رواية خيوط النار الفصل الحادي عشر
وقف سامح أمام يونس، ملامحه متماسكة ظاهريًا، لكنها كانت تخفي خلفها عاصفة تتخبّط داخله. قلبه ينبض بعنف داخل صدره، كأنّه يطرق عليه من الداخل، وعقله يصرخ في صمت. نظر حوله بتوتر، يحاول التأكد أن كل شيء يسير حسب الخطة… زاهر ذهب إلى الموقع الذي بلّغه به، والآن لم يتبقَ عليه سوى شيء واحد: أن يتأكد أن يونس لم يشك فيه.
قال بصوت بدا ثابتًا، لكن رعشة خفيفة تسللت إليه رغمًا عنه، فضحته:
سامح:
ــ "كل حاجة جاهزة، صح؟"
كان يونس واقفًا بجسده المسترخي، ويده داخل جيبه، عيناه تلمعان ببريق غامض، وابتسامة خافتة تعلو شفتيه. أشار للفرقة أن تستعد، ثم التفت نحو سامح ورد بنبرة هادئة، لكنها كانت تحمل في طيّاتها شيئًا لا يُطمئن:
يونس:
ــ "آه… بس في تغيير بسيط."
كأنّ حجرًا ضخمًا سقط فجأة على صدر سامح. شعر باختناق مفاجئ، كأن الهواء قد تبخر من حوله. حرك رأسه ببطء، محاولًا أن يحافظ على هدوئه، رغم أنّ أطرافه كانت ترتجف.
سامح بحذر ظاهر في صوته:
ــ "تغيير؟... إزاي؟!"
رفع يونس بصره نحوه، نظر إليه نظرة طويلة وثابتة، نظرة تحمل يقينًا لا يتزعزع، وكأنّه ينظر من خلاله، لا إليه. ثم قال بنبرة باردة، خالية من أي تردد:
ــ "المكان اتغيّر... إحنا مش رايحين المكان اللي بلغتك بيه."
في تلك اللحظة، تجمّد كل شيء داخل سامح. الهواء انسحب من رئتيه دفعة واحدة، الدم توقف عن الجريان في عروقه، قلبه ارتطم بقوة داخل صدره، ووجهه شحب كأنه رأى شبح نهايته. بدأ عرق بارد يتجمع على جبينه، وظهر التوتر في كل تعبير من تعبيرات وجهه. ومع ذلك، جرّ نفسه جَرًّا ليتماسك، محاولًا أن يبدو طبيعيًا.
سامح بمحاولة يائسة للتمالك، وهو يحرك كتفه لا إراديًا:
ــ "إيه؟… ليه؟!"
أمال يونس رأسه قليلًا، ثم اقترب خطوة، عينيه تزدادان ثباتًا وحدة، وصوته يخرج كأنه صادر عن شخص يعرف تمامًا أين يقف، وما الذي يفعله، وعمّن يتحدث:
يونس بنبرة هادئة، لكنها مشبعة بالسخرية:
ــ "لأن عندي إحساس… إن في عين وسطينا مش أمينة. فقلت أغيّر الخطة شوية… احتياطي."
أحس سامح أن الأرض تميد تحت قدميه، وأن العالم ينهار حوله ببطء. رأسه يدور، وأفكاره تتلاطم كأمواج هائجة. داخله يصرخ: هو عارف... أكيد عارف! خلاص كده… انتهيت!.
حاول أن يتصرف بسرعة، يمد يده نحو جيبه ليتأكد من هاتفه، لعلّه يستطيع إرسال رسالة أو اتصال لـ زاهر قبل فوات الأوان. لكن...
يونس لاحظ.
ابتسم له ابتسامة باردة، تلك الابتسامة التي تُشبه شفرات الجليد، لا تحمل دفئًا، بل تجمّد الدم في العروق.
يونس بهدوء مقصود، ونظرة تفضح كل ما يخفيه:
ــ "محدش في المهمة دي معاه تليفون… احتياطي أمان."
شعر سامح بأن الخوف قد صار جسدًا يمشي داخله. ابتلع ريقه بصعوبة، وعض على لسانه من شدة التوتر، محاولًا ألا يظهر الرعب الذي بدأ يتسرّب إلى ملامحه، رغم أنّ عينيه كانت قد فضحتاه.
نظر حوله مرة أخرى… الكل مستعد، الأسلحة مُحضّرة، الأوامر واضحة، الخطوات محسوبة… وكل شيء يتحرك نحوه، نحو نهايته.
لا مجال للهرب... لا مفر.
********
على الجانب الآخر...
الليل كان يسود المكان كستار كثيف لا يخرقه سوى نور القمر الباهت، ومع كل لحظة تمر، كانت لمعة السجائر بين أنامل الحراس تضيء الوجوه كأنها ومضات شياطين تراقب في صمت. الحراس وقفوا صامتين كالأشباح، يحيطون بزاهر وماجد، بينما التوتر يخنق الأجواء كغبار خانق.
في حين كان القلق واضحًا في عيون زاهر، الذي كان يهز ساقه بعصبية كأنها تنبض بهلعٍ متصاعد، كان ماجد يجلس بهدوء مريب، يلعب بالهاتف في يده كما لو كان يحرك قطع شطرنج على رقعة حربٍ حقيقية، كل حركة محسوبة، كل خطوة مدروسة.
قال زاهر بنبرة متوترة وهو ينظر حوله:
ــ "بقول لك إيه، نمشي خطوة بخطوة... ما ينفعش نفتح جبهة جديدة مع يونس، إحنا بالعافية بنخرج من كل مصيبة!"
لكن ماجد لم يتأثر، ورد عليه بهدوء مستفز، نبرة صوته باردة كالموت:
ــ "أنا عارف أنا بعمل إيه... وعائشة هي المفتاح. يونس ظابط شاطر، آه... لكن كل واحد له نقطة ضعف، وأنا خلاص لقيتها."
وقبل أن يتمكن زاهر من الرد، قطعت أصوات المحركات سكون الليل، وتقدمت سيارات سوداء ضخمة، أضواؤها تخترق الظلمة كالخناجر. توقفت على بُعد خطوات، وانفتح أحد الأبواب لينزل منه رجل ضخم، بشرته سمراء، عيناه تقطران خبثًا وشرًا، وملامحه كأنها منحوته من الرعب... إنه "فرج الديب".
ابتسم فرج بسخرية وقال بصوت أجش مليء بالتعالي:
ــ "زاهر الحديدي... وحبيبنا الغالي. شايفكم مشغولين، ولا جيت في وقت مش مناسب؟"
وقف زاهر على الفور، محاولًا إخفاء قلقه، ورسم على وجهه ابتسامة زائفة:
ــ "طبعًا لأ... إحنا كنا مستنيينك."
ضحك فرج بتهكم وهو يمرر نظره عليهم:
ــ "مش باين... شكلكم غرقانين في المشاكل!"
ماجد ظل صامتًا، يحدق فيه بنظرات جامدة، حتى قال بهدوء بارد:
ــ "جبت البضاعة؟"
أومأ فرج برأسه، ثم أشار لرجاله فأنزلوا الصناديق وفتحوها. بعد أن تأكد من محتواها، نظر إلى ماجد قائلاً بنبرة تحذيرية:
ــ "بس خليني أقول لك حاجة... أنا ما بحبش أشتغل مع ناس عليهم عيون من الحكومة. سمعت إنكم تحت المراقبة... وأنا ما بحبش أخسر."
تدخل زاهر بسرعة محاولًا السيطرة على الموقف، وهو يبتلع توتره:
ــ "الموضوع تحت السيطرة. ما تقلقش، إحنا عندنا رجالة جوه الشرطة، وكل خطوة محسوبة."
ابتسم فرج بسخرية مريرة:
ــ "رجالتكم؟ تقصد سامح؟ الفاشل ده؟ ده ممكن يعترف عليكم من أول كف!"
سقطت الكلمات على زاهر كالصاعقة، بينما ماجد لم يتفاجأ، بل ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة كأنه كان يتوقع ذلك.
قال ماجد بثقة قاتلة:
ــ "ما تشغلش بالك بسامح... ده مجرد كارت. لو اتحرق، عندنا كروت تانية نلعب بيها."
نظر فرج له بدهشة ثم التفت لزاهر وسأله ساخرًا:
ــ "صاحبك ده غريب... بس يهمني إن الفلوس تكون جاهزة."
أشار زاهر لأحد رجاله، ففتح حقيبة ممتلئة برُزم الدولارات، وقال بثقة مهزوزة:
ــ "كل حاجة جاهزة، بس إحنا عايزين الشحنة توصل بأمان. مافيش مجال لأي مشاكل تانية... كفاية اللي خسرته المرة اللي فاتت."
ضحك فرج وأشار لرجاله ليبدأوا تحميل البضاعة على سيارات زاهر:
ــ "الشغل شغل... وفلوسي وصلت، يبقى كل حاجة تمام."
في الجهة الأخرى...
كانت العربات المدرعة واقفة تنتظر الإشارة، والجنود على أهبة الاستعداد. يونس وقف بجوار سامح، ملامحه جامدة، لكن عينيه تتقدان بتركيز مخيف. أما سامح، فكان يحاول أن يبدو طبيعيًا، بينما داخله يغلي برعب متصاعد، خاصة بعد أن فاجأه يونس بتغيير مكان العملية، بينما هو كان قد بلّغ زاهر بالموقع القديم.
يونس لمح القلق في عينيه، لكنه لم يعلّق... كان تركيزه منصبًّا بالكامل على نجاح العملية.
رفع يده بهدوء، فانطلقت الإشارة. تأهبت القوات، وكل جندي قبض على سلاحه، ينتظر لحظة الهجوم. ثم صرخ يونس بصوت حازم:
ــ "اقتحموا!"
في لحظة، انفجر المكان. الرصاص بدأ ينهال، والدخان غطّى السماء، والصراخ مزّق الصمت. ساحة المعركة اشتعلت، كأن الجحيم فُتح على الأرض.
ــ "انبطحوا! ما حدش يتحرك!"
صرخ يونس وهو يتقدم بين طلقات النار. لكن رجال زاهر وفرج لم يكونوا خصمًا سهلًا. فتحوا النار بجنون، والرصاص يتطاير في كل اتجاه.
كان زاهر مختبئًا خلف سيارة، يمسك سلاحه، يصرخ بأعلى صوته:
ــ "اضربوهم! ما تسيبوش حد يقرب!"
أما فرج، فكان أشبه بوحش هائج، يطلق النار بعشوائية، ويضحك ضحكة مجنونة:
ــ "يا ولاد...! فاكرين نفسكم هتمسكوني بالساهل؟!"
لكن يونس كان ثابتًا، يتحرك بخفة وثقة. صرخ بأمر قاطع:
ــ "حاصروهم! اقفلوا المداخل كلها!"
رجاله تحركوا بذكاء، أغلقوا كل منفذ، أحكموا الطوق.
وفي وسط الفوضى، كان ماجد ينسل في الظلال مثل شبح. لم يطلق رصاصة، لم يلتفت خلفه، فقط تحرك بهدوء قاتل. كان يعلم أن الكمين سينفجر، وكان مستعدًا. وصل إلى سيارة مركونة بعيدًا، ركبها، واختفى في الظلام... دون أن يلاحظه أحد.
في ساحة القتال، يونس كان يزحف وسط الرصاص. رأى زاهر، وصوّب سلاحه:
ــ "ارمِ سلاحك، يا زاهر... اللعبة انتهت!
لكن قبل أن ينفذ زاهر الأمر، انطلقت رصاصة من جهة فرج.
اخترقت النار جسد يونس... شعر وكأن جمرة انفجرت في صدره، الدم تدفق بغزارة، لكنه لم يسقط. قاوم، رفع سلاحه، أطلق النار.
رصاصة يونس أصابت فرج في الكتف، فسقط يتلوّى، وسلاحه طار من يده.
اقتحمت قوات يونس الموقع، أمسكوا بزاهر، كبلوه على الأرض، بينما كان يصرخ ويهدد بلا فائدة. سامح وقف متجمّدًا، وجهه شاحب كالموت.
نظر إليه يونس، بالكاد يقف على قدميه، وملامحه يملأها الألم والغضب:
ــ "كنت عارف إنك خاين... بس ما توقعتك تبقى غبي بالشكل ده."
لم يرد سامح، كان يعلم أن نهايته قد كُتبت.
فرج كان يقاوم كوحش جريح، لكن القوات سيطرت عليه. زاهر ظل يصرخ، ولكن لا أحد استمع إليه.
سقط يونس أخيرًا على ركبتيه، يده تضغط على الجرح، الدم يقطر على الأرض. اقترب أحد الضباط منه بسرعة، يصرخ في الجنود:
ــ "الباشا اتصاب! لازم نخرجه فورًا!"
حملوه سريعًا، والدم يلوّن الأرض خلفه. في تلك اللحظة، لم يرَ يونس شيئًا أمامه سوى صورة واحدة... عائشة.
"كان نفسي أشوفك... قبل ما أموت."
وامتلأت عينه بالدموع، لكن قلبه تمسك بالأمل.
**********
في غرفة "عائشة" ساد هدوء غريب، كأن الزمن توقّف عند عتبة الباب. الضوء الخافت المنبعث من الأباجورة الجانبية كان يلقي بظلال ناعمة على الحائط، بينما كانت سجادة الصلاة مفروشة على الأرض، تفوح منها رائحة بخور دافئة، أشعلتها قبل قليل على أمل أن تطمئن روحها. الجو كله كان يدعو للسكينة، لكنه... كان يحمل شيئًا ثقيلًا، غير مرئي، كأن القلب يشعر بما لا تراه العين.
وقفت "عائشة" على السجادة، رفعت كفّيها بتكبيرة الإحرام، تحاول أن تُخرج نفسها من دوامة القلق، أن تُغرقها في آيات الصلاة لعلها تهدأ. ركعت... ثم سجدت، لكن ما إن لامس جبينها الأرض، حتى اخترق قلبها وجع مفاجئ، حاد، كطعنة خاطفة في الصدر.
شهقت بصوت خافت، وضعت يدها على صدرها، شعرت بقلبها ينبض بعنف، كما لو أن شيئًا رهيبًا قد حدث... أو على وشك أن يحدث. لم يكن مجرد خوف عابر، بل إحساس داخلي غريب، كأن أحدهم يناديها من أعماق قلبها، كأن صدى اسم "يونس" يتردد في روحها دون أن يُنطق.
رفعت رأسها من السجود ببطء، حاولت أن تتنفس بعمق، أن تسيطر على قلقها، لكنها لم تستطع الكذب على نفسها... أول من خطر في بالها كان هو.
"يا ترى بخير؟... يا رب طمّن قلبي عليه."
أكملت صلاتها، جسدها يتحرك، لكن عقلها وقلبها في مكان آخر. حين وصلت إلى التشهّد، جلست ببطء، نظراتها شاردة في الفراغ، والخوف يتسلّل إلى ملامحها. شعرت ببرودة تسري في أطرافها، كأن يدًا خفية تحاصر قلبها.
أنهت صلاتها، لكنها لم تنه خوفها. جلست على السجادة، وسكون الغرفة أصبح أكثر ثقلاً، ثم بدأت الذكريات تتسلّل دون إذن...
يونس، وهو يمسك بيدها لأول مرة،
يونس، بنظرته التي تحمل حنان العالم كله،
يونس، حين قال بثقة جعلتها تصدّق المستحيل:
"أنا مش هسيبك أبدًا."
شعرت بغصّة مريرة تعتلي حلقها، كانت كأنها تحبس دموعها عنوة، لكنها لم تصمد، عينيها ترقرقتا بالدموع، فقامت برفع يديها سريعًا، هامسة بصوت مرتجف:
"اللهم احفظه... اللهم رجّعه لي سالم... يا رب، يونس يكون بخير."
بدأت تردد الدعاء مرات ومرات، كأنها تحتمي بالكلمات من انهيار قلبها، وكلما حاولت إقناع نفسها أنه سيكون بخير، كلما زاد ذلك الإحساس المؤلم بالهلع.
كان قلبها يدق ليس من الحب فقط، بل من الفقد المحتمل... من إحساس الأم التي تشعر أن ابنها في خطر، من خوف الحبيبة التي لا ترى ما يحدث لكنها تسمعه في نبضاتها.
الهواء من حولها كان ثقيلًا، وكأن الغرفة نفسها تنتظر معها... في صمت، وفي خوف.
********
في بيت "يونس"، كانت خالته تقيم معهم منذ غيابه، تبيت بجوار "مريم" حتى لا تتركها وحيدة. البيت كان ساكنًا تمامًا، لا صوت يُسمع سوى أنفاس القلق المختبئة خلف الجدران.
فجأة، اخترق صمت المكان صوت رنين الهاتف، عاليًا، كأنه صفّارة إنذار في منتصف الهدوء الثقيل.
جلست خالة "يونس" في الصالة، تنظر إلى شاشة الهاتف بعينين متسمرتين، لكن عقلها كان بعيدًا جدًا... غارقًا في موجات القلق التي تضربها منذ خروج "يونس" من المنزل. وكل دقيقة تمر، كان قلبها يُثقل أكثر.
مدّت يدها نحو الهاتف، لكن أصابعها كانت ترتجف دون تحكُّم. وما إن وضعت الهاتف على أذنها، حتى جاءها صوت من الطرف الآخر... كلمات قليلة، لكنها كانت كافية لتُسقط السماء فوق رأسها.
سقط الهاتف من يدها على الأرض، وكأن جسدها لم يعد يحتمل.
قالت بصوت مخنوق، متهدّج، تغلّفه الدموع:
"إيه؟! بتقول إيه؟! يونس اتصاب؟! إزاي يا ابني؟! طيب هو كويس؟ حصله إيه؟! فهمني!"
شعرت بدوار مفاجئ، وكأن الأرض بدأت تتمايل تحت قدميها. "يونس"، ابن أختها، الذي ربّته كابن لها، الآن في المستشفى بين الحياة والموت؟! الرعب اخترق قلبها كسيف مسموم، وشعور الفقد صفعها دون رحمة.
حاولت أن تُنصت لما يُقال على الهاتف، لكن الكلمات كانت تتبعثر، تتلاشى، كأن أذنيها توقفتا عن الفهم... وكأن كل شيء تحوّل إلى ضباب كثيف لا يُرى خلاله شيء.
انهارت على المقعد، والدموع تنهمر كالسيل، ثم نادت بصوت مرتجف، مختنق بالخوف:
"مريييييم! تعالي بسرعة!!"
في غرفتها، كانت "مريم" جالسة شاردة، تمسك بهاتفها، غارقة في قلقها وصمتها. لكن صوت خالتها المرتجف جعل قلبها ينتفض بين ضلوعها، كأن صاعقة ضربتها. قامت تركض نحو الصالة بخطوات متعثّرة.
قالت بقلق، وعيناها تلمعان من الخوف:
"في إيه يا خالتي؟! مالك؟!"
لكن ما إن وقعت عيناها على وجه خالتها الباكي، المصدوم، حتى شعرت كأن الدنيا لطمتها على وجهها بقسوة. لم تكن بحاجة لسماع شيء، نظرة واحدة كانت كافية.
قالت خالة "يونس" بصوت متهالك:
"يونس... يونس اتصاب يا بنتي! في المستشفى دلوقتي!"
شهقت "مريم"، ودموعها سالت فورًا، دون مقاومة.
"إيه؟! لا... لا مش ممكن! إنتي بتهزّري صح؟! يونس؟! لا يمكن!"
انهارت على الكنبة، ووضعت يديها على وجهها، تحاول حبس الحقيقة عن عينيها. لم تتخيّل لحظة واحدة أن أخاها الوحيد، سندها في الدنيا، قد يكون في خطر.
قالت وهي تنتحب، جسدها يرتجف:
"لا... لازم نروح له حالًا! مش هقدر أستنى! مش قادره أتخيّل إنه متأذي!"
صوت خالة "يونس" خرج واهنًا، كأنها تتكلّم من قلب مكسور:
"أنا خايفة عليه... خايفة أوي! إزاي ده حصل؟!"
لكن "مريم" تماسكت فجأة، مسحت دموعها بعنف وقالت بإصرار:
"لازم نتحرك! الوقت بيعدّي و"يونس" محتاجنا!"
قامت من مكانها، لكن قدميها كانتا ثقيلتين، كأن الأرض تُمسك بها، كأن الحزن ذاته يمنعها من التقدُّم. لحقت بها خالة "يونس"، تمسح دموعها المرتبكة، وقلبها ينهار بصمت.
وهما يفتحان الباب للنزول، صادفتهما "عائشة" التي كانت جالسة في صالة شقتها، تحاول تهدئة روحها بعد الصلاة، لكن صوت الحركة جذب انتباهها. اقتربت من الباب بقلق، وفتحته ببطء، لتراهم واقفين، ووجوههم تغرق في الدموع.
قالت بصوت متوتر:
"مريم؟! في إيه؟ حصل حاجة؟!"
"مريم" نظرت إليها، وعيناها غارقتان في الرعب، لكنها لم تستطع أن تنطق. الكلمات علقت في حلقها، تتصارع بين الحقيقة والدموع.
تقدمت خالة "يونس"، وقالت بصوت مكسور:
"يونس يا بنتي... يونس اتصاب!"
شهقت "عائشة"، واتسعت عيناها بذهول، كأنها تلقّت طعنة في صدرها.
"إيه؟!!! لا... مستحيل! يونس؟! لا يمكن يحصل له حاجة!"
كل الذكريات المؤلمة اجتاحت عقلها دفعة واحدة... موت والديها، الحريق، صرخات إخوتها وهي تراهم يُنتزعون من الحياة أمام عينيها... والآن، "يونس"؟!
قالت بهمس، ودموعها تنهمر دون إرادة:
"لأ... مش يونس كمان... مش هو!"
قلبها كان ينبض بقوة، كأنه يريد أن يخرج من صدرها. ذراعاها ارتجفتا، وحلقها جفّ، والهواء لم يعد كافيًا.
قالت "مريم"، بصوت مهزوز:
"لازم نروح المستشفى فورًا... مش قادرين نستنى!"
مسحت "عائشة" دموعها بسرعة، وكأنها تستعيد قوتها من وسط الحطام، ثم قالت بعزم:
"إحنا هنروح مع بعض... مش هسيبكم! يونس محتاج لنا!"
وتحركت الثلاثة بخطوات مرتبكة، لكن بقلوب متحدة، يقودها الخوف، والرجاء، والحب الذي لا يحتمل الفقد.
******
داخل غرفة العمليات...
كان "يونس" مستلقيًا على السرير الأبيض، جسده ساكن تمامًا، كأنه قطعة من الظلال، لكن عقله... عقله كان عالقًا في منطقة رمادية بين الوعي واللاوعي، كأن روحه تتأرجح على حافة الحياة.
شعر ببرودة تجتاح أطرافه، بجسده المثقل كأن جبلًا يضغط عليه، بأصوات مكتومة تأتيه من بعيد... خطوات مسرعة، همهمات مشحونة بالتوتر، وصوت الأدوات الجراحية يصطدم في الهواء كأنها تهمس بالخطر.
صوت الطبيب اخترق الصمت:
"النبض ثابت... لكن الضغط بينزل بسرعة!"
"علّقوا محاليل فورًا! لازم نوقف النزيف "
كانت الأجهزة تُصدر أصواتًا منتظمة، رتيبة، لكنها بالنسبة لـ "يونس" بدت كأنها دقات ساعة النهاية. وسط هذا الصخب الطبي، كان يسمع شيئًا آخر... من داخل أعماقه.
ذكرياته تدفّقت كأنها شريط سينمائي يُعرض أمامه في آخر لحظة قبل الغياب.
رأى "عائشة"... تضحك، ضحكتها تنير العتمة، عيناها الواسعتان تلمعان بحبٍ صافٍ، وصوتها يرنّ في أذنه، ناعمًا، دافئًا:
"يونس... خليك جنبي دايمًا."
ثم رأى نفسه واقفًا بجوارها، يرد بابتسامة فيها وعد بالحياة:
"أنا عمري ما هسيبك... يا عائشة."
لكن الآن... كل شيء بدا بعيدًا.
كانت المسافة بينه وبينها تزداد... كأن الحياة نفسها تُفلت من بين أصابعه.
خارج غرفة العمليات...
كان "زيدان" يتحرك أمام الباب جيئةً وذهابًا، خطواته متوترة، يده تضغط على رأسه كأنها تحاول حبس أفكاره، وكل بضع ثوانٍ يرمق باب غرفة العمليات بنظرة مشتعلة بالقلق، وكأن عينيه ترجوانه أن يُفتح.
"عُمر" كان صامتًا، جالسًا على مقعد بلاستيكي بارد، يداه متشابكتان بعنف، كأنه يحاول أن يُمسك بنفسه من الانهيار. عيناه تلمعان من شدة التوتر، وساقه تهتز لا إراديًا، كأن جسده يصرخ دون صوت.
قال "زيدان" وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة:
"ليه العملية طولت؟ ليه لسه مفيش حد طلع؟!"
رد "عُمر" بصوت مكسور، بالكاد خرج من فمه:
"هو قوي... مش كده؟ هيعدّي... لازم يعدّي!"
أغمض "زيدان" عينيه، وقال كأنه يُقنع نفسه:
"يونس قوي... إن شاء الله هيخرج لنا بالسلامة."
لكن الحقيقة؟
لم يكونوا بانتظار خبر... كانوا بانتظار معجزة.
وفجأة...
داخل غرفة العمليات،
ارتفعت صافرة طويلة، مدوّية، شقّت سكون الغرفة كالسيف.
الخط الأخضر على الشاشة تحوّل إلى خط مستقيم... بلا نبض.
صاح الطبيب، وعيناه تتسعان:
"النبض وقف! جهزوا جهاز الصدمات بسرعة!"
الطاقم الطبي تحرّك بجنون، خطوات سريعة، أيدٍ تهتز، وجوه مذعورة. صراع مع الزمن بدأ.
أما "يونس"...
فقد بدأ يشعر بأن الظلمة تبتلع كل شيء من حوله. الصور التي كانت تُضيء عقله تلاشت. ضحكة "عائشة" خفتت، صوتها صار بعيدًا... أبعد من أن يُمسك به.
بدأ يشعر بأنه يسقط في فراغ لا نهاية له.
ظلام...
برد...
وسكون.