رواية ترانيم في درب الهوى الفصل الاول
جلست شابة في العقد الثالث من عمرها، ترتدي ملابس سوداء كست روحها بالحزن، وكان الحزن واضحاً على ملامح وجهها المتجعد من الألم. كانت عينيها غارقتين في دموع حارة، ودقات قلبها تردد صدى الفاجعة التي عصفت بحياتها. بدأت الدموع تتسابق على وجنتيها، وهي تبكي بحرقة على فقدان زوجها ورفيق عمرها في حادث سير مأساوي، حيث غادرها فجأة في ليلة لم تكن لتخطر على بالها أن تنتهي بهذا الكابوس. تأملاتها الحزينة كانت تملأ ذهنها، تثقل قلبها، وتغلف عالمها بالسواد.
في جوارها، جلست طفلتها الصغيرة، ذو الخمس أعوام، عيناها المليئتان بالبراءة تحملان تساؤلات لا تنتهي، وكأنها تعكس سذاجة الطفولة في غمرة الحزن. تكلمت بطفولتها الجميلة، ببراءة تحرك قلوب من حولها:
"ماما، هو احنا مش هنشوف بابا تاني؟"
كان صوتها خافتًا، وشفتاها ترتجفان كمن يتحدث عن حقيقة مريرة غير قادرة على استيعابها.
حركت الأم رأسها بتأثر، وكلماتها خرجت من بين شهقاتها، وكأنها تخاطب نفسها أكثر مما تخاطب طفلتها:
"لا يا حبيبتي، هنتقابل في الآخرة إن شاء الله. هيستنانا في الجنة بضحكته الجميلة.”
كانت تلك الكلمات محاولة لتهدئة نفسها أكثر من كونها طمأنة للطفلة، لكنها كانت تملك شيئًا من الأمل في هذه الكلمات، تتشبث به كعنصر نجاة في بحر من العواطف المتلاطمة.
عبرت الطفلة عن تذمر طفولي يأسى للقادم، تتلاعب بكلمات صادقة:
"بس لسه كتير أوي كده، وأنا بابا هيوحشني يا ماما. وبعدين، مين هيجيب ليا الحاجة الحلوة بتاعة كل يوم؟"
كانت تدرك بحسها الطفولي البسيط أن العالم لن يتوقف عند هذا الحد، وأنها بحاجة إلى شيء أو شخص يعوض غياب والدها، لكنها لم تكن تفهم بعد طبيعة الفراق.
احتضنتها الأم بحب عميق بينما عواطفها تسرد لها أن الحزن يحيط بكليهما، وتحدثت بصوت محمل بالأسى:
"بابا هيوحشنا كلنا يا بنتي، بس هو شيفنا. كلميه هيسمعك، ويا ستي لو على الحاجة الحلوة، أنا هجيبها ليكي كل يوم زي ما كان بابا بيعمل."
في تلك اللحظة، شعرت بأن عليها أن تكون قوية من أجل ابنتها، وقررت أن تحتفظ بذكرى والدها حية من خلال أفعالها وكلماتها، رغم لهيب الحزن الذي يجتاحها.
أومأت الطفلة برأسها موافقة، وعادت الحياة إلى عينيها ولونت ملامحها بحماس خفيف، قائلة:
"أنا هروح ألعب مع سوسو بنت خالتوا."
كانت تلك العبارة بمثابة طوق نجاة لها، كأنها تفر إلى عالم الطفولة بكل براءتها، بعيدًا عن أعباء الواقع المرير.
أنهت كلامها وركضت سريعاً نحو الباب المجاور، طرقت عليه برقة وعيونها تمتلئ بالبراءة. فتح لها ابن خالتها الأكبر، الذي يبلغ من العمر تسعة عشر عاماً. ابتسم بخفة وسأل، محاولاً كسر حالة الحزن:
"أيه يا توتة اللي مصحيكي لحد دلوقتي؟" كأنه أراد أن يسترد شغفها للعب ويعيد البسمة إلى وجهها الصغير.
أجابته بصوت يحمل نكهة طفولتها الغضة:
"جيت ألعب مع سوسو، أصل بيني وبينك، ماما قالبة البيت مناحة وعمالة تعيط، وأنا زهقت."
داعب شعرها بابتسامة جميلة، متحدثاً بمزاح:
"لسانك ده عايز قطعه، ادخلي يا أم نص لسان."
كان يمزح ليخفف من حدة الموقف، إلا أن تلك الكلمات كانت تجلعه قريبًا منها، وكأن حزنها يصبح أمرًا مشتركًا بينهما، فيبث الفرح في الأجواء مؤقتًا.
تذمرت بطفولية، وكأنها تدافع عن شرفها، ملوحة بخفة:
"متقوليش يا أم نص لسان، أحسن هخصمك يا سلطان."
كانت كلماتها تعبر عن روح براءة تتمسك بالتفاؤل، وعلى الرغم من المآسي، لم تفقد ابتسامتها بالرغم مما وقع على عائلتها.
حملها بذراعيه، ضاحكاً وبقلوبهم المحبة:
"خلاص، متزعليش، يا أم نص لسان، مش هقولك يا أم نص لسان تاني."
كانت ضحكاته تتردد في الأجواء، مملوءة بالنور والمرح.
نظرت له بغضب طفولي بريء، ثم مالت على كتفه وعضته برفق. فقالت بتحدٍ:
"احسن علشان متقولش كده تاني."
تعالت ضحكاته وهو يقبل وجينتها بحنان، وكأن كل هموم الدنيا قد تلاشت في تلك البسمة. ثم أنزلها مرة أخرى على الأرض قائلاً بحزم مفعم بالحب:
"اجري يلا عند سميه في الأوضة، واياكي تسهري، ساعة بالكتير وتنامي، فاهمة؟"
كانت كلماته تأخذ طابع المتساهل، لكن في الوقت ذاته كان هناك تحذير رقيق بين السطور.
أخرجت لسانها له بطريقة طفولية، وقالت بروح مليئة باللعب:
"لا، مش فاهمة."
كانت تظهر براءتها وكأنها تعاند أي محاولة له.
وركضت سريعاً من أمامه باتجاه غرفة ابنة خالتها التي في مثل عمرها، وصدرها ملئ بالمرح والحماسة لحظات اللعبة الجديدة التي تنتظرها. كانت خطواتها الصغيرة تطرق الأرض بنغمة مبهجة، وكأنها تسير على أنغام موسيقية خاصة لم يعرفها أحد سواها.
نظر إليها وهي تبتعد، وحرك رأسه متأملاً في حركاتها الطفولية. ثم عاد إلى غرفته.
***********************
باليوم التالي، استيقظت ترنيم من نومها العميق على صوت والدتها الذي يملأ المكان بالحب والحنان، وهي تقول بنبرة مشجعة:
"يلا يا توتة علشان تروحي المدرسة."
حركت ترنيم رأسها ببراءة طفولية، وتكلمت بنعاس واضح على شفتيها:
"لا يا ماما، أنا تعبانه ومش قادرة، وعندي مغص جامد أوي. دايخة وبعطس وسخنة، وعندي احتقان في زوري، وعايزة أرجع."
رفعت والدتها أحد حاجبيها بتعبير يدل على التهكم، وقالت:
"والله، كل ده عندك؟ قومي أحسنلك يا ترنيم، بلاش دلع، أنتي بقالك أسبوع مروحتيش المدرسة."
اعتدلت ترنيم في جلستها وتكلمت بتذمر طفولي، قائلة:
"يا ماما يا حبيبتي، دي كي جي تو، محسساني أني اتأخرت على الكلية."
ردت والدتها بنفاذ صبر:
"أنتي على طريقتك دي مش طفلة في كي جي تو، أنت مخلصة الدكتوراه كمان، قومي وأخلصي."
ثم ابتعدت الأم عن الغرفة، مما جعل ترنيم تراقب أثرها وهي تتمدد مرة أخرى على السرير، لتغرق في النوم مرة أخرى.
لكن لم يمضي وقت طويل حتى استيقظت على صوت سلطان، الذي قال لها بلهجة مفعمة بالحيوية:
"أنتي مدوخة أمك معاكي ليه، أصحي يلا علشان أوصلِك المدرسة مع سمية."
انتفضت في مكانها، وتكلمت ببراءة:
"آه، مش قادرة يا سلطان، بطني وجعاني."
أكمل سلطان الحديث بنبرة ساخرة: "ودايخة وبتعطسي وسخنة وعندك احتقان في زورك وعايزة ترجعي، خلاص حفظنا، وهتروحي برضه المدرسة، قومي وخلصي."
نهضت ترنيم من فراشها بتذمر، قائلة:
"بارد وغلس."
أنهت حديثها، ودلفت إلى المرحاض. بينما ارتسمت ابتسامة على وجه سلطان، واستقام بجسده قائلاً:
"صحتها يا فوفة، جهزيها وتعالي نفطر علشان أوصلها المدرسة هي وسمية."
هزت وفاء رأسها بحزن وقالت:
"ربنا يباركلي فيك يا حبيبي، روح، وأنا جايه وراك."
قبل سلطان رأس خالته بحنان، وغادر الشقة متجهاً إلى شقتهم المجاورة.
خرجت ترنيم من غرفتها بتذمر طفولي ووجه عابس، قائلة:
"مش لاقية الشنطة بتاعتي."
رفعت حاجبيها باستنكار ودلفت إلى غرفتها تبحث عن حقيبة الدراسة، لكنها لم تجدها. خرجت، وتحدثت بنفاذ صبر:
"بت، أنتي حطيتي الشنطة بتاعتك فين؟ هاتيها بدل ما أندهلك سلطان."
هبطت قدميها على الأرض وعادت إلى غرفتها، لتجلب الحقيبة، ثم تخرج مجددًا.
تحدثت وفاء بنفاذ صبر قائلة:
"بت، أنتي هتنقطيني، والله تعبت منك."
أنهت كلامها وأخذت الحقيبة، متجهة إلى شقة أختها، وفتحت الباب بالمفتاح قائلة بابتسامة حزينة:
"صباح الخير يا أختي."
ابتسمت الأخت لها بحب، قائلة:
"صباح النور يا حبيبتي، تعالي يلا ساعديني نحضر الفطار."
هزت وفاء رأسها بالموافقة، ودلفتا الاثنتان إلى المطبخ.
نظر سلطان إلى ترنيم، وتحدث بابتسامة:
"قالبة بوزك على الصبح ليه يا زقردة؟"
تكلمت بغضب طفولي:
"متقوليش زقردة، وبعدين متكلمنيش خالص علشان أنا مخصماك."
نزل سلطان إلى مستواها، وتحدث بابتسامة:
"ومخصماني ليه بقى؟"
عقدت ذراعيها على صدرها، وتكلمت بطفولية:
"علشان أنا بكره المدرسة، وانت وماما مصممين أن أروحها."
تعالت ضحكاته، وتحدث بصعوبة:
"طيب، أنتي مش نفسك تبقي دكتورة؟"
هزت رأسها بإيجابية.
أكمل سلطان حديثه:
"طيب، علشان تبقي دكتورة قد الدنيا، لازم تروحي المدرسة وتكملي تعليمك، وبعدين، أنتي مش شايفه سمية بتحب المدرسة أزاي وبتفرح كل يوم أنها رايحة، ليه بقى متبقيش زيها؟"
زفرت بضيق، قائلة بنبرة طفولية:
"علشان أنا ببقى عايزة أنام، وانت وماما بتصروا تصحوني أروحها."
استقام بجسده، وحملها بذراعيه، قائلاً:
"خلاص، متزعليش، كلها شهرين وتخلص المدرسة وتخدي الإجازة."
نظرت له بسعادة طفولية، وقالت:
"بجد يا سلطان، يعني مش هروح مدرسة تاني خالص، وأبقى دكتورة."
تعالت ضحكاته، وتحدث بصعوبة:
"لا طبعاً، لسه كتير، تخيلي كده تبقى أوزعه بالشكل ده ودكتورة..."
ثم أضاف قائلاً:
"هتخدي الإجازة، وبعد كده ترجعي المدرسة وتدخلي سنة أولى، وتفضلي بقى تدخلي كل سنة مرحلة جديدة، لحد ما تكبري وتدخلي الجامعة وتتخرجي وتبقي دكتورة."
زفرت بضيق قائلة:
"ياااه يا سلطان، ده لسه كتير أوي، خلاص مش عايزة أبقى دكتورة، ولا أدخل مدرسة، اتجوزني وقعدني في البيت."
اتسعت عيني سلطان بصدمة، وتحدث بغضب:
"ترنيم، عيب اللي أنتي بتقولي ده، أياكي تقولي كده تاني."
تكلمت بغضب طفولي:
"عيب ليه يا سلطان، هو مش ماما وبابا اتجوزوا وجابوني؟ أنت كمان اتجوزني زيهم."
أغلق عينيه بغضب، وأنزلها من على ذراعه، وتحدث بتحذير:
"أنتي عارفة لو قولتي الكلام ده تاني، هحبسك في أوضك ومش هخرجك منها خالص. فاهمة؟"
تكلمت بتذمر طفولي:
"أنت وحش، وأنا بكرهك، وهتجوز ابن طنط نجاة."
أنهت كلامها وركضت إلى غرفة سمية.
نظر سلطان إلى أثرها بصدمة، وتحدث بعدم تصديق:
"أيــه اللي البت دي بتقوله، نهار اللي جابوها، مش فايت."
تحرك نحو غرفة سمية، لكنه أوقفته وفاء، وقالت باستغراب:
"مالك يا سلطان، عيونك حمرا وبينط منها الشرار كده؟"
تكلم سلطان بغضب:
"هي البت دي جابت فكرة الجواز ده منين، أكيد حد بيقولها كده."
نظرت والدته صباح له، وتحدثت بعدم فهم:
"أنت بتقول إيه يا ابني؟ ما تفهمنا."
روى لهم ما قالته ترنيم، والغضب يشتعل في داخله، وقال:
"لازم أعرف مين قال ليها الكلام ده."
ردت عليه والدته بتوضيح:
"اهدا يا ابني، هو الجيل ده كله كده، فاهم كل حاجة وعقله سابق سنه، جيل النت والتليفونات."
ضغط على أسنانه بغضب، وقال:
"تقعدي مع بنتك يا فوفة، وتشوفي مين قايل ليها الكلام ده، البت طفلة صغيرة، وممكن حد يضحك عليها."
أومأت وفاء برأسها بالموافقة، وقالت: "ماشي يا ابني، بس اهدا شوية."
نظر إلى باب غرفة سميه، وقال:
"خبطي عليهم، وخليهم يجوا يفطروا علشان أوصلهم المدرسة."
نظرت له والدته، وسألته:
"طيب، وأنت يا ابني، مش هتفطر؟"
حرك رأسه بالرفض، وقال:
"لا، مليش نفس."
أنهى كلامه ودلف إلى غرفته.
تكلمت وفاء قائلة:
"مقصوفة الرقبة دي، لسانها مسحوب منها على طول، أنا مش عارفة البت دي بتجيب الكلام ده منين. أمتة بقى تكبر علشان ارتاح شوية من عمايلها دي."
*************************
بعد عدة أعوام...
استيقظ سلطان من نومه على صوت يثير في داخله غضباً عارماً، جعلت أنفاسه تتقطع وعيناه تغلقان في محاولة للسيطرة على نفسه. الضوء الخافت من الشارع كان يتسلل عبر ستائر الغرفة، مما زاد من إحساسه بالضيق. ضغط على أسنانه، وبتوتر واضح في صوته قال:
"مليون مرة أقولك متدخليش أوضي! أنتي مبقتيش ترنيم الصغيرة، أنتي دلوقتي كبيرة وفي ثانوي."
جلست بجواره على السرير، وهي تتظاهَر بالدلع، إذ كانت تعرف أن هذا دائمًا ما يثير غضبه. أجابت برقة، محاولة تخفيف حدة الموقف:
"وفيها أيه يا سوسو؟ مش أنت ابن خالتي واللي مربيني؟"
انتفض مكانه، ودفع يدها بعيداً عنه بغضب، وكأن تلك اللمسة كانت تفجر داخله صراعات معقدة. وقد بدت ملامح وجهه محتقنة، تعكس صراعه الداخلي بين حبه لها ورغبته في حمايتها:
"بت أنتي، أتلمي، وبعدين بلاش شغل المراهقين ده معايا. وأنطقي عايزة إيه؟"
ابتسمت له بدلع، قائلة بمشاغبة، كأنها تستفزه ليخرج من قوقعته:
"والله لما أعمل عليك شغل المراهقين، أحسن ما أروح أعمله على حد برة."
ضغط على شفتيه محاولاً إخفاء غضبه، ولكن فشل في إخفاء مشاعره المتضاربة، وبتعبير يملؤه نفاذ الصبر، تكلم وكأنه يواجه تحديًا:
"عايزة كسر رقبتك، أقسم بالله أنا ما عرفت أربيكي! خلصي وقولي اللي عندك."
ابتسمت ضاحكة من كلامه، وكأن تحديه جعلها تشعر بالقوة. وقالت بدلع، وملامحها تعكس الفرح:
"نهى صحبتي عيد ميلادها النهاردة وعايزة أنا وسميه نروح نحضره. ممكن؟ بليز وافق."
استقام بجسده وتحرك صوب الشباك، أشعل سيجارة وأخذ نفسًا عميقًا تحت نظرات ترنيم المتفحصة، وكأنه يبحث عن مخرج من الموقف المحرج. ثم حرك رأسه بالرفض، وقد ارتسمت على وجهه تجاعيد القلق:
"لا."
تكلمت بغضب شديد، مشيرة إلى سطوة سلطانه، وكأنّ صوتها كان كالسيف الحاد الموجه نحوه:
"هو أيه اللي لا!! على فكرة، إنت ملكش حكم عليا! أنت أخرك تحكم على أختك، إنما أنا لا، ماما صممت أن أجي أقولك، وأنا نفذت رغبتها مش أكتر، وهروح عيد الميلاد برضاك أو غصب عنك."
صرخت ألم حين أمسك سلطان بشعرها، متحدثاً بتحذير، وكان صوته يترافق مع نبرة منقلبة بين الغضب والقلق، كأن الخطر كان يلوح في الأفق:
"حسّك عينك، صوتك يعلى عليّا تاني فاهمة؟ ومافيش مراوح لأي مكان، ولو عايزة رجلك تتكسر، خطي بره الباب."
تحدثت بألم وعندها صرخت، محملةً مشاعرها المعقدة بين الخوف والغضب:
"سيب شعري أحسنلك يا سلطان وديني، وما أعبد هوريك."
أمسكها بقوة أكبر، واضحة هيمنته، وتكلم من بين أسنانه المتلاصقة:
"بلاش تتحديني. إنتي عارفة أنا ممكن أعمل فيكي إيه، ولو إنتي بنت أبوكي بجد، وريني هتعملي إيه."
نظرت إليه بدموع، تصارع بين الحب والخوف، وبتأثر شديد، تكلمت بصوت مختنق:
"أنا بنتك إنت يا سلطان. اتربيت وكبرت على إيدك أنت، من ساعة ما بابا مات وأنا عندي خمس سنين. إنت أبويا وإخويا ودنيتي كلها، وأول واحد بهرب ليه هو إنت! حتى لما أكون مضايقة منك، بشتكي ليك. بلاش توجعني بأيدك، علشان انت الدوا يا سلطان."
أرخى يده عن شعرها، ولانت نظراته الغاضبة إلى نظرات مليئة بالحب، بينما استشعر بوخز الضمير. تحدث بنبرة هادئة، وكأنما يعيد ترتيب أفكاره في داخله:
"وعلشان إنتي بنتي، بخاف عليكي يا ترنيم. معرفش الأماكن اللي عايزة تروحيها دي فيها إيه، ولا مين. أنا مش بخنقها عليكي، يا توتة، أنا بحميكي من زمن لسه متفهميش قلوب الناس فيها إيه ليكي."
أنهى كلامه، وأزال عبراتها بأنامله برفق، وكأنه يحاول أن يعيد إليها الأمل، وتحدث بصوت هامس مليء بالعطف:
"يلا بقى، روحي اجهزي علشان أوصلكم المدرسة، واجي أشوف شغلي."
تحدثت بتوسل، عيونها تلمع بالأمل:
"طيب، وحياة أغلى حاجة عندك، خلينا نروح عيد الميلاد حتى لو ساعة واحدة، وتعالى خدنا."
أغلق عينه بغضب، وكأنه يحاول كبح مشاعره المتضاربة، وتكلم بنفاذ صبر:
"قولت لااا يا ترنيم، مفيش أعياد ميلاد هترحوها."
هبطت قدميها على الأرض بتذمر، معبرة عن إحباطها:
"أنت بارد وغلس، وأنا بكرهك."
وخرجت تركض من عنده، تاركة وراءها حالة من التوتر والقلق، فقد كان كل من لمسة عاطفية أو كلمة جارحة، قادرة على تغيير مجرى الحديث. كانت تشعر بأن الفضاء يمتلئ بينهما بصمت أكثر من الكلمات، وكأن كل منهم يحمل شعوراً عميقاً بالحاجة إلى الآخر، رغم كل المآسي التي أحاطت بهما.
حرك رأسه بغلب، مبتسمًا على حركاتها الطفولية التي تعكس روح الشباب والحيوية. كانت ترنيم دائمًا مُفعمة بالنشاط، حتى في اللحظات التي قد تبدو فيها الأمور غير عادلة أو محبطة. وعندما نظر إلى السيجارة التي كانت بيده، وجدها قد انتهت دون أن يشعر بمرور الوقت، كأنه كان غارقًا في أفكاره وقصص عائلته. فركلها برفق، معبرًا عن انتهاء هذه اللحظة، وخرج من غرفته حالماً بتجاذب المزيد من الحديث مع والدته، قائلاً:
"صباح الخير يا اما. البت مقصوفة الرقبة راحت شقتهم، ولا عند سميه جوة؟"
أجابته بنبرة هادئة تحمل بعض القلق، لكنها في ذات الوقت تأمل أن تحمل بعض السعادة:
"راحت شقتهم. تعالى يا ابني، عايزة أتكلم معاك كلمتين."
نظر لها باستغراب، علامة الاستفهام تتشكل فوق جبينه، فقال:
"خير يا اما، حصل حاجة؟"
حركت رأسها بالرفض، ثم تنهدت بعمق، تسير في طريقها لتجهيز الحديث:
"لا يا حبيبي، متقلقش، حصل كل خير."
جلس بجوارها على الأريكة، و سأل مستفسرًا:
"اتكلمي يا اما، طيب، فيه إيه؟"
ابتسمت له بنبرة هادئة وكأنها تحمل أخبارًا سارة في جبعتها:
"ترنيم جالها عريس."
اتسعت عينا سلطان بصدمة كبيرة، وبدى عليه الغضب المتصاعد كأن نذرًا أسود قد حل بهم، فتحدث بصوت جهوري يعكس شعوره بالحماية:
"نعم؟ إيه اللي إنتي بتقوليه ده يا اما؟ البت لسة صغيرة وبتتعلم! عريس إيه وزفت إيه اللي بتقولي عليه ده؟"
تكلمت بسرعة، محاولًة أن تهدئ من روعه، كأن الحياة بأسرها تعتمد على كلماتها:
"اهدا بس يا ابني! ترنيم مش صغيرة ولا حاجة، وكمان العريس مش مستعجل على الجواز دلوقتي. هو هيخطبها دلوقتي، وبعد ما تخلص الثانوية هيعمل الفرح. كده كده توتة مش غاوية علام، وإنت بتزقها بالعافية علشان تكمل."
أغلق عينه بغضب، وتكلم بهدوء حذر، وكأن وضع الكلمات كان بمثابة عبء ثقيل عليه:
"ومين بقى عريس الغفلة؟"
أجابته بقلق، صوتها يتردد بين الأسطر كما لو كانت تخبره بمصير عائلتها:
"حسام ابن نجاة، جارتنا؟"
استقام بجسده، وكأن قنبلة مؤجلة قد انفجرت أمامه، وتحدث بنبرة غامضة تمزج بين الاستغراب والاحتجاج:
"ابقي زوري أمه زيارة المريض، واجب برضة."
واختتم كلامه، وتحرك إلى غرفته وكأن العالم من حوله قد بدأ يتداخل في نظرته. كانت صباح تراقبه من بعيد، وكانت تخشى الكثير مما يخفيه مستقبلهم. ربّت صباح على صدرها بخوف شديد، متسائلة في أعماقها عن الآثار التي قد تترتب على هذه القرارات، وقالت:
"يا لهوي، يا لهوي! ربنا يستر من اللي سلطان هيعمله فيه! منك لله يا مقصوفة الرقبة، ياريتني ما سمعت كلامك."
*************************
جلس سلطان على مقعده خلف مكتبه الخشبي وهتف بصوت جهوري:
“ولا شلاطه هات الشيشة بتاعتي وواحد قهوة بسرعة.”
أنهى كلامه وزفر بضيق كلما تذكر محادثة والدته بشأن هذا العريس. استقام بجسده وكأنه لدغه عقرب، وأطلق زفرة طويلة تعكس مشاعره المتضاربة، ثم خرج سريعاً إلى الخارج. كانت أشعة الشمس تتسلل من بين أوراق الأشجار، وتضفي على الحارة جواً من الحيوية، لكن قلب سلطان لم يكن يشعر بشيء من هذا الجمال. جلس على المقعد أمام مكتبه في الحارة، وظلت عينيه تبحثان عن شيء في وجوه المارة، حتى استقر نظره على الهدف الذي كان يثير استياءه. استقام بجسده واقترب من أحد الشباب، وربت على كتفه بقوة، مشعراً بسلطته وحالة التوتر التي يعيشها:
“عامل ايه يا بشمهندس.”
تألم الشاب من قوة يد سلطان وابتلع ريقه بصعوبة ورد عليه بتلعثم:
“ب بخير يا سيد المعلمين.”
دفعه سلطان بقوة وتكلم بصوت غاضب، كأنه يصرخ وسط عواصف:
“أتفضل أقعد اشرب معايا حاجة.”
ثم هتف بصوت جهوري، مما جعل الشاب ينتفض رعباً، وقال:
“ولا شلاطه هات واحد شاي لبشمهندس حسام.”
اعتدل حسام على مقعده، محاولاً استجماع شجاعته رغم ارتجاف صوته:
“ت تعيش يا سيد المعلمين ب بس ا أنا متأخر ع ع الجامعه والله م مرة تانيه.”
واستقام بجسده لكن سلطان أرغمه على الجلوس بقوة، وكأنها كانت أمرًا عسكريًا. تكلم بصوت غاضب، كأنه يصرخ في وسط دوامة من مشاعر الغضب والقلق:
“أقعد هنا يلا لما أقولك تقعد تشرب حاجة يبقى تنفذ كلامي من سكات.”
نظر له بخوف شديد، عاقدًا حاجبيه وساهمًا في تعبير وجهه بالقلق، وتكلم بتساءل:
“خ خير يا سيد المعلمين ه هو أنا عملت ح حاجة زعلتك م مني ولا أيه.”
أمسك سلطان بتلابيبه بغضب، وكأنه يحاول أن يُثبت سيطرته في موقف محرج:
“لما تبص على بنت من بنات بيتي يبقى لازم أخزقلك عيونك علشان تبقى عبرة لأي حد يفكر يرفع عيونه على حريم المعلم سلطان.”
ابتلع حسام ريقه بصعوبة، مختنقًا بكلمات الدفاع عن نفسه:
“ها...ا أنا م معملتش كده يا معلم سلطان ده أنا أفقع عيوني ولا أني أرفعها في حريمك صدقني.”
صرخ به سلطان بغضب، وارتفع صوته في الهواء المحموم:
“أومال عايز تتجوز بنت خالتي إزاي، فتحت المندل يا روح أمك؟”
اتسعت عيني حسام بصدمة، وتحولت كلماته إلى جمل متعثرة تتصارع لتجد الطريق:
“والله العظيم ما حصل، الأنسه بنت خالتك م مش أكتر من أخت ليا وعمري ما رفعت عيوني فيها ومعرفش حضرتك ج جايب الكلام د ده منين.”
نظر له سلطان باستغراب، قلبه يعج بالشكوك، وقال بتساءل، كأنه يحاول فك شفرة لغز غير مفهوم:
“أنت هتستهبل يلا، أمال أمك طلبتها ليك إزاي؟”
حرك حسام رأسه بالرفض، محاولاً إقناع نفسه قبل أن يقنع سلطان:
“م محصلش، أمي معملتش ك كده صدقني.”
أغلق سلطان عينيه حينما أدرك أنها مجرد لعبة من هذه البلوة، وأكد لنفسه أن الأمور ليست كما تبدو. أومأ برأسه له ولانت نبرته بعد جهد، معترفًا بخطئه:
“حصل خير يبقى أنا فهمت غلط، حقك عليا يا بشمهندس، تقدر تمشي.”
استقام حسام سريعاً، وعيناه تتقدمان نحو الباب، وكأنه يهرب من أجواء التوتر التي تجمعت حوله، وركض من أمامه.
نظر سلطان إلى الفراغ، وكأنما رأى شيء غير منغمس في الواقع، وتكلم بتوعد واضح في صوته:
“ماشي يا ترنيم، مبقاش أنا لو مقطعتش لسانك اللي اقنعت بي خالتك أنها تقولي كدة.”
ثم عاد مرة أخرى إلى الداخل، حيث وجد نفسه محاطًا بأوراق العمل والدَفْاتَرَ، وبدأ يتابع عمله، محاولا نسيان ما حدث وسط أجواء من الحزم والرغبة في السيطرة على كل ما يجري من حوله.
*******************
وقفت ترنيم على باب المدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسي، تنظر إلى سميه بابتسامة ماكرة، وكأنها تخفي خلفها سرًا مثيرًا.
“أيه رأيك نعمل مقلب فى سلطان؟”
سألت، وفي عينيها لمعة من الحيلة والتحدي. كانت ترنيم دومًا الشخص الذي يبحث عن الإثارة والمغامرة، وتمتاز بروحها المرحة التي تجعلها محط أنظار الآخرين.
نظرت لها سميه بصدمة، والخوف يتغلغل في صوتها، كأنها قد تلقّت مكالمة من عوالم أخرى:
“نهارك مش فايت مقلب في سلطان!! انتي أتجننتي يا ترنيم، أقسم بالله موتك هيكون على إيده.”
سميه كانت دائمًا قلقة وتفكر بعواقب الأمور، وكانت تدرك تمامًا طبيعة سلطان الغاضبة، التي يمكن أن تشتعل مثل النار في الهشيم عند إثارة غضبه.
تعالت ضحكات ترنيم، وتحدثت بعدم اهتمام وكأنها تتحدى العالم من حولها:
“ولا يقدر يعملي حاجة. ده أنا ببلفه فى ثانية، شوية دلع مني بيخلوا شبه الزبدة لما تسيح.”
كانت تعتقد أن هذه الخطوات الصغيرة تعطيها القوة والتحكم، لكن سميه كانت تعرف أنه في بعض الأحيان، تسير الأمور بعيدًا عن السيطرة، ولا يمكن التلاعب بجاذبية مشاعر الآخرين.
حركت سميه رأسها بعدم اقتناع، ونفاذ صبر بدأ يسيطر عليها، كأنها تتعامل مع فكرة مقلقة:
“اهي ثقتك فى نفسك دي اللي هتوديكي في ستين داهية. سلطان ليه طاقة، لو نفذت منه هيدمر الدنيا كلها بسببك.”
زفرت ترنيم بضيق، وصوتها يحمل نفاذ صبر متزايد يشبه الرغبة في التمسك بفكرة التحدي:
“اخلصي، موافقة على اللي هعمله ولا لا؟”
نظرت لها سميه بقلق، تساءلت بخوف شديد، كأنها تشعر ببرودة في قلبها:
“ناوية تعملي أيه يا مصيبة؟”
ابتسمت ترنيم بلؤم وأجابت، كأنها تكشف عن خطة سرية:
“هنروح عيد ميلاد نهى، ومعايا هدوم في الشنطة.”
اتسعت عينا سميه بصدمة، وصرخت بصوت مليء بالقلق:
“نهارك مش فايت! بلاش جنان يا توتة، لو عملتي كده مش هيحصل كويس.”
نظرت لها ترنيم بضيق، وأجابت بعناد وكأنها تدافع عن فكرة شخصية:
“خلاص براحتك، أنا رايحة. لو سألوكي عليا، قولي إنك طلعتي من المدرسة ومشوفتنيش. سلااام.”
أعلنت عن موقفها باستقلالية، وكأنها تتحدى النهاية، بينما كانت تسرع نحو مغامرتها المجهولة.
أنهت كلامها، وركضت بعيدًا تحت هتاف سمية المرتبك، لكنها لم تستجيب. أوقفت سيارة أجرة وصعدت بها، مغادرة المكان بسرعة يشوبها شعور في القلب بعدم الارتياح، لكنها استمرت في طريقها، مصممة على مواجهة العناصر الجريئة في حياتها.
وفي تلك اللحظة، توقفت سيارة سلطان أمام باب المدرسة، مما جعل شعور الرعب يزداد في قلب سميه. نظرت إليه بخوف شديد، ودعت ربها أن تمر أفعال ترنيم على خير، لكن مع ذلك، كانت تعلم أن التوتر لا يمكن التنبؤ به.
اقترب سلطان منها، يتساءل بفضول، وكأنه يتوقع حدوث شيء غير عادي:
“أومال فين المصيبة، لسه مخلصتش ولا أيه؟”
كنت تتواجد في قلبه الكثير من الغموض، مما زاد من صعوبة موقف سميه وترددها.
ابتلعت سميه ريقها بصعوبة، وصوتها يرتعش، محملة بعبء الخوف وعدم اليقين:
“ها...م معرفش، بس كله خرج.”
نظر لها سلطان بعدم فهم، وتساءل بقلق:
“نعم!! هو إيه اللي معرفش، ما أنتم مع بعض وبتخرجوا سوا.”
كانت الكلمات تتردد في أذنه، وكأنها كُتبت بجرح عميق في قلبه، فهم أن شيئًا ما ليس على ما يرام.
زاغت ببصرها بعيدًا عنه، وتكلمت بنبرة مرتعشة:
“م ما أنا نزلت تمرين الجمباز، وسيبتها لأنها مش بتحب تحضر التمارين دي. ولما خلصت ملاقتهاش.”
كان الشك واضحًا في عيني سلطان، وأحس أن سميه تخفي شيئًا. كانت لحظات الشك والحيرة تتزايد في داخله، فتشجعت سميه للاستمرار في حديثها، وكأنها تبحث عن مخرج من الوضع العصيب الذي تجد نفسها فيه.
نظر لها سلطان بعدم تصديق، واشتعل غضبه:
“سمية، انطقي وقولي الحقيقة. مقصوفة الرقبة دي راحت فين؟”
ابتلعت ريقها مرة أخرى وكأنها تكافح بصعوبة، وقالت:
“عيد ميلاد نهى، صحبتنا.”
في تلك اللحظة، خيم الصمت على الأجواء، وكأن الهواء توقف عن الحركة. تكررت كلمة عيد الميلاد في ذهنه كآلة جديدة لا تتوقف، فالفكرة وحدها كانت كفيلة بإشعال نار الغضب في صدره.
أغلق عينيه بغضب شديد، وصرخ بنفاذ صبر:
“البت دي ملهاش خروج تاني من البيت! والله لكسر رقبتها، انطقي بيت صحبتكم دي فين؟”
تعالت أنفاسه، وكأنه يحارب وقتًا محاصرًا بمشاعر متضاربة. كانت كلمات سلطان كالرعد الذي يسقط في صمت، بينما كانت سميه تحاول استعادة أنفاسها السريعة، وأفكارها تتطاير في كل اتجاه.
حركت سميه رأسها بعدم معرفة، وأجابت:
“معرفش والله، اللي تعرفه هي ترنيم لأنها بعتت ليها العنوان.”
خيم الصمت من جديد، وكانت الفوضى تلعب في عقل سلطان بين الغضب والقلق والخوف. كيف يمكن لفتاة في عمرهم أن تنزل إلى حفلة عيد ميلاد دون أن تخبر عائلتها؟ وأين قد تكون الآن؟
تكلم سلطان بصوت جهوري، وكأن الغضب تتصاعد من أعماقه:
“هطلع روحك بأيدي يا ترنيم! اركبي، اخلصي.”
صعدوا الاثنان في السيارة، وتحرك سلطان بها بسرعة جنونية، عائدين إلى الحارة. الأضواء عبر الشوارع كانت تتلألأ كنجوم في سماء مظلمة، بينما كان قلبه ينبض بقوة وصعوبة، وما زالت أسئلة عديدة تتخبط في ذهنه عن المكان الذي يمكن أن تكون فيه ترنيم، وعن المخاطر التي قد تواجهها.
**********************
جلست وفاء بجوار أختها صباح، وضعت يدها على قلبها وشعرت بقلق شديد يتصاعد إلى حنجرتها، ثم تحدثت بصوتٍ مُختنق:
"مش عارفه قلبي مقبوض ليه، حاسه إن فيه حاجة هتحصل."
ردت عليها صباح بنبرةٍ هادئة، وكأنها تحاول تهدئتها:
"استعيذي بالله من الشيطان الرجيم، انتي على طول كده قلقانة من ساعة اللي حصل لترنيم زمان."
نظرت وفاء أمامها بحزنٍ عميق، تكلمت بصوتٍ مُخبرٍ عن ألمٍ متجذر:
"لولا سلطان، ربنا يحميه، كنت خسرت بنتي العمر كله. منهم لله أهل أبوها، من ساعة ما عرفوا أني اتجوزت، واحنا مسلمناش من أذاهم، ربنا ينتقم منهم."
ابتسمت لها صباح بحنوٍّ، محاولةً أن تُخفف عنها:
"مع أن ابنهم، الله يرحمه، كان طيب أوي."
تنهدت وفاء بحب، وكأن الذكريات تطوف في ذهنها:
"وبرضه عبدالرحمن طيب ومحترم، ومن يوم ما اتجوزني وهو معيشني ملكة. ولولا أن سلطان شرط عليه ملهوش دعوة بتربية ترنيم، كان عوضها غياب أبوها، ورباها مع أخواتها. بس نقول إيه، ابنك مجنون، ومن يوم ما اتولدت وهو أخدها حق مكتسب ليه، ومانع أي حد يقرب منها."
تذكرت صباح ما حدث في الصباح، فتحدثت بنفاذ صبر:
"اسكتي، البلوة السوده بتاعتك خلتني هببت مصيبة الصبح."
نظرت لها وفاء بقلق، وكأنها تُشعر بوجود عاصفة في الأفق:
"حصل إيه تاني؟ ما أنا عارفه مصايب بنتي مش بتنتهي."
ردت عليها صباح بتوضيح:
"الصبح، قبل ما تدخل تصحي سلطان علشان تقولوا إنها عايزة تروح عيد ميلاد واحدة صحبتها، قعدت معايا وقالتلي إنه مش بيحبها، ولا هي في دماغه. وعايزة تشعلل نار الغيرة في قلبه عن طريق إن فيه عريس متقدم ليها. وأنا زي العبيطة، طاوعتها وقولت أساعدها، لكن جات بنتيجة عكسية. وسلطان، شكله مش ناوي على خير للولا الغلبان ابن نجاة."
اتسعت عينا وفاء بصدمة، وكأنها استقبلت صاعقة، وتحدثت بعدم تصديق:
"انتي أتجننتي يا صباح! عيلة زي دي تعرف تضحك عليكي!! أقول عليها إيه بس؟ ربنا يهديها. دلع سلطان فيها خلاها سايقه فيها، ومش بيهمها حد."
وفي تلك اللحظة، دخل سلطان، وشرار الغضب يتطاير من عينيه. شعرت وفاء بالرعب من منظره، وعندما نظرت بجواره، وجدت سمية فقط. بحثت في أرجاء المكان عن ترنيم، لكنها لم تجدها، فتساءلت بقلق:
"فين ترنيم يا سلطان؟ ومالك متعصب كده ليه؟"
ضغط سلطان على أسنانه بغضب، وتحدث بنفاذ صبر:
"متعرفيش عنوان صاحبة بنتك اللي اسمها نهى دي؟"
حركت وفاء رأسها بعدم معرفة، وأجابته بقلق:
"لا، معرفش. وبعدين، مردتش عليا ليه؟ فين ترنيم بنتي مش معاكم ليه؟"
تكلمت سمية بصوتٍ مرتبك، موضحةً لهم:
"ترنيم صممت تروح عيد الميلاد، وسابتني ومشيت، وأنا معرفش عنوان بيت نهى فين."
انتفضت وفاء بقلقٍ عميق، وكأن قلبها تشتت:
"يا لهوي! أحسن ما تكون ترنيم في خطر. احنا منعرفش البت دي إيه ولا أهلها عاملين إزاي، أوصلها بسرعة يا سلطان."
نظر إليهم سلطان بغضبٍ شديد، وتحرك باتجاه الباب، وخرج منه دون أن يتفوه بكلمة واحدة، متوعدًا عندما يجدها بأنه سيكسر رأسها اليابس تلك.
ربتت صباح على ظهر وفاء، مُحاولةً مساعدتها على تهدئة أعصابها:
"اهدي يا وفاء. أنا متأكدة أن سلطان مش هيرجع إلا وهي معاه. بس ربنا يستر على اللي هيعمله فيها بس."
نظرت سمية لهم بقلق، وكأن الشكوك تحوم حولها:
"على فكرة، هي نهى أه صحبتنا، بس مش صافية لينا. بحسها بتحقد علينا وعلى ترنيم بالذات علشان اهتمام سلطان بيها."
تكلمت وفاء بدموعٍ تملأ عينيها:
"هات العواقب سليمة يا رب."
************************
وصلت ترنيم إلى بيت صديقتها نهى، حيث استقبلتها بحفاوة كبيرة في الفيلا الخاصة بعائلتها. قامت نهى بتعريفها على أفراد عائلتها، ثم صعدت معها إلى غرفتها، وكانت الغرفة تضم مجموعة من الصور الجميلة التي تذكّر بعظمة اللحظات السعيدة التي مرت بها نهى. جلست ترنيم تنظر إلى الغرفة بإعجاب، مما دفع نهى للتحدث باستغراب قائلة:
"عجبتك الفيلا والأوضة بتاعتي يا تيمو؟"
ردت عليها ترنيم بإعجاب:
"جدا حلوين أوي."
جلست بجوارها ونهى تتساءل باستغراب:
"هو أنتوا ليه عايشين في الحارة وفي بيت عادي، مع إن عندكم فلوس كتير ما شاء الله تقدروا تجيبوا بدل الفيلا عشرة في مكان راقي؟ وكمان، سوري يعني ديكور شقتكم بيئة أوي."
زفرت ترنيم بضيق وتحدثت بصوت مختنق:
"علشان سلطان عايز كده، بيقول مينفعش يبعد عن الحارة وهو الكبير بتاعها. حاولت كتير معاه علشان يجيب لينا فيلا ونطلع من المكان ده، بس مافيش فايدة، وماما وخالتو موافقين على كده."
نظرت لها نهى بلؤم وقالت:
"أنا مش عارفة مين سلطان ده اللي يمشي كلامه عليكي، يعني ليه متحاوليش يكون عندك شخصية معاه؟"
ردت ترنيم بضيق وتحذير:
"نهى، اتلمي، متجبيش سيرته على لسانك. سلطان مش مجرد ابن خالتي، لا، سلطان كل حاجة ليا حرفيًا، دنيتي كلها، يعني أبويا لأنه هو اللي رباني على أيده، وأخويا لأنه بيحميني من الدنيا كلها، حتى من نفسه، ابني لأنه بيبقى شبه الطفل الصغير لما بقوله كلمة حلوة أو أدلع عليه، وأخيراً حبيبي علشان قادر يكون كل ده وعمره ما خلا بدور واحد فيهم، وأول ما قلبي دق، دق ليه هو."
تجمعت نظرات الحقد في عيني نهى، ابتسمت لها بضيق وقالت:
"ربنا يسعدكم، يلا يدوب نلحق نجهز."
وبالفعل بدأت ترنيم تبدل ملابسها وتتجهز مع نهى استعداداً لحفل عيد الميلاد. حتى انتهوا وكانت ترنيم في قمة جمالها، نظرت لها نهى بحقد وقالت:
"أيه الجمال ده يا بت؟ أنتي ناوية تخطفي مني الأضواء النهاردة ولا إيه؟"
ابتسمت لها ترنيم قائلة:
"أهو، أنتي اللي جميلة وقمر كمان، وبعدين الليلة ليلتك يا جميل، وكله جاي علشان عيونك أنت يا طعم."
ردت عليها نهى بابتسامة باردة:
"مرسي على المجاملة، يلا بينا بقى ننزل، زمان الكل اتجمع علشان نطفي الشمع."
خرجت الفتاتان إلى الأسفل، واستقبلهم الجميع بإعجاب شديد. لكن كانت النظرات مثبّتة على جمال ترنيم ورقتها، كانت كفراشة تتطاير بين الزهور. نظرت نهى إلى أحد الشباب الذي اقترب منهم وقال مبتسماً:
"طول عمري أعرف أن الدنيا فيها قمر واحد، وفي السما أول مرة أشوف قمرين و على الأرض."
ابتسمت نهى له بدلع وردت:
"يا بكاش، طول عمرك بياع كلام."
حرك الشاب رأسه ببرأه وقال:
"محصلش صدقيني، بس جمالكم فاق الحدود وبيخلي الواحد مش على بعضه."
كانت ترنيم تسمعه بملل، لكن ابتسمت له مجاملةً وقالت:
"عن إذنكم، هروح أشرب حاجة."
تركتهم وتحركت بعيداً. نظرت نهى لها بضيق وتحدثت بسرعة:
"روح وراها، عايزاها في حضنك وشوية صور حلوين يتبعتوا لحبيب القلب."
أومأ الشاب برأسه بالموافقة وركض خلفها قائلاً:
"ترنيم، يا ترنيم، استني يا بنتي."
زفرت ترنيم بضيق وتحدثت بغضب:
"نعم أفندم، عايز مني إيه؟"
رد عليها بصوت هادئ:
"فيه إيه يا بنتي، متعصبة ليه؟ أنا بنادي عليكي علشان أشربك حاجة زي ما نهى طلبت مني."
حركت رأسها بضيق وقالت:
"لا شكراً أنا مش صغيرة وأعرف أشرب نفسي، مش محتاجة مساعدة."
حاول أن يحافظ على هدوئه وابتسم لها بضيق، ثم أمسك يدها قائلاً:
"فيه إيه يا تيمو، اهدي شويه، إحنا هنا كلنا أصحاب مع بعض، عيشي اللحظة."
اتسعت عينا ترنيم بصدمة ودفعت يده بعيداً عنها، ثم صفعته بقوة قائلة:
"أنت اتجننت، ازاي تسمح لنفسك تمسك إيدي؟ أنا ممكن كنت كسرتها ليك، بس اكتفيت بالقلم ده علشان يفؤقك."
ضغط على أسنانه بغضب وتحدث بصوت جهوري:
"بقى أنتي تمدي إيدك عليّا أنا؟ ده أنتي نهار اللي جابوكي مش فايت!"
رفع يده حتى يمسك شعرها، لكن في تلك اللحظة شعر بقبضة قوية تضغط على يده بقسوة، وتحدث من بين أسنانه:
"ده أنت اللي نهار وليل اللي جابوك أسود، وهندمك على اللحظة اللي أهلك جابوك فيها للدنيا."
أنهى كلامه بضربه في أنفه برأسه، مما اندفعت الدماء منها، وظهر الذهول على وجوه الحضور.
صرخت ترنيم بخوف:
"اهدا يا سلطان، علشان خاطري، يلا بينا نمشي."
نظر لها بغضب والشرار يتطاير من عينيه، وتحدث بتحذير:
"مسمعش حسك، فاهمة؟"
انتفضت ترنيم في مكانها بخوف شديد من حالة سلطان وتحدثت بصوت هامس:
"ربنا يستر، ده مجنون وهيصور قتيل دلوقتي، حسبي الله ونعم الوكيل!"
ظل سلطان يضرب في هذا الشاب حتى فقد وعيه، وسط خوف جميع الموجودين من الاقتراب منه. تحرك نحو ترنيم، ممسكاً إياها بقوة من ذراعها، وتوجهوا إلى الخارج في ظل حالة من الفوضى والقلق. فتح باب السيارة ودفعها بقوة داخلها، ثم صعد أمام المقود وأدار السيارة بسرعة جنونية، كأنما يطلب الهروب من واقع مرير لا يُطاق.