رواية صرخات انثي الفصل المائة وواحد بقلم آيه محمد رفعت
اختلجت أنفاسها، وكأنها تساق لنقطة فاصلة لقطع شكوكها، تزاحمت الدموع في عقر دارها، ومُقلتيها تتلصص على ملامحه بكل عشقها المركون داخلها، بينما الآخر يقف قبالتها في سكون، وخفقات ضربت نياط قلبه، فرعش جسده بأكمله استجابة لتلك الذبذبات التي أنعشته، وجعلته يشعر بأنه على قيد الحياة!
أصدرت أمرها بتحرك جسدها، فتحرك إليه بخطوات بطيئة، دموعها كانت أسرع من خطواتها التي خطتها إليه، ولسانها لا يتوقف عن ترديد إسمه بكل لهفة واشتياق.
مال جسدها حتى كادت بالسقوط، فأسرع "علي" لمساعدتها ولكن ذراعي زوجها كانت الأسرع لها، أمسكها بقوة جعلتها تستعيد كل ذكرى كان يشد من قوتها ودعمها، فعاد يساندها مثلما إعتاد.
أحاطها يدعمها بقوته ، مالت إليه وعينيها لا تفارق خاصته، أحاطت وجهه بيديها وقد تركت عنها البكاء ليخبره كم عانت دونه، مالت على صدره باكية، ارتطم جبينها به، فتيقنت كل اليقين أنه حيًا.
ثمة نبضات تخفق من أسفل أذنيها، فحررت جليد جسدها، أحاطته بكل قوتها، وقالت شاكية له:
_كلهم قالولي إنك مش راجع، كلهم قالوا إنك مت خلاص، أنا كنت عارفة أنك هترجعلي، كنت واثقة إنك مش هتقدر تعمل فيا كده.
رفع ذراعيه يبادلها ضمتها الهزيلة بقوة، بينما يترك أحاسيسه تخترق تلك البرودة، فشعر، وكأنه ارتدى ملابس مبطنه من نيران عشقها المتسرب إليه.
تهاوى الدمع بعيني "علي" تأثرًا بحديثها، ولولا حساسية ما يمر به "عُمران" لترك لهما مساحتهما الخاصة، ولكن عليه أن يفصلهما لينبهها بحالته.
شددت "مايا" من التعلق به، بينما يميل بها لداخله، لقد بادلها مشاعرها بدون أي مجهود منه للمعارضة، الأمر كان يبدو غريبًا له، كان تفكيره الأساسي منذ قليل يحوم على كيفية التعامل معها، ولكنها بمجرد أن اقتربت وطالبت بأن تنزوي بين حصن قلعته، استقبلها بكل ذرة بمشاعره.
مالت تطبع قبلة على كتفه، بينما تستطرد ببكاءٍ حارق:
_أنا مملتش ثانية من انتظارك، كنت مستعدة أستناك عمري كله بس ترجعلي!
اختلجته دموع وغصة مؤلمة تزداد عليه، بينما يحتوي جسدها إليه، ترقبت أن يتحدث لها، ولكنه كان صامتًا، يصغي لكل كلمة صادرة عنها بامعانٍ، بينما تعود هي لاحتضانه تارة، ولتأمل وجهه بعدم تصديق تارة آخرى.
وضع علي عينيه أرضًا واقترب بمسافة معقولة منهما:
_مايا ممكن تيجي معايا بره شوية، في حاجة مهمة لازم تعرفيها.
رفعت رأسها عن كتفه، تراقب معالم وجهه بتركيزٍ، فتجاهلت حديث علي ونادته بخوفٍ:
_إنت ساكت ليه يا عُمران؟ أتكلم معايا من فضلك!
تعمق بنظرته الحزينة لها، وشعور العجز يضعفه كليًا، فإذا بـ علي يصر على طلبه:
_مايا من فضلك تعالي معايا.
أحاطها الخوف برداء ثقيل، فضمت وجهه بين يديها ورددت بصوتها المبحوح:
_صوتك وحشني، متسكتش أتكلم، قولي أيه اللي منعك ترجعلي طول الفترة اللي فاتت دي، إزاي هان عليك تسبني أتعذب في بعدك عني كل ده، رد عليا، فهمنـي!
سحب عينيه من لقائها، وتلك المرة لم يسمح لها "علي" بقول المزيد، فشدد على حديثه حينما أبعد أخيه للخلف وواجهها بنظرة صارمة:
_إطلعي معايا حالًا، اللي بتعمليه ده ممكن يجيب معاه نتيجة عكسية يا مايا.
وزنت حديثه المحذر لها، فانقبض قلبها مما يختبئ خلف صمته الغامض، نبئتها حواسها أن هناك جزءًا مظلمًا يخفيه كلاهما عنها!
******
داعب صوته الحنون نومها الثقيل، ففتحت عينيها بتعب شديد، فرأت دمعاته تحتل مُقلتيه، ونظراته المهتمة تسكنه، مرر يده على خصلاتها الملتصقة على جبينها، ويده الآخرى تزيح عرقها النازح.
تعجبت لرؤيته بتلك الحالة، فنادته بغرابةٍ:
_يوسف!!
أبعد يدها، وجلس جوارها يميل من فوقها، طابعًا قبلة أعلى جبينها:
_حمدلله على سلامتك يا دكتورة.
منحته ابتسامة متعبة كحال جسدها الهزيل، ومالت بعينيها تراقب السرير الصغير المجاور لها، متسائلة:
_فين البيبي، عايزة أشوفها؟
مال يعيد قبلته على جبينها، ونطق بكل حب:
_هجبها حاضر، ارتاحي إنتِ بس.
ونهض يرنو من صغيرته، حملها وعاد يضعها بين ذراعيها، حملتها "ليلى" وقبلت جبينها بفرحةٍ، بينما يحاوطهما "يوسف" بين ذراعيه، ويمسل بهما على، الفراش.
راقبت "ليلى" ملامح الصغيرة بابتسامةٍ واسعة، ورددت بانبهارٍ:
_دي شبه الملاك يا يوسف، بص ملامحها صغيرة أوي ازاي!!! حاسة كأني أول مرة أشوف بيبي مولود.
نذر عنه ضحكة مسموعه، بينما يخبرها:
_أنا واخد على الحجم ده لإني بشوفه تقريبًا بشكل شبه يومي يا ليلى، بس بالنسبالي بنتي أحلى قمراية شالتها وشافتها عنيا.
منحته نظرة محذرة بحاجبيها المعقودان:
_ومامت بنت جنابك، محلها أيه من الاعراب يا دكتور؟
ضحك وهو يضمها بحبٍ:
_محلها شامل بكل الاعراب، دي رافعة الادرينالين، وجره قلبي وراها جر، ولو ترضى تنصبني أب تاني لابن منها أكون سعيد الحظ.
تخلت عنها ابتسامتها، وكأنها لم تزورها قط، فاذا بها تبتعد عنه وتشير بعينيها أن ينهض، ويضع الوسادة من خلفها، نفذ ما طلبته منه بقلقٍ من طريقته الجافة، وإذا بها تخبره:
_اطلع بقى بره ويا ريت متورنيش وشك لأربع خمس سنين قدام، كده كده سيف راح يسجل نوجة، وزينب بتحضرلي حاجة سخنة أشربها، يعني إنت مالكش أي لزمة يا دكتور.
جعل نظرته مصدومة، وقال:
_بتطرديني يا لوليتا؟
هز رأسها بكل ترحاب:
_بالظبط.. اتفضل بقى خليني أخد راحتي أنا والبنت.
أخفى ابتسامته وأعدل من البلطو الطبي الذي يرتديه:
_همشي ولما مفعول المسكن يخلص إنتِ حافظة رقمي، بس فكري في العرض اللي هتغريني بيه عشان اقبل اديكي جرعة المخدر أقصد المسكن.
قالها وخرج بكل كبرياء، بينما الاخيرة ترمقه بحنقٍ، وبينما كان بطريقه للخارج، فاذا به يرى جمال قبالته، وكان الاسرع له، وبسؤاله:
_طمني يا يوسف، مدام ليلى قامت بالسلامة؟
سكن الحزن معالمه فور أن رأه، كان بحاجة لأحد منهما جواره، غادر الآخر الحياة، ولم يبقى له سوى من أتى مهرولًا إليه.
أفاق يوسف من شروده على هزة يد جمال، فرسم ابتسامة مخادعة وقال:
_فاقت الحمد لله، وربنا رزقنا بعروسة ابنك، ها جاهز تشيل من دلوقتي ولا تصبر عليها لما تسنن؟
لفظ أنفاسه على مهلٍ، وصاح فيه:
_يا أخي وقعت قلبي، أمال مالك وشك عمل كدليه لما شوفتني؟!
انسحب من لقاء عينيه وادعى انشغاله بالملف الذي يحمله:
_عملت أيه، أنا كويس وزي الفل قدامك أهو!
أبعد جمال عنه الملف، وعاد يتفرس بعينيه الدامعتان، وجده يجاهد ألا تسقط عنه دموعه، يخشى أن يضعفه وهو يعاني ولم يتعافى من الاساس، علم جمال بأنه يفتقد وجود عُمران رفقته بذلك الوقت الذي لم يكن ليتخلى عنه فيه أبدًا.
أمسك "جمال" بدموعه طوعًا، وبدون أي حرف يقال عنه، سحبه يضمه في عناقٍ صامت، يكبت كلاهما دمعاته بصعوبة، يستمدان الصبر من بعضهما البعض، وأكثر ما أوجع جمال إنهيار يوسف الغير متوقع في مناسبة هامة كتلك.
*****
_يعني أيه يا علي؟؟!
قالتها مايا وصدمتها تحرر كل الوجع ليموج داخل مُقلتيها بشكلٍ انتحاري، حاول "علي" أن يهدأ من روعها، فقال بصوته الرخيم:
_عُمران كان بين الحيا والموت يا مايا، ربنا سبحانه وتعالى إداله عمر جديد، أي حاجة تانية مش المفروض نهتم بيها، عارف انه فقدان الذاكرة شيء مؤلم ومش محتمل ليكِ ولا ليا، بس عندي الثقة إن الست اللي حاربت عشان تكسب قلب جوزها بعد ما كان ميال لغيرها، هتعمل ألف حاجة عشان تكسب الحرب التانية وهترجعه لنفسه.
وأضاف وهو يتابعها تبكي بانهيارٍ:
_مايا القوية اللي وقفت تواجه فريدة هانم بمنتهى الشجاعة، قادرة تقف في وش الظرف ده وتغلبه ولا عُمران ميستحقش منك كده؟
أزاحت دموعها المنهمرة على وجنتها الحمراء، وباتت تهمس ببحة صوتها المنخفض:
_يستاهل يا علي.
قالتها وانطلقت لغرفتها دون أن تضيف كلمة أخرى، وبداخلها تستجمع كل ما غاب عنها لمواجهة تلك العقبة التي ستجعل من زوجها رجلًا غريبًا عنها!
بالغرفة.
تلصصت عينيه على محتويات الغرفة ببطءٍ، ما زواية بها حملت له صور غير مكتملة، صوت الضحكات تخترق أذنيه، كل مكان حمل له عن مشاهد رومانسية عبرت له عن عشقٍ دفين خُلق بينه وبين زوجته، كل شيءٍ يدور من حوله بسرعة البرق، جمل مقتطفة، عبارات تخترق رأسه، لدرجة جعلته يشعر بدوارٍ عنيف يراوده، حتى شعر بكفها الرقيق يستحوذ على ظهره.
استدار إليها فوجدها تتطلع له بقوة لا يعلم من أين أتت بها تلك الهزيلة، بينما تراقب هي كل فعلٍ صادر عنه، وبثباتٍ قالت:
_مهما علي أكدلي إنك فاقد الذاكرة انا عمري ما هقتنع إنك مش فاكرني، لو نسيت الكون كله مستحيل أنك تنساني يا عُمران.
واقتربت منه تتطلع له في تحدٍ سافر:
_بصلي كويس وقولي إنك مش فاكرني! بص في عنيا زي ما كنت بتعمل وقولي معرفهمش، إنت في اللحظة اللي واقف فيها قدامي صوت نبض قلبك واصلي من مكاني هنا!
وأمسكته من تلباب قميصه تصرخ في وجهه:
_ساكت ليـــــه، أتكلــــم!!!
وأضافت وقد ألقت كل تحذيرات علي عرض الحائط، بينما تنهار باكية اسفل قدمي عُمران الذي يتابعها بوجعٍ:
_استنيتك ترجع وتأخدلي حقي وحق وجع قلبي من اللي وجعوني، كنت مستنياك تأخدني في حضنك واشتكيلك من اللي شوفته في بعدك، أوصفلك وجع قلبي، والايام اللي قضتها من غيرك في المستشفى، كنت مستنياك بصبر كبير وكنت مستعدة أستناك لاخر يوم في عمري، والله مستعدة لأي وجع بس صعب عليا أتحمل نظراتك الغريبة دي.
واستطردت وشهقاتها تنحسر بوجعٍ:
_علي عايزني أحارب عشانك بس أنا ضعيفة وبعدك عني في وجودك قتلني!
قالتها وضمت ذاتها، تدفن رأسها بين ذراعيها وتترك العنان لدموعها، تابعها عُمران في عجزٍ تام، بداخله معركة طاحنة بين عجزه عن التعامل مع تلك الفتاة، ومواجهة أخرى لصوت يوضح له أنها زوجته، يود الاقتراب ولكنه يخشى أن يتخطى حدوده المحرمة بينهما، خلوته مع تلك الفتاة تقشعر بدنه في حد ذاته.
ألقى ما يعتريه، وأخرس كل الاصوات بصوتٍ واحد، أن تلك الفتاة زوجته، الحقائق بأكمله تنص أنه "عُمران سالم الغرباوي" ، فليضع كل شيءٍ جانبًا وليتعامل على هذا الاساس.
إنحنى عُمران وجلس قبالتها أرضًا، ثم وضع كفه فوق كفيها، وقال بتوترٍ:
_بس أنا جنبك ومش بعيد يا مايا!
وأضاف بحنانٍ صوته الرجولي الدافئ:
_أنا آسف لو مكنتش جنبك في كل اللي مريتي بيه ده، بس أوعدك إنك مش هتعاني تاني في وجودي.
رفعت رأسها إليه، تتطلع له بدهشةٍ،، تود أن يتحدث إليها لأخر لحظة بحياتها، تود سماع صوته فحسب، ارتسمت ابتسامة تعاكس دموعها المنهمرة، بينما تهتف بذهولٍ:
_عُمران!
زحفت إليه حتى قطعت مسافته الاخيرة بينهما، وترجته بشكلٍ مزق قلبها:
_إتكلم تاني عشان خاطري، صوتك وحشني، وإنت آآ... إنت كمان وحشتني أوي.
وأضافت والمُقل تحتضن بعضها:
_بالله عليك قولي انك فاكرني ومنستنيش حتى لو هتكدب عليا.
غارت عينيه بالدمعات القابعه داخلها، بينما يجلي صوته الهادر:
_من لحظة ما عنيا شافتك وقلبي مطمنلك، حسيت إنك مني وتخصيني.
وأضاف بصدقٍ وهو يراقب بسمتها الرقيقة:
_قربك من قلبي عوضني إحساس النقص اللي كنت حاسس بيه طول الفترة اللي فاتت، أنا عارف إن اللي بيحصل ده صعب عليا وعليكي، فلو علي وصفلك غربتي عنكم إنها حرب فمش هسيبك تخوضيها لوحدك، أنا معاكِ وهفضل جنبك على طول، بس أنا كمان محتاجك جنبي ومعايا.
احتملت على ركبتيها وحبت تجاهه تخبره بكل محبةٍ وعشق:
_أنا مش هفارقك الا بموتي يا عُمران.
تلك المرة هو الذي بادر بضمها، احتضنها بقوةٍ وكأنها أخر ذكرى ستجمعه بها، ولم يشعر كلاهما بطول الوقت وهما على هذة الحالة، فارتكن بها عُمران على الحائط وتركها تغفو على صدره بينما هو يفرد قدميه، ويثني الاخرى من خلف ظهرها ليمنحها نومة مريحة، حظت بها بعدما هجرها النوم المريح لأيام، بينما بقى هو يراقب ملامحها بحب بدأ يتربع داخله لمرته الثانية، وكأنه يختار حبها بملء إرادته في كل عهد بات فيه!
*******
أشرقت الشمس بيومها الصباحي، فداعبت أهدابها المُغلقة، مالت "مايا" بانزعاجٍ مما يراودها في منامها، فانتفضت جالسه وهي تراقب المكان من حولها في هلعٍ ورعب من أن تكون تتوهم بوجوده وبما حدث بالأمس، فإذا بالسكينة تغمرها حينما وجدته يغفو على الحائط، وجسدها يستريح على ساقه المثنية.
عادت تميل على ساقه وتلك المرة وجهها يميل إليه، يراقب ملامحه بشوقٍ وحب، فاذا به يفرج عن رماديتاه ليقابل نظرات عينيها المهلكة.
بقي مسترخيا على الحائط، وبادلها النظرات بسكينة نزلت على قلبه ببقائها لجواره، لقد داهمه النوم أخيرًا بشكلٍ جعله لا يستوعب بأن نومته غير مريحة، تدلت شفتيها بابتسامة رقيقة، ورددت بصوت نعاسها المغري:
_ عُمران.
بادلها الابتسامة وردد بعشقٍ هاجمه كالداء:
_حبيب قلبه وروحه أنتِ يا مايا!!!!!!
❤️❤️❤️
المُقل في عناقٍ طويل، لم يصل للأذرع بعد، إعتاد لسانه على تعظيمها وندائها بأسمى مواطن عشقه، فنطق بما اشتاق بقوله رغمًا عنه، ولولا تلك النظرة المترددة برماديتاه بعد نطق ما قال لصدقت بأنه قد استعاد ذاكرته.
نظرته بالرغم من أنها تمزج بين الحيرة والذهول من نطقه لتلك الكلمات، الا أنها عكست التيهة التي يخوضها بتلك الحالة، فرأفت به حينما رسمت أجمل ابتسامة سلبته:
_ده كان ردك اللي اتعودت عليه منك لما بناديك.
جاهد "عُمران" لرسم ابتسامة صغيرة على ثغره، وقال:
_لو حباني أقولها بشكل مستمر معنديش مانع لو ده هيسعدك.
اتسعت ابتسامتها الرقيقة، وأخبرته بثقةٍ:
_هترددها غصب عنك لان لسانك متعود عليها.
استقام برأسه يتطلع لها باستغرابٍ، نتج عنه قوله الساخر:
_على حسب ما سمعت منهم إن يُقال عليا الطاووس الوقح، بس اللي شايفه عكس ده، هو مين فينا المغرور بالظبط يا حرمي المصون؟!
راق لها حديثه، وقد بدأ يشعرها بأنه يتقبلها كزوجة رغم فقدانه كل ذكريتهما معًا:
_تقدر تقول من العشرة اللي بينا يا حبيبي.
ارتجفت نبضات قلبه تأثرًا بكلمتها العفوية، فصفن بجمال لون عينيها، وتضاعف فضوله حول رؤيته لخصلات شعرها التي مازالت تخفيها خلف إسدال صلاتها، ابتلعت ريقها بارتباكٍ من نظراته، وكأنها تتعرف عليه لمرتها الأولى.
فاذا بها تبتعد عن الاستناد عن ساقه، وتهتف:
_أكيد كالعادة هتحب تأخد شاور قبل ما تنزل تفطر، هقوم أحضرلك الحمام لحد ما تختار اللبس بنفسك ومتقلقش مش هاجي جنب لبسك ولا هختارلك شيء زي ما عودتني ، مش هبدأ علاقتي معاك بمشكلة.
قالتها وحاولت الإتكاء على يدها لتنهض عن الأرضية الرخامية، فاذا به ينتصب بقامته، ويجذبها برفقٍ حتى استقامت قبالته، تتطلع له بشوقٍ لحنانه ورقيه المعتاد معها، حبيبها لم يفقد شيئًا مما إعتاد عليه، ربما خسر ذاكرة التعرف على الأشخاص ولكنه هو ذاته نفس الشخص الذي سقطت ضحية عشقه حتى النخاع.
إنسحبت من زهوة التطلع لعينيه، وإتجهت تشير له على الخزانة، بينما تتجه لحمام الجناح لتحضره له بعطوره ومنظفاته الخاصة مثلما إعتادت، بينما وقف عُمران قبالة الخزانة الضخمة، يتأمل الجزء المخصص له بإعجابٍ وانبهارًا خالص.
أيقن كل اليقين بأنه ذو ذوقًا رفيعًا، وربما هذا ما دفعه لعدم قبول ملابس "صابر" و"موسى"، مرر يده على صفوف البذل الآنيقة بشرود، ومن بين الملابس المريحة، إختار بنطال رمادي، وقميصًا أبيض، ثم أتجه يجذب بقية متعلقاته، وتحركاته تتخذ سبيلها من مكانٍ لأخر، وكأنه يحفظها عن ظهر قلب!
وقف عُمران أمام المرآة الضخمه، يرى إنعكاس صورته الحالية، ويشمل صوره المُعلقة على الحوائط، بدى وسيمًا للغاية قبل أن يفقد شعره الطويل، ربما المسألة متعلقة بالوقت لاستعادته، ولكن أكثر، ما يطمح به أن يستعيد ذاكرته أولًا.
لاحظ خروج "مايا" من الحمام، ترنو إليه وهي تخبره بابتسامتها:
_الحمام جاهز.
استدار يراقب بإعجابٍ خصلات شعرها المتحررة عن حجابها الذي نزعته عنها، فارتبكت من نظراته التي تشعرها وكأنه رجلًا غريبًا، هدأت من روعها بصعوبةٍ، وأعادت قولها مجددًا:
_أنا جهزت الحمام يا عُمران، خلص الشاور بتاعك بسرعة عشان علي مستنينا تحت وعايزك ضروري.
إكتفى بإشارة هادئة من رأسه، وولج للحمام المنشود، بينما اتجهت هي للفراش، وهي تحرك أصابعها حتى تحصل على بعض الهواء الذي لا يصل لوجهها رغم برودة الأجواء الذي يحدثها مكيف الغرفة، غربته بتعاملها معها يمنحها شعور المراهقة، يعيدها لعذرية مشاعرها الأولى معه!
ظلت بانتظاره وبيدها الهاتف، تخبر علي الذي يشدد لها أن تهبط به للاسفل، ولا تعلم ما السبب، أخبرته بأنهما سيكونان بالأسفل بعد ربع ساعة.
****
بينما بالأسفل، وبالأخص بغرفة المكتب السفلي.
مالت تستند على الطاولةٍ، بينما تجاهد لالتقاط أنفاسها بشكلٍ طبيعي، على يمينها أخيها الذي يحاول أن ينظم مجرى أنفاسها العنيف، وعلى يسارها زوجها الذي يمنع تساقط خصلاتها الناعمة على وجهها الباكي.
كلاهما يبذلان أقصى ما بوسعهما لجعلها تتوقف عن البكاء، فإذا بآدهم يخرج عن صمته حينما إنحنى بقامته، يحاوط بكفه الذي يلامس خصلاتها وجنتها الناعمه:
_كده يا شمس، بتندميني إني قولتلك الحقيقه، هو ده الوعد اللي ادتهوني؟
فتحت عينيها الياكية تطالعه بدهشةٍ:
_عايزني أكون متماسكة إزاي بعد اللي قولتهولي يا آدهم، عُمران عايش ده خبر كفيل يبعدني عن كل الذكريات الوحشة اللي عشتها، بس كل ده انهدم في لحظة ما عرفت أنه مش فاكر حاجه عننا، أنا مصدومة ومش قادرة أصدق إنه هيتعامل معانا زي الغريب!!
مرر الألم جوفه وهو يرى شقيقته بتلك الحالة، فمنع "آدهم" من الحديث، وهتف بصرامة:
_بصيلي يا شمس.
استقام "آدهم" بقامته الممشقة، ووقف على مسافة منهما يراقبها ويديه موضعه بجيب سرواله، بينما يميل بساقه الاخرى على الحائط، ترك الساحة إلى "علي"، ومن سواه هو سيتمكن من سحر العقول.
استجابت له، ورفعت عينيها المتورمة إليه، تتطلع له بانكسارٍ، فاذا به يميل مستندًا على ركبتيه، ليكون بنفس طول المقعد الذي تعتليه، ضم وجهها بيديه الدافئة:
_حبيبتي أنا عارف إنك متعلقة بعُمران، وصعب تتعاملي معاه بطريقة معودكيش تتعاملي بيها معاه، عارف ومقدر وحاسس بيكِ، بس اللي عايزك تفهميه إن كل ده وضع مؤقت، عُمران من أول ما ظهرتله ولحد اللحظة دي بيجتاز كل التحذيرات اللي قالنا عليها الدكتور بشكل مبهر، صدقيني هيرجع وهيرجع أحسن من الأول كمان.
خطف نظرة سريعة للباب حينما استمع لصوت حذاء أنوثي يقترب من الغرفة، فوجد زوجته تقف وبيدها كوب العصير، الذي طلبه منها لشقيقته، وكانت تستمع لحديثه لها ودموع الشفقة والحزن تموج بعينيها، وها هي الآن تستعيد ثباتها، وترنو إليهم قائلة ببسمة رقيقة:
_العصير المفضل لأجمل شمس هانم بالدنيا.
رفعت زُرقتها إليها، تجاملها بابتسامة لم تصل لعينيها الباكية، بينما يحمل" علي"الكوب ويقربه من شقيقتها، متسرسلًا بحنان:
_يلا يا حبيبتي، اشربي ده وخدي نفسك بانتظام عشان تكوني مستعدة.
أبعدت فمها عن الكوب، بينما تتعمق بعيني أخيها:
_مش هقدر يا علي، أنا خلاص هديت والله، بس خليه ينزل بقى مش قادرة أستنى أكتر من كده، كلم مايا تاني.
أخفض ساقه، ورنا إليها يخبرها بصوته الرجولي العميق:
_وبعدين بقى يا شمس، ما علي قالك إنه شوية ونازل، متنسيش إنه راجع بعد غياب، ومن حقه يقعد مع زوجته شوية.
واستطرد وهو يقترب من "فاطمة" بمزحٍ:
_وبعدين بعد حنية وكلام علي ده ورافضة لسه العصير، ده أقنعني بيه أنا شخصيًا، ومش هشرب قهوتي وهأخد كوباية من العصير المغري ده.
سحب بالفعل كوب من على الصينية التي تحملها فاطمة، بينما يتبسم لها وعينيه أرضًا عنها:
_تسلم إيدك يا بشمهندسة فاطمة.
ابتسمت وقالت، وهي تضع ما بيدها على سطح المكتب:
_بشمهندسه مرة واحدة!
استهانت بما يُقدمه لها، ففاجئها "آدهم" حينما قال بنبرة فخر:
_وأشطر بشمهندسة، اللي عملتيه إنتِ وبشمهندس جمال ساعدنا جدًا إننا نرجع حق عُمران، وفعلًا كنتِ مثال لسيدة الأعمال الشاطرة اللي قادرة تدير كيان كامل بدون ما تتهز ولا تخاق من اي تهديدات من الكلاب دول.
اتسعت ابتسامتها فرحة بحديث "آدهم" المحفز عنها، حتى أنها مالت بوجهها تجاه زوجها الذي انعكس برماديتاه نظرات تنم عن فخره بها، فلم يبخل عنها بظهوره بحديثه حينما مال يقرب رأسها إليه، طابعًا قبلة حنونة أعلى حجابها قبالة شقيقته وزوجها:
_حبيبة قلبي اللي فخور بيها دايمًا، كنت واثق إنك قدها يا فطيمة.
اكتسى وجهها حمرة قاتمة، وهمست له على استحياءٍ:
_بتعمل أيه يا علي!
بنفس مستوى صوتها الهامس ردد لها:
_بوضح احترامي وعشقي ليكِ قدام الدنيا كلها يا روح قلب علي!
ارتبكت فاطمة ودفعته برفقٍ عنها، ثم قالت بتوترٍ لتبعد الآعين الباسمة عنهما:
_يلا يا شمس، إشربي العصير قبل ما عُمران ينزل.
أعادتهما لمنبط الحديث الأساسي، فتجرع "آدهم" من كوبه القليل، ومال يقدم كأسه بالقرب من شفتي زوجته:
_شمس هانم العاقلة، هتسمع كلامي وهتنفذه بالحرف، وحالًا هتشوف يا دكتور.
تمتم "علي" وهو يميل على سطح المكتب:
_أتمنى.
أبعدت "شمس" وجهها وهي تترجاه بتقززٍ انتباهها:
_عشان خاطري يا آدهم مش عايزاه، إبعده عني.
قالت كلمتها الاخيرة وهرولت لحمام المكتب، تطلق ما احتبس داخل فمها وكف يدها، بينما هرعت "فاطمة" من خلفها للداخل، تزيح خصلاتها وتساندها دون أي تقزز منها.
بينما على باب الحمام يقف "آدهم" مفزوعًا، ولجواره "علي" الذي تمتم بابتسامة جذابة:
_مبروك يا حضرة الظابط.
أبصره "آدهم" بدهشةٍ كبيرة من مباركته التي تأتي في وقتٍ غير وقته، ولكنه قال:
_مبروك علينا كلنا رجوع الطاووس الوقح يا علي؟
اتسعت ابتسامة علي، وهز رأسه باستنكارٍ:
_ذكاء ظباط المخابرات بقى محدود ولا أيه؟!
قالها وإتجه لمقعد مكتبه، بينما يخطف "آدهم" نظراته القلقة تجاه زوجته التي تساعدها فاطمة بالاغتسال، فما أن اطمئن على استقرار حالتها، حتى لحق به يردد:
_بابا علي إنت إتعديت من عُمران وبقيت تتكلم بالألغاز، طول عمرك واضح وصريح، جرالك أيه؟
ضحك بصوته الرجولي، وقال بغموضٍ لذلك الذي توقف عقله فجأة عن استيعاب أي شيئًا يخص حياته الزوجية:
_طيب دي أشرحهالك إزاي يعني؟! عمومًا تقدر تقول أمنية عُمران اتحققت، وشكلك كده على وشك إنك تكون أب يا سيادة المقدم.
اتسعت مُقلتي "آدهم" بصدمةٍ، وكأنه لم يكن خبرًا متوقعًا، ومنتظرًا لأي اثنان متزوجان حديثًا، ابتلع ريقه بارتباكٍ، وإتجه يجلس جواره على الأريكة، وكلاهما أعينيهما على باب الحمام، الذي خرجت منه "شمس" للتو، تتساءل وهي تزيح المنشفة عن وجهها باستغرابٍ:
_في أيه مالكم؟!
******
أتجه للخزانة، يستعد لارتداء ما انتقاه، بعدما خرج يلف المنشفة حول جسده الصلب، فإذا به يتوقف عما يفعله على صوت شهقة خافتة، ونداء مفزوع:
_عُمران!!!
استدار تجاه الفراش، فاذا بزوجته تركض تجاهه متناسية حملها تمامًا، انتابه فضولًا وقلقًا لمعرفة ما الذي أصابها فجأة، فاذا بها تقف قبالته وهي تتفحص صدره في نظرات اشتقت كل معاني الألم، وكفها يحجب بكائها الصاخب، بينما تهمس بلوعةٍ، وهي تراقب علامات اصابة كتفه وجانبه:
_يا عُمري أنا!
تعالى صوت بكائها، وراحت تتحسس جروحه التي مازالت لم تندمل بشكلٍ نهائيًا، قائلة بانهيارٍ أوجعه من شدة العشق البادية بعينيها المتألمة:
_إزاي عدت بده كله ومفيش حد فينا كان جانبك.
قالتها ومازال كفها موضوع فوق صدره، محل اصابته بالتحديد:
_بس أنا كنت حاسة بيك وبوجعك والله، كنت حاسة إنك مش بخير، حسيت بضيق نفسك وبألمك ده، يا ريتني كنت أنا بدالك يا حبيبي، يا ريت كان بإيدي أمنعك من السفر في اليوم ده.
أقتحمته مشاعر قوية عما كان يشعر به تجاهها، فاذا به يضمها إليه بقوةٍ أطرقت عظامها، يؤكد لها بنبرة مبحوحة من فرط العاطفة التي سيطرت عليه فجأة:
_أنا كويس يا مايا، كل ده عدى وانتهى، خلينا في النهاردة، في اللحظة دي بالذات، أنا رجعت وقدام عنيكي، ومش هبعد عنكم تاني.
وأضاف وهو يدفن نفسه بين خصلات شعرها الناعمة:
_أنا ما صدقت لقيت نفسي، فمستحيل هبعد تاني يا حبيبي.
انتفض جسده من كثرة إرتعاش جسدها لكبتها البكاء قدر المستطاع، فرفع وجهها إليه، وهو يخبره بصوته الرخيم:
_لو مبتطلتيش عياط هرجع مكان ما كنت وهنسى كل اللي قولته من شوية يا بيبي!
قوست حاجبيها بدهشةٍ، وبابتسامة بلهاء قالت:
_بيبي!
راقب ملامحها بحيرةٍ، وقال يشاكسها:
_لو بتضايقك الكلمة دي أغيرها؟ أنا مش فاكر أي حاجة عن اللي بتحبيه واللي بتكرهيه، فخلينا واضحين مع بعض كده من البداية.
ضحكت رغمًا عنها وقد أنعشته ضحكاتها هذا:
_لا مش بكرهها، أي حاجه منك بحبها، أنا بس مستغربة إن كلامك هو هو متغيريش، كل حاجة فيك زي ما هي.
ضيق عينيه الساحرة بتهكمٍ:
_وده حاجة وحشة ولا حلوة؟
غرقت في سحر عينيه ومالت برأسها تتقن شرودها بجنته:
_كل حاجة منك حلوة، خليك بس جنبي ومعايا، وأنا مش عايزة بعدها أي حاجة من الدنيا غيرك إنت وابني.
تلقائيًا انخفضت نظراته لبطنها المنتفخ، وهتف بحماسٍ:
_هو ولد؟
هزت رأسها تؤكد له بابتسامة حزينة:
_أيوه، وأنت حابب تسميه عـ.
_علي.
قالها ببسمة جذابة وعينيه لا تفارقان بطنها المنتفخ، أكدت له بإيمائتها ومازالت تراقب رد فعله بفرحةٍ، بدى مرتبكًا مما يود فعله، ولكن ثمة شعورًا داخله يحمسه بملامسة ابنه المزعوم، عساه اشتاق له هو الآخر!
دفعته مايا قائلة في لطفٍ أحبه منها:
_عُمران عمره ما إتردد في أي حاجة حابب يعملها.
أحاطت بطنها بيده، فاذا به يشعر بنبضاتٍ هادئة أسفل يده، قشعر جسده بذبذبة أحبها، بينما يختبر شعورًا غامضًا نابع من داخله، تابعته "مايا" بأعين غائرة بالدموع، ثم قالت لتخفف عنه حزنه الشديد الذي ظهر في رماديتاه فجأة:
_أوعى تستغل فقدانك للذاكرة وتخل باتفاقنا، لا أنا فايقالك وواعية لكل فعل هتعمله.
نجحت بكسب اهتمامه وفضوله:
_اتفاق أيه؟
اجابته وهي تتجه لتلتقط إسدال الصلاة ترتديه:
_إتفاقنا كان واضح يا بشمهندس، إن دكتور علي المحترم هو اللي هيربي ابننا، انت لا تصلح لتربية طفل صغير يا طاووس، لانك ببساطة هتعلمه الوقاحة وهو لسه ابن شهرين!
ضحك بصوته كله، ورد عليها باستنكارٍ مضحك:
_أنا ماليش دعوة بعمران القديم، أنا بنسختي الحالية، وأعتقد من احترامي الباين معاكِ من ساعة دخولي بيبنلك أد أيه إني محترم وماليش أي علاقة بالطاووس الوقح بتاعك ده!!
لحقت به وهو يستكمل ارتداء ملابسه، فاستند على السراحة وقالت بعنفوان:
_لو غلطت في حبيبي تاني هتشوف رد فعل ميعجبكش!
ترك زجاجة البرفيوم من يده واستدار يتمعن بها بذهولٍ مضحك، حينما اختبر غيرة مهلكة:
_حبيبك مين!! لسانك بدل ما أقصهولك يا بيبي!
ضحكت بملء ما فيها، وقالت باستمتاعٍ:
_إنت غيران من نفسك يا عُمران؟
ربع يديه أمام صدره العضلي، وقال يخبرها:
_محبكيش تفرقي بينا وكأننا شخصين مختلفين، ولنفترض إن شخصيتي اتغيرت، فإنتِ مجبورة تحبيني في كل حالاتي والا غضبي هيطولك يا عسلية!
اقتربت منه وقالت بصدقٍ:
_بس مفيش حاجة إتغيرت فيك، إنت زي ما أنت ولو حتى حصل وإتغيرت أنا قابلة بيك بكل حالاتك.
ارتخى ذراعيه وغرق بنظراتها التي تغوي أعتى الرجال، فإذا به يرنو إليها ولكنها ابتعدت للخلف بارتباكٍ يهاجمها، بعدما قرأت ما بعينيه بوضوحٍ، لقد باتت تفهم كل شاردة وواردة تصدر عنه.
تعجب من رد فعله المعاكس لحديثها، ولكنها أسرعت بالتبرير:
_علي مستني تحت، يلا ننزل.
على ذكرها لأخيه، شعر بأنه يفتقده كثيرًا رغم أنه لم يتركه الا ساعات معدودة، حرك رأسه لها بخفة، فسبقت خطاه وأشارت له بأن يتبعها.
شحذ "عُمران" قوته، واستعد للمواجهة التالية، لحق بزوجته للأسفل، فإذا بأخيه يخرج من غرفة المكتب ومن خلفه "آدهم"، ومن خلفهما فتاتين، إحداهما كانت تراقبه بشوقٍ، ولهفة سبقتها بركضها السريع إليه، وبدون أي مقدمات ارتمت تعانق رقبته بكلتا ذراعيها، بينما تهتف ببكاء:
_عُمران، أنا مش مصدقة بجد أني شايفاك، وحشتني أوي يا حبيبي، الحمد لله إن ربنا ردك لينا.
تيقن بأن من تضمه بتلك الألفة والمحبة، ما هي الا شقيقته التي أخبره عنها"علي" ، مال يستمع لقلبه، فإذا به يستكين بقربها، بنفس المشاعر التي شعر بها حينما ضمه أخيه، أحاطها "عُمران" ورفع رقبته التي يحنيها ليكون على مستوى طولها، فإذا به يرفع جسدها عن الأرض، ومازالت تمشط رقبته، ضمها دون أن يصدر عنه أي حرف، ينتابه الحزن الشديد كونه تسبب في نخر وجعًا طائلًا لجميع أفراد عائلته بلا استثناء.
مال بها للأرض حينما وجدها تبتعد لتتشبع من وجهه، فراقبته وهو يتطلع لعينيها الزرقاء ببسمةٍ هادئة، فاذا بها تقول بضحكة تنافر سيل دموعها:
_أنا كده اتاكدت أنك فاقد الذاكرة فعلًا، لأنك مستحيل تقصر شعرك بالشكل ده أبدًا.
واضافت بضحكة مسموعه:
_بس شكلك حلو أوي كده، طول عمرك وسيم ومميز يا حبيبي.
ابتسم عُمران وخرج بصوته الهادئ عنه:
_وإنتِ كمان ملامحك مألوفة وهادية يا شمس.
وتساءل باهتمامٍ فشل بالتخلى عنه:
_بس ليه مش طالعه شبهنا؟
قصد بالشكل عينيها الزرقاء وملامحها النابعة عن ملامح "فريدة" ، فاذا بأخيه يرنو منهما ويحاوطهما قائلًا:
_لأن شمس طالعه شبه فريدة هانم يا عُمران، أنا وإنت شبه بابا الله يرحمه.
تعلق الأسم بعقله، وبات يردد بصوتٍ غير مسموع:
_فريدة هانم!!
اندفع إليه ذكريات تخص تلك السيدة التي زرعت فيه من قيم الطبقة الآرستقراطية ما تمكنت، فشعر بوحشة تضرب قلبه حتى أضرمت نيران شوقه لها.
كان مازال يقبض على كتف شمس، فاذا به يفق على صوت أنوثي رقيق والذي لم تكن سوى فاطمة تخبره مبتسمًا:
_نورت الدنيا وسط عيلتك كلها يا عُمران.
انتقل ببصره لها، يتطلع لها بحيرةٍ، لقد ذكر له علي بأنه لا يمتلك الا شقيقة واحدة، إذًا فمن تلك الفتاة، ثمة شعورًا يمنعه من التطلع حتى لها، بل وبحجب ذراعيه عنها، كأن هناك ما يخبره بأنها محرمة عليه حتى من نظرة بريئة، ومن بين إرتباكه اتجه ببصره تجاه أخيه، يطالبه بالمساعدة بباطن نظرته العميقة، تفهمها علي وأشار له بابتسامته الجذابة:
_دي فاطمة مراتي، ودراعك اللمين في الشغل، سيادتك مجندها لصالحك من أول ما انا اتجوزتها، حاولت أخدها عندي في المركز بس هي مش مخلصة غير لاخوها البشمهندس عُمران سالم الغرباوي!
ارتسمت منه ابتسامة وقورة، بث فيها كل الاحترام لها، بينما تقابله هي بفرحةٍ، تبثها بقولها:
_وهفضل مخلصة للاخ الوحيد اللي حيلتي، يا رب إنت بس تبطل نفسانه يا دكتور علي.
انقلبت الاجواء للضحك والمرح بينهم، حتى اجتمعوا جميعًا على طاولة طعام الافطار، فاذا به ينتقل يتنجنح بحرجٍ حينما لاحظ أن نظرات الجميع مسلطة عليه باهتمام وسعادة، فحرر نبرته هاتفًا:
_هو محدش مهتم بالأكل غيري ليه؟
اجابته مايا ببسمة رقيقة:
_يمكن عشان قعدتك بينا دلوقتي شغلتنا عن كل حاجة.
ترك علي فنجان قهوته وقال برزانة:
_عُمران إنت رجوعك لينا رديت الحياة لكل شخص فينا.
واضاف بحذر:
_مش فاضل غير ماما وأصدقائك، مش عارف هل إنت جاهز لده دلوقتي ولا لأ، بس تجاوبك مع مايا وشمس ومعانا كان مؤشر ممتاز، ولا أيه يا آدهم؟
انتقلت نظرات عُمران تلقائيًا إلى آدهم الذي ابتسم وقال:
_ده يتوقف عليه هو يا علي، لو جاهز تشوف فريدة هانم نتحرك لقصر الغرباوي على طول.
ترك السكين عن يده وتساءل باستغراب:
_هي عايشة لوحدها بعيد عنك يا علي؟
هز رأسه بخفة، وأوضح له :
_لا يا حبيبي كلنا عايشين مع بعض وعمرنا ما افترقنا، احنا كنا عايشين في لندن مع بعض، لحد ما أنت حبيت تنزل مصر،فبالتالي كلنا نزلنا وراك وقعدنا هنا في الكمبوند بتاع عمنا، لحد ما فريقك يخلص قصر الغرباوي الخاص بتراث اجدادنا، واستلمناه بالفعل،بس كان في نفس يوم الحادثة بتاعتك، عشان كده مايا مقدرتش تقعد فيه من غيرك، وعشان حالتها الصحية كانت سيئة، جبت فطيمة وعشنا هنا بشكل مؤقت..
قرأ حجم الآلآم المتنقل بأوجه الجميع، واندرج داخل فجوة الصمت التي إلتهمت الجميع، إلى أن مزقها عُمران قائلًا:
_أنا شبعت الحمد لله، وحابب أروح القصر وأشوفها يا علي.
كان آدهم الاسرع بالحديث:
_احنا خايفين عليك يا عُمران، عايزينك ترتاح على الاقل يومين وبعد كده آ.
قاطعه وهو يجيبه برفقٍ ونبرة صفاء تتخذ طريقها بينهما لمرته الاولى:
_لا يا آدهم، كلكم اتعذبتوا بما فيه الكفاية، وأكيد هي كمان بتعاني، فلو عليا اتطمن أنا قادر أتعامل.
انصاعوا جميعًا لمطلبه، فصعدت شمس بسيارة زوجها، ولم يقبل علي بأن تقود سيارتها بعمران، كأنه يخشى أن يفترق عنه مجددًا، فجعلها تجلس جوار زوجته بالخلف وجعل أخيه يجلس جواره بالامام، تيقن عُمران بأن علي يخشى عليه من القيادة مجددًا، فانخضع له دون حتى السؤال عن سبب خوفه.
وبينما هو يجلس جواره، فاذا به يجذب من سيارته هاتف عُمران، ثم قدمه له قائلًا:
_ده موبيلك يا عُمران، كان معايا من وقت الحادثة، سجلتلك فيه رقم موسى وصابر، عشان عارف انك أكيد هتحب تتواصل معاهم.
ابتسم عُمران بامتنان إليه، والتقط الهاتف يتطلع له بدهشة، كان باهظ الثمن بشكل منحه خلفية بحجم الثراء الذي يصل إليه، أضاء شاشته فاذا به تنير بصورة له هو وعلي، أعز ما يمتلك حقًا، حرر شاشة القفل التي تحتفظ بصورتهما فاذا بصورته رفقة زوجته تطل بداخل الشاشة الرئيسية.
وصلت السيارات لبوابة القصر الرئيسي، فخطفت بتصميمها الاحترافي انتباه عُمران، كان يدقق في كل تفاصيل البناء، ويشعر بأنه يعلم كل شيء متعلق بالتجديدات الحادثة هنا، كان يلتفت ويسجل كل لقطة تجوب به، بينما يتابعه علي بتركيزٍ، وابتسامة هادئة، كالأب الذي يراقب تصرفات صغيره لاول مرة.
دخلوا جميعًا للقصر الداخلي، ومازالت أعين عُمران تنتقل من مكانٍ إلى أخر، والجميع يجتمعون من حوله، فاذا بصوتًا رجوليًا يقتحم محل تجمعهم:
_أيه الزيارة الجميلة دي، وأنا اللي كنت فاكر إنك نسيتنا يا دكتور علي!
قالها "أحمد" الذي ظهر أعلى الدرج، واستكمل طريقه لاسفل متجاهلًا الجميع، عينيه الغاضبة لا تفارق وجه علي، حتى أنه فشل أن يلاحظ وجود أحدٌ سواه:
_إنت عارف أنا كلمتك كام مرة، طيب عارف حالة فريدة ساءت إزاي؟! قولي المفروض أجيب مين يعالجها غيرك يا دكتور؟ خلاص ما صدقت تمشي من القصر ومبقاش فارقلك حد.
وتابع وهو يستدير تجاه آدهم يشهده:
_يرضيك كده يا سيادة المقدم، بدل ما يكون جنبها ويعوضها عن فقدان آآ...
انقطع الحديث على لسانه فور أن تأمل من يقف جوار "مايا" و"شمس"، توسعت مُقلتيه في عدم استيعاب، بينما يعود ببصره تجاه علي تارة وآدهم تارة آخرى، يود أن يتأكد بأنه لا يتوهم.
كلاهما منحاه ابتسامة تبث له الطمأنينة، ولكنه لم يكن بحاجة الا ليمسه، فاجتازهم جميعًا ودنى منه يرفع كفه، يقربه من جسده ليتأكد من أنه يقف بالفعل قبالته، انصهر تحجر عينيه حينما انهمرت دمعة من عينيه، بينما يستدير لعلي قائلًا:
_إزاي؟!
وخز قلبه حزنًا عليه، فاقترب يمسح على ظهره وقال بحنان:
_عُمران عايش يا عمي، هو فاقد الذاكرة بسبب إصابته بس الحمد لله زي ما أنت شايف واقف على رجليه وبخير.
سقطت دموعه وهو يعود ليتطلع لعمران الذي يُجاهد لتذكر أي شيء يخص عمه، ولكنه لم يجد شيء يتذكره به، فاذا بأحمد يقربه من صدره، يحتويه داخل أحضانه، فلمس فيه حنان الأب المفقود، بينما الاخر يخبره بحنان ويشدد من ضمته بجنون:
_المهم إنه بخير، أخوك بخير يا علي!!
وأبعده ليتطلع في رماديتاه بنظرة امتلأ فيها الحنان حينما وجده مشوش للغاية:
_ ولا يهمك من أي حاجه يا حبيبي، كلنا جنبك ومعاك، أنا وعلي ومايا وشمس وفريدة كلنا جنبك يا عُمران، بكره هتبقى أحسن من الاول وهترجع تشاكس فينا من تاني.
وأضاف وهو يضاحكه بينما دموعه تتساقط دون توقف:
_ويا عم أنا جاهز أروح معاك لمحكمة الأسرة اربع مرات في الشهر لأجل عيوونك.
واستدار لادهم يخبره:
_مش انت جاهز تفضي نفسك يا حضرة الظابط ونطلع معاه نحققله احلامه هناك.
ضحك آدهم حتى أحمر وجهه وقال:
_عنينا للبشمهندس، نسيب فريدة هانم وشمس يريحوا هنا ونروح نفسحه هناك ونرجع بيه تاني.
ضحك علي وأشار يحذرهما:
_خدوا بالكم إنه مش هينسى كلامكم ده، ولو الذاكرة رجعتله وفهم اللي بيتقال ده مش هيسيبكم فعلا الا لما تتجمعوا كلكم هناك في المحكمة، وأنا للاسف مش هعرف أخلصكم انتوا الاتنين، ما عليا الا اني هعالجكم نفسيًا بعد كسرة الطاووس ليكم.
وبالرغم مما فعلوه جميعًا لجعله يتحدث الا أنه كان مقبوضًا من المكان بشكلًا غريبًا، وكأنه لم يستمع لهم من الاساس، وجل تفكيره بلقاء والدته.
ارتاب علي من صمته المطول، فاقترب منه يحاوط كتفه ويهمس له بقلق:
_مالك يا عُمران، إنت كويس؟
هز رأسه وردد بخفوتٍ:
_خدني ليها، عايز أشوفها.
اقترب أحمد منه، وقال وهو يشير له على المصعد:
_تعالى يا حبيبي، أنا طالع معاك، ولا إنت مش عايز الا علي.
قبض عُمران على كف "علي" وردد باصرارٍ غريب جعل القلق يساور الجميع:
_تعالى يا علي.
انضم لهما على للمصعد على الفور، وبقى آدهم برفقة الفتيات توقف المصعد بالطابق المخصص لفريدة هانم، خرجوا معًا للجناح الذي يغمره الظلام وكأن لم يسكنه أحدٌ.
اندهش علي حينما وجد فريدة تتمدد على الفراش لا حول لها ولا قوة، لقد انشغل بالبحث عن أخيه وتناسى أمر والدته، اشتد عليها التعب لدرجة جعلتها لا تترك الفراش.
ترك أخيه على باب الجناح الضخم، وهرع راكضًا للفراش، يناديها بفزعٍ:
_فريدة هانم!!
فتحت عينيها ببطء وهي تراقب وجه علي القريب منها، جازفت برسم ابتسامة باهته على وجهها المنطفئ بينما يتحرر صوتها المبحوح:
_علي!
وأشارت بيديه لها ليرفعها إليه، فانزوت بين أحضانه تشم رائحته وتحبسها داخله قدر المستطاع:
_أنت كنت فين كل ده يا علي، عايز تحرمني منك زي ما عُمران حرمني منه؟
أدمعت اعين عُمران وجعًا، وقهرًا، إن تذكر إسم علي، فإنه يتذكر الآن بعض الذكريات التي جمعته بوالدته الحسناء، ابتسم من محله من فرط المشاهد التي جمعته بها، بينما شيئًا يحركه صوبها.
ومضت تخبره بانهيارٍ بينما تميل على صدره ويضمها هو بحنان:
_أنا مقسومة نصين لا عارقة أعيش من غيره ولا قادرة أدعي على نفسي بالموت عشان البيبي اللي في بطني، مالوش ذنب في كل ده، أنا مش قادرة اتحمل الوجع ده يا علي، خليك جنبي وحاول تعالجني، أنا تعبانه ومخنوقة أوي.
أزاح علي دموعها وقد امتزج وجهه بدموعه تأثرًا بحالتها التي يراها بها لمرتها الاولى:
_ ألف بعد الشر عليكِ يا حبيبتي، إنتِ فعلًا محتاجة لعلاج نفسي، عشان كده جبتلك أكتر حاجة ممكن تهديكي وتساعدك.
ردت ومازالت تندث بأحضانه وظهره محاصر لأحمد الباكي ولعمران الذي كلما اقترب للفراش كلما تدفقت ذكريات طفولته معها رويدًا رويدًا، حتى استمع لها تجيب أخيه:
_مفيش حاجه ممكن تهديني غير عُمران، وحشني أوي، وحشني صوته، أنا كل يوم بقوم أدور عليه بليل على أمل إني هلاقيه بيقيم الليل زي ما كان بيعمل، أنا كنت بحب أصلي معاه عشان أسمع صوته، انا عايزاه يرقيني زي ما كان بيعمل كل ما كنت بكون مخنوقة وضعيفة، هو كان بيقويني يا علي.
وأضافت وهي ترفع رأسها إليه، فوجدته ينهار باكيًا عليها وخاصة حينما قالت له:
_أنا كنت بتسند عليه وعليك، اتكسرت بفراقه فبالله ما تبعد عني انت كمان.
قالتها وانحنت على الفراش، تتمدد عليه واضعة رأسها على قدم علي، وتلف ذراعه من حولها، تحرر صوت بكاء أحمد، وهو يراقب بفضول وحماس رد فعلها حينما ترى عُمران الذي صعد من خلفها للفراش، زحف إليهما وعينيه تورمت من فرط البكاء، جلس جوارها وهي تغلق عينيها على ساق علي الذي يتطلع له برجاءٍ أن يتعامل معها في حذرٍ، فلم يسبق له أن رأها بتلك الحالة.
قرب "عُمران" يده إلى جبينه وأخذ يردد الآيات القصيرة بما اعتادت أذنيها سماعه من قبل، لينتهي بقوله:
_باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيكِ، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيكِ.
أفرجت عن جفنيها بهدوءًا صادمًا، حتى تقابلت بوجه علي المبتسم لها، تهاوت دموعها وهي تنظر له بصمت، بينما ينخفض بصرها لكلتا ذراعيه!! ولفمه المعقود، ومازال الصوت الذي يضرب ساحتها يتكرر بآياته.
مالت جانبًا تجاه المحل الذي كان يقف فيه أحمد، ظنًا من أنه قد تحرك من محله لها، ولكنه مازال يقف محله ونفس الابتسامة الباسمة مرسومة على شفتيه.
تحرك بؤبؤ عينيها في صدمة، ورائحته قد تشربتها أنفها بالكامل، مالت على الفراش بظهرها بعدما كانت تنام بجانبها على ساق علي، ووجهها مدفون داخل صدره.
تطلعت لسقف الغرفة لبرهةٍ، ومازالت تشعر بالكف الدافئ مسنود على وجهها، كممت شفتيها تكبت صراخها بينما يسترسل عُمران قراءته للآيات، مالت بعينيها جانبًا والخوف يكاد يقتلها، فإذا به يجلس جوارها، تخشبت محلها لوهلةٍ، استندت على جذعيها وجلست قبالته بصدمة ضربتها كالرعد، بينما تميل تجاه علي لتتأكد من أن بصرها لا يخونها، أو لربما حالتها النفسية ساءت لدرجة جعلتها تتهيئ وجوده، فاذا بعُمران يقطع حيرتها حينما قال بابتسامة هادئة:
_كنت عايز أشوف غلاوتي عندك يا فيري وشوفتها خلاص، ولو على صلاة القيام فخفي بسرعه وأنا هعوض معاكِ عن كل الصلاة اللي فاتتنا مع بعض.
توسعت حدقتيها في صدمة، بينما لسانها يجاهد لنطق:
_عُمران!!!
زحفت إليه في صدمة، تتطلع له لوقتٍ لا تعلمه، حتى أحاطت وجهه بيديها لتحطم أي قاعدة شك داخلها، مررت يدها على وجهه، صدره، ذراعه، هو بالفعل قبالتها، واذا فجأة تقبل وجهه وهي تبكي هاتفة في وجعٍ:
_ابنــــــــي!!!
فشل عُمران بالسيطرة على بكائه، حتى أن قواه خارت لما تفعله، فمال للخلف وهي مازالت تضم وجهه وتتطلع له بصدمة، بينما تستدير الى علي وزوجها تخبرهما بخوف:
_انا بحلم يا أحمد؟ علي أنا اتجننت رد عليا وقولي إنه هنا قدامي!!!
وقبل أن يجيبها كانت تعود ببصرها إلى عُمران وتهتف بابتسامة واسعة:
_لا مبحلمش ولا اتجننت، عُمران هنا قدامي، ده ابني!!!
قالتها وضمته إليها تبكي بانهيار، أحاطها عُمران وقال ببكاءٍ:
_أنا هو صدقيني، أنا كنت غريب وتايه ودلوقتي لقيت نفسي.
مالت على صدره تبكي دون توقف، بينما يحاول هو أن يهدأها، ولكنه فشل في ذلك، بل عادت تتمعن به ثم تقبل وجنتيه وجبينه، ثم تضمه، ظلت هكذا وقد اعتصرت دموعهم جميعًا، حتى استسلمت للنوم على كتف عُمران، الذي ربت عليها وكأنه يضم ابنته!! وخاصة أنها فقدت الكثير من الوزن بشكلٍ ملحوظ.
تمدد بها عُمران لحافة الفراش حيث استند بظهره للخلف وهي باحضانه، بينما طرح علي عليها الغطاء، وظل قبالتهما، تركهم أحمد وخرج من الجناح، وبقوا معًا جوارها.
مر الوقت وعمران شاردًا في كل لقاء جمعه بعائلته، وإذا به يميل تجاه علي وسأله:
_أيه اللي ممكن يساعدني في رجوع الذاكرة يا علي؟
طالعه من فوق كتفه الايمن ثم عاد يتطلع أمامه بحزن:
_وجودك بين اشخاص مألوفين أكتر، حاجه هتفيدك.
وأضاف وهو يشير له بترك فريدة ترتاح بفراشها، ثم قال له:
_تعالى ننزل، آدهم تحت مستنينا عشان هنروح للدكتور وبعد كده في مشوار مهم أخير لازم تعمله.
تطلع لفريدة المتعلقة به، وقال بقلق:
_أنا مش عايز أسيبها يا علي.
منحه ابتسامة جذابة ومال يساعده في وضعها بالفراش، قائلًا:
_مش هنتأخر أوعدك.
نهض من جوارها ومازالت عينيه متعلقة بها بحنان.راقبه علي بابتسامة حنونة، ومال يداثرها بالغطاء ثم اتبع أخيه إلى الأسفل،ومن ثم إلى الخارج،حيث كان آدهم بانتظارهما بالسيارة.
******
فُتحت شقة عُمران القابعة بحارة الشيخ مهران، وخاصة بعمارة إيثان، اجتمع فيها الشباب بأكملهم وقد ترك يونس باب الشقة مفتوحًا وقد كان أخر من حضر بينهم.
جلسوا جميعًا متفرقون على الأرائك بصمت، بينما يتراقص الحزن بين المُقل، وجودهم بتلك الشقة تحيي ذكريات عُمران داخلهم.
وكأنهم يجلسون في ميتم لقضاء واجب العزاء، فهذا جمال يميل على ذراع الاريكة يحتبس دموعه، بينما يميل يوسف للحائط ولجواره سيف يتطلع أرضًا بحزن.
بينما يجلس آيوب على المقعد البلاستيكي جوار إيثان، وعلى الاريكة المعزولة جلس يونس مهمومًا.
قطع إيثان الصمت المخيم على الوجوه حينما تساءل:
_طيب هو الدكتور علي مقالكش عايزينا ليه يا دكتور يوسف؟
رد عليه يوسف بتجهم:
_لا مقالش يا إيثان، كل اللي وصلني منه رسالة زيكم بالظبط.
تدفقت دمعة على خد آيوب، وقال دون أن يتطلع لهم:
_يمكن وصل لحاجة تخص عُمران..
سأله سيف باستغراب:
_حاجة زي ايه؟
رد آيوب بصوت مرتجف:
_ممكن يكونوا لاقوه.
ازداد الجميع ريبة من أن يكون حديث آيوب صحيحًا، ولكن ما يطاردهم هو العثور على جثمان عُمران المفقود، فاذا بيونس يتنحنح بخفوت:
_استهدوا بالله يا جماعة وبلاش نتشائم، يمكن الموضوع له علاقة بالمشاريع اللي كان عُمران عايز يعملها.
تخلى جمال عن صوته، وقال ببحة صوته المنقطع:
_كنت هعرف يا يونس، أنا اللي ماسك المشاريع أصلًا، علي مالهوش علاقة بالموضوع ده ولا بيفهم فيه أصلًا.
زفر إيثان بقلق ملموس:
_طيب أيه؟ هنضرب اخماس في اسداس كده.
قال سيف وهو يتطلع لايوب:
_طيب ما ترن على آدهم يا آيوب، لو في حاجة هيعرفك أكيد.
رشح يوسف قوله:
_إيثان بيتكلم صح، كلم اخوك يا آيوب.
احتقنت معالم سيف وتمتم بغيظ:
_متقولش أخوك دي، ما أنا قولتله كلم آدهم قدامك ولا لازم يعني!
اتجهت نظرات الدهشة من الجميع إليه، وكأنه وقته هذا، تنحنح في حرجٍ وقال يخفي تفاهته:
_انجز يا آيوب وكلمه، الموضوع يقلق وميتسكتش عليه.
أحاطه بنظرة ساخرة، ثم استل هاتفه وحرر زر الاتصال على أخيه، فاذا بصوت الهاتف يقبع على باب الشقة المفتوح على مصرعيه.
اتجهت الاعين إليه، فوجدوا آدهم قبالتهم، يرسم جديته الحازمة،ويهتف في غموض:
_أنا كمان جايلي رسالة زيكم تمامًا.
قالها وولج للداخل يجلس جوار يونس، ويرسم انتظاره الممل لحضور علي.
مرت خمسة عشر دقيقة، وظهر علي قبالتهم، اتجهت الأعين إليه بفضول، وجميعها سؤالها مشترك ما السر وراء اصراره على تجمعهم بهذا الوقت الغير مناسب للبعض منهم؟
منحهم علي ابتسامة جذابة، وخطى للداخل بخطاه الواثق، ليفسح الطريق لمن يتبعه، فدخل خلفه حينما وجده يدخل، ولج للداخل يبحث عن محل جلوس أخيه، واتبعه كالصغير الذي يحبو خلف أبيه، ثم جلس ملتصقًا به، وهنا بدأت رماديتاه تلتقطان الصورة كاملة له، من وجود هؤلاء من حوله، ونظراتهم إليه كمعتاد نظرات عائلته، أفواههم تكاد تصل للارض في صدمة، بينما ينتقلون ببصرهم إلى بعضهم البعض وتعود الابصار مجددًا إليه!!
.