رواية اوار ( جنية الظلام ) الفصل الاول بقلم ندى محمود توفيق
في تمام الساعة التاسعة مساءًا بأحد المناطق الأثرية كان يقف مجموعة من الأثريين والمنقبين عن الآثار والمرممين وعلى رأسهم المفتش العام لعملية الحفر والتنقيب هذه، وبعد انتهائهم من مسح المنطقة والتأكد من مكان التنقيب الصحيح، نظروا الحفارين المتخصصين للمفتش وقال أحدهم يأخذ الأذن ببدأ الحفر:
_المكان هنا بظبط يادكتور فارس نبدأ الحفر ؟
دقق فارس النظر في تلك البقعة التي يشير عليها ثم هز رأسه يرسل إشارته لهم بالموافقة، ومرت الدقائق وهم مستمرين بالحفر مع نظرات فارس الدقيقة لكل حركة تشكلها أيديهم، نظراته مضطربة ليست واثقة كعادته، يتلفت برأسه حوله يطمئن من أن كل شيء يسير على ما يرام.
لاحظ صديقه الذي يعمل في قسم التنقيب عدم اتزانه الغريب فاقترب منه ومال عليه يهمس بتعجب:
_مالك يافارس قلقان كدا ليه؟!
رفع كفه ومسح على وجهه متأففًا ثم أجاب بصوت رخيم:
_ لا مش قلقان، هو دكتور أمجد مشي ولا إيه؟
_ايوة مشي
ساعات طويلة مرت وسط أعمال الحفر الشاقة من الحفارين والعمال، وقد جلس فارس بجوار صديقه ” عز ” على أحد المقاعد الخشبية الصغيرة وهم يتحدثون بأمور مختلفة حتى لامس الحديث طرف زوجته وراح يسأل عز باهتمام:
_عامل إيه أنت وليلى لسا برضوا المشاكل متحلتش
هز فارس رأسه بالنفي في حنق فتابع عز بأسى:
_مش كفاية ولا إيه يافارس حلوا مشاكلكم قبل ما تخسروا بعض
مال ثغر فارس للجانب في يأس وتمتم بانزعاج:
_مش هتتحل ياعز هي خلصت
أطلق عز تنهيدة حارة بحزن أما هو فاستقام واقفًا وقال بجدية:
_أنا في حاجة مهمة نسيتها في المكتب هروح اجيبها وارجع وأنت تابع مع العمال والحفارين لغاية ما يخلصوا حفر
تحرك بخطواته مبتعدًا عنهم حتى وصل لسيارته واستقل بمقعده ثم انطلق مسرعًا باتجاه مكتب عمله القريب من موقع التنقيب، أما “عز” فالتفت تجاه العمال الذي صاح واحد من بينهم هاتفًا:
_وصلنا لباب المقبرة
استقام عز متحفزًا واتجه نحوهم يقول بنظرة لامعة وحماس لينتهوا من تلك العملية ويعود لمنزله ليستريح:
_هايل افتحوا يلا الباب مستنين إيه!
دار أحدهم بنظره حوله بحثًا عن فارس وسأل باهتمام:
_طيب مش لما يكون دكتور فارس موجود عشان يتابع ويقولنا نتصرف إزاي
رد عز بنظرات حادة ونبرة غليظة:
_دكتور فارس راح يجيب حاجة من المكتب وراجع وبعدين ما كلنا موجودين هيحصل إيه يعني، جرا إيه يارچالة هو احنا أول مرة نفتح مقابر ولا إيه، يلا اتوكلوا على الله
نقل العمال نظراتهم بين بعضهم البعض بعد كلمات عز الصارمة وانصاعوا للأوامر، وبدأوا في فتح الباب بطرقهم الخاصة وانتظروا لبعض الوقت حتى تم تنقية الهواء داخل المقبرة.
خطت قدماهم اولى خطواتهم داخل المقبرة وهم يكتشفون محتوياتها التي كانت عبارة عن بعض التماثيل الفرعونية والحفاريات والنقوش على الحائط وبالمنتصف تابوت لأحد الملوك، كان عز على وشك أن يخطو أول خطوة له على درج النزول للمقبرة ليتفحص المحتويات الأثرية ويكمل مهتمه وعمله، لكن صراخ العمال المفزع بالأسفل جمد قدمه بأرضها بل وتراجع لا إراديًا للخلف وكذلك كان كل من يجاوره من الأثريين والحفارين الذين لما ينزلوا معهم.
توقف فارس بسيارته بعد عودته ونزل بسرعة فور سماعه لصوت الصراخ وراح يحدق تجاه المقبرة بعينان جاحظتان، واندفع نحوهم مسرعًا وهو يصيح:
_في إيه.. إيه اللي بيحصل؟!!
رد أحد الحفارين برعب جلي في نظراته:
_منعرفش العمال يدوب دخلوا المقبرة وصوت صراخهم طلع
التفت برأسه للأسفل وبأقدام ودون تردد اندفع ونزل أول درجتين من السلم ينوي النزول إلى العمال ليطمئن عليهم، لكن عز قبض على ذراعه بسرعة ليردعه وهو يقول بغضب:
_أنت رايح فين عايز تنتحر.. متنزلش احنا منعرفش إيه اللي حصل تحت معاهم
فارس بعينان مرعبة وانفعال هادر:
_هيكون حصل إيه يعني، المومياء قامت من تابوتها مثلا!!، ابعد ياعز خليني اشوف الناس دي اللي أنا مسئول عنهم
رفع فارس القناع المصنوع خصيصًا لعمليات التنقيب في المقابر للحماية من أي جراثيم ومكيروبات ونزل درجات السلم بحذر وهو يحاول إلقاء نظراته للداخل يتفقد الوضع قبل الدخول، لكنه تصلب بأرضه مندهشًا فور التقاط عيناه منظر العمال وهم ملقون على الأرض أموات ووجوههم شاحبة وعيناهم جاحظة ومتآكلة بطريقة مرعبة، ثم مال بنظره للجانب فرأى التابوت مفتوح والمومياء بداخله، قاد خطواته للداخل وراح يتفحص بعيناه كل جزء في المقبرة، ثم اقترب من ذلك التابوت ونظر بداخله فانبعثت منه رائحة كريهة ورأى حشرة سوادء صغيرة تخرج منه فتراجع على الفور حتى لا تلمسه، ثم مال على التابوت بوجهه يقرأ ما دون عليه باللغة الهيروغليفية، فكل ما قرأه واستخلصه أن هذا الملك استخدم السحر لحماية جسده.
بتلك اللحظات كان عز والبقية قد نزلوا للمقبرة ودخلوا فنالوا نصيبهم من الصدمة بعد رؤيتهم لمنظر العمال البشع، صاح عز بذهول وارتيعاد:
_إيه اللي حصلهم ده!!
لم يجيب فارس وأكمل تدقيقه وفحصه في تلك الحادثة وانحنى على أحد العمال ينظر لعينيه ومنظر وجهه فوضحت الصورة أمام عينيه واستقام واقفًا يمسح على وجهه ويتأفف بغضب هاتفًا:
_التابوت ده مكنش لازم يتفتح كدا لازم يتفتح بطريقة معينة، التابوت كان مليان ميكروبات وحشرات وطبعًا أول ما فتحوه طلعت عليهم وعملت فيهم كدا
ثم صاح بعصبية هادرة:
_مين اللي سمحلهم يدخلوا وحدهم المقبرة، كان لازم يكون في حد معاهم من المتخصصين
اقترب عز من الدرج وجلس على إحدى درجاته وهتف بصوت يمزقه الندم وتأنيب الضمير:
_أنا اللي قولتلهم يدخلوا، مكنتش متوقع ده يحصل يافارس احنا لينا سنين بنشتغل في التنقيب وياما فتحنا مقابر عمره مافي حاجة زي دي حصلت ولا شوفنا أن في تابوت يبقى فيه الكلام ده
صرّ فارس على أسنانه مغتاظًا واقترب من صديقه ثم مال عليه وهتف بغضب :
_الناس دي ذنبهم في رقبتي ورقبتك
ثم التفت للخلف وقال بصوت محتقن من فرط الاستياء:
_اتصلوا بالأسعاف وانقلوا التابوت وكل اللي في المقبرة عشان يتنقل على قسم الفحص والترميم
صعد درجات السلم واقترب من المقعد يجلس عليه ومال للأمام دافنًا رأسه بين راحتي يديه وضميره يعذبه لأنه تركهم وذهب رغم عدم ارتياحه منذ بداية وصولهم لهذا المكان، ظل جالسًا على المقعد حتى وصلت الإسعاف وحملت جثث العمال وكذلك المتخصيين انتهوا من نقل جميع القطع الأثرية.
***
داخل السيارة كان فارس يقود بسرعة هادئة في طريقه لمنزله، وذهنه شارد بما حدث بالمقبرة وتلك الأوراح البريئة التي فُقدت بسبب أهماله.. ليته لم يتركهم، ولكن بماذا يفيد الندم الآن بعد فوات الآوان.
شروده جعله يسهى عن الطريق أمامه ولم يفق من سهوته سوى على ضوء كشاف سيارة نقل ضخمة متجهة نحوه وصوت بوق الإنذار الخاص بها صاخب وعالي، فانتفض في مقعده وجحظت عيناه بصدمة لا إراديًا بدافع حب البقاء الفطري والحفاظ على روحه، ضغط بقدمه على المكابح عدة مرات متتالية ولكن السيارة لا تتوقف والشاحنة تقترب منه أكثر، فاتجه للحل الاكثر خطورة وهو التغير المفاجئ في اتجاهه ليتفادى الصدام بها ولكنه اصطدم بسيارة أخرى صدامًا قويًا مما أفقد سائق السيارة وعيه وتسبب بأضرار وإصابات بليغة في جسده، أما فارس فكانت رأسه ملقية على المقعد والدماء تسيل من رأسه وبعض شظايا زجاج السيارة المحطم من شدة الصدمة اخترق صدره وذراعه، اصوات أبواق السيارات من حوله مرتفعة وحركة الناس واصواتهم، رغم أنه يسمع كل شيء لكن لا يمكنه التميز بين كل صوت وما الذي يسمعه بالضبط، حتى أنه لا يرى أمامه بوضوح الرؤية ضبابية والأنوار من حوله قوية، وكان آخر شيء سمعه بوضوح هو صوت رجل من الحشد المتجمعين حول الحادث والسيارتين بعدما فتح الرجل باب سيارة فارس واقترب منه يسأله:
_يابشمهندس أنت كويس سامعنا طيب، الإسعاف جاي دلوقتي، يابشمهندس!!
لكن فارس اغلق عينيه ببطء وفقد الوعي تمامًا…
***
داخل أحد المنازل الرفيعة المشيدة على طراز كلاسيكي مميز، كانت تقف في المطبخ تقوم بتحضير كوب من العصير الطازج لها، مرتدية بنطال منزلي من القطن يعلوه كنزة بأكمام طويلة وتعقد شعرها الناعم ذيل حصان، حتى صك سمعها صوت رنين الباب فالتفتت برأسها للخلف غاضنة حاجبيها باستغراب.. تتساءل داخلها عن هوية ذلك الطارق الذي يدق في ليالي الشتاء المتأخرة هذه، خصوصًا لأن زوجها لا يطرق الباب مطلقًا بل يدخل على الفور بمفاتيحه الخاصة، لكنها رجحت أنه ربما يكون قد نسيها بالمنزل فخرجت من المطبخ بخطواتها الرقيقة متجهة إلى الباب ووقفت خلفه تسأل الطارق قبل أن تفتح:
_مين؟
وصلها صوت شقيق زوجها وهو يقول بنبرة صوت مريبة:
_أنا يا ليلى افتحي
ضيقت عيناها بدهشة من قدومه بذلك الوقت وعلى الفور فتحت له الباب بعينان مضطربة وراحت تسأله عن حاله أولًا:
_ماهر.. أهلا وسهلًا اخبارك إيه؟
تنهد الصعداء وقال بنظرة ليست طبيعية وكأن بجعبته الكثير ليقوله:
_الحمدلله بخير
هتفت ليلى بقلق حقيقي:
_مالك ياماهر هو في حاجة ولا إيه اصل فارس مش موجود لسا مرجعش يعني من الشغل
حك ذقنه بقلق ملحوظ وضيق وقال:
_ما أنا جايلك بخصوص فارس ادخلي بس معلش البسي هدومك وأنا هفهمك كل حاجة في الطريق
اتسعت عيناها بزعر وقالت بخوف:
_تفهمني إيه هو فارس ماله؟
ماهر بإيجاز محاولًا الحفاظ على هدوئه:
_هفهمك في الطريق البسي انتي بس الأول عشان منتأخرش
إجابته بغضب شبه منفعله من فرط توترها:
_مش هلبس حاجة غير لما تفهمني ياماهر
أطلق زفيرًا حارًا بعدم حيلة وقال في عبوس شديد:
_فارس عمل حادث
فغرت شفتيها وعيناها بصدمة وراحت تكتم بكفها على فمها بعينان تلألأت وامتلأت بالدموع ثم سألته بصوت مبحوح يغلبه البكاء:
_ حادث إيه هو كويس؟؟
ماهر بنبرة رخيمة:
_كويس متقلقيش ماما وبابا معاه في المستشفى وقالولي أنه كويس دلوقتي الحمدلله
تنفست الصعداء براحة ورددت خلفه ” الحمدلله ” ثم قالت بلهفة شديدة وقلق:
_أنا هروح البس بسرعة وهرجعلك مش هتأخر
هز رأسه لها بالموافقة بينما هي فاندفعت إلى غرفتها متلهفة وعيناها غارقة بالدموع خوفًا وحزنًا عليه، رغم كل ما يحدث بينهم لكنها لا تستطيع إنكار عشقها له.
***
داخل المستشفى بأحد الغرف الخاصة الذي تم حجزها له، كان متسطح على الفراش وعيناه مغلقة من التعب ورأسه ملتفة حولها شاش ابيض أما ذراعه اليسار فقد قام الطبيب بتجبيره بسبب الكسر الذي أصابه، وصدره ممتلئ باللاصق الطبي بعدما اخرجوا قطع الزجاج التي اخترقت جسده.
فتح عيناه بوهن ونظر تجاه الباب عندما سمع صوته يفتح فوجد كل من والده ووالدته التي ركضت عليه تحتضنه باكية وتهتف برعب جلي:
_حمدلله على سلامتك ياحبيبي كدا يافارس تعمل فينا كدا
ظهر الألم على ملامحه وتقوست تعبيراته بوجع بعدما لمست أمه جروح صدره، لكنه أجاب بخفوت محاولًا تحمل الألم:
_أنا بخير الحمدلله يا ماما متقلقيش
ابتعدت عنه بعدما لاحظت ألمه وهي تعتذر منه بقلق أما والده فقد اقترب منه ومسح على ذراعه ثم انحنى على رأسه يقبل شعره متمتمًا بحنو:
_حمدلله على سلامتك يابني، الحمدلله أنك بخير وربنا سترها
ابتسم لوالده بحب وأجاب:
_الله يسلمك ياحج.. امال فين ماهر؟
تبادلت أمه النظرات الغير راضية مع والده عندما سأل عن شقيقه ولم يسأل عن زوجته فردت أمه بضيق ملحوظ:
_ماهر بس مفيش ليلى فين؟!
مال فارس بوجهه للجهة الأخرى يتنهد بحنق دون أن يجيب على أمه أما والده فقد نهر الأم بحزم وقال بصوت غليظ:
_مش وقته الكلام ده دلوقتي يا سحر وبعدين
ثم نظر لابنه وقال بنبرة طبيعية تمامًا بعدما اتجه وجلس على اقرب مقعد بجوار فراش ابنه:
_ماهر راح يجيب ليلى من البيت عشان متعرفش ومحدش قالها
لم يبدى عن أي ردة فعل والتزم الصمت تمامًا وهو يفكر في أمر زوجته ووضعهم الحالي الذي يقودهم إلى حافة النهاية التي هم قد وصلوا إليها بالفعل ولم يتبقى سوى وضع النقاط الأخيرة على الحروف ليصبح كل شيء ماضي وانتهى.
في ذلك الأثناء دخل ماهر وتبعته ليلى التي اقتربت من فارس بخوف واهتمام ملحوظ ثم انحت عليه تعانقه وتهمس بقلق:
_أنت كويس يافارس؟
اجابها بنبرة ونظرة خالية من المشاعر:
_كويس ياليلى متقلقيش
لم تكن ساذجة وغبية حتى لا تفهم نقمه وغضبه الذي يظهر في تبلد مشاعره ونفوره منها، لكنه هو الذي تسبب في ذلك الشرخ بينهم، ابتعدت عنه بمعالم وجه متبدلة من الاهتمام واللهفة إلى الجمود والحنق وانتصبت في وقفتها ثم اقترب من سحر وعانقتها مرحبة بها ثم رحبت بوالده وجلست على طرف الفراش بجواره وهي تتجنب النظر لوجهه وهو كذلك…
***
في اليوم التالي بتمام الساعة التاسعة مساءًا داخل منزل فارس المكون من طابقين مبني ومزين بنقوش على الطراز الفرعوني من فرط هوسه بالحضارة الفرعونية وعشقه الفريد لعمله، كان أثاث المنزل كلاسيكي وفخم يجذب الأنظار بمجرد دخول المنزل، لكن رغم جمال هذا المنزل إلا أنه مسلوب الروح، تعيش به أجساد أرواحها منفصلة عن بعضهم البعض، زوجين رغم التحامهم جسديًا لكن الرياح القاسية فرقت أرواحهم فجعلت منهم غرباء يعيشون تحت سقف واحد.
وقفت ليلى أمام الباب وفارس خلفها يطالعها بجمود ويتابعها وهي تفتح الباب، ثم دخلت هي أولًا ولحق بها بخطوات بطيئة متأثرًا بأصابته وذلك الحادث الأليم الذي تعرض له، لاحظت هي تعبه وسيره بصعوبة فاقتربت منه لا إراديًا لكي تعينه وتأخذ بيده، لكن ما أن لمست يده سحبها هو بعنف ونظر لها بانزعاج يهتف بقسوة:
_شكرًا مش محتاج مساعدة
منذ ليلة أمس وهو يعاملها بتلك الطريقة المشينة التي لا تقبلها على نفسها، وقد طفح كيلها منه واشتعلت نيران صدرها غيظًا لتصيح به منفعلة:
_أنا نفسي افهم مين اللي المفروض يعامل التاني بالطريقة دي.. يعني رغم كل أنت عملته وأنت كمان اللي مش طايقني
صرخ بصوت جهوري نفضها بأرضها:
_أنا معملتش حاجة أنتي مشيتي ورا أوهامك وصدقتيها لغاية ما دمرتي كل حاجة بينا
شاركته هي أيضًا الصياح هاتفة:
_ياسلام بقيت أنا الغلطانة دلوقتي، وأنا اللي دمرت علاقتنا وجوازنا وأنت الملاك المظلوم في الحكاية اللي أنا ظلمته
رفع يده السليمة ومسح بكفه على وجهه متأففًا بنفاذ صبر من هذا الجدال العقيم الذي لا ينتهي أبدًا حتى بوقت كهذا بعد تعرضه لحادث كاد أن ينهي حياته، كل ما يهمها إظهاره مذنب والمتسبب الوحيد في إفساد علاقتهم.
رد عليها بخنق وصوت محتقن:
_لا أنتي المظلومة يا ليلى وأنا الراجل الزبالة الحقير اللي عمل كل حاجة بشعة في مراته.. ارتحتي كدا، ورغم الوضاعة والحقارة اللي أنا فيها تنازلت ووافقت على طلبك وهطلقك عايزة إيه تاني، خلينا بقى نقضي آخر كام يوم مع بعض في هدوء كأي اتنين متحضرين لو سمحتي عشان لما ننفصل يفضلنا حاجة حلوة نفتكرها لبعض احسن ما تبقى حتى ذرة الحب والود اللي متبقية بينا تنعدم ومنبقاش طايقين نبص في خلقة بعض
لمعت عيناها وتلألأت بالعبرات وظلت تحدقه بخزي والم ثم قالت بصوت مبحوح:
_عندك حق احنا أصلًا كل حاجة بينا انتهت فملوش داعي الكلام اللي هيخلينا نكره بعض اكتر ده
انهت كلماتها واندفعت نحو الدرج تصعد مسرعة متجهة لغرفتها وتتركه يقف مكانه يراقب بعيناه اندفاعها بعيدًا عنه، لكنه للأسف لم يعي بها كثيرًا فبنظره هي التي دمرت كل ماهو جميل بينهم بعنادها وأوهامها وإصرارها والآن تعيش دور الضحية أمامه.
هم بأن يتحرك يكمل طريقه لغرفته المنفصلة عنها لكي يرتاح لكن صوت رنين الباب أوقفه وجعله يلتفت برأسه للخلف متأففًا بحنق من ذلك الطارق الذي جاء في غير موعده إطلاقًا، تحرك ببطء تجاه الباب ثم مسك بالمقبض وفتحه ليرى أمام صديقته أو بالأحرى صديقة العائلة المقربة ” راندا ” كان يظهر على محياها اللهفة ودون أي إنذار اقتربت منه وعانقته متمتمة بحزن:
_حمدلله على سلامتك يافارس أنا والله أول ما قالي عز جيت جري أشوفك واطمن أنك كويس
ابتسم لها بود ثم ربت على ظهرها برفق وسطحية شديدة متمتمًا:
_أنا بخير الحمدلله ياراندا متشكر على سؤالك واهتمامك
ابتعدت عنه ونظرت في يده اليسار المكسورة ورأسه الملتف بشاش أبيض حتى وجهه ممتلئ بالخدوش والإصابات، فطالعته بأسى وخوف وعادت تسأله مجددًا برقة:
_أنت بجد كويس مفيش حاجة تعباك!
ضحك بخفة وقال مازحًا:
_في إيه يا راندا اهدى، أنتي شايفني بطلع في الروح، ما أنا واقف قصادك أهو زي الفل، هو أنا لو مش كويس كنت هفتحلك الباب بنفسي
اخذت نفسًا عميق بارتياح ثم سألت بترقب:
_صحيح امال ليلى فين مفتحتش الباب ليه أنت المفروض تكون في اوضتك عشان ترتاح
رد عليها بعبوس وهو يشير بعيناه للأعلى:
_طلعت في اوضتها فوق
راندا بنظرة عابسة مثله:
_اتخانقتوا طبعًا مش كدا؟
هز رأسه بالإيجاب فقالت هي بغضب وانزعاج:
_والله ليلى دي رأسها ناشفة وعنيدة ربنا يهديها، حتى وأنت في الوضع ده بتتخانق معاك بدل ما تقول الحمدلله أنك رجعتلها بالسلامة
فارس بصوت رجولي غليظ:
_اطلعي شوفيها واقعدي معاها
أجابت بالموافقة واهتمام ملحوظ وهي تقترب منه:
_هشوفها بس هساعدك الأول لغاية الأوضة أنت أكيد تعبان ومش قادر تمشي
رفض فارس بلباقة ونظرة جادة:
_أنا كويس ياراندا متشغليش بالك بيا اطلعي أنتي شوفيها واطمني عليها
لوت فمها بضيق عندما رفض طلبها لكنها حاولت عدم إظهار ذلك الضيق وابتسمت له وهي تهز رأسها بالموافقة ثم تستدير وتتجه للدرج قاصدة غرفة ليلى بالأعلى.
***
داخل غرفة ليلى، سمحت للطارق بالدخول عندما خيل لها أنه قد يكون هو وقد جاء ملتمسًا العذر ينوي مصالحتها، لكن انفتح الباب وتبخرت أحلامها في الهواء عندما رأت راندا التي دخلت وأغلقت الباب ثم اقتربت منها وعانقتها بحرارة هامسة:
_عاملة إيه ياحبيبتي؟!
ليلى بعبوس وحزن شديد:
_اهو زي ما أنتي شايفة ياراندا دايمًا خناق، خلاص كل حاجة انتهت مفيش فرص تاني لينا
لوت راندا فمها بشجن ثم قالت بنظرة ثقة:
_انتوا أصلًا مينفعش تكملوا مع بعض بعد كل المشاكل دي وكل اللي قولتوه لبعض، الصراحة يا ليلى الطلاق هو اسلم حل ليكم
ليلى بعينان دامعة وصوت يغلبه البكاء قالت:
_أنا عارفة أن خلاص كل حاجة انتهت بينا والطلاق أمر مفروغ منه، بس على الأقل يحاول يتمسك بيا يخليني أحس أنه كان بيحبني ولو حاجة بسيطة
راندا بصوت قوي ونظرة غاضبة:
_هو مبيحبكيش هتخليه يحبك غصب، انتي كدا بتنقذي اللي متبقي من كرامتك وصدقيني ربنا هيعوضك بشخص افضل يكون بيحبك بجد
مسحت ليلى عبراتها وكلمات راندا رغم قساوتها إلا أنها تذكرها بقرارها وأنها يجب أن تصر ولا تتنازل عنه، فهي ليست أمرأة تقبل العيش مع رجل لا يحبها حتى لو كان قلبها متيم به.
بينما راندا فتابعت بحنو وهو تمسح على ذراعها:
_يلا قومي اغسلي وشك وبلاش تبقى قدامه ضعيفة ومكسورة كدا خليكي قوية لغاية ما تاخدي اللي بتسعيله
ابتسمت لها ليلى بحب صادق ونقي ثم اقتربت منها وعانقتها هامسة:
_شكرًا بجد ياراندا، أنا مش عارفة من غيرك كنت هعمل إيه ولا كنت هفوق من وهم حبي لفارس ده وأشوف حقيقته ازاي لولاكي، ربنا يخليكي ليا
مسحت على ظهرها بدفء وقالت ضاحكة:
_بلاش عبط أنتي اختي حد بيشكر أخته يا ليلى
هزت ليلى رأسها بتفهم ووجهها مازال يزينه ابتسامتها الناعمة، ثم استقامت واقفة واتجهت للحمام تاركة راندا بمفردها تتابعها وهي مبتسمة!!.
***
بصباح اليوم التالي…….
فتح فارس عيناه على أثر صوت زوجته وهي تهتف بصوت رقيق:
_فارس قوم، عز ودكتور أمجد تحت
استقام واعتدل جالسًا وهو يمسح على وجهه بخمول ثم أجابها بصوت رجولي غليظ:
_طيب يا ليلى هنزلهم
راقبته بنظرات مطولة في ضيق ثم استدارت واتجهت لباب الغرفة لتنصرف وتتركه، رغم أنه هو المصاب والذي تعرض لحادث إلا أنه يفكر الآن بما سيبرر خطأه الفادح لـ أمجد أثناء فتح المقبرة وتلك الأرواح التي زهقت بسبب إهماله، أطلق تنهيدة حارة متأففًا بحنق ثم هب واقفًا واتجه للحمام، وبعد عشر دقائق تقريبًا خرج وقاد خطواته البطيئة لخارج غرفته ومنها للطابق الأرضي تحديدًا لغرفة مكتبه.
دخل واقترب من أمجد الذي هب واقفًا ومد كفه للمصافحة ليهتفوفارس بترحيب واعتذار مهذب:
_أهلًا وسهلًا يادكتور، بعتذر عن التأخير بس كنت نايم
رد أمجد بجدية وابتسامة حازمة:
_ولا يهمك يادكتور فارس، وحمدلله على سلامتك
رد فارس بابتسامة خافتة بعدما لاحظ صرامته في الحديث:
_الله يسلمك
ثم القى نظرة على صديقه يرحب به بطريقة مختلفة واتجه للمقعد المقابل له ليجلس عليه وهو يثبت نظره على أمجد صاحب التعبيرات المريبة، فقرر هو بدء الحديث بالاعتذار عن خطأه:
_أنا معترف بالخطأ اللي ارتكبته يادكتور في المقبرة مكنش ينفع اسيب العمال والحفارين لوحدهم، ومستعد لأى عقاب تشوفه حضرتك أو الهيئة مناسب
أجاب أمجد بنفس تعبيرات وجهه السابقة بل وازدادت حدة:
_اللي فات مات زي ما بيقولوا يافارس والمرة دي مفيش عقاب أنت أول مرة تغلط وهعتبرها غلطة لا تحسب، وأنا مش جايلك عشان نتكلم في القديم
علت علامات الاستفهام صفحة وجهه بينما عز فكانت نظراته مرتبكة تنم عن معرفته لسبب قدومهم الحقيقي لزيارته، تابع أمجد حديثه بصوت أجشَّ:
_في قرار من الهيئة أن في عملية تنقيب كبيرة عن آثار ومجموعة مقابر لملوك وملكات هنكتشفها ومكانها في الأقصر، والهيئة اختارتك أنت خصيصًا عشان تشرف على العملية دي
سكن وظهرت علامات الارتباك على محياه مفكرًا في ذلك الكلام ثم قال محاولًا التحجج:
_يادكتور بس دي عملية كبيرة ومسئولية أكبر، دي غير أن حضرتك شايف وضعي الصحي أنا لسا امبارح طالع من المستشفى
هتف أمجد بغلظة وعينان تحمل نظراته غاضبة:
_ده مش اختياري يافارس الهيئة اختارتك وأنت لازم هتنفذ، ثم أن أنت مش واثق في قدراتك ولا إيه هو انت لسا مبتدأ، ده غير أن هيكون في مكافآت مالية مجزية جدًا في العملية دي بعد ما تنتهي
حاول فارس الاعتراض ثانية متمتمًا:
_بس يادكتور اااا…
قاطعه ومنع استرساله لحديث أو سماعه لحججه واعتراضاته:
_مفيش بس.. جهز نفسك عشان هنتحرك بكرا، ولو على وضعك الصحي متقلقش أنت مش هتعمل أي حاجة كل مهمتك أنك تؤدي وظيفتك وهي الأشراف وأنك توجه الحفارين والمنقبين وتدي الأوامر
أدرك فارس أن لا مفر له وأن الموافقة إجبارية فقال بضيق ملحوظ:
_مش بدري شوية بكرا دي يادكتور
أمجد بكل بساطة وعدم اكتراث:
_ما أنت عارف أن دي قرارات بتنزل من الهيئة مش مننا احنا وهما اللي حددوا المعاد
هز فارس رأسه مغلوبًا وأطلق زفيرًا حارًا بانزعاج أما أمجد فقد استقام واقفًا وقال مبتسمًا برسمية:
_هستأذن أنا وحمدلله على السلامة مرة تاني
استقام فارس واقفًا بدوره هو الآخر وصافح أمجد مودعًا أياه:
_مع السلامة يادكتور
ألقى عليه تعليماته الحازمة قبل أن يترك يده وبنظرة قوية قال:
_المرة دي أي غلطة بعقاب عسير يافارس مش عايز أي خطأ واعمل حسابك أن العملية دي ممكن تاخد اسبوع
كان فارس يكتفي بهز رأسه في امتعاض دون أن يتفوه بكلمة واحدة تبدي عن عدم رضاه لاختيارهم له في تلك الظروف خصيصًا.