رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل العاشر 10 بقلم سيلا وليد

 رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل العاشر بقلم سيلا وليد



اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "

اختلطت دموع اللقاء بدموع العمر الضائع في الغياب، كما اختلطت دقّات الساعات بأنفاسٍ تتلاحق بين الشوق والارتباك...
فحدّثوني بالله، عن وهج اللقاء حين يشتعل في الصدر، عن تلك الرجفة التي تعصف بأوصالكم لحظة أن تقع الأعين على من سكن الوجدان طويلًا...
عن النبض حين يتمرّد، ويرتجف، ويكاد يصرخ: "ها قد عاد!"
حدّثوني عن لذّة الانتظار حين يقترب الموعد، فتضيع الحروف، وتنهار الجرأة، وتفلت من بين أيديكم كل بقايا التماسك.

فما ظنّك بقلبٍ لا يعرف النوم إلا إذا لفّه طيفك، ولا يصحو إلا إذا نادى عليك؟
قلبٍ بين كل شعورٍ وشعور... يهمس باسمك.

وفي عينيك دفءٌ، لو قُسم على أهل الأرض لعمّ السلام، ولما احتاج أحدٌ لحضنٍ سواك.

أيها السادة:
كل السرقات حرام، إلا السعادة...
فاسرقوها من ضحكة أحبتكم، من نظرة عابرة، من لحظة صدق، من عودة من نحب...
فهي سرقة لا يعاقب عليها قانون، بل تباركها الحياة، وتصفق لها الأقدار.

  

ما زالت بين ذراعيه، وقبلاته تنهمر على ثغرها دون انقطاع، يراها حياةً متجسِّدة، قبلةٌ لم يكن لها بدء، ولن يكونَ لها منتهى..
لحظةُ نجاةٍ وسط محيطٍ هادرٍ من الفقد والوحشة..
قبلةٌ تلو أخرى، حتى فُتحَ الباب على غفلة...
ومع ذلك، لم ينفصل عنها، وكأنَّ انفصالهما انقطاعٌ لنبضِ الحياة، فلا شيئًا آخر يعادل هذا العشق.

قطع دقَّات القلوب صوتُ رؤى كالسهم:

– آسفة، افتكرت ميرال لوحدها…

نطقت بها بعينينِ تقذفان شررًا، تودُّ أن تُحيلَ ميرال رمادًا بنظراتها، وهي ترى كيف يتلهَّف عليها بتلك الطريقة الجنونية، نعم هذه قبلاتُ شخصٍ غارقٍ بنشوة العشق..همست لنفسها، وهي مازالت متوقِّفة متصنِّمة لما تراه..
هل ما جرى بالأمس كان  مسرحًا عبثيًّا؟!
ارتبكت، تعثَّرت في وقفتها، وتصبَّب العرقُ من جبينها، تبتلعُ ريقها بصعوبة..
وهي تشاهد أنَّ وجودها لم يفرق لهما، وكأنَّ لذَّةَ العشق لم تشعرهم  بها، لا تعلم لماذا ظلَّت بمكانها وهي تراقب جنونهِ معها، هنا شعرت بنيرانٍ تحرق صدرها.. 

حينما لمحت ميرال تدفعه بلطفٍ من صدره بعدما اختنقت أنفاسها بين ذراعيه، وهو يتركها رغمًا عنه، هل هي من تبعده، هل هي من تريد الانسحاب من نشوةِ ذلك العشقِ وليس هو؟!.. 

استدار أخيرًا وهو يلهث بأنفاسٍ مرتفعة، يرمق تلك الواقفة الشاردة بهما، وقد بدا عليها وكأنَّها شُلَّت تمامًا من وقع مارأته.
ثم انفجر صوتهِ حادًّا غاضبًا:

– إنتي إزاي تدخلي كده بالطريقة الغبية دي!..إيه، مش عارفة يعني إيه احترام؟..لو مش عارفة، خلِّي يوسف يشرحلك..

ارتجفت شفتيها، وتجمَّعت الدموعُ في عينيها من قسوته، ورغم قسوة كلامه، لم يقتلها مثلما قتلها قبلاتهِ لأختها بتلك الطريقة..ارتبكت بعدما صاح غاضبًا:
-إيه اتخرستي، برَّرررة.
ابتلعت ريقها بصعوبة وتمتمت بتقطُّع:

– كنت فاكرة ميرال لوحدها...

– إنتي لسه واقفة وبتردِّي!.اطلعي برَّة، ومش عايز أشوف وشِّك في أوضتي، يعني إيه ميرال لوحدها؟!..

استدارت مغادرةً بجسدٍ كالكتلة الناريَّة، لكن أوقفها صوتُ ميرال:

– استني يارؤى…

قالتها وهي تستدير إليه بعينٍ مثقلةٍ بتعبٍ دفين، ورغم ذلك أرادت أن تقهرها بكمِّ الألم الذي شعرت به، استندت على كتفه ونزلت من فوق السرير، وتصنَّعت بإخفاء جسدها الذي بعثرهُ بيده وغرست عينيها بمقلتي رؤى وهي تضمُّ كنزتها: 

– الموضوع مايستاهلش العصبية دي ياإلياس..

قالتها رغم الإنهاك الظاهر على ملامحها، خطت إلى وقوفها، بداخلها وجعًا عظيمًا لا يقوى الجسد على احتماله..ورمقتها بنظرةٍ تعني الكثير: 

– تعالي ساعديني، عايزة آخد شاور.

قالتها، وهي تدركُ يقينًا أنَّه سيرفض، لكن لم تكد تُكمل حتى انتفض من مكانه غاضبًا:

– اطلعي برَّة قُلت...قالها وهو يرمقها بغضب، واقترب من زوجته، التفت إليها وحنوِّهِ يطلُّ من عينيه: 
-ليه ماقولتيش إنِّك عايزة تاخدي شاور؟!.

اقتربت نحوه، وابتسمت بعينينِ مليئتينِ بالألم المرهق:

– إيه هتساعدني؟.

هنا نسيَ كلَّ من حوله، فابتسامتها، حتى وإن كانت مصطنعة، أنارت له قلبه، شعر وكأنَّه امتلك الحياة مرَّةً أخرى..
ضمَّ خصرها إليه، يقرِّبها منه حتى غابت بين ذراعيه، يلامس وجهها بأنفه، يداعبها باشتياقِ سنواتٍ وليس أيام، وقلبه كالمضخَّة وهي تتوه بعينيهِ كالغريق، أغمضت عينيها من أفعاله التي خرجت عن السيطرة، نعم قلبها يحزنها منه ولكن تريد أن تأخذ حقَّها من تلك الرقطاء..رفعت أناملها تمشِّطها على وجهه وتناست ماصار بينهما، هي الآن بين ذراعيه، ترى عشقه الذي تنطقه عيناهُ قبل دقَّات قلبه، فهمست بنبرةٍ حنونةٍ مداعبة:
-أوعي تقولِّي هتساعدني في الشاور؟..

– طبعًا أساعدك..هوَّ أنا مجنون علشان أخلِّي حد يقرَّب منِّك.. 

هنا انسحبت رؤى تتحرَّك ببطء، في أعماقها بركانٌ يشتعل أوشك على الانفجار، وهي ترى ذلك العشق الذي يدمِّر ماخطَّطت إليه، تحرَّكت بخطواتٍ متعثِّرة ترى كرامتها هُدرت تحت أقدامهم..

في الداخل، ابتعدت ميرال بخطواتٍ واهنة، حينما استمعت إلى صوت الباب يُغلق، فتنهَّدت بضيقٍ خافت، وتحرَّكت نحو الفراش.. 
رمقها إلياس بخطوةٍ بطيئة وتساءل:

– رايحة فين؟ مش كنتي عايزة تاخدي شاور؟.

انحنت تلتقطُ وشاحها بصمت، ثم استدارت نحوه بعينٍ مواربة:

– رايحة أوضتي...إنتَ مجنون، إزاي أخلِّيك تساعدني في الشاور!!..

قبل أن تُكمل، جذبها فجأةً بقوَّة، حتى اصطدم جسدها بصدره، فصرخت متألِّمة:

– آااه…

سارع باحتوائها بين ذراعيه قبل أن يهوي جسدها المُنهك أرضًا:

- ألف سلامة عليكي..مرَّر أنامله على وجنتيها:
-إنتي بتلعبي بيَّا ياميرال، كنتي بتتغزلي علشان رؤى كانت واقفة؟.

– آه، أومال كنت فاكر إيه؟!
عايزة أعرف إزاي جالها الجرأة تدخل أوضتك من غير ماتخبَّط بالطريقة الغريبة دي!..

رغم إنِّي اضَّايقت إنَّها شافتني في الوضع دا، بس قلت أعلِّمها درس…
إنتَ ليه واخد الموضوع ببساطة؟..

لكنَّها قطعت حديثها حين وضع سبَّابته على شفتيها في هدوءٍ محموم:

– ششش، إيه اللي بتقوليه ده؟..

تراجعت بخطواتها بعدما شعرت بأنفاسه الساخنة تلفحُ وجهها البارد، وقالت بنبرةٍ منكسرة:

– انسى..مش من حقِّي أصلًا، عايزة أرجع أوضتي..أوضتك طبعًا.

– ميرال…

همس باسمها، بنبرةٍ هادئة، بينما عيناه تنقِّبان في ملامحها الشاحبة كمن يبحث عن الحقيقة وسط الركام..
كأنَّ صوتَ الطبيب يعود إليه من جديد، يجلجل داخله كحكمٍ قاس:

«غيَّروا الدوا…بمُخدِّر!»

اقترب منها، واحتجزها بين ذراعيه، ثم رفع ذقنها برفق:

– آسف…
عارف إنِّي كنت قاسي معاكي بالكلام، بس اعذريني…
إنتي ماتعرفيش أنا اتعذِّبت قدِّ إيه…

تألَّقت عينيها، ولكن ببريقٍ موجوع:

– أنا كويسة ياإلياس، متخافش…
مش هعمل حاجة تئذيني ولا تئذي ولادنا…
وزي ماقولت، حقَّك تعمل اللي إنتَ عايزه…

اخترقت كلماتها صدرهِ كطعنة…
فأحاط خصرها بذراعه مجدَّدًا، وسحبها معه نحو الفراش، أجلسها عليه، ثم جثا أمامها على ركبتيه كمن يُعلن خضوعهِ للحب:

– أنا مش هسيبك تنامي في أوضة، وأنا في أوضة تانية…
مكانك هنا، على السرير ده، وفي حضني أنا..بس أنا..

سقطت دموعها بهدوء، ثم تنهَّدت تنهيدةً ثقيلةً وكأنَّها أخرجت عمرًا من الألم:

– مش هينفع...
وزي ما قولت، أنا مبقتشِ أنفعك…
دوَّر على واحدة تليق بيك…
وكده كده الناس فاكرة إنِّي مت، مش هطلع في مناسبات، كفاية أكون جنب ولادي.

تجمَّدت ملامحه..واشتعلت النيران في صدره مع كلماتها الأخيرة، قبض على كتفها بقوَّة:

– عايزة توصلي لإيه، آه؟
اسمعيني كويس..أنا مبتحايلش على حد، دا سريرنا، ودي أوضتنا…
ولو خرجتي منها، واللهِ لهورِّيكي أيام عمرك ماشفتيها…
يلَّا قومي خدي شاور وغيَّري الهدوم دي..
همست منهارة:
– إلياس.أنا مش قادرة أتكلِّم…
– أنا قولت إيه؟! صرخ بها ثم هدر بعنف:
مش هعيد كلامي..مش عايز غير “حاضر” وبس..
ولَّا القعدة في الحواري نسِّيتك جوزك؟!
نهضت بتعب، ثم استدارت ونطقت بجملةٍ كانت كفيلة أن تمزِّقه من الداخل:
– للأسف…
الحاجة الوحيدة اللي كنت بتمنَّى أنساها، هيَّ جوزي..ومعرفتش.

صُدم، وتلقَّى كلماتها كجمرةٍ مشتعلةٍ وُضعت على صدره دون رحمة، رفع نظره إليها ببطء، بعينينِ غارقتينِ في الذهول:

– للدرجة دي ياميرال؟
كرهتيني..كرهتيني للدرجة دي؟!.

أجهشت بشهقةٍ مكسورة، تهزُّ رأسها وتغالبُ دموعها:

– ياريت…ياريت أكرهك…
مكنشِ ده حالي لو كنت نسيتك..

سحبها إليه، كأنَّها الهواء الذي تنفَّسه، عصرها بين ذراعيه بكلِّ مافيه من اشتياق:

– وأنا كنت هسيبك تكرهيني
يا بنتِ فريدة؟!
أنا أموت وماسيبكيش تكرهي إلياس..

أغمضت عينيها داخل حضنه،
تمنَّت من أعماقها لو يتوقَّف الزمن، لو تتجمَّد الدنيا عند هذه اللحظة فقط..
لكن تأوُّهها الخافت من شدَّة احتضانه أعاد إلياس إلى وعيه..
نظر إلى عينيها المرتجفتين، ثم انحنى فجأةً وحملها بين ذراعيه، متَّجهًا نحو الحمَّام..رغم اعتراضها الخافت…
إلا أنَّ قلبها كان يستسلم له..كالعادة.

وصل للداخل تدفعهُ بكلتا يديها، ولكنَّه كان كالجبل لم يتزحزح، ظلَّ بمكانه، بل أزال ثيابها قطعةً قطعة رغم اعتراضها وصرخاتها، ضغط على خصرها وسحبها لأحضانه ينظر لعينيها: 
-لو ماسكتيش هعمل حاجات كتيرة وحشاني، فبلاش شغل الاطفال دا، كفاية تعبك هيبقى أنا وهوَّ.. 
دمعة غائرة انزلقت من جانب جفنيها تتدحرجُ على وجنتيها، رغم ما تمرُّ به إلَّا أنَّه لم يتغيَّر..لم يراعِ ماتشعر به، ظلَّت تتطلَّع إلى ملامحه التي اشتاقتها حدَّ الجنون ولم تشعر بانتهائه لإزالةِ ثيابها بالكامل ..

لحظات فقط..ثم شعرت باندفاعِ المياه فوق جسدها، فشهقت فجأة، لا تدري...
هل فاجأها شرودها، أم أنَّها لم تنتبه أصلًا لفتحه الماء؟.
أم أن ابتعاده المفاجئ عنها هو ما صدمها؟.
كان واقفًا، يحدِّق بها للحظةٍ طويلة، ثم استدار مُبتعدًا وهو يتمتم:

– خلَّصي براحتك..أنا برَّة، لو احتجتي حاجة ناديني.

قالها وفرَّ هاربًا، وكأنَّه يُطارد شبحًا يهدِّده…تركها خلفه، عيناها شاخصتانِ نحو الباب المغلق،لم تكن تتوقَّع أن يرحل،ظنَّت أنَّه سيبقى.. 

هل تَراجع؟!..
هل خاف من الحقيقة حين واجهها بجسدها المرهق؟.
أم أنَّه رأى مالم يعد يستطيع احتماله؟
رأسها كان ممتلئًا بأسئلةٍ لا تجد لها إجابة…
بينما جسدها ينهار تحت رذاذِ الماء، وروحها غارقة في سكونٍ موجع..

في الخارج، هوى على الفراش، كمن سقط من قمَّة جبلٍ على قلبه مباشرة…
دفن وجهه بين كفَّيه، وضغط بأسنانه يُحاول كتم صرخاته التي تتصاعد من أعماقه، لكنَّ الصور لم ترحمه…
شحوبها، وذبول عينيها، ضعف جسدها، وتلك الرعشة التي لم تفارق أطرافها…
كلَّ شيءٍ فيها يصرخ بأنَّها لم تكن بخير، وأنَّه لم يرَ، لم يسأل، لم يحتضنها حين كان يجب!..

رفع رأسه فجأة، نظر حوله بذهول،
ثم اقترب من الجدار وضرب جبينه به بقوَّة، مرَّة، مرِّتين، ثلاث…
حتى انهمرت دموعه من الألم والقهر، وهو يتمتم بين أنفاسٍ محمومة:

– غبي…غبي ياإلياس،
إزاي صدَّقت إنَّها بعدت عنَّك كلِّ السنين دي بإرادتها، إزاي ماحسِّتش بيها، إزاي كنت أعمى كده؟!

نهض عن الفراش كمن يركضُ هاربًا من كوابيسه..
راح يدورُ بالغرفة، كوحشٍ مأسور، يضربُ الحائط تارة، ويزيح الأشياء بعشوائيةٍ تارةً أخرى…
غضبه ينفجر، وجنونه يطغى،صرخةٌ مكتومةٌ خرجت من صدره وهو يحطِّم ما تطاله يداه:

– والله..والله لأحرق الدنيا على اللي أذاكي، والله ماهسيب حد، ولا هسامح، ولا هعدِّيها، واللي لمس شعرة منِّك..هشيله من على وشِّ الأرض..

اقترب من المرآة، نظر إلى وجهه،
كأنَّه لا يعرفه…
رأى رجلاً هشَّم قلب امرأةٍ بيده، ثم بكى فوق أنقاضها..
رأى قاتلًا يرتدي ملامح عاشق..

– كنت فين ياإلياس؟..
كنت فين وميرال بتموت؟!

في منزل أرسلان..

خرج من غرفته بعد أن أقنعته "ملك" بتناولِ الطعام معهم، جلس على المائدة يتناول طعامه بصمتٍ بينما "ملك" تحاول التخفيف عنه ببعض المزاح عمَّا يفعله "إسلام" معها، بينما "غرام" كانت تراقب صمته بألمٍ خفيّ.. تبادلت نظرةً مع "ملك"، فأشارت لها غرام بغمزةٍ أن تشاركه الحديث، فلكزتهُ بخفَّة:

إيه رأيك ياأرسو في اللي قولته؟.
أومأ دون تركيز وقال:

كويس ياحبيبتي..

هوَّ إيه اللي كويس؟.إنتَ أصلاً سمعتها!.. 
تمتمت بها "صفية" بدهشة، 
فتساءل:

- آه، يعني إيه ياماما؟

أختك بتقول عايزة "إسلام" ييجي يقعد هنا عشان بتحسِّ بالوحدة، دا ينفع؟! و"فريدة" و"مصطفى" ذنبهم إيه البيت يفضى عليهم؟..كفاية "إلياس"، وبكرة "غادة" هتتجوِّز...

نهض أرسلان من مكانه وقال:

- بعدين ياماما نتكلِّم في الموضوع دا، حقيقي مش مركِّز في حاجة دلوقتي.

رنَّ هاتفه، فتنهَّد لمَّا لمح اسم المتَّصل: "إسحاق".التقط الهاتف وردَّ بهدوء:

-أيوه؟.

تعال المكتب، محتاجك...
قالها "إسحاق" وأغلق المكالمة دون أيِّ كلمة أخرى.

صعد أرسلان إلى غرفته، فاستدارت "صفية" نحو "غرام" وأشارت لها:

قومي يابنتي، شوفي جوزك.

أومأت "غرام" ونهضت متَّجهةً إلى أعلى، بينما استدارت "ملك" إلى والدتها:

هوَّ في إيه ياماما، مالُه أرسلان؟

ربتت "صفية" على كتفها وقد امتلأت عينيها بالحزن، لأنَّها تعرف جيدًا أنَّ ابنها لا يصل إلى هذا الحال إلَّا لو كان الأمر جلل:

مفيش ياحبيبتي، أكيد مشاكل شغل... بس شكلها كبيرة..ربِّنا يريَّح قلبه يارب..

خلَّصي أكلك بسرعة، عايزين نروح لحماتك، عايزة أطمِّن على "ميرال"، شكلها تعبان أوي.

نهضت "ملك" تمسح فمها بمنديل:

خلَّصت ياحبيبتي، يالَّا بينا...و"إسلام" هناك كمان.
في الأعلى..

دخلت "غرام" الغرفة فوجدت "أرسلان" يرتدي قميصه:

إنتَ خارج؟.
أومأ وهو يغلق أزرار قميصه:

- الولاد نايمين ليه؟ مش المفروض كانوا اتغدوا معانا؟.
اقتربت منه، ورفعت أناملها تغلق له آخر الأزرار، قائلة:

بكرا الجمعة، رجعوا من المدرسة وناموا علشان هيسهروا مع أولاد "إلياس" و"يزن" زي كلِّ خميس... نسيت ولَّا إيه؟..
قرَّب رأسها وقبَّله بحنان:

آسف ياحبيبتي، يمكن اتعصَّبت عليكي شوية..بس دماغي مشغولة جدًا اليومين دول، خلِّي بالك من نفسك والولاد.

تراجعت تمسك ساعته وسحبت يده بلطف:

عارفة، متشغلش بالك..بس ريَّح قلبي، الموضوع يخصّ شغلك القديم؟

هزَّ رأسه نافيًا:

لحدِّ دلوقتي لأ، يخصِّ "إلياس". بس لو وصلنا للحقيقة، أكيد هيجرِّنا لشغلنا، وده اللي مخلِّيني قلقان.

قطبت جبينها وقد بدأ الذعر يتسلَّل إليها:

يعني إيه ياأرسلان؟! أوعى تقول اللي حصل لـ"ميرال" له علاقة بيكم؟!.

شعر بخوفها، فابتسم وهو يتراجع، محاولًا التخفيف عنها:

مالك اتخضيتي كده؟! دا أنا بهزر.. بقولِّك إيه، روحي كمِّلي أكلك، أنا نازل لـ"إسحاق" وممكن أتأخَّر شوية.

أمسكت بذراعه تمشِّط خصلاته:

أكيد مش مخبِّي عنِّي حاجة؟.
انحنى وطبع قبلةً على خدِّها وهمس:

آه..وحشتيني أوي، وعايز ألعب زي زمان.

لكزتهُ ضاحكة وهي تلتقط ثيابه:

انزل ياحبيبي لإسحاق، ولمَّا ترجع، نتكلِّم على رواقه.

بعد قليل..

دخلت "غرام" غرفة ابنها فوجدتهُ قد استيقظ:

صح النوم ياحبيبي.
قالتها وهي تفتح الستارة، ففرك عينيه قائلًا:

- الساعة كام؟..يااه..نمت ده كلُّه؟!.
اقتربت منه تبتسم:

قوم صلِّي العصر بسرعة، وهروح أصحِّي "ضي" علشان تتغدوا سوا..

حاضر ياماما.

نهض متوجِّهًا إلى الحمَّام، بينما خرجت "غرام" إلى غرفة ابنتها..

"ضي"...
همست بها وهي تمسِّد شعرها، فرفرفت الصغيرة بعينيها ثم ابتسمت:

ماما حبيبتي...
رفعت نفسها لتقبِّل وجنتها:

أحلى مامي في الدنيا..

قبَّلتها "غرام" على جبينها، وساعدتها على النهوض:

قومي ياكسلانة، كفاية نوم...المغرب هيدَّن.

حاضر يامامي، قومت أهو...

ظلَّت "غرام" تراقبها حتى اختفت خلف باب الحمَّام، ثم تحرَّكت لتلحق برنينِ هاتفها:

أيوة يا "رحيل".

أنا لسة واصلة، إيه رأيك بعد مانتغدَّى نروح نزور "ميرال"؟
تنهَّدت "غرام" وقالت بهدوء:

بلاش النهاردة..خلِّيها لبكرة علشان متفكَّرش إنِّنا جايين نشفق عليها.

تمام يا حبيبتي، المهم عرَّفيني لمَّا تروحي لها.

- أوكيه...تمتمت بها غرام. 

بعد قليل وصل إلى مكتب إسحاق، طرق الباب ودلف بعدما سمح له السكرتير:
-عامل إيه؟..قالها إسحاق الذي أغلق جهازه بعد دخوله..
هزَّ رأسهِ وفتح زرَّ حلَّته جالسًا بمقابلته: 
-كويس..كنت معاك من ساعات. 

نهض أسحاق من مكانه واتَّجه إلى المقعد الذي يقابله، وجلس وعيناه تحدجُ تفاصيله:
-عارف إنَّك زعلان، بس من إمتى بندخَّل حياتنا الشخصية في شغلنا، طيب ماترجع لكام سنة لورا لمَّا عرفت إنَّك أخو إلياس وخبِّيت عليك علشان شغلك، دا كان إيه؟..حبيبي عايز أكدلك فيه أوقات بنبقى مضطرِّين نخبِّي أسرار شغلنا..
رفع عينيه إليه:
-شغل!..والله العظيم شكِّيت، أصلي مش لسة طفل، إيه اللي خلَّى واحد يعمل في واحدة كدا غير انتقام، يبقى شغل، طيب ياإسحاق باشا الشغل دا يخصِّ مين بالظبط؟.
-إلياس..قالها إسحاق بهدوء وقام بإشعال سيجارته وكأنَّه لم يقل شيئًا..
أفلت أرسلان ضحكةً ساخرة: 
-يعني إنتَ عارف مين اللي عامل كدا؟.. 
نفث إسحاق تبغه وهزَّ رأسه، وعيناه تحاصر ملامح أرسلان: 
-مش تأكيد. 
جزَّ على شفتيه بقوَّة حتى شعر أنَّه أدماها، ثم تهكَّم:
-مين، إسحاق باشا يشك،حضرتك نسيت اللي قدَّامك تلميذك ياباشا، يعني أبص في عينك أعرف كل اللي بيدور في عقلك، الشخص دا يخصِّ إسحاق باشا في شغله، صح كدا؟.
انحنى اسحاق يغرز عينيه بعيني أرسلان:
-أرسلان إنتَ بتتكلِّم عن أمن بلد، عيب تيجي منَّك، متخلنيش أختار بينك وبين واجبي. 
نهض أرسلان من مكانه وأغلقَ حلَّته: 
-وصل الجواب ياباشا، ووعد منِّي لخرَّج لك كلِّ تعليمك السنين اللي فاتت..
انحنى بجسده وحاصر جلوسه:
-اللي متضرِّرة دي ميرال الشافعي ياباشا، يعني بنتِ عمِّي، أه أبوها راجل حقير وواطي ربنا يجحمه، بس تخصِّ عيلة الشافعي، غير إنَّها مرات أخويا الكبير، وخد عذابها السنين اللي فاتت، أقسم بالله ياإسحاق باشا ماهرحم كلِّ من اشترك في اللي وصلَّها لكدا، أنا كنت ساكت الفترة اللي فاتت علشان مفكَّرها إنَّها هيَّ اللي مش عايزة ترجع، بس كدا الوضع اختلف مليون الميَّة.. 

اعتدل يشير بيده: 
-سلام ياباشا، ومتحاولش توقف في طريقي علشان هنزعل من بعض.. 
هبَّ إسحاق من مكانه يجزُّ على أسنانه، وجذبه من جاكيته بقوَّة:
-بص يالا علشان شكلك اتجنِّنت، الموضوع مش مجرَّد خطف زي ماقولت، دول ناس بيخلَّصوا حقُّهم، بس مين معرفش، عايز تصدَّق صدَّق مش عايز اخبط دماغك في الحيطة.

استند بذراعيه على مكتبه وأردف:
-إيه ياإسحاق باشا..نسيت إنِّ التلميذ واقف قدَّام معلِّمه، وزي ماقولت لحضرتك، لو أصبت الهدف يبقى عرفت تعلِّمني ولازم تتكرَّم، أمَّا بقى لو فشلت، يبقى لازم أشيلك من وظيفتك، لأنَّك هتكون معلم فاشل.
-أه ياحلوف..
ـ برضو تعليم الباشا..كلُّه بالورقة والقلم، هتحاول تلعب معايا..هسجِّل أهداف أكتر منَّك، لأنِّي ببساطة درست كويس مع بروفيسور عتيق حاد الطباع..

اعتدل بعدما كظم الآخر غيظه، فأشار بيده.. 
ولكنَّه انحنى مرَّةً أخرى يمسك يده: 
-ألف سلامة على حضرتك عمُّو العزيز..قالها واستدار وكأنَّه لم يقل شيئًا..خرج من المكتب وخطواتهِ تأكل الأرض.. 
رفع إسحاق هاتفه وطلب أحد الأشخاص: 
-أرسلان الجارحي عيونك عليه أربعة وعشرين ساعة، حتى وهوَّ نايم، إيَّاك يفلت منَّك.. 
-تحت أمرك  ياباشا. 

القسم الثاني بعد ساعة 


بمنزل رانيا..
دلفت رؤى إليها وجسدها كتلةً نارية وعيونًا حاقدة كارهة، دلفت تتساءل عن رانيا..أشارت الخادمة إلى مكان جلوسها بالحديقة، وصلت إليها: 
-مبروك الحرية، كان نفسي أجي لك من زمان.. 
نفثت دخان سجائرها تطالعها بسخرية:
-أهلًا..شرَّفتي. 
جلست بمقابلتها تتطلَّع إلى منزلها ثم قالت:
-آااه وبيت وحرس، دا شكل مختار باشا دافع كتير..
اعتدلت رانيا تحدجها بغضبٍ وقالت بنبرةٍ مشمئزَّة:
-إنتي اللي عرَّفتي مختار على ميرال صح، إيه هوَّ كان هيعرف منين؟.. 
وضعت ساقًا فوق الأخرى تنظر إلى أظافرها ثم رفعت عينيها إلى رانيا:
-أنا مكنتش أعرفه، وعلى فكرة هوَّ عارف ميرال من زمان أوي، من وقت ماكانت عاملة عنترة وبتهاجم الكلّ، حتى منهم أبوها، وراقبها بس علشان يهدِّدها، مكنش يعرف أنها مرات إلياس، جت القضية وسافر خاف اسمه يجي في الرجلين، ورجع بعد موت بابا، وطبعًا من ضمن اللي وقَّعهم إلياس شريك مختار باشا..
-عرفتي المعلومات دي منين؟.. 
قطع حديثهم اقتراب الخادمة بمشروباتهم، وضعتها على الطاولة وغادرت، تحرَّكت للداخل ورفعت الهاتف تحدِّثُ أحدهم..
بالخارج عند رانيا ظلَّت تنظر إليها منتظرةً ردَّها.. 
-هوَّ اللي حكالي، لمَّا عرفت أنُّه عايز ينتقم من ميرال. 
-والله، وأنا الهبلة اللي هصدَّق الكلام دا، وميرال السبب في كدا ياحيوانة؟!.. ابن فريدة هوَّ السبب، أنا معرفش هيفضل عايش لحدِّ إمتى الحيوان دا..
توقَّفت رؤى تطالعها بسخرية وقالت:
-طيب قرَّبي منُّه وشوفي هعمل فيكي إيه، أنا عايزة بقيِّة حسابي، بنتك وجبت لك عنوانها وعرَّفتك باللي مختار عمله، وزي مااتَّفقنا..
هبَّت رانيا من مكانها وأشارت إليها بتهديد:
-اسمعيني كويس يابنتِ راجح، من أوَّل يوم شوفتك فيه عرفتك كويس، أصلي كنت زيك طموحة كدا بس أوعي تفكَّري إنِّك هتبقي زي رانيا، لو قرَّبتي من بنتي هدفنك حيَّة، ويكون في معلومك أنا مابهدِّدش بس بنفِّذ كمان، اقتربت خطوةً منها حتى أصبحت أمامها مباشرة: 
-أنا شاركتك في كدا علشان أوصل لبنتي وترجع لي، إنما إلياس دا مايهمنيش ولا هوَّ ولا فريدة، فخلِّيكي شاطرة وذكية وفرَّقيهم عن بعض، أمَّا تئذيها مش هرحمك، وياويلك لو حاولتي تساعدي مختار إنَّها تهرب تاني..أقسم بالله يارؤى لأروح لإلياس وأحكي له كلِّ حاجة من وقت مااتفقتي مع الحيوان يراقبها لحدِّ ماقابلتيها في المدرسة، هقولُّه كلِّ حاجة وشوفي بقى إلياس هيعمل إيه.. 

خطت رؤى خطوةً إليها وزمَّت شفتيها بتهكُّم:
-ولا هيعمل حاجة عارفة ليه، لأنَّها داست على كرامته ورجولته، وكام فيديو من عند مختار بيه ليها هيقتلها، ماتحاوليش تهدِّديني لأنِّي مابتهدِّدش.

دفعتها على المقعد بقوَّة ورفعت قدمها على حجر رانيا تمدُّ يدها:
-فلوسي يارانيا ياأمَّا أنا اللي هخِّلي إلياس يموِّتك، وطبعًا من حبُّه فيكي هيصدَّق كلِّ حاجة.. 
بصقت رانيا بوجهها وقالت: 
-مبقاش رانيا ياحقيرة لو مدفعتيش التمن.

تراجعت "رؤى" إلى الخلف، تناولت حقيبتها من فوق المقعد، ثم استدارت نحو "رانيا" قائلةً بنبرةٍ لا تخلو من تهديد:

النهاردة فلوسي توصلِّي، وياريت تساعدي الباشا اللي خرَّجك وخلَّاكي أميرة في مكان زي ده..قدَّامك أسبوع واحد، وبنتك ترجع مكان ماكانت..

هزَّت "رانيا" رأسها ببطء، تطالعها بنظرةٍ يملؤها الاشمئزاز والاحتقار:

حاضر، هبعتلك فلوسك..وإن شاء الله تكون علاج لمرضك.

أمالت "رؤى" رأسها بتهكُّم، رفعت نظارتها على وجهها، ورمقتها بنظرةِ استخفاف:

ما بلاش إنتي، أومال لو مخطفتِيش ودبَّرتي، كنتي قولتي إيه؟! على العموم يا ستِّي الواعظة، أنا لازم أشكرك..علشان لولاكي، مكنتش قابلت إلياس..

ارتسمت بسمةً ساخرةً على وجه "رانيا"، وجلست براحةٍ مصطنعة، قبل أن ترد:

كان غيرك أشطر..غبية، ده أنا عملت أكتر من كده، وبرضه جمال مكنشِ شايف غير فريدة، وابنه نسخة تانية منُّه.

رغم وقعِ كلماتها الجارح، تمالكت "رؤى" نفسها، وردَّت بكبرياءٍ حاقد:

إحنا بينَّا اتفاق، أمَّا بقى مين بيحبِّ مين..مالكيش فيه، بنتك اتنازلت عن كلِّ شيء، ليه دلوقتي راجعة وعايزة تاخد كلِّ حاجة؟! ده حتى أنا أخدت المرض، وهيَّ لأ..إيه ياشيخة، عايزين تكوِّشوا على كلِّ حاجة؟!.

قهقهت "رانيا" بصخب، وصفَّقت بيدها بسخريةٍ مريرة:

روحي كوِّشي ياختي، خدي اللي إنتي عايزاه..ويبقى قابليني لو عرفتي تطولي حاجة..

كادت "رؤى" أن تنقضَّ عليها، لكن شيئًا ما كبَح اندفاعها، لملمت شتات أعصابها واستدارت تغادر وهي تهمس بغِلّ:

ماشي يا رانيا..هعرَّفك إزاي هاخد كلِّ حاجة، ما هو مش هتفضل هيَّ دايمًا في العز، وأنا أتفرَّج وآخد البواقي..

خرجت، فوجدت سيارةَ الأجرة بانتظارها، فركبت بصمت، بينما كانت الذكريات تتكدَّسُ داخل صدرها، بعضها يشعل الغضب، وبعضها يبعث سمَّ الحنين.

فتحت نافذة السيارة تستنشقُ بعض الهواء، وكأنَّها تهرب من اختناقها الداخلي، لكنَّ عيناها خانتاها، وانسابت دموعها فجأةً حين استرجعت مشهدهما..كان فيه يعانقها بجنون، يقبِّلها كما لو كانت كلَّ النساء، وتمنَّت حينها لو استطاعت قتل "ميرال"، فقط لتأخذ مكانها... لتذوقَ ذلك الحب..

قطع شرودها صوتُ السائق:

أوصَّلك على فين ياآنسة؟.

صمتت للحظة، ثم تنحنحت، واستجمعت شتات نفسها، قبل أن تهمس:

جروب العامري..

على بُعد خطوات، رنَّ هاتف إلياس..

أيوه ياإلياس باشا، كانت في فيلا، هبعتلك اللوكيشن، وهيَّ دلوقتي رايحة على طريق الشركة.

تمام، خلِّيك وراها، ومستنِّي العنوان.
أغلق الهاتف ونظر في ساعته..لقد تأخَّرت بالداخل..
هبَّ من مقعده، وقلبه كجرسِ إنذارٍ لا يهدأ..دفع الباب بهدوء حتى لا يفزعها، وجال بعينيه بحثًا عنها ظنًّا منُّه أنَّها تبدِّل ثيابها..لكنَّه تجمَّد في مكانه كمن صُفعَ بريحٍ باردةٍ من الجحيم.

كانت تستندُ برأسها على حافة البانيو، جسدها يغوص في مياهٍ راكدة كأنَّها تسحبها لأسفل..
شهق بقوَّة واندفع نحوها، سحبها من المياه بذراعينِ مرتجفتينِ يهتف باسمها المرتجف على شفتيه:

ميرال!..

كان جسدها بارداً كأنَّما خلت منه الروح..
ضمَّها إلى صدره، أحاطها بالمنشفة، ورفعها بين ذراعيه كمن يحملُ بقايا قلبه المنكسر، وسار بها خارج الحمَّام..
شعرت به، ولكن جسدها المتخدِّر أبى أن يتجاوب، همست بصوتٍ متلاشٍ:

إلياس..

أنا هنا حبيبتي، معاكي..
قالها وهو يُمدِّدها على الفراش برفقٍ لا يصدر إلَّا عن عاشقٍ مذعور، ثم أسرع لجلبِ ملابسها، جلس خلفها يساعدها على ارتدائها كأنَّما يُلبسها الحياة من جديد، حذرًا كما لو كانت من زجاج.

ميرو..حبيبتي، يلَّا ساعديني ألبِّسك علشان أتَّصل بالدكتور.

تراجعت إليه، تستندُ عليه وجسدها يرتعش
أنهى إلباسها بصمتٍ ممتزجٍ بالألم، ثم رفع خصلاتها المتشابكة، وأمسك بمجفِّف الشعر ليجفِّفها..نظر إلى خصلاتها الذي رأها أنها لم تكن خصلاتِ شعر، بل كانت خيوطًا من روحه انحنى إلى أذنها و همس:

حاسة بإيه دلوقتي؟

فتحت جفونها بصعوبة، وأشارت إلى حقيبتها التي تحتوي على  أدويتها:

عايزة الدوا..مش عايزة دكتور، وعايزة أنام، ممكن؟.

نهض في صمت، جمع الملابس المبلَّلة والمجفِّف وكلَّ ماحولها، ثم توجَّه نحو أدويتها، راح يتفحَّصها بعينِ القلق، وفجأة..كوَّر قبضته على إحدى الزجاجات دون وعي، حتى انكسرت داخل كفِّه.

إلياس...
همست باسمه، فاستدار إليها، وعيناهُ غارقتانِ بالدموع الذي يمتزج بضباب الألم..
اقترب منها وجلس، فتح كفِّه المدمى، فامتزجت دمائه بحبوبِ أدويتها..
شهقت برعب، ورفعت نظرها إلى وجههِ الشاحب:

- إيه اللي حصل، ليه كده؟! الدوا ده مفهوش حاجة، ده للصداع بس!..

كان يراقبها بصمت، نظراته كأنَّها تعتذر دون صوت، وكأنَّ روحه تُعتصرُ داخله، عاجزًا عن قول كلمةٍ واحدة..
أشارت إلى الحمام كي يحضر علبة الإسعافات الأوَّلية:

- قوم طهَّر الجرح علشان مايتلوِّثش.

لكنَّه لم يتحرَّك، فقط مسح خصلاتها بحنان، ونظر إلى عينيها نظرةً امتزجت فيها الألم  بالخوف، والندم بالرجاء..

- عاملة إيه دلوقتي، أجبلك دكتور؟.

- لأ، كويسة..بس عايزة يوسف وشمس يناموا في حضني، ينفع؟.

- لأ..مينفعش، مش هتخرجي من أوضتك، ومفيش حد هينام هنا.. يوسف أصلًا مش هيوافق.

إلياس..أنا محتاجة ولادي في حضني..

هيقعدوا معاكي شوية، لكن نوم..لأ.

عايزة أروح أوضتِّي، مش مرتاحة هنا..
سحبها إليه، أسند رأسها على صدره، وأغمض عينيه، كأنَّما يحاول استنشاق آلامها 

أنا كنت موجوع منِّك أوي، فكنت بقول كلام وخلاص..لو كنت عايز أتجوِّز، كنت اتجوِّزت من زمان، بس إنتي...
سكت لحظة كأنَّه يبتلع خيبته..

إنتي ساكنة قلبي وروحي..مستحيل أربط حياتي بغيرك..
احتضنها، كما لو كان يعوض السنوات الماضية

- ميرال..أنا بحبِّك، ومستحيل أقدر أعيش من غيرك..حتى لو موجوع، مش قادر أبعد..

مدَّت يدها، لمست وجنتيه، ثم انسابت دموعها:

من خمس سنين..الدنيا حاربتني، وقرَّرت أهرب منها، ظنِّيت إنِّي بقاوم..
كنت فاكرة إنِّي بحميكم منِّي..بس طلع إنِّي بضيَّعكم..
رجعت متأخَّرة..عملت حادثة، وغبت عن الوعي شهور..
صحيت لقيت بنتي مش بنتي... متسجِّلة باسمِ حدِّ تاني

اتَّصلت بيك، عشان تيجي تثبت بنتنا، يوسف رد..وقال إنَّك بتتجوِّز، 
وقتها الدنيا اسودِّت...فقدت كلِّ حاجة..
طنط نعيمة ساعدتني، وودِّتني لدكتور..اتكلِّمت آه، بس جوَّايا كنت بموت أكتر..

اعتدل مذهولًا 
-يوسف..!!
اومأت له ثم هزت كتفها وقالت:
-والله حاولت اكلمك..

-ميرال مش عايز اضغط عليكي، عايز اعرف ايه اللي حصل معاكي، ازاي وصلتي للدكتور دا 

نظرت إليه بصمت للحظات ثم قالت:
-هتصدقني ولا هتجلدني ياالياس 
احتوى وجهها بين راحتيه 
-بصي أنا مش هخبي عليكي أي حاجة، اتعاملي معايا على اني ابن عمك حاليًا، مفيش حد هيخاف عليكي قدي 
-حاضر يابن عمي ..هحيلك كل حاجة 
سحبت نفسًا عميقًا وكأنه أخر أنفاسها 

تابعت حديثها  حتى اختنق صوتها واهتزَّ صدرها بأنفاسٍ متقطِّعة:

- قعدت فترة مع الدكتور..على أساس إنِّي بتعالج..
صمتت للحظة كأنَّها تبحثُ عن روحها بين كلماتها، ثم شهقت شهقةً بدت كذبحة..

حالتي اتغيَّرت كتير، لدرجة ماكنتش بحسِّ بحاجة..وصلت لمرحلة..كنت هقتل البنت!!.
أغمضت عينيها بقوَّة وكأنها تودُّ لو تمحو المشهد من ذاكرتها، وتابعت بأنفاسٍ مرتعشة:

- دوايَ خلص، وطنط نعيمة كانت نازلة تجيبه، خدته..وبرضو مفيش، غير وجع في كلِّ حتة في جسمي..
روحي ماتت، وجسمي بيوجعني أوي.. لدرجة قرَّرت أنهي حياتي فعليًا.

ارتفعت شهقاتها المقهورة، ورغمَ صوتها الباكي لكن صرخات روحها أبلغ من كلِّ الكلمات..
كان هو يستمع، وكأنَّ أحدهم يضعُ سكِّينًا على عنقه، لا ليقتله، بل ليُذيقه الموت وهو حي..
سحبها إلى صدره، لا ليواسيها فقط، بل ليحتمي من عاصفةِ الندم داخله..
زوجته، حبيبته..كانت تغرقُ في الجحيم وحدها..وهو لا يشعرُ بها
كيف سيطلب منها الغفران وهو لا يغفرُ لنفسه، تذكَّر تلك المقاطع التي شاهدها، وكلمات مصطفى...كانت كفيلة بإحراق ماتبقَّى منه، حتى شعر بنفسه يتحوَّلُ إلى شظيَّةٍ تتطاير في الفراغ..
ضمَّها إلى صدره بقوَّة، بقسوةِ العاجز، لم يشعر بضغطِ ذراعيه إلَّا حين صدرت عنها صرخةً خافتة، خرجت من بين أنينها..
همس بصوتٍ مختنق، بالكاد يُسمع:
– آسف..

استدارت إليه، تغرق بعينيهِ الدامعتين، تنهَّدت وأومأت برأسها المستسلم:
– مبقتشِ أنفعك..علشان كدا بقولَّك، إنتَ عندك حق، أنا مش زعلانة..
أنا لمَّا جيت لك، كنت عايزة أثبت لنفسي إنِّ ميرال لسه جوَّايا، بس لقيتها ماتت...ماتت في عيونك..

وضع إصبعهِ على شفتيها وقال بنبرةٍ تخرج من قلبٍ مكلوم:
– اشش...اسكتي، إنتي متعرفيش حاجة

هزَّ رأسه مبتعدًا بنظراتهِ عنها، وكأنَّ وجهها يصفع ضميره بكلِّ لحظةٍ غفل فيها عنها..
– دوَّرت عليكي زي المجنون..ولمَّا اقتنعت إنِّك موتِّي، قولت مستحيل اللي كانت بتحبِّني الحبِّ دا تقدر تعيش من غيري.
بس لمَّا ظهرتي...موتِّيني أكتر، يعني كنتي عايشة وسايباني أتعذِّب؟! فين الحبِّ اللي كنتي بتقولي عليه؟.

دفنت رأسها بصدره، وارتفع بكاؤها كطفلةٍ فقدت أمَّها:
– أنا وصلت إنِّي أكره الدنيا كلَّها، وكلِّ الكره دا بقى في قلبي ليك..
كرهتك لدرجة إنِّي كنت عايزة أحرق قلبي علشان حبَّك..
أنا هربت علشانك وعلشان يوسف..طب ليه أكرهك؟!.يمكن علشان شفتك بتعيش حياتك مع اللي تستاهلك؟.

أخرجها من حضنه فجأة، واهتزَّ جسدها بين يديه، نسي كلَّ ماأصابها، وهزَّها بهياجِ رجلٍ فقد كلَّ شيء:
– إنتي ليه دايمًا شايفاني مبعرفش أحب؟! ليه صدَّقتي إنِّي ممكن أتجوِّز عليكي؟!.
يعني للدرجة دي شايفاني إنسان من غير قلب؟!.
-إنت بتحاولي تبرري هروبك وغلطك

وضعت كفَّيها المرتجفتينِ على شفتيه، تمنعه من التمادي..حينها فقط أدرك قسوته، فجمع خصلاتِ شعرها المتناثرة، واحتوى وجهها بين راحتيه، هامسًا:
– اسف ..حطي نفسك مكاني، انا رحت لك اسكندرية، والدكتور قال كلام قنع، يعني انتي كنتي مخططة 
-علشان وقتها عرفت انك نسيت ميرال واتجوزت
-هاجت عيناه بالغضب، ورغم ذلك حاول ألا يسيطر على نفسه
-إنتي متأكدة يوسف اللي ردّ عليكي؟ مستحيل يوسف يقول كدا!!.

همست قائلة:
– معرفش..طنط نعيمة اللي اتكلِّمت، والدكتور كان مانعني أتكلِّم في التليفون..

شرد للحظات، ثم هزَّ رأسهِ بحدَّة:
– مستحيل...مستحيل يعرف إنِّك عايشة ومايقوليش!!.
يوسف كان بيعيَّط عليكي كلِّ يوم، مش ممكن يكون هوَّ..

ثم استدار نحوها، وصوتهِ خرج حادًّا:
– إنتي قابلتي إسحاق الجارحي؟.

رفعت عينيها إليه بصدمة:
– إسحاق!!.مين اللي قالَّك؟!

صرخ باسمها، وأشار إليها بسبَّابته المرتجفة:
– ميرال، إسحاق الجارحي وصلِّك إزاي؟!.

ابتلعت ريقها، وقالت بصوتٍ خافت:
– إنتَ عايز تعرف سبب الوجع اللي بحكي عنُّه، ولَّا إنتَ عارف وعايز توجعني وخلاص..

هنا تذكَّر حديث الطبيب:
"لو عايز ترجع لمراتك، ارجع لها من غير ماتسألها عن حاجة..ارجع علشان تلمِّ روحها، مش علشان تفتح جراحها...لو حكت، يبقى رجعت تثق فيك:
تذكر حديث مصطفى إليه:
– بدِّلوا دواها بمخدرات...إسحاق مكنشِ يعرف، هوَّ عرف بالصدفة..
العمارة كان فيها حد بيدوَّروا عليه، وكلِّ اللي كان بيطلع فيها ظهر في الكاميرات، شاف ميرال 
ومن ساعتها بدأ يراقبها، ويتتبَّع مواعيدها مع الدكتور..
اتجه إليها وقال 
-ازاي اسحاق ساعدك!!

غابت ميرال في ذاكرتها، وكأنَّها غاصت في قاعِ ظلماتها..همست بصوتٍ مرتجف:

– بعد ماالدوا مبقاش يجيب نتيجة، طنط نعيمة قالت لي لازم نروح للدكتور ونسأله، أنا كنت عارفة الدوا دا كويس جدًا، وأخدتني وهيَّ بتشدِّ في إيدي وأنا مش شايفة حواليَّ..
كنت عايزة أوصل للدكتور وبس، يشيل الوجع من جسمي، حتى لو مقابل ده حياتي..

رفعت عينيها إلى إلياس، نظرة منهكة حدَّ الهلاك:
– كنت مستعدَّة أعمل أيِّ حاجة 
ياإلياس..علشان وجعي يخلص.

أغمض عينيه بقوَّة، وضغط على أسنانه حتى سُمع صوتُ احتكاكها، صوتُ أنينِ الندم..
رأت مافعله، فابتسمت بسخريَّة دامعة، وتابعت:

– الدكتور كان بيقولِّي، جوزك السبب في كلِّ دا، الوجع دا وجع نفسي علشان لسه بتفكَّري فيه، وصدَّقيني هوَّ 
مايستاهلش..

ضحكة صغيرة خرجت منها، لكن عيناها كانت كأمطارٍ لا تتوقَّف:

– أنا مكنتش منتظرة يكرَّهني فيك، علشان كنت كرهاك أصلًا..
اقترَبت تنظر بعينيهِ مباشرة، ثم همست:

– تعرف كنت هموِّت شمس ليه؟.
علشان قالِّي إنَّها جت من شهوة راجل مكنش بيحبِّك، وبدليل أوَّل ماهربتي اتجوِّز، ويمكن كمان كان متِّفق مع أبوه يخلصوا منِّك..

شهق إلياس، وقطع كلماتها بصوتٍ مذبوح:
– بس يا ميرال..كفاية..مش عايز أسمع.

ضحكت بصوتٍ مرتفع، ضحكة ممزوجة بانهيار، وهي تهزُّ رأسها ا:
– لعبوها صح.. "ميرال، مرات إلياس السيوفي"... لازم نكسرها، لازم نجيب راسه في الطين!!.
بس عارف؟. مش همَّا الغلطانين، أنا..

قالتها وهي تهزُّ رأسها في ذهولٍ من نفسها، والابتسامة مازالت معلَّقة على وجهها المنكسر:
– أيوة أنا!!.أنا اللي سمحت بكدا، لمَّا هربت...استضعفوني
بس والله، ماعرفتش عملت كدا ليه..
ولمَّا فوقت، القدر قال لي: "إنتي اتبطَّرتي على النعم، لازم تدوقي..."
يمكن..يمكن بتعذِّب علشان بنتِ راجح، صح؟.

صرخ إلياس منتحبًا:
– ايوة صح علشان دا عقاب ليكي، لما الست تهرب من جوزها وتفكر أنها مظلومة ووحيدة، تستاهل كل اللي يحصلها، لما الست تعمل كل اللي بتفكر فيه علشان نفسها بس ..
نازلة تقولي علشاني وعلشان يوسف، طيب ليه يامدام وعقلك بيرسم لك كدا مش قالك انك بنت عمي، يعني مهما تعملي دمنا واحد..والأذية وصلاني سواء منك ولا لا ..لكن انتي فكرتي بعقلك المريض براجح وبس

نهض من مكانه وطالعها قائلًا
-لو خايفة عليا وعلى ولادك لازم تفوقي بسرعة، لازم تثبتي لاولادك انك تستاهلي تكوني أم..انا مش هطبطب عليكي زي مالدكتور بيقول، لاني هشجعك على اليأس والضعف، انا عايز ميرال السيوفي بتاعة زمان، هز رأسه وقال
-اه ..ماليش دعوة بالالقاب، عايزة البنت اللي وقعتني على وشي زي الاهبل وخلتني احبها 
انحنى يحاوط جسدها ومشط نظراته عليها:
-دي متنفعنيش، مستحيل أخليها ام لاولادي، انا عايزة أم تربي مش تطلع ولادي مرضى ..
اسمعيني ياميرال علشان انتي اكتر واحدة عارفة إلياس
-ماليش في شغل الستات والجواز، بس انا كفيل أربي ولادي كويس، وأظن سبتيني خمس سنين ورجعتي شوفتي يوسف راجل ..اكبر من سنه، وقادر أعمل دا في شمس
مسد على رأسها بعدما وجد دموعها:
-زي ماقولت لك مفيش حد هيخاف عليكي قدي، قبلها بجانب شفتيها ونظر لعيناها 
-ولا حد حيحبك قدي، اتمنى تكوني فهمتي كلامي ...قالها واعتدل بعدما طبع قبلة فوق جبينها واتجه إلى الحمام ولكنه توقف على كلماتها

– فيه حاجة مهمة لازم تعرفها علشان لما ميرال السيوفي اللي بتقول عليها ترجع تعرف مرت بإيه تاتي، اخترقته بنظراتها وقالت
- أدمنت، وإسحاق حجزني في مصحَّة..

نهضت بخطواتٍ غير متَّزنة، واقتربت منه:
– أه، نسيت أقولَّك إزاي إسحاق عرف..

صمت رغم نفور عروق وجهه، لكنَّها تابعت دون رحمة:
– لمَّا رحت للدكتور، وإحنا خارجين من العمارة، واحد خطف شنطة طنط نعيمة..
جريت وراه تصرخ، كانت لسه قابضة معاش جوزها، وفي اللحظة دي حدِّ خدَّرني وخطفني، وحطِّني في عربية..

ابتسمت بسخرية وهي تهمس:
– شغل مخابرات بقى، إسحاق..

تبَّدلت ملامحها للحظة، وكأنَّها ترى المشهد مجدَّدًا:
– أوَّل مافتحت عيني، شفت إسحاق جنبي..
متصدمتش، ولا حاجة، بس قلت له: "لو هتودُّوني لإلياس، أنا هقتله وهقتل نفسي..
أنا عايزة أروح للدكتور وبس..."

– هوَّ ما ردش..بس شك في حالتي، وطلب من السوَّاق يمشي، لحدِّ ماوقفنا قدَّام عيادة كبيرة..
دقايق، وسحبوا منِّي دم..
بعدها، محستشِ بحاجة غير ونعيمة جنبي.

ارتجف جسدها وهي تهمس:
– بعد كدا، بدأت أروح لجلسات طبيب نفسي، بعد مااتحايلت عليه يخرَّجني من المصحَّة، ونعيمة وعدته إنَّها هتاخد بالها منِّي..هددني بيك

نظرت له بحدَّة كأنَّها تطعنه:
– بس برضو قولت له: "لو إلياس عرف..هموِّته."
الجرعة كانت كبيرة قوي ياحضرة الظابط..

ظلَّت تسرد له ماجرى منذ لحظة خروجها من الإسكندرية حتى وصوله إليها، منهكةَ الذهنِ والجسد..سحبت رداءها ووقفت ترتديه بصمتٍ مكلوم..

– كدا عرفت كلِّ حاجة. وجه الوقت يابن عمي نحط النقط على الحروف
– رايحة فين؟.
– أوضتي اللي حضرتك نفتني فيها، أنا مش زعلانة زي ماقلت لك..هو حد يقدر يعترض على نصيبه؟.

خطى اليها، واحتوى جسدها بين ذراعيه، جاذبًا إياها إلى صدره:
– ليه كلامي مابيتسمعش؟.ليه مصرَّة تزعَّليني منِّك، وترجعي تقولي قاسي

دفعته بخفَّة، وقالت بحزمٍ حزين:
– علشان دا اللي لازم يكون..

استدارت مغادرة، غير أن خطواتها توقَّفت حين نطق بصوتٍ حاد:

– يوسف كبر ياميرال، وبقى بيحسِّ بكلِّ اللي بيحصل وبيعاتب، بلاش تسبِّبيله عقدة..عرف اللي حصل بينَّا، خلِّيكي في الأوضة، وأنا هنام في التانية..المهم ولادنا مايحسُّوش بحاجة.

التفتت تنظر إليه للحظات، ثم تمتمت باستسلام:
– ماشي.

اقتربت من السرير، تشير إليه بصوتٍ خافت:
– عايزة أنام لو مش هضايقك.

أشار إلى ردائها:
– هتنامي بالروب؟.

نظرت إلى هيئتها ثم هزَّّت رأسها بصمت، تراقبه بنظرةٍ هادئة، اتَّجه إلى غرفة الملابس بينما رنينُ هاتفه يقطع السكون:

– أيوة، فيه جديد؟.
– أرسلان باشا بيراقب شخص، والمشكلة إنِّ الشخص دا معروف في البلد.
– يعني إيه؟.
– هبعتلك التفاصيل.
– تمام..

أزالت رداءها ثم وجَّهت نظرها نحو الباب الذي أغلقه خلفه، جمعت خصلاتها في هدوء، ولاحت على شفتيها المتعبتينِ ابتسامةٌ خافتة، كأنَّها تعلن استسلامها لحبٍّ لا يريد أن يرحل.

– أنا بحبَّك أوي..وياريتك ماتسمعشِ كلامي.

وقعت عيناها على جاكيت بدلته، سحبته إلى صدرها، تضمُّه وتستنشق رائحته كالمدمن
خرج فجأة، توقَّف  أمام باب الغرفة، يتأمَّلها في صمت، وابتسمت عيناه دون أن ينطق، ثم انسحب بهدوء نحو الحمَّام..

ظلَّت على حالتها تلك، حتى استمعت إلى وقع خطواته، فتركت جاكيته في مكانه، وتمدَّدت على الفراش، تغلق عينيها، تتصنَّع النوم، حتى لا تضعف وتطلب منه أن يبيت بجوارها.

غادر الجناح بأكمله..زفرَت تنهيدةً حزينةً وهمست لنفسها:

– كنتي مفكرة هيسامح حتى بعد ماعرف، احمدي ربِّنا إنُّه ماطلَّقكيش.

عادت بذاكرتها إلى لحظاتهما، غرقا فيها معًا في نشوة قبلاتٍ منسيَّة، ابتسمت بخجلٍ حالم، ووضعت أناملها على شفتيها، تهيمُ مع دقَّاتِ قلبها..

قطع شرودها طرقاتٌ خفيفة على الباب، ثم دلفت شمس يتبعها يوسف، اعتدلت بسرعة ماإن رأتهما:

– حبايب قلبي..تعالوا لمامي.

ركضت شمس لتدفن نفسها في أحضانها، بينما بقي يوسف واقفًا يتأمَّلها بصمتٍ عميق..

مدَّت يدها إليه:
– تعالَ حبيبي، واقف عندك ليه؟.
– بابا قال إنِّ حضرتك عايزانا..إنتي كويسة؟

مرَّرت أناملها في خصلاتِ شمس وقالت:
– شوفتي أخوكي زي القمر إزاي؟.

هزَّت الصغيرة رأسها وأشارت نحوه، تتحدَّث ببراءةٍ طفولية:
– آه، شبه الشرِّير اللي عايز يخطفني..

ضحكت بخفَّة، وقبَّلت وجنتيها ثم مسَّدت على شعرها:
– حبيبتي، بابي مش شرير..هوَّ بس كان زعلان من مامي علشان ماقالتش على مكان شمس، وكان بيدوَّر كتير..

هزَّت الطفلة كتفها بتعجُّب:
– طيب ليه هوَّ ماعرفش يوصل لماما وهيَّ كانت تعبانة، وليه بيقول مامي، انا بحب ماما احسن 
-نظرت إليها بحنان والذنب يحرق صدرها، بعدما حرمتها من عز والدها، قبلتها على وجنتيها
-شموسة ممكن نسمع كلام النانا، علشان هي بتحب شمس وعايزة تخليها اميرة
هزت رأسها بالموافقة ..

نظرت ميرال إلى يوسف الصامت، وقالت:
-ايه رأيك بيوسف !!
-حلو وبيلعب معايا زي هند بس هو بيزعق كمان، بس حلو ياماما ليه مجاش عندنا 
كانت تراقبه بحنان ثم قالت:
– علشان هوَّ كان ميعرفش إنُّه عنده شمس..كان فاكر إنُّه عنده يوسف بس، مش كدا يايوسف؟.

أجابها بنبرةٍ حائرة:
– مش فاهم قصدِ حضرتك؟..إحنا فعلًا ماكنَّاش نعرف إنِّ حضرتك عايشة، وده قولته لك في المستشفى..

أشارت إليه أن يقترب:
– قرَّب..تعال في حضن ماما، عايزة أسألك عن حاجة.

جلس بجوارها، سحبته تحت ذراعها، وقبَّلت رأسه:
– أنا بحبَّك أوي ياحبيبي..تأكَّد إنَّك أغلى من روحي.

رفع رأسه إليها بعينينِ لامعتينِ وقال:
– عارف ياماما..وبابا قال، وجدو مصطفى كمان..كلُّهم قالوا كدا..
وأنا كمان عارف إنِّك بتحبِّيني..بس ليه سبتيني؟.

ممكن نتكلِّم بعدين حبيبي.. 
أومأ متفهِّمًا، مسَّدت على خصلاته وتساءلت:
-حبيبي هوَّ مفيش حد كلِّم بابا وقالُّه ماما عايشة، وإنتَ ردِّيت عليه؟.
هزَّ رأسه بالنفي: 
-يعني لو حدِّ قال كدا كنت هسكت؟..
صمتت ثم قالت: 
-متأكِّد، فيه واحدة حبيبي اتَّصلت على رقم بابا وإنتَ ردِّيت وقولت بابا بيتجوِّز.
قطب الطفل جبينه وكرَّر كلماتها:
-لا ياماما مفيش حدِّ اتَّصل خالص. 

ضمَّته لحضنها وذهبت بشرودها:
-يعني نعيمة هتكذب، معقول!!.أكيد فيه حاجة غلط..

مرَّت عدَّةُ أيام استعادت بها ميرال صحَّتها، بمساعدةِ الجميع إليها، لم تقابل بها رؤى سوى مرَّتين، مرَّة مع يزن ومرَّة مع طارق الذي زارها بعد علمهِ بحالتها..

ذات مساء دلفت فريدة تحمل كوبًا من العصير، وجدتها تجلس بجوار يوسف وهو يؤدِّي واجباته، توقَّفت تراقبهم بحنان ثم قالت: 
-حبيبتي اللي نوَّرت الدنيا كلَّها. 
رفعت عينيها وتوقَّفت تتناول العصير:
-تعبتي نفسك حبيبتي. 
-يوسف قاعد هنا ليه حبيبي؟..يالَّه على أوضتك.
-لا، سبيه ياماما عايزة أشوفه وهوَّ بيذاكر..
مسَّدت فريدة على خصلاتها: 
-ربِّنا مايحرمِك منهم حبيبتي..تلفَّتت حولها متسائلة:
-فين شمس؟. 
-يزن أخدها، عايزها تاخد على ولاده، وكمان زهقت من النانا، وكلماتها، البنت لسة صغيرة مش قادرة تستوعب الحياة دي مرَّة واحدة.. 
-معلش حبيبتي إن شاءالله النانا هتعرف تتعامل كويس، أنا شايفة إنَّها بقت كويسة أوي، أه بتخاف من إلياس بس كويسة، شوية شوية هتتقبَّله..
-صعبان عليَّا أوي وهوَّ بيحاول يقرَّبها منُّه.
كان يستمع إلى حديث والدته بصمت، ثم نهض من مكانه: 
-أنا هروح أكمِّل مذاكرة في أوضتي، وبعد شوية هنزل لبلال عندنا مبارة في النادي..
-خلِّي بالك من نفسك ياحبيبي.راقبته حتى خرج، التفتت على سؤال فريدة:
-ميرال عاملة إيه دلوقتي، لسة بتحسِّي بوجع في جسمك والصداع لسة بيجي لك؟..
-لأ حبيبتي الحمد لله..الدكتور اللي إلياس أخدني له كويس أوي. 
-ميرو إلياس بيحبِّك وبيعشقك، بلاش تضيَّعيه حبيبتي، اتحمِّل كتير فوق طاقته.. 
استدارت وتنهَّدت بألم..فهي لم تراه سوى دقائقَ قليلة..نهضت من مكانها واتَّجهت إلى خزانتها، انتقت رداءً باللونِ الأحمر وقامت بتمشيط خصلاتها، كلَّ هذا وفريدة تراقبها، توقَّفت تنظر إلى نفسها بالمرآة وتحدَّثت:
-أنا ممكن أرجع زي الأوَّل ياماما؟..
نهضت فريدة من مكانها واقتربت منها، توقَّفت خلفها تشير إلى انعكاس صورتها:
-إنتي كدا وحشة حبيبتي!!.زي القمر، وبكرة كمان ترجعي أحسن من الأوَّل..
-يارب ياماما. 
التفتت إليها وتساءلت:
-لازم الحفلة دي، أنا مش عايزة أحضر حفلات.
احتضنت وجهها وابتسمت: 
-حبيبتي اسمعيني، لازم الكلِّ يعرف إيه اللي حصل، مينفعش بعد ماأعلنوا وفاتك يرجعوا يقولوا ظهرت، مليون سؤال والناس مش هترحم جوزك.. 

أومأت لها وسحبت وشاحًا وضعته حول عنقها:
-هروح عند يزن شوية، عايزة ألفِّ شوية في المكان. 
ربتت فريدة على ظهرها: 
-تمام، خلِّي بالك من نفسك..وأنا هرجع بيتي، غادة خلاص استقرت هنا ومصطفى لوحده 
اومأت له بتفهم 

مساء اليوم التالي 
تجمَّع الجميع بحديقةِ منزل إلياس..التفَّ الجميع حول طاولة الطعام..
كان يترأس الطاولة مصطفى الذي كانت نظراته لم تتزحزح عن ميرال التي تجاهلت وجوده، كلَّ هذا وإلياس يراقب بصمت إلى أن قطع الصمت فريدة: 
-أرسلان فينك مختفي بقالك كام يوم؟.. 
ابتعد بنظراته عن إلياس الذي زمَّ شفتيه بسخرية، لأنَّه يعلم بما يفعله ولكنَّه تركه يفعل مايريد..

نهضت ميرال قائلة:
-أنا شبعت هتمشَّى شوية، نهض من مكانه وقال:
-خديني معاكي..أكلت كتير.. 
ابتسمت فريدة وهي تراقبهم، ولكن أوقفهم صوتُ يوسف مع بلال: 
-يابني بقولك ، بابا غلط مع ماما علشان كدا خلِّفوني أنا وشمس..تجمد للحظات 
-يوسف..صرخ بها إلياس كالمجنون وهو يقترب من طفله وعيناه تطلق نيرانًا جحيميَّة.. 
توقَّف يوسف واقترب من رؤى الجالسة:
-هوَّ أنا قولت حاجة غلط يابابا، خالتو اللي قالت لي كدا.. 
ارتبكت بعدما كانت تبتسم وارتجف جسدها، تنظر إلى يوسف مستنكرةً حديثه:
-إيه اللي بتقوله دا يايوسف!!.مش عيب تكذب.. 
-اخرسي ، من إمتى وابني كذَّاب..نهض مصطفى بعدما وجد انفلات سيطرة إلياس: 
-اهدى حبيبي..يوسف طفل يمكن فهم غلط..
-ابني مش كذَّاب، وأنا عمري ماأكذِّبه وعارف بيقول إيه، خلاص وصلت بيكي البجاحة تقولي لطفل كلام زي دا!!..
التفت إلى يزن الصامت: 
-آخر تحذير للبتِّ دي، لو معرفتش تربِّيها، أقسم بالله همسح بكرامتها الأرض ودلوقتي غوري من وشِّي..لكن أوقفته ميرال: 
-اهدى..تغور تروح فين لوحدها؟..اقعدي يارؤى، وزي ماعمُّو مصطفى قال ممكن تكون كانت بتهزَّر مع يوسف.. 
رمقها إلياس بحدَّة ورفع يده بسخرية:
-هنتظر منَّك إيه..، قالها وخرج تاركًا المكان واتَّجه إلى سيارته، راقبته حتى خرج من البوابة، ثم استأذنت وصعدت إلى غرفتها.. صعد يوسف خلفها طرق الباب ودلف بعد الإذن
-حضرتك زعلتي من كلامي 
أشارت إليه بالاقتراب
-تعالى حبيبي..ليه رؤى قالت كدا، وازاي تقول كلام متعرفش معناه 
طأطأ رأسه بالأرض وقال:
-أنا عارف معناه، وقولت كدا علشان الكل يسمع...رفع عيناه لوالدته 
-عارف الطريقة غلط، بس فيه حاجات كتيرة برتبها ..انا اسف ياماما، مكنش قصدي تزعلي ولا قصدي ازعل بابا، بس كان لازم أعرف الكل بتقول ايه من وراكم 
فتحت ذراعيه إليه:
-ممكن تيجي في حضن ماما..اقترب منها ضمته تحتضنه بوله:
-حبيبي انت ..امتى كبرت كدا 
-من وقت ما حضرتك سبتيني لوحدي 
نزلت دمعة من عيناها، فاحتوت وجهه
-اسفة يامامي، ممكن تسامح مامي يايوسف، عارفة مهما اقول مش هقدر ارجع لك حضن ماما اللي احتجته، بس غصب عني 
-أنا مين ياماما علشان ماسمحش حضرتك..بابا قال الأبناء لازم يطيعوا ابائهم 
قبلت جبينه واغمضت عيناها 
-ربنا يبارك فيك ياحبيبي يارب 
قبل وجنتيها وابتسم:
-خلي بالك ياست الصحفية، جوزك بيتسرق منك، انا لو من بابا كنت عيشت حياتي بلا حب بلا هم
قهقهت عليه تضمه وارتفعت ضحكاتها
-كدا يايوسف، عايز بابا يتجوز على ماما 
رفع رأسه ينظر إليها 
-هو من الجهة الرجولية اه عادي، لكن من جهة القلب مينفعش طبعًا، اولا علشان بيحبك ..ثانيا علشان انتي جميلة اوي وهو مش شايف غيرك 
ابتسمت بعيونًا لامعة واردفت:
-باباك احسن راجل في الدنيا ياحبيبي 

طيب لازم اروح انام علشان احسن راجل في الدنيا بيقلب بالليل 
ظلت تضحك عليه حتى اغلق الباب خلفه..توقفت تنظر لأثر خروجه وهمست لنفسها:
-روحي احمدي ربنا، صلي القيام وفوقي لربنا ياميرال ..اشكريه وقضي حقه عليكي 

في صباحِ اليوم التالي، اليوم المقرَّر لإقامة الحفل بفيلا السيوفي...

خيَّم الصمت على أرجاء الغرفة الواسعة التي سكنت فيها ميرال، تقف أمام المرآة تعيدُ ترتيب خصلاتها..قطع هذا السكون طرقات خفيفة على الباب..لحظات، ثم انفتح الباب لتدخل رؤى..

– ممكن نتكلِّم؟.
أفلتت ميرال فرشاة الشعر من يدها، واستدارت تنظر إليها بصمتٍ بارد:

– عارفة إنِّك زعلانة منِّي..بس أنا عملت كدا..
قاطعتها ميرال، واقتربت منها، عيناها تلتهبانِ بالاشمئزاز:

– عايزة إيه يابت؟.

– ميرال..إنتي..هتقولي لإلياس؟.
ماإن نطقت بالكلمات حتى هوت ميرال بما في يدها، ولطمة قوية على وجهها..
وضعت رؤى  كفَّها موضع الصفعة ونزلت دموعها تترجَّاها:
– ميرال!!.
أسرعت، وأمسكتها بعنقها وهي تصرخ:

– وديني، لو سمعِت حرف تاني منِّك لأقتلك، سمعاني يابت؟! هقتلك..
ثم دفعتها بعنف، لتصطدمَ رأس رؤى بالجدار، قبل أن تقترب منها من جديد وهمست بحنقٍ مجنون:

– اسمعيني ياحلوفة..لأنِّك تعدِّيتي الشيطان نفسه...ميرال الهبلة ماتت من يوم ماأبوكي القذر دخل حياتها.

فجأة انفتح الباب بعنف، ليدخل إلياس، وعيناهُ تجول بين الاثنتين كالسهم..

– بتعملي إيه هنا؟.
أشارت رؤى المرتبكة إلى ميرال:

– ميرال كلِّمتني..علشان نجهز مع بعض..هيَّ اللي طلبت، مش كدا ياميرال؟

لكن ميرال لم تجب، كانت تتراجع إلى الخلف تحاول التقاط أنفاسها التي أُنهكت من تلك الحرباء..

– طيب، ماجهزتوش ليه؟.
تساءل إلياس وهو ينقل نظره إليها..
فردَّت ميرال بحدَّة:

– مش رايحة أيِّ مكان..اللي عايزني ييجي لي، أنا مش رايحة لحد..
ثم أشارت بيدها نحو رؤى:

– واطلع برَّة، وخد الزبالة دي معاك..

كزَّ إلياس على أسنانه، يحاول التماسك، ثم قال بهدوءٍ مشوب بالنار:

– أنا مش جاي آخد رأيك..أنا جاي أقولِّك اجهزي..

أشارت إليه بإصبعها، تهتف بجنون.. فكلَّما تذكَّرت ماقاله بالأمس بعد كلام يوسف وخروجه وعدم عودته سوى الان تشعر بنيرانٍ تحرق قلبها:

– عارف لو ماخرجتش دلوقتي..هعمل إيه؟
اقترب منها ببطء، بعينينِ تتوهج بالتحدي:

- أيوه، عايز أعرف..هتعملي إيه يامدام؟
قالها وهو يجذبها من خصرها بعنف، لتصرخ متأوِّهة:

- إلياس، بتعمل إيه؟!.

- ممكن نلغي المشوار..عادي، بس في حالة واحدة..
قالها بصوتٍ خافت، قبل أن ينحني ويقبِّل ثغرها للحظاتٍ سريعة، وهمس:

– آسف..عارف اتكلمت معاكي بحدة وضغطت عليكي في ظروفك دي 

ابتسمت رغمًا عنها، وتمتمت:

– على فكرة...إنتَ كمان محتاج تروح لدكتور..

– طبعًا، دا المفروض يحجزوني في مستشفى المجانين..
قهقه بخفَّة، فافترت شفتيها عن ابتسامة، ثم تنبَّهت لصوتِ إغلاقِ الباب خلف رؤى، فنظرت إليه:

– أنا..مبقتش عايزة رؤى تقرَّب من الولاد.

– ليه، علشان كلام يوسف، ولا علشان الجواب اللي بعتِّيه؟ ليه قلتي جوازي من رؤى حرام، تقصدي إيه؟..

– لأنَّها كانت عارفة إنِّي عايشة من أربع سنين، وهي اللي ردِّت على نعيمة، وخلِّتني أسيب المدرسة..لمَّا طلبت منِّي مرجعش علشان اتجوِّزت، كان لازم أبعتلك الرسالة…
تنهَّدت، ثم أردفت بصوتٍ منكسر:

– بس تاني يوم، يوسف قالِّي: "بابا متجوزش".
قهقه بجنون فلقد أفلتت عقله خارج جسده:
-أنا ورؤى!..مكنتش غادة، إيه هوَّ أنا فاضي مفيش ورايا غير الجواز يامدام؟..كانت تراقب حديثه بألم، فقالت
-عندك حق، معلش بقى مكنشِ عندي عقل، لمَّا أشوف جوزي واحدة بتبوسه وبتقول أحسن يوم في حياتنا، وقبلها بكام يوم واحدة تردِّ عليَّا وتقول إلياس بيتجوِّز، كان لازم المجنونة ترتِّب عقلها.. 

-اخرسي ياميرال، علشان ماأروحش فيكي في داهية، قال بيقول لي أساعدك!..دا أنا اللي عايز حدِّ يساعدني..
يارب صبَّرني وأفضل بعقلي..قالها واستدار يشير إليها: 
-قدَّامك خمس دقايق لو منزلتيش هتعمل ايه ياالياس 
-ولا حاجة ..قالها وهمَّ بالمغادرة فأردفت بصوتٍ يهتز:

- فيه حاجة نسيت اقولك عليها 
– رانيا..والراجل اللي شُفته مرَّة عند الدكتور، راحوا لي الحارة..وكانوا عايزين ياخدوني بالغصب، بس أهل الحارة طردوهم..وكمان بعتتلي رسالة امبارح وعايزة اروح اعيش معاها 

شهق إلياس، وتراجع يخطو خطوةً نحوها، مصدومًا:

– رانيا، والراجل دا؟!..
هزَّت رأسها واستأنفت:
قبلها الراجل هدِّدني بيك لو مرحتش معاه وكمان هدِّدوني بيوسف، مكنوش يعرفوا بشمس، وفعلًا، حاول يقتلك لمَّا روحت لك  الشركة..
اقترب منها وضم وجهها 
-ميرال اوعي تضعفي قدام رانيا..جسمك لسة ضعيف، حطي يوسف وشمس قدام عيونك، مش هرحمك لو غلطتي ودا هيكون غصب عني 
-إلياس ..!! سامحتني مش كدا 
ضم رأسها لأحضانه:
-لسة شوية، مش هسامحك غير لما ميرال اللي اتجوزتها ترجع تاني 

دفعته بخفة ثم أشارت للباب
-طيب اطلع برة لحد ما ميرال التانية ترجع 
رفع حاجبه بسخرية:
-بتطرديني ومن اوضتي كمان ..طيب 

في مكانٍ آخر...

اقتحم المكان كالإعصار، لا يوقفهُ أحد، يطيح بكلِّ من يعترضه دون رحمة، حتى بلغ باب الفيلا..

دفعه بقدمه، صاعدًا إلى غرفة النوم حيث وجد الرجل يتقلَّب مع فتاة..

قبض عليه من عنقه وسحبه عن الفراش، وأخرجه عاري الجسد، يركلهُ بكلِّ ماأوتي من غضب..

صرخ وهو يرفعه:

– قوم ياحيوان، علشان تعرف مين همَّا ولاد الشافعي اللي ماتقدرشِ عليهم..
في منزل طارق...

كانت تمشي ذهابًا وإيابًا في غرفتها، كأنَّها تريد أن تُحرق المكان بمن فيه، حتى انتفضت على صوتِ الباب يُفتح.. 

دلف، يتطاير الشرر من عينيه، يهدر كوحشٍ كاسر:

– بقى أنا مربِّي شيطانة في بيتي؟!
وحياة أبوكي، لأخلِّيكي تتمنِّي الموت وما تلاقيهوش..
قالها وهو يسحبها من خصلاتها، تصرخ متألِّمة، والظلام يغلِّف كلَّ شيءٍ حولها بعدما لطمها بقوَّة على وجهها..

توقف بعدما استمع الى رنين هاتفه 
-إلحق ياالياس ارسلان اتجنن وهيقتل الراجل 
-انتوا فين يايزن 
في فيلا الراجل..دفع رؤى بقوة حتى سقطت على الأرض وصاح بغضب على مالك
-خد البنت دي من هنا، واطلع على فيلا رانيا عايزة حية 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1