصوت هادئ:
"أنسه سميه، أنا مش بتعامل معاكي كده علشان تكرهيني ولا تخدي مني موقف. أنا بعمل كده علشان عضمك ينشف ويكون عندك إدراك بالمسؤولية. لازم تفهمي أن الشغلانة دي مهمة، وأرواح ناس متعلقة في رقبتنا. لو مشتغلناش شغلنا صح، لقدر الله ممكن يقع المبنى وناس فيه ويخسروا حياتهم بسبب إهمالنا. فكري بإيجابية أكتر، وخلي عندك حماس، تعالي ننسى اللي فات، ونبدأ من جديد. أيدينا في أيد بعض نخلي الشركة دي في مكانة تانية و أكبر."
نظرت له بدموع في عينيها، وقالت:
"موافقة بس تغير طريقتك معايا، وبلاش عصبية على الفاضي والمليان. لو مفهمتش حاجة، فهمها ليا بهدوء. وكمان عايزة أعرف مين اللي ليه يد في اللي حصل في الورق."
ابتسم لها حسام، وخاطبها بنبرة هادئة:
"هحاول بس موعدكيش."
نظرت له بضيق ثم تجهلت نظره مرة أخرى، وكأنها لا تزال تبحث عن الأمان في كلمات تصدر عن قلبها.
تكلم حسام بنبرة جادة، حماسية:
"طيب، اتكلمنا بما فيه الكفاية، وضاع من وقت الشغل كتير. يلا نبدأ شغلنا بحماس وجدية. جاهزة؟"
أومأت سميه برأسها موافقة، وقالت:
"جاهزة."
أنهت كلامها وجلست على المقعد، وجلس حسام على مقعده خلف مكتبه، وبدأوا يتابعون العمل بجدية وحماس، فبدت الأجواء وكأنها تتجدد بشكل ما، وكأن الضوء بدأ يتسلل من جديد إلى مساحات أحلامهم المتربصة بين الملفات والأوراق.
*************************
استيقظ سلطان من نومه بإرهاق شديد، فقد ظل طيلة الليل أسيرًا لتلك اللحظة الذي كان بالقرب من ترنيم. كانت تلك اللحظة محاطة بأحاسيس مختلطة من الحب والقلق، حيث كانت فكرة حالة ترنيم الصحية تسيطر على تفكيره. زفر بضيق ونهض من فراشه متوجهًا إلى المرحاض، حيث أخذ حمامًا باردًا لعله يطفئ النار المشتعلة داخله؛ كان بحاجة إلى إشعال روح الطمأنينة من جديد. وبعد فترة قصيرة، خرج وهو يعتقد أن الماء البارد قد يساعده على التفكير بوضوح.
ارتدى ملابسه بعجلة، محاولاً تنظيم أفكاره والتخلص من شعور الضيق الذي اجتاحه. ثم خرج من غرفته ليجد والدته ووفاء يجلسان على الأريكة، يحتسين قدح القهوة ويتبادلاً الأحاديث. كان هناك شعور من الألفة والعزيمة في الجو. جلس بجوار والدته وقال:
"صباح الخير يا أما، صباح الخير يا فوفة."
ردوا عليه بحب وامتنان، وقالت وفاء، وهي تضع يدها على كتفه بحنان:
"ربنا يبارك فيك يا ابني، بفضلك بنتي رجعت للحياة من تاني، ده أنا كنت هموت من القلق عليها اليومين اللي فاتوا دول."
ابتسم لها وتحدث بنبرة عاشقة تعكس مدى تعلقه بترنيم:
"ترنيم دي روحي يا فوفة، ووجعها بحس بيه من قبل ما هي تحسه أصلاً."
ربتت صباح على قدمه، بعيون مليئة بالحب والرعاية، وقالت بنبرة حنونة:
"ربنا يسعدكم يا حبيبي ويجمعكم مع بعض على خير."
نظر حوله بتساؤل، والشعور بالقلق بدأ يتسلل إلى قلبه:
"هي فين صح؟"
أجابته وفاء بابتسامة، وكان في صوتها بصيص من الأمل:
"في أوضتها، بتجهز علشان تنزل الشغل من تاني."
أومأ برأسه بتفهم، ولكنه عرف أن تلك العودة للعمل قد تكون فرصة جيدة لكي تستعيد ترنيم عافيتها. ثم أضاف بعزم، محاولة منه لدعمها في كل خطوة:
"طيب قومي يا فوفة، اعملي ليها كام سندوتش وحطي ليها كوباية عصير وهاتيهم علشان أفطرها وأديها علاجها."
ثم استقام بجسده، وعزيمته تتزايد مع كل لحظة:
"هاتيهم على أوضتها، وأنا رايح ليها."
كان يتمنى أن يمنحها الشعور بالراحة والدعم التي تحتاجه، عازمًا على أن يكون بجوارها في هذا الوقت الحساس لتعزيز روابطهما وتعزيز الأمل في حياتهما المشتركة.
خرج من عندهم وتوجه إلى شقة وفاء، حيث كانت الأجواء هادئة، لكن قلبه كان يخفق بشدة. فتح الباب ودخل، متوجهًا نحو غرفة ترنيم، طرق على باب غرفتها، حيث سمع صوتها المنبعث من داخل الغرفة، تخبره بحماس:
"يا فوفة، خلصت والله، بسرح شعري وجاية."
فتح الباب برفق، ونظر إليها بحب عميق،
مما جعله يقول بنعومة:
"طيب، ينفع سلطان."
نظرت له بخجل، وعيناها زادت توترًا وكأنها تشعر بأن كل كلمة أو نظرة منه تقربها منه أكثر، فتوجهت عيناها إلى الأرض بشكل غير إرادي، وأطلت ببعض الخجل بينما كانت تدرك عمق العلاقة التي تجمعهما، فقالت بصوت خافت:
"س سلطان، خ خير؟"
انتبه إلى حالة خجلها، وعرف أنها تشعر بذلك بسبب الأحداث التي مروا بها بالأمس. اقترب منها بخطوات حانية، وقبل رأسها بحب مثلما يفعل المحب الذي يدرك الثمن الذي دفعه قلبه، متحدثًا بنبرة عاشقة حنون:
"مش قولنا ننسى اللي حصل امبارح."
أومات برأسها بخجل، وكانت تتحدث بصعوبة، كأن الكلمات تتعثر في قلبها قبل أن تخرج:
"أنا لحد دلوقتي مش عارفة عملت كده ازاي، ومكسوفة أوي من نفسي ومنك."
أمسك يدها بلطف، جالسًا بجوارها على السرير، حيث كان الجو مفعمًا بالحنان والمودة، وتحدث بنبرة هادئة وكأنما يريد أن يطمئنها:
"يا حبيبي، أنا وإنتي ستر وغطا على بعض. طيب، ما أنا ضعفت زيك، وعملت حاجات مكانش ينفع أعملها معاكي دلوقتي، أتكسف منك بقى؟ يا قلب سلطان، من جوه أي حاجة حصلت وهتحصل ما بينا إحنا الاتنين بس اللي مسؤولين عنها. ولو حد فينا غلط، التاني يكون الواعظ ليه، مش الجلاد. علشان كده، اللي حصل ده كانت لحظة عابرة مرينا بيها. و الحمد لله فؤقنا في الوقت المناسب. قبل ما نعمل حاجه نندم عليها بعدين، انسي، ووريني ضحكة بنوتي الجميلة الشقية."
نظرت له بحب، واكتست عيناها بعبارات مشبعة بالعاطفة، وقالت بنبرة عاشقة تتراقص على أنغام المشاعر العميقة:
"انت عارف يا سلطان، أنا بحبك بجنون."
وتابعت بصوت يخفي تحت طياته شجنًا عميقًا:
"لما بتكون بعيد عني، بحس نفسي مكتوم، مش قادرة أتنفس، ولما بشوفك، بحس أن روحي ردت فيا."
ثم أضافت بحماس:
"لو لقدر الله كنت بقيت من نصيب واحدة غيري، كان ممكن أقتلها وأبقى مجرمة بسببك، لأنك انت حقي، أنا وبس، بتاعي أنا، ومش مسموح لأي واحدة، مهما كانت، تقرب منك، يا سلطان قلبي وزمانه."
تعالت دقات قلبه برهبة، وخوف من فقدانها، كليهما كانا أمام تحدٍ كبير يتخطى حدود العلاقة التقليدية. كلماتها كسلاح ذو حدين، رغم العزلة التي تتولد عن تلك المشاعر، إلا أنه شعر بتهديد واضح لمستقبل قادم لا يعلم ماذا سيحدث به. تنحنح بتوتر، وحاول استجماع شجاعته في مواجهة ذلك الحريق الذي يشتعل في أعماقه، وقال بحزم:
"وأنا مقدرش أكون لحد غيرك يا بنت قلبي، وجودك في حياتي هو الأمان."
ارتمت داخل أحضانه وتمسكت به بقوة، وكأنما كانت تحاول سحب كل القوة والثقة منه لتستمد حمايتها. لم يكن هناك حاجة للكلمات أكثر من هذا؛ فالحب والاحترام المتبادل كان يجمعهما بشدة. وفي ذلك الوقت، فتحت وفاء الباب ورفعت عينيها بملل، وكأنها قد رأت المسلسل نفسه مئات المرات، وقالت بنفاد صبر:
"هو مافيش مرة أشوفكم فيها قاعدين محترمين شبه الناس ابداً؟ لازم تكون متعلقة فيك شبه القرد اللي متعلق في الشجرة. ربنا يسهل، علشان يتقفل عليكم باب واحد ونستريح من محنكم ده."
تعالت ضحكات سلطان، وكان يضحك من قلبه، ونظر لها، وقال بروح من الدعابة:
"فيه أية يا فوفة؟ ما قولتلك خلي مناخيرك في وشك وبلاش تحشريها في كل حاجة كده، انتي كنتي دخلتي ولاقتينا نايمين على السرير؟"
ردت عليه بتهكم، مع بريق من السخرية في عينيها:
"لا، دخلت ولقيتكم على سجادة الصلاة يا روح امك. أقول إيه، أختي معرفتش تربيك يا سلطان، ولا أنا ربيت بنتي أصلاً؟ اتفضل، خد الأكل اهو، وياريت تخلي الباب مفتوح، مش ناقصة قلة أدب في بيتي."
تكلم بمزاح وقح، وقال:
"خلاص، ولا تزعلي يا فوفة، هخدها أوضي، احنا عندنا بنقبل قلة الأدب عادي."
ألقت عليه وسادة الأريكة، بحركة خفيفة تشي عن مدى إيمانها بلعبة المزاح التي تظاهرا بها، وقالت بابتسامة:
"قليل الأدب ووقح يا ابن أختي!"
وخرجت من الغرفة وتركتهم، والضحكات الصادقة مرتسمه على وجههم. كانت تشعر بفرحة غامرة وهي ترى الألفة بين سلطان وترنيم.
تعالت ضحكات سلطان، ومعها ذكرى حلوة عن طفولتهما معًا، وقال:
"أقسم بالله فوفه دي حتة سكرة، علشان كده جايبة العسل ده كله."
ابتسمت له بحب، عيناها تتلألأ، وقالت:
"عارف يا سلطان، أنا عايزة أكلك أكل، أقسم بالله بعشقك أوي."
ابتسم لها بحب، وقبل وجنتها برقة، مما جعل قلبها ينبض بالسعادة، ثم نهض، أخذ الطعام وعاد به إليها. وقال:
"تاكلي أكلك ده كله وتشربي العصير ده علشان تخدي علاجك!"
نظرت له بتذمر طفولي، ملامحها تعبّر عن التحدي ، وقالت:
"بس أنا مش جعانة يا سلطان، خلاص هشرب كوباية العصير بس."
حرك رأسه بالرفض، وقال:
"تاكلي الأكل ده كله وتشربي العصير يا ترنيم، يلا خدي."
زفرت بضيق، وأخذته منه، وقالت:
"طيب، ساعدني فيهم كل معايا، علشان مش هقدر أكل كل ده والله."
أومأ برأسه بالموافقة، وبدأ يأكل معها، ضاحكًا بين القصص والتجارب التي يجمعهم الحب الصادق. وبعد فترة، انتهوا، وشربت العصير، واعطاها العلاج، ثم استقاموا بجسدهم وخرجوا سويًا، وهم ممسكون بيد بعض، كأنهم تغلبوا على كل الصعوبات.
تكلم سلطان بمزاح، وقال:
"تمت المهمة بنجاح يا فوفة، احنا ماشين."
أنهى كلامه بغمزة، جعلت فضولها يتزايد حول ما قصده، ليأخذ كلامه لطريق آخر يقصد به المزاح مع وفاء، وكأنهم يستعدون لمغامرة جديدة في حياتهم اليومية.
أمسكت الحذاء، وقذفتهم به بحركة مرحة، وقالت:
"يلا يا ولاد... منه له في قلة أدبكم، عيال."
تعالت ضحكات سلطان وترنيم كأنهما مغنيان في عرضٍ كوميدي، وخرجوا من الشقة يملؤهم الأمل والطاقة. هبطوا إلى الأسفل، حيث كان ضوء الشمس يترشح من النوافذ، يداعب وجوههم. انتهز سلطان الفرصة ليكون الرجل الشجاع والأب الحنون، ففتح الباب الأمامي لترنيم بلطف. جلست على المقعد، وعينيها تتلألأ بالحنين لمغامرة جديدة. بعد أن أغلق الباب، اتجه نحو الجانب الآخر من السيارة، وصعد أمام المقود.
نظرت له ترنيم بحب، وكأنها ترى فيه كل ما هو جميل في هذا العالم، ثم غمز لها بعينين تملؤهما الودّ، ما جعل قلبها ينبض بالفرح. بدأ بتحريك السيارة، وأدار العجلات نحو الطريق المؤدي إلى المشفى. كانت اللحظات مليئة بالضحكات والمزاح، ورغم وجهتهم الجادة، إلا أن في داخلهم شغف بالحياة وتأمل وتجدد.
*************************
وصلت ترنيم إلى المستشفى، حيث استقبلهم مدير المستشفى، الدكتور عصام، بوجه متجهم يعبّر عن قلقه وسخطه في آن واحد. كان قد انتظر عودتهم بفارغ الصبر، لكن اللوم الذي وجهه إلى سلطان بسبب انقطاع ترنيم عن العمل لم يكن ليمر مرور الكرام. بدت ترنيم متوترة، حيث تجمعت الأفكار في رأسها، وخصوصاً عندما نظر إليها الدكتور عصام بتمعن، وكأنما يسعى لاختراق روحها. بعد قليل من الوقت، خرجوا من مكتبه، ووقف سلطان أمامها بنبرة جادة، وجهه يعكس حيرة وغضب مختلط:
"ترنيم، أنا عمري ما قابلت حد يتكلم معايا بالطريقة دي زي الدكتور عصام. لكن استحملتها النهاردة علشان خاطرك، وإنك أنتي اللي غلطانة. بس لو بتحبيني بجد، متصغريش رقبتي تاني مع دكتور عصام."
أومأت رأسها بالطاعة، بينما كانت مشاعر مختلطة تجتاحها؛ الخوف والقلق من المستقبل. قالت:
"حاضر يا سلطان."
قبّل رأسها بحب، ثم قال:
"يلا يا قلب سلطان، من جوه روحي، شوفي شغلك. وأنا في ميعاد خروجك هتلاقيني مستني قدام المستشفى."
ابتسمت له بحب وعيناها تعكسان التفاؤل، ومن ثم قبلت وجنته بحنان، قبل أن تركض سريعاً من أمامه، مصرّة على إثبات كفاءتها.
تنهد سلطان بحب، واستمر في متابعة خطواتها حتى اختفت من أمام نظره. كانت تلك اللحظة قصيرة لكنها مشحونة بالعواطف. ثم تحرك إلى الخارج وصعد سيارته متوجهاً إلى الحارة، حيث كانت لديه أمور أخرى عليه أن يعتني بها، لكن تفكيره في ترنيم لم يفارقه.
بدلت ترنيم ملابسها بعجلة، حيث شعرت بحاجة ملحة لإثبات نفسها. خرجت من غرفة تبديل الملابس، متوجهة نحو استقبال الحالات بتصميم، عازمة على تجاوز التحديات. وأثناء دخولها، وجدت حالة من الهرج والمرج في المكان، حيث كانت سيارات فارهة تنتمي لعائلات مهمة في البلاد تقف في ساحة المستشفى، ورجال الإسعاف يتابعون شخصاً يحملوه إلى داخل المستشفى بينما يحيط بهم رجال أمن بدوا متوترين. اقترب منها أحد الرجال المفتولين العضلات، وتحدث بأمر دون تردد:
"أمشي معايا بسرعة."
نظرت له باستغراب، وكانت غير مقتنعة تماماً بالنبرة الاستبدادية في صوته. قالت بتساؤل:
"أمشي معاك فين؟ أنت أتجننت!"
ولكن، وكما توقعت، فقد تكلم معها بغضب شديد:
"هو إيه اللي تمشي معايا فين؟ أنتي مش دكتورة هنا؟ اتفضلي شوفي الحالة بتاعتنا بسرعة، الشخص ده محتاج إنقاذ فوري!"
نظرت له بضيق، في تلك اللحظة أحست بشيء من عدم الاحترام تجاه أسلوبه مع أنها كانت تفهم مدى الضغط الذي يعيشه. دفعته من أمامها بلطف، وتحركت تجاه الحالة، لتجد مصابًا بطلقات نارية في صدره، وذلك المشهد كان ينذر بالخطر وجعل قلبها ينقبض. تكلمت بغضب قائلة:
"ده لازم يدخل أوضة العمليات حالاً، المريض بيفقد حياته!"
وكان صوتها يدوي في أرجاء المستشفى، متجاوزًا كل عناصر الفوضى، مؤكدًا التزامها الكامل بعملها.
رد بغضب شديد، مشددًا على ضرورة التصرف بسرعة:
"ومستنية إيه؟ اخلصي بسرعة!"
تشنجت أعصابها، وابتلعت ريقها بصعوبة قبل أن تخطو خطوة إلى الوراء. استنكرت، قائلة بنبرة تمزج بين الإحباط والخوف:
"بس أنا لسه جديدة هنا، مبتدئة. هشوف أي دكتور جراح يجي يتابع الحالة."
كان قلبها ينبض بسرعة، كان شعور عدم الثقة يسيطر عليها، لكنها كانت تدرك أن الوقت لا يسير في صالحهم.
غادرت الغرفة، وركضت سريعاً في أروقة المستشفى التي كانت مزدحمة بالمرضى والزوار، تبحث عن أي طبيب جراح يمكنه إنقاذ الوضع. لكن، صدمها ما وجدته؛ لم يكن هناك أي منهم. تأففت ببطء، وحسرت نظرها لتتساءل:
"أزاي مستشفى كبيرة زي دي ومفيهاش أي دكتور جراح؟"
غصت في أفكار متضاربة، تتساءل عن مدى كفاءة المستشفى وقرارها بالانتقال إلى هنا.
نظرت لها الممرضه بتوتر، عابسة، قائلة:
"ها...ما كانوا هنا، روحوا لأنهم كانوا شغالين طول الليل."
جمدت في مكانها لحظة، شعرت بشيء غير مريح يتزايد في داخلها. لكن في ظل الظروف الحالية، لم يكن هناك وقت للتفكير، فبدأت تتجه نحو الخارج بعزم، وعادت مرة أخرى إليهم، قائلة بصوت يحمل نبرة الاعتذار:
"أنا آسفة، للأسف مفيش دكاترة جراحة موجودين في المستشفى دلوقتي، تقدروا تروحوا لمستشفى تانية."
كان هناك شعور بالإحباط يخيم على كلماتها، لكن الأمل لا يزال موجودًا.
لكن فجأة، لا حظت أن المسار قد توقف عند المصاب، وعاد قلبها ليتسارع بينما اقتربت منه سريعاً. بدأت تفحصه بكل تركيز، وعندما وجدته يفقد حياته، اجتاحها شعور بالحيرة والقلق. تحركت في الغرفة بتوتر، تفكر في إيجاد حل سريع، لكن الخيارات كانت محدودة. نظرت إلى الممرضات وجمعت شجاعتها وهي تأمر:
"حضروا أوضة العمليات."
كانت كلماتها مليئة بالعزم، لكنها سرعان ما تلاشت عندما نظرت إلى ردود الفعل المحيطة بها.
نظروا الممرضات لها بصدمة، وكأنهم يتحدون واقعهم، فقالت أحدهن بتردد:
"بس حضرتك مينفعش."
دفعها الحماس وحالة الطوارئ للتجاهل الموقف، لكن مع بدأ المصاب يرتعش بقوة، أصبح الأمر أشبه بكابوس حقيقي، مجرد دليل آخر على فقد حياته الذي يقترب بسرعة. نظرت له بصدمة وصرخت، وهي تشعر بضغط الوقت:
"افتحوا أوضة العمليات بسرعة على مسؤوليتي الشخصية، وخلوا دكتور التخدير يكون جاهز."
كانت إصرارها واضحًا، وبدت وكأنها تحارب الزمن.
أنهت كلامها وهي تنظر إلى المصاب بقلق شديد، دموع على وشك السقوط من عينيها، وبعد بعض الوقت، كان المريض ممدداً أمامها على السرير، وكأن الحياة تتلاشى من ملامحه. ابتلعت ريقها بصعوبة، وامسكت المشرط بيد مرتعشة، تفكر في كل ما قد يحدث إذا لم تتمكن من إنقاذه. في تلك اللحظة الحرجة، سمعت صوت الدكتور عصام الغاضب يقول لها، كما لو كان صدى لأفكارها:
"أنتي أتجننتي! بتعملي إيه هنا؟"
نظرت له بتوتر، وارتعشت شفتيها وهي تقول:
"يا دكتور، لازم نلحقه بسرعة. الوضع هنا خطير جدًا، ومافيش أي دكتور جراحة موجود في الوقت الحالي. كان لازم أتصرف وألحقه أنا."
اقترب منها بغضب شديد، وأخذ من يدها المشرط بقبضة حادة، قائلاً بنبرة سخرية:
"واحدة لسه مش بقالها غير كذا يوم شغالة في المستشفى، عايزة تعمل عملية خطيرة زي دي."
ردت عليه بضيق وحنق يملأ قلبها:
"على فكرة، يا دكتور، أنا متدربة على كل ده سنة بحالها، وعديت أكتر من دورة تدريبية بجد. بلاش تستقل بيا لدرجاتي، "
وفيما كانت تحاول إقناعه، بدأ الدكتور عصام يخرج الرصاصات من جسد المصاب، وهو يتكلم بغضب وارتباك:
"أنتي عارفة ده يبقى مين وابن مين؟ يعني أي غلطه هتحصل تأدي بحياته، هنروح كلنا وراه الشمس."
بدأت الأجهزة تعطي إنذارات تنبه لخطورة الحالة، واحتدم جو الغرفة بالتوتر. نظر إليها بصدمة بينما حالة المصاب كانت تتدهور أمام أعينهم، وبدأت يده ترتعش بقلق. نظرت ترنيم إليه بتحدي وسمعت صدى خطوات قلبها يزداد سرعتها، ثم بدأت تفحص المصاب بشكل دقيق، قائلة بغضب وعدم تهاون:
"نزيف داخلي يا دكتور، رشح على الكبد. لازم نوقف النزيف ده بسرعة."
بدأت ترنيم تقوم بالإجراءات اللازمة والمطلوبة على نحو محترف، وبالفعل استطاعت إيقاف النزيف قبل أن تتفاقم الأمور بشكل أكبر. تابع الدكتور عصام عمله بدقة، مستخدمًا كل خبراته حتى انتهى من إخراج باقي الطلقات النارية بعد مدة طويلة بدت كالعمر. نظر إلى ترنيم بإرهاق واضح على ملامحه، وقال بتنهيدة عميقة:
"قفلي أنتي بقى الحالة، الحمد لله عدت على خير."
أومأت ترنيم برأسها بالموافقة، وبدأت تنفذ أوامر الدكتور عصام بحماس، إذ كانت تشعر بشعور عارم من المسؤولية تجاه المصاب. وبعد وقت من الجهد المضني، نظرت إلى هذا الجسد الممدد أمامها وتساءلت بصوت خافت مليء بالأسى:
"يا ترى مين اللي بيكرهك أوي كده، وفرغ سلاحه كله فيك بالشكل ده؟"
خرجت من غرفة العمليات بإرهاق شديد، لكنها كانت تشعر بسعادة غامرة لأنها قامت بمثل هذا العمل الكبير اليوم. ابتسمت، وارتسمت على وجهها ابتسامة مفعمة بالتحدي، وتكلمت بنبرة هامسة، تحمل كلاً من الأمل والترقب:
"يا ترى لما تعرف اللي عملته النهاردة ده، يا سلطان، هتعمل إيه؟ أنا متحمسه اوي اشوف ردة فعلك"
وبدأت تتابع عملها مرة أخرى، متسلحة برغبة قوية في التغيير وإحداث فارق، مهما كانت التحديات التي ستواجهها في المستقبل.
**************************
وصل سلطان الحارة، ووجد نفسه غارقًا في شعور غريب يسري في المكان. اقترب أكثر من مكتبه، حيث كان كل شيء يبدو منكسرًا ومفتتًا، وحالة من الهرج والمرج تسيطر على الأجواء. تحولت نظراته إلى جمرات نار مشتعلة في عينيه، وتحدث بهدوء لكن بحذر:
"مين اللي اتجرأ وعمل كده في مكتب المعلم سلطان؟"
تحدث أحد رجاله بصوت مرتعش، وكانت آثار الخناقة الدموية بادية عليه، قائلاً:
"يا معلم، رجالة المعلم حافظ هجموا علينا بشكل مفاجئ بأسلحة، وكان عددهم كبير، وأخدونا على غفلة. عملوا كده في المكتب وفينا، وكانوا عايزين يهجموا على الحريم في بيتك، بس احنا قدرنا نمنعهم."
اندلقت الكلمات من فمه مثل سيل جارف، تعبر عن الخوف وتعبِّر عن الإحباط، حيث كان صوت الرصاص لا يزال يدوي في خلفية المشهد، وشعور الأخطار يلوح في الأفق.
أخرج صوتًا من حنجرته، يشير إلى غضبه المتزايد، وتحدث بصوت جهوري:
"ا** متخلقش لسه اللي يفكر يدخل حارة المعلم سلطان الدسوقي ويعمل كده فيها، ويفكر يهجم على حريمه. اجهزوا يا رجالة، احنا عندنا طالعه حالًا."
أنهى كلامه بدخول مكتبه، حيث أخرج عدة أسلحة نارية وجنزير حديدي يستخدمه في المعارك، بالإضافة إلى عدة أسلحة بيضاء وضعها حول جسده. خرج وهو يتحرك بغضب شديد، يلف الجنزير حول قبضة يده، وتابعه رجاله. وعندما وصل إلى هذه الحارة، وجد الرجال منتظرينهم في حالة من الترقب.
وقف سلطان بكل هيبة وغرور، ورفع صوته جهرًا:
"ده انت امك كانت داعية عليك في ليلة القدر علشان تقع في سكت المعلم سلطان الدسوقي يا حافظ."
لم تكن كلمات سلطان مجرد تهديد، بل كانت هي بمثابة دعوة إلى عاصفة رعدية تتجمع في السماء، جاهزة للانفجار في أي لحظة، مما جعل الحضور يشعرون بثقل الموقف وشدة التوتر الذي يسيطر عليهم.
رد المعلم حافظ بغرور وتحدث بنبرة متعالية:
"أسمي المعلم حافظ، يالا. ولو نسيت أنا مين، أسأل عليا في كل حارة، هيفكروك بيا. أنا اللي خليت أبوك يبوس رجلي ويترجاني قدام معلمين الحارات كلها."
تلك الكلمات لم تكن مجرد فخر، بل كانت تعبيرًا عن حقد دفين ورغبة في الانتقام من سلطان، وهو ما جعل الأجواء أكثر احتقانًا.
أخرج صوتًا من حنجرته وتحدث بهدوء حذر:
"علشان انت راجل خ**، استخدمت النسوان في الموضوع وعملت عملتك واستخبيت في بيتك زي الفار. بس وحياتك عندي، وما ليك عليا حلفان، كله متخزن هنا. كنت مأجل عقابك لبعدين، بس انت اللي لعبت في عداد عمرك واستعجلت."
كانت الكلمات توحي بأنه لم يكن هناك مخرج له، وكانت النهاية تقترب بخطوات سريعة، يكاد يتلمسها في الأفق، وقد قرر سلطان بالفعل جعل هذه الليلة نقطة تحول فاصلة.
أنهى حديثه بصفعة قوية من الجنزير الذي يحمله، وبدأت المعركة. وبالطبع كانت القوة لصالح سلطان، حيث كان يقاتل بغضب شديد وكأن ما حدث لولده يشغل شريطًا يدور في رأسه في هذه اللحظة. استخدم كل ما حوله لينهي هذه المعركة لصالحه، وأخرج سلاحًا أبيض حادًا ليضع علامات على وجه كل من يتعرض له. وفي النهاية، كانوا جميعًا ملقين على الأرض.
جلس على المقعد بشكل عكسي، حيث كان ظهر المقعد أمامه، وأرغم المعلم حافظ على الرقد أمام قدميه وقال بصوت جهوري:
"تليفوناتكم بقى وصوروا يا حارة كبيركم وهو بيبوس رجلي ويترجاني علشان أسيبه راجل، اصل أنا ناوي أعمله عملية تحويل وأخليه مرا."
كانت الكلمات تتردد في الأجواء كما لو كانت طلقات مدفع، وأصبحت حياة المعلم حافظ في كف عفريت، حيث رآه الجميع ضحية شجاعة سلطان ولا يمكن إنكار قوته وسلطته في تلك اللحظة.
تكلم المعلم حافظ بأنفاس متقطعة وبألم شديد، والدماء تتدفق من جميع أجزاء جسده:
"حقك عليا يا سيد المعلمين، بترجاك بلاش تعمل كده."
كانت تلك الكلمات عبارة عن استغاثة يائسة، وكأنها آخر أمل له، في سبيل تجنب مواجهة مصير مظلم كان يطارده بلا هوادة.
أخرج صوتًا مرتفعًا من حنجرته هز به أرجاء الحارة، وقال:
"ا** هو أنا لسه عملت حاجة؟ اِهدا يا معلم، احنا لسه بنقول 'يا هادي'."
ثم أخرج عدة أسلحة بيضاء حادة، وتحدث بتساؤل:
"تحب أقطع بأنه واحد فيهم؟ أصل أنا معلم ديمقراطي، بحب أخد رأي الخواجات اللي زيك."
كانت تلك النبرة تتحدث عن سادية قاتلة، مما جعل الحاضرين يشعرون بالخوف والارتباك في آن واحد.
قبل يده بشفاه مرتعشة، وقال:
"أبوس إيدك يا سيد المعلمين، متعملش كده. اطلب اللي انت عايزه، وأنا هنفذه حالًا."
توسلاته كانت تمزق القلب، ولم تتجاوز حدود الخوف والذل، حيث بدا في تلك اللحظة كأنه فقد كل شيء، بل وكأن الحياة أصبحت سجنًا لا يطاق.
تكلم بصوت جهوري، وقال:
"أي مرا من الواقفين يتفرجوا دول، يبعتوا قميص نوم أحمر وبترتر. أصل مزاجي عالي أوي النهاردة."
كانت المفاجأة قد غمرت الجميع، فالكلمات كانت تعبر عن مستوى غير مسبوق من الوحشية والإهانة، وأثارت حفيظة النساء الحاضرات ودفعتهن للتراجع في صمت.
نظر له بعدم فهم وتحدث بصوت مرتعش:
"ا ا نت ناوي على أيه يا معلم سلطان؟"
سؤال كان بمثابة صرخة استغاثة، حيث بدأ الرعب يتسلل إلى روح المعلم حافظ، ويشعر بنذر الخوف من مصيره.
أعطى إشارة لأحد رجاله يذهب لأحد النساء ويحضر منها ما يريد. وفي ثوان معدودة، أمسك بيده قميص نوم باللون الأحمر، قائلاً:
"ألبس يا معلم حافظ، ده أنت هتبقى طلقة في القميص الأحمر ده."
ضحكة مجلجلة ملأت الهواء، وكأن الأقدار عقدت حلفاً مع الشيطان في تلك اللحظة.
نظر إليه بتوسل، وقال:
"أبوس رجلك، بلاش مراتي وولادي واقفين بيتفرجوا عليا."
كان يتوسل كما يتوسل العبد لسيده، حيث بدت تلك اللحظة أسوأ من كل اللحظات السيئة التي مر بها في حياته.
ضغط على أسنانه بغضب، وتحدث بسباب وقح:
"ا** وانت يا ابن ال***، لما هجمت على الحارة وكنت ناوي تهجم على حريمي، مفكرتش في شكلك قدام مراتك وأولادك ليه؟ هتلبس ولا أقطع وتبقى زيك زيها؟"
تلك اللحظة كانت زلزالًا عنيفًا في حياة كلاهما، حيث أظهرت عمق الصراع بين الشرف والذل، بين الرجل والمغتصب.
حرك يده المرتعشة وأخذ منه القميص وارتدى فوق ملابسه بخجل، مُديرًا نظره نحو زوجته وأبنائه.
كانت لحظة مؤلمة، تجرؤه على ارتداء ذلك القميص تعني أن الذل قد تغلغل إلى عظامه، وأنه لم يعد يملك حتى شجاعة الرفض.
حرك سلطان رأسه بالرفض، وقال:
"لا، مش حلو ألبسه على اللحم. يعني ملط."
كان موقفًا قاسيًا يعبر عن سادية واضحة، مما جعل المعركة بين الشرف والخزي قد وصلت إلى نقطة الحسم.
انهمرت دموعه بغزارة، وتوسل قائلاً:
"أبوس إيدك يا معلم سلطان، كفاية."
تلك الكلمات كانت تتمتع برشفة من اليأس، وشعور غامر بأن كل شيء قد انتهى، وأصبح يواجه المحنة بمفرده.
تكلم بملل، وقال:
"شكلك ناوي تتعبني."
ولم يكن سلطان يرحم، فكان كما لو أنه آلى على نفسه أن يجرد هذا الرجل من كل شيء يجعل له مقدرة على الاستمرار.
ثم أعطى إشارة للرجاله قائلاً:
"كتفوا علشان أقطع."
كانت الكلمات تحمل تهديدًا صريحًا، مما جعل الأجواء أكثر ظلامًا.
حرك رأسه بالرفض، وتحدث بصوت مهزوم:
"لا، لا، خلاص يا معلم."
تلك الكلمات كانت تهليل استسلام، وكأن المعلم حافظ قد قبل بمصيره، وأصبح غارقًا في هاوية لا يعرف كيف يخرج منها.
وبدأ ينزع ملابسه أمام جميع من في الحارة، حتى نزع كل ما عليه ثم ارتدى هذا القميص.
لكنه كان يعرف أن هذه اللحظة لن تُنسى، وأن الذل الذي تعرض له سيظل عالقًا في ذاكرته كأشد عمليات الإهانة التي مر بها في حياته.
نظر سلطان إليه وتحدث باحتقار:
"ده اللي خايف عليه؟ أنا عندي كنت سيبته أقطعه أحسن. ده زي قلته."
أنهى كلامه واستقام بجسده وتحرك من أمامه، وقال:
"ليلة سعيدة يا حفظة."
وعند انتهاء تلك الكلمات، كانت العواقب الإجرامية واضحة، وكل ذلك نتج عن صراع دموي لا نهاية له، صراع يبدأ بحلم وينتهي بكابوس يأكل الأحلام.
لكنه سمع صوت طلقة نارية. ابتسم بانتصار لأنه علم أين مأواها. لقد فعلها المعلم حافظ برأسه ليغادر الحياة. تحرك دون النظر خلفه، وعاد إلى الحارة برأس مرفوعة، مع احتفال أهالي الحارة بهذا الانتصار. يشعرون بالأمان بعد صباحيه احدث لهم الذعر من هجوم حافظ ورجاله بالحارة ليصبح سلطان هو امنهم ومأوهم