رواية الراتل ( جميع فصول الرواية كاملة ) بقلم اسماء ايهاب


 رواية الراتل الفصل الاول بقلم اسماء ايهاب


تعالى رنين خلخالها مع كل خطوة تخطوها بدلال ، لا يليق إلا بتلك الغجرية الحسناء ، دندنت أغنيتها المفضلة بنعومة ،فانسجمت أنغامها الهادئة مع وقع الخلخال ، كأنها ترقص على موسيقى لا يسمعها سواها . اشتد نسيم الهواء كلما اقتربت من وجهتها ، ليداعب بشرتها الحنطية ، و تطايرت خصلات شعرها السمراء الغجرية الطويلة ، كاشفة عن علامة مميزة على جانب رقبتها تشبه "الجُلنار" زهرة الرمان بلونها الأحمر .
ذلك المكان الخالي ، ملاذها السري ،الذي اعتادت ارتياده لإحياء ذكرى ما زالت تنبض في وجدانها رغم مرور عامٍ كامل ... ذكرى لم تغادر خيالها قط ، تلاحقها كظلها ، كلما اختلت بنفسها . 
اتسعت بسمتها الفريدة على ثغرها المطلي باللون الأحمر الداكن ، حين لاحت الذكرى القديمة أمامها كأنها مشهد مصور على شاشة خيالها الحالم .
و لكن تلاشت ابتسامتها ببطء ، حين اخترق سكون المكان صوت تأوه متألم ، ضعيف ، كأن صاحبه ينازع الموت .
مدت يدها ترفع طرف تنورتها الطويلة المزينة بالألوان الزاهية ، لتتمكن من الركض فوق الرمال ، تبحث بقلق عن مصدر ذلك الصوت .
شهقت بفزع حين وقعت عيناها السوداء الواسعة على فتاة شابة ملقاة على الأرض ، و قد اغرقت دماؤها الرمال من تحتها ، أسرعت نحوها و قلبها ينبض بعنف في صدرها، يملؤه الخوف . زاد قلقها حين أدركت أن تلك الفتاة هي "نورا" ، التي لم يتجاوز عمرها الرابعة عشر بعد ، تقدمت و جلست بجانبها ، تجولت عيناها فوق جسد الفتاة بحثًا عن مصدر الألم ، لكن اشتد فزعها و تراجعت بظهرها إلى الخلف حتى كادت تسقط ، ترى أثر الاعتداء واضحًا عليها ، يظهر في ملابسها الممزقة ودمائها النازفة ، كما كان رأسها مصابًا بجُرح غائر .
مدت يدها المرتجفة والباردة نحو وجه "نورا" محاولة لفت انتباهها إلى وجودها بجانبها ، فتحت نورا عينيها اللوزيتين ببطء وضعف ، و حين أدركت وجود أحدهن انفجرت في بكاء مرير ، طالبة منها المساعدة بصوت خافت يخرج بصعوبة ، كأنها تلتقط أنفاسها الأخيرة :
_ ساعديني يا "رحيل" ... أنا هموت .

تساقطت عبرات "رحيل" بقلة حيلة ، تلملم بقايا ملابسها على جسدها الشبه عاري ، ثم قالت متسائلة :
_ مين عمل فيكي كدا ؟ قولي يا نورا ، متخافيش .

صمتت هنيهة تحاول التقاط أنفاسها المسلوبة ، لكنها لم تقدر على الصمود أكثر أمام ألمها المبرح ، و كان ما استطاعت نطقه :
_ سعدون ، ابن الريس عمران .

شهقت "رحيل" بقوة ، و تهاوى جسدها إلى الخلف تسقط على الرمال بعنف ، لم تصدق أذنيها ما سمعت للتو "سعدون" الذي تقدم لخطبتها وأجبرتها والدتها عليه ،لم يكن إلا متعديًا ... و على من اعتدى ؟ على طفلة صغيرة !! .
جمعت قواها محاولة تمالك نفسها ، و استندت بيدها على الرمال الساخنة التي تلسع كفوفها ، مصممة على إنفاذ الصغيرة .
ركضت بخطى سريعة نحو عشيرتها ، تطلب المساعدة من أحدهم . و بالفعل ، وجدت شابًا يساعدها في نقل الصغيرة إلى منزلها ، حتى تتمكن من علاجها بنفسها .
عندما عادت إليها مجددًا برفقة الشاب، وجدتها هادئة لا يصدر عنها صوت ، وعيناها مغلقتان . انحنت سريعًا لتجس نبضها ، لكن دقات قلب الصغيرة توقفت ، و كانت قد فارقت الحياة .
نفت رحيل برأسها مرات متتالية، ترجو أن تكون قد أخطأت ، و دموعها تنهمر بكاءً مريرًا على مصير فتاة صغيرة وقعت ضحية لخسيس لا يعرف الرحمة .
حمل الشاب "نورا" بين ذراعيه، ينقلها إلى منزل والديها، يعلو وجهه مزيج بين الحزن والأسى .
حين وصلت "رحيل" إلى عشيرتها، تجمع الجميع حولهما في فضول وقلق لمعرفة ما حدث للصغيرة ، و لم تلبث إلا قليلًا حتى وصل أهل "نورا" مستقبلين إياها بالصراخ والعويل حزنًا عليها .
تفاقم الغضب داخل "رحيل" التي لم تعد تتحمل ما يحدث ، ليرتفع صوتها بين الجميع لتفضح ما حدث :
_ سعدون اعتدى على نورا ، هي قالتلي قبل ما تموت .

تعالت الهمهمات والشهقات المذهولة من أهل العشيرة ، بعضهم صدق حديثها ، بينما اتهمها آخرون بالكذب ، معتبرين أن سعدون ، إبن كبير الغجر ، لا يمكن أن يرتكب فعلًا مشينًا أبدًا ، ازداد غضبها وكادت أن تصرخ بهم من جديد تؤكد على صدقها إلا أن هناك يد غليظة فُرضت فجأة على فمها تكتم حديثها نهائيًا ، التفتت بذعر ترى من الفاعل ، لتجد والدتها تحدق بها بنظرات غاضبة ، ثم أمسكت بذراعها تجذبها معها بحدة نحو البيت ، و حين حاولت رحيل إعادة الحديث مجددًا ، قاطعتها والدتها توبخها بقسوة :
_ اخرسي ! انتي ناسية ان اللي بتتكلمي عليه يعتبر جوزك 

_ لا ، لا يمكن يحصل أبدًا و لو على موتي !

صرخت بها "رحيل" تحاول التملص من قبضة والدتها المحكمة على ذراعها ، لتجذبها والدتها بقوة أكبر تسرع في خطاها ، تهتف بغضب :
_ انتي عارفة انك مش هتتجوزي غير غجري ، متعشيش الأحلام كتير 

اطبقت رحيل شفتيها ولم تجادل مجددًا ، فقد أدركت مقصد والدتها من جملتها الأخيرة ، التي تحمل بين طياتها تهكمًا مريرًا على أحلامها الوردية ، و على رجل تلك الأحلام الوسيم الذي يراود أحلامها كل ليلة ، بعيدًا عن هذا الواقع القاسي .
توقفتا أمام بيت بسيط ، و ما أن وصلتا حتى افلتت الأم ذراع "رحيل" بقسوة ، ترفع سبابتها أمام وجه ابنتها ، تتحدث من بين أسنانها المطبقة بأنفعال شديد :
_ بكرا جوازك من سعدون و على الله اسمع نفسك تاني 

دلفت والدتها إلى الداخل ، و تركتها في صدمتها تنهمر دموعها حزنًا على ما تواجهه الآن ، زواجها من أحد أشباه الرجال ، و مكانها المفضل الذي تلطخ بدماء الصغيرة وأصبح ذكرى بشعة لن تنزاح عن ذاكرتها أبدًا .

***********************************
برواق طويل مضاءٍ يغلب عليه اللون الرمادي ، يقف شابان أمام باب خشبي مغلق ، يتبادلان النظرات المرتابة فيما بينهما خوفًا من خيانة أحدهما لالآخر ، و يدفعه داخل قفص الوحش القابع خلف الباب .
تقدم "عزيز" يضع أذنه على الباب يصنت إلى أي صوت قد يصدر من الداخل في ترقب بادٍ على ملامح وجهه، و لكن قطعه "حمزة" حين دفعه بكتفه حتى يعتدل ، قائلًا بغيظ يقطب ما بين حاجبيه الكثيفين :
_ ما تدخل بقى بقالنا ساعة على الباب !

تراجع "عزيز" خطوة إلى الخلف ، يضع يده على جانب وجهه المخبئ تحت لاصقة طبية سوداء كبيرة ، ثم تحدث بغضب :
_ طب ما تدخل أنت قوله أن الراجل وصل

ابتلع "حمزة" ريقه بارتباك ، و بدأ العرق يتفصد على جبينه ، قائلًا بصوت خافت يكاد لا يُسمع :
_ دا أنا بخاف أدخله و هو لوحده ، أدخل و هو معاه أسد ، أنت عبيط ؟

طال الجدال بينهما و كلًا منهما يحاول تفادي مواجهة ما ينتظره بالداخل ، فجأة ، ارتفع صوت خطوات ثقيلة تدق الأرض بإيقاع صارم يوحي بالشموخ والثقة .
التفتا إلى مصدر الصوت سريعّا لعل هناك من ينقذهما من هذا الموقف ، ظهر "إلياس" بخطى سريعة واثقة ، شعر الأشقر يتلألأ تحت الإضاءة ، و بشرته الفاتحة وعيناه الخضراوين الافتتان تجذب الإنتباه ، و رغم ملامحه الناعمة إلا أن الحدة والجدية المرسومة على وجهه تفرض إحترامًا يخيم على المكان ، وقف خلفهما ، و الضيق يظهر على ملامحه ، ثم نهرهما بحدة :
_ كل دا و لسة مبلغتوش "داوود" بوجود "فايز" 

ارتبك "حمزة" و تراجع إلى الخلف يفسح له المجال أمام الباب ، قائلًا بهدوء :
_ اخوك جايب الأسد معاه الشركة محدش عارف يدخله 

عقد "إلياس" ما بين حاجبيه بتعجب واضح عند سماعه بوجود أسد ابيهما "ضرغام" ، الإرث الثقيل الذي ورثه "داوود" من بعد وفاة والده ، و سأل بحيرة يراقب رد فعل إبن عمه :
_ و اية اللي خلاه يجيبه معاه ؟

رد حمزة بضيق :
_ معرفش ، دا في تلت موظفات أغمى عليهم لما شافوه

تنهد " إلياس" بعمق ، وأومأ إليهما ملوحًا بيده في إشارة واضحة للمغادرة ، و كأنها تعني لهما إشارة النجأة حين أسرع كلًا منهما بالانصراف إلى عمله .
و طرق الباب مرتين قبل أن يدلف بهدوء إلى الداخل ، حيث كان شقيقه يجلس على الأريكة والأسد الموضوع بجانبه يضفي على المشهد هالة مهيبة ، أغلق الباب خلفه متقدمًا نحو "داوود" ، متسائلًا :
_ جبت ضرغام معاك لية ؟

ابتسم "داوود" بمكر يزين نظراته الحادة ، و مرر يده على فرو الأسد بحنو غريب ، مجيبًا بصوته الخشن المميز :
_ عنده طالعة النهاردة 

زادت جملة "داوود" من حيرة شقيقه الأكبر ، الذي سأل بفضول عن السبب الحقيقي لوجود الأسد . حدق "داوود" بعينيه السودواين اللتين تعكسان التناقض الواضح بينه وبين "إلياس" .
فبرغم الملامح الأوروبية الواضحة لـ "إلياس" كان "داوود" على النقيض تمامًا ؛ بشرته خمرية و شعره الأسود الفاحم ، لكن المشترك بينهما حدة الملامح و شراستها ، و هذا يرجع إلى أن والدة "إلياس" أوكرانية الجنسية ، بينما "داوود" من أم مصرية .
وقف داوود عن الأريكة ليظهر طوله الفارع الذي يتجاوز شقيقه ببضع سنتيمترات ، ثم قال بهدوء :
_ لو فايز وصل دخله

سأل إلياس بنبرة حادة :
_ هو فايز اللي بلغ ؟

أومأ إليه داوود وتحرك اتجاه المكتب يجلس عليه و تبعه الأسد حتى توقف إلى جواره ، و حين لاحظ داوود ملامح الغضب على وجه أخيه ، قال بتحذير :
_ متعملش أنت حاجة يا إلياس انا لسة محتاجه معانا 

التفت إلياس ليخرج من غرفة المكتب إلا أن اوقفه صوت شقيقه متحدثًا :
_ الشحنة الجديدة هتتسلم النهاردة بليل ، في الفيوم 

كان ذلك إرثًا آخر خلفه والدهما قبل رحيله ، يؤرق حياتهما و يزج بهما في مأزق لا مخرج منه إلا بثمن فادح ... أرواحهما ، ترك والدهما "تجارة السلاح" عائق في طريقهما ، و عبء كبير فوق أكتافهما .
أقترب إلياس منه يهتف بانزعاج مشيرًا نحو صدر الآخر يذكره بإصابته السابقة :
_ تاني الفيوم ! ما شوفت آخر مرة اية اللي حصل ؟

وضع داوود يده على صدره يتذكر حين أطلق عليه النار غدرًا ، و أصيب أصابة بالغة بصدره ، تنهد بقوة مشيرًا إلى أخيه أن يهدأ ، قائلًا بهدوء :
_ متقلقش ، واخد احتياطي ، يلا اطلع و دخلي فايز 

خرج إلياس من الغرفة ، و بعد دقيقتين فقط طُرق الباب مرة أخرى ، دلف إلى الداخل المدعو "فايز" يظهر على ملامحه الباهتة التوتر الشديد سرعان ما تحول إلى ذعر حين لمح الأسد يقف جوار صاحبه ، كاد أن يخرج من جديد إلا أن منعه صوت "داوود" القوي الذي أمره أن ياتي ليجلس أمامه ، تحرك الآخر 
بخطوات مترددة حتى وصل إلى المقعد الذي جلس عليه بخوف شديد يرجف له بدنه بالكامل ، و ازداد رعبه و ارتجافته حين صدر صوت زمجرة الأسد بقوة كاد قلبه أن يتوقف ، أعاد داوود ظهره إلى الخلف يتكأ على المقعد ، و قال بنبرته الماكرة :
_ متخافش ، ضرغام مبيقربش من حد غير بأمري 

ذلك لم يبعث الطمأنينة في نفس "فايز" بل زاد ارتباكه خاصةً بعد نظرات داوود له المليئة بالتوعد ، ساد الصمت للحظات قبل أن يقطعه داوود متسائلًا بهدوء :
_أنت عارف اللي يخون "الراتل" بيعملوا فيه اية يا فايز ؟

ابتلع فايز ريقه بصعوبة وصوت مسموع ، و رسم ابتسامة مرتجفة على ثغره ، قائلًا :
_ و مين يقدر يخونكم يا داوود باشا

وقف داوود عن مقعده وتوجه نحو الثلاجة الصغيرة في أقصى الغرفة ، و أخرج منها قطعة لحم نيئة ضخمة ، حين رأها الأسد على صوت زئيره بشراسة ، جعلت من فايز ينتفض بارتعاب يكاد يفقد وعيه تمامًا ، تقدم داوود منه بهدوء ويتبعه الأسد بلهفة لالتهام طعامه ، فجأة ، ألقي داوود قطعة اللحم على فخذ فايز ، ثم تحدث بجمود :
_ تخيل أن في ناس بتقدر و مبتبقاش خايفة من العواقب 

ارتفعت صرخات فايز بخوف ، حين أشار داوود إلى الأسد أن يتقدم ليأخذ وجبته ، ثم تحدث بحدة :
_ انت عارف طبعًا اية العواقب يا فايز مش كدا 

أصبح الأسد جوار فايز يحاول التقاط قطعة اللحم ، ليصرخ الآخر بقوة متوسلًا له أن يبعد هذا الوحش عنه :
_ حقك عليا يا داوود باشا ، غلطة و مش هتتكرر تاني 

عقد داوود ذراعيه أمام صدره ، يراقب بهدوء شديد ما يتعرض له فايز الذي يقاوم بضراوة ، صارخًا برجاء :
_ لو اتكررت اعمل فيا اللي انت عايزه بس ابعده عني

تركه داوود دقيقتين يتوسل و يرجو ، يتأمل في ملامحه المزعورة وصوته المبحوح ، حتى تحرك أخيرًا ليُبعد الأسد الذي انشغل بعض قطعة اللحم بين انيابه الحادة . ثم باغته بركلة قوية في ساقه، و هو يهدر بغضب حاد :
_ فكر مليون مرة قبل ما تلعب معايا .. انت و أي حد يقرب من الراتل 

كان ذلك التحذير الأخير بمثابة إنذار قاطع لكل من تسول له نفسه الأقتراب من عصبة "الراتل" ؛ العصبة التي أسسها داوود منذ أن تركه والده يتخبط بين نيران أخطر رجال هذا العالم .
لكن أثبت هو ورجاله أنهم الأجرأ ، و الأقوى ، و الأذكى ، حتى لُقبوا بـ"الراتل"نسبة إلى أشرس كائن بري لا يهاب شيئًا ، رغم صغر حجمه لكنه لا يهرب من أي خطر بل يواجه بشراسة تفوق أضعاف حجمه .

************************************
صف "حمزة" سيارته الحمراء أمام أحد مراكز التجميل الفاخرة التي تحمل أسم زوجته المتمردة . ترجل من السيارة بهدوء ، و تقدم نحو الواجهة الزجاجية التي انعكست عليها صورته ، فبدأ يُرتب هيئته وخصلات شعره البنية المجعدة ، كأنه يحاول إخفاء ما يشعر به من قلق .
كان يعلم أن لقاءها لن يكون سهلًا ، فقد تغير كل شيء بينهما منذ أن علمت بتجارته للسلاح ، لم تر فيه بعد ذلك سوى بائع للموت مغلف بالحديد والبارود ، و كان تهديدها صريح بالطلاق إن لم يبتعد عن هذا الطريق الشائك .
منذ ان غادرت منزله وانفصلت عنه ، فشلت كل محاولته في استعادتها ، و إقناعها بالبقاء إلى جواره ، رغم الحب الذي لا يزال يتشبث داخل أعماقها إلا أنها رفضت رفضًا قاطع .
فتح الباب وتحرك إلى الداخل بخطى واثقة ، ينقب بعينيه المشتاقتين عنها وسط المكان ، غير آبه بنظرات السيدات التي اخترقته بنفور واضح من تصرفه الغير لائق في الدخول بشكل مفاجئ دون استئذان .
حتى وجدها تتقدم نحوه بخطوات سريعة ، يشتعل في عينيها العسليتين غضب لم يُطفأ بعد ، بشرتها البيضاء كانت مشبعة بالحُمرة ، لا بفعل مستحضرات التجميل ، بل من شدة الغيظ الذي تملكها منها فور رؤيته ، و حين وقفت أمامه ، أمسكت بذراعه فجذبته بقوة نحو مكتبها ، تهمس بغضب مكتوم بين أسنانها :
_ انت اية اللي جابك ؟ و ازاي تدخل كدا على الزباين ؟!

ما أن انهت جملتها حتى دفعته داخل الغرفة تغلق الباب خلفها بعنف ، عقدت ذراعيها أمام صدرها تنتظر منه تبرير لفعلته ، لكنه لم يتراجع بل اقترب منها حتى حاصرها بينه وبين باب الغرفة ، ثم همس بصدق يقطر شوقًا :
_ وحشتيني يا كنوزة 

تنهد بعمق ، يمرر يده على خصلات شعرها المصبوغة بالبرتقالي ، عيناه البنيتان تلتهمان ملامحها الحسناء بنظرات متلهفة :
_ عايزك جنبي و معايا ، عايزك ترجعي بيتنا

كادت ان تنجرف معه في دوامة عشقه لها التي تعلمه جيدًا ، فهي أيضًا اشتاقت .. ربما اكثر منه ، لكنها لم تستطع أن تكون شريكة في طريق مليئ بالموت و الدماء . لذلك ، نفضت يده عنها بقسوة ، و ابتعدت عن الباب تواليه ظهرها ، قائلة بحدة :
_ انت عارف كويس اية اللي يخليني ارجع معاك يا حمزة 

أقترب منها حمزة من جديد ، يهتف بضيق يشرح لها الأمر ككل مرة :
_ و قولتلك مينفعش ، على الأقل دلوقتي يا كنزي لازم تقدري اني في ورطة وقعني فيها ابويا و عمي 

تنهد بقوة قبل أن يمسك بذراعها يجعلها تلتفت لتواجهه ، يحيط وجهها بين راحتي يده ، يهمس بهدوء :
_ أنا مش هقدر اعدي المرحلة دي من غيرك ، البيت ملوش روح من غيرك يا كنوزة 

لم تجيبه إنما ابتعدت عنه من جديد وتقدمت تجلس على مقعد مكتبها في هدوء ، تجيبه بلا مبالاة :
_ اللي عندي قولته يا حمزة ، اخرج من الطريق دا و انا هرجع معاك البيت 

صر على أسنانه بغيظ شديد ، و كاد أن يتحدث إلا أن استمعت إلى طرقات الباب ، ثم دلفت إلى الداخل صديقتها وشريكتها في العمل "نهال" ، نظرت نحو حمزة الذي يقف أمام المكتب عينه مثبتة على كنزي ، ثم قالت بهدوء :
_ كنزي الزباين بتسأل عليكي ، مالكم في اية ؟

سألت في نهاية جملتها عن سبب غضبهما ، ليشير حمزة نحو كنزي قائلًا بحدة :
_ عقلي صاحبتك يا نهال عشان أنا جبت اخري .

ثم خرج من الغرفة تاركهما خلفه يتبادلان النظرات ، تقدمت نهال من المكتب تجلس على المقعد الجلدي بهدوء ، متسائلة :
_ هو انتي قولتيله انك حامل ؟

ابتلعت كنزي ريقها بصعوبة ، تضع يدها على بطنها تتحسسها بحنو ، مجيبة :
_ لا مقولتش ، و مش هقوله اني حامل 

نظرت إليها صديقتها متعجبة من موقفها العدائي اتجاه حمزة ، رغم علمها التام بحبها الشديد له ، لتتحدث بجدية تحاول العدول من قرار كنزي :
_ انتي عارفة لو حمزة عرف لوحده هيعمل اية ، انا اول مرة اشوفك عنيدة معاه اوي كدا ، فهميني اية اللي حصل ؟

تنهدت كنزي بعمق ، ثم وقفت عن مقدها تعدل من هيئة ثيابها الفضفاضة التي لا تظهر بروز بطنها الصغير ، قائلة :
_ مشكلة بنا بس كبيرة شوية المرة دي يا نهال ، و يعمل بقى اللي يعمله 

ما أن انهت جملتها حتى تركتها وغادرت المكتب تتجه لإكمال عملها ، تُظهر أنها راضية تمامًا عن قرارها ، و لكن داخلها تخشى ان يولد جنينها بعيدًا عن أبيه اذا اصر أن يستمر في بيع الموت بيده .

************************************
وقف "عزيز" في المرحاض الملحق بمكتبه ، يحدق في صورته المنعكسة على المرآة الصغيرة .
رفع يده ببطء ، ينزع اللاصقة الطبية التي تغطي جانب عنقه وتمتد حتى جزء بسيط من وجهه وأذنه ، ليظهر من خلفها تشوه قاسي ، جلده بدا متجعدًا كأنه احترق بوجع لم يبرأ ، وأصبح مخيف ويثير الرهبة بمن يراه لذا فضل أن يخبأه عن أنظار الجميع هربًا من نظرات الشفقة والنفور ، تلألأ الحزن في عينيه السوداوين المكحلتين ، كأنه يتأمل ألمه الداخلي الذي تجسد أمامه بدلًا من ملامحه ، استعاد حادث أحتراق منزله والنيران التي التهمت كل شيء أمام عينيه ، حتى طالته هو أيضًا . 
ذلك الحادث الذي جعله يفقد حقه في كل شيء حتى الحب ، ابتعد عن صغيرته الحبيبة وصديقه المقربة ليحميها من عبء حطامه ، لتصبح من بعد ذلك ملكًا لغيره وستزف إليه بعد شهور قليلة ، و يقف هو مكتوف الايدي يراقب أحلامه تقدم لغيره على طبق من ذهب .
اغتسل بهدوء ، حتى يعود يخبئ ندباته خلف تلك اللاصقة السوداء ، و حين عاد إلى المكتب قرر أن يزيل بعضًا من أشتياقه لها عن طريق مكالمة فيديو معتادة بينهما كأصدقاء منذ الطفولة ، فهي أخت داوود صديقه المقرب الذي لم يمنع تواصله معها كأنه ينتظر أن يعود إلى عقله يومًا ما ويستعيدها من بين يدي الغريب .
أجابت هي سريعًا ، تظهر على شاشة الهاتف بوجهها البشوش ، و بشرتها البيضاء ، عيناها البنيتان الضيقتان ، وشفتيها المكتنزتين بلون الكرز ، اتسعت ابتسامته حين رأى وجهها أمامه وتسارعت نبضات قلبه حتى ألمه صدره ، رفعت يديها تخاطبه بلغة الأشارة الذي تعلمها خصيصًا من أجلها ، بعد أن فقدت نطقها تمامًا اثر صدمة نفسية لم تتعافى منها بعد ، قرأ إشارتها و رد بابتسامة ونبرة هادئة :
_ الحمد لله انا كويس ، انتي عاملة اية 

أشارت من جديد، لتتسع ابتسامته مجيبًا :
_ ممكن معرفش اجي مع داوود النهاردة يا نغم 

زمت شفتيها بضيق ، ثم أشارت إليه بأنها تريد أخذ رأيه في عدة ديكورات لمنزل الزوجية لأنها تثق بذوقه ، تبدلت ملامحه السعيدة واحتد فكه بغيرة تكاد تفتك به ، ليتحدث بنبرة حادة لم يستطع تهذيبها :
_ لما ابقى اجي هبقى اشوف اللي انتي عايزه ، لازم اقفل ، عشان عندي شغل .

ثم أغلق الهاتف سريعًا ، دون أن يمنحها الفرصة لتودعه ، كأنه خشى أن تقرأ ما تعلن عنه عينيه و لم يجرأ على البوح به .
ألقى الهاتف من يده بعنف على المكتب ، و مرر يده على خصلات شعره القصيرة يحاول إخماد تلك النيران التي نشبت بصدره بمجرد حديث عفوي منها ، يرجو من الله أن يقدره على رؤية زوجها أمامه دون أن يصاب بأزمة قلبية و يفارق الحياة وقتها .

***********************************
لم يحتاج الأمر كثير من التفكير أو التردد ، كان الهروب أكثر الحلول منطقية بالنسبة لها ، لتتخلص من زواج فُرض عليها بالقوة . 
رغم الخوف الذي ينهش بداخلها إلا أن إصرارها على التخلص من ذلك الحقير ، منحها الشجاعة في أخذ ذلك القرار .
تسللت على أطراف اصابعها لكى تخرج من المنزل دون أن تشعر بها والدتها ، ارتجف بدنها ، و ازداد دقات قلبها باضطراب حين أمسكت بمقبض الباب ، التفتت إلى الخلف تراقب باب غرفة والدتها بينما تفتح باب المنزل ببطء وهدوء.
ضغطت على شفتيها بقلق ، تحاول أن تغلق الباب دون أن يصدر أي صوت قد يوقظ أمها ، و حين أُغلق الباب افرجت عن أنفاسها المحبوسة داخل صدرها والتفتت لتغادر المكان دون رجعة .
لكن شهقتها أفلتت منها بفزع حين باغتها "سعدون" واقفًا أمامها يحدق بها بنظرات غاضبة بعينين متوعدتين ، بتلقائية مدت يدها نحو حقيبتها القماشية لتخرج المفتاح ، لتعود إلى الداخل من جديد ، لكنها لم تلحق اذ به يتقدم منها بخطوات سريعة ، فكانت هي الأسرع حين فرت من أمامه هاربة تركض بأقصى سرعة ممكنة لها ، و يصدح صوته من خلفها متوعدًا لها :
_ اوقفي بقولك ، و الله ما هسيبك و لو وصلتي لفين يا رحيل 

ذاع ما حدث صباحًا بين العشيرة وتجمع الناس حول مجلس والده "الريس عمران" طالبين أن يحقق العدالة و يقتص من ولده الذي أهدر دماء تلك الفتاة البريئة ، و هذا ما جعله يتعرض للتعنيف الشديد من قبل ولده و بعض الأقارب .
اشتعل الغضب داخله بقوة حين علم أن من ذاع هذا الخبر لم تكن سوى زوجته المستقبلية ، لذلك أتى إلى منزلها ليجعلها عبرة لغيرها ، لكن هروبها قبل الزفاف كان فضيحة جديدة و تثبت صحة السابقة .
أشتد غضبه فأسرعت قدميه خلفها أكثر ، ويدله على مكانها في هذا الظلام الذي يعوق حركته صوت خلخالها الرنان ، فجأة ، صمت مطبق سيطر على الأجواء حتى ان صوت خلخالها أختفى ، و غابت وسط العتمة .
في حين توقفت هي تختبئ بإحدى الأشجار يلتقط أنفاسها اللاهثة ، و انحنت تخلع خلخالها الذي يصدح صوته عاليًا يدل الآخر على مكانها ، انتظرت حتى ترى ما سيفعله لتسمعه يسبها بألفاظ نابية يتوعد بالانتقام منها بأبشع الطرق الممكنة ، لتعلم أنه قد يأس من إيجادها وبعد عدة دقائق سمعته يعود إدراجه نحو العشيرة من جديد .
تنفست الصعداء تنسد ظهرها على جذع الشجرة تحاول الصمود واكمال طريقها ، أخرجت زجاجة مياة صغيرة من حقيبتها ترتشف منها القليل ، ثم أكملت طريقها نحو الأكثر ظلامًا ووحشة .
أسرعت خطواتها نحو المجهول تتخبط في الظلام الذي يعم حولها ، وكأن القمر قرر الغياب هذه الليلة ولم يزين الأرض بنوره .
وبعد دقائق من الركض اللاهث ، لمحت ضوءًا أبيض يشق الظلام من مصباح سيارة بعيدة نسبيًا ، تفاقم الأمل في صدرها لعلها تجد من يساعدها لتخرج من هذا الجحيم .
تسللت اتجاه مصدر الضوء بحذر شديد ، نظراتها متوجسة ، لكن فجأة ، تجمدت محلها بفزع وصرخت صرخة حادة ، تزامنًا مع صوت طلق ناري مزق السكون ، وشخص بصرها على ذلك الجسد الذي خر أمامها تحت بقعة الضوء .

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1