![]() |
رواية إنما للورد عشاق الفصل الحادي عشر بقلم ماهي عاطف
يستند إلى الحائط لعلّه يحمل ثقلًا من أثقالٍ قد هزت في روحه ما هزت، ينظر في الفراغ شاردًا في الضجيج الذي تقيمه رأسه كل ليلة كحفلةٍ صاخبة، يُفكر في جميع الأشخاص الذين مروا على حياته بنصولٍ باردة؛ فخلّفوا في قلبه جروحًا لا زالت تقطر حزنًا، يشعر وكأن أحدهم طرقه بسياجٍ حديدي من لهيب جهنم !!
يشعر وكأن احدهم طرقهُ بسياجًا حديدًا من لهيب جهنم !!
لحظاتٍ مرت عليه وهو يجلس هكذا دون أن يغمض له جفن
لا يعلم ماعليه فعله بعدما عَلِمَ بأن حبيبتهُ لم تَعُد له !!
ضرب بقبضته فوق قلبه لعشقها النازف الذي يقطرُ حزنًا لفقدانها وكأن قلبه اكتوي ألمًا ووجعًا كلما تذكر دموعها في المقابر حينما فقدت "فريد"
أراد ضمها بكل قوةٍ حتى يشبع روحيهما معًا وتكن له؛ لكنه لعن تفكيره وذاته مُدركًا بأن هذا لا يصح فهي تعتبر غريبة عنه !!
زفر بضيقٍ ثم وقف في موضعه عازمًا على فعل الكثير لتعود له حتىٰ لو كلفه الأمر فقدان حياته هو الآخر !!
بعد ساعةٍ ونصف توجه نحو منزل عمها كي يُعاود امتلاكها بعد مُغادرة نجله !!
ترجل من سيارته غير عابئ بنظرات الجميع المصوبة نحوه طرق الباب؛ لينفتح بعد ثوانٍ استقبلته "كوثر" بإبتسامةٍ تكلف،
أذنت له بالدخول كي تُنادي لابنة خالتِه لكنه رفض ذلك مُتعللًا بأنه يريد التحدُث معها لا سواها ..
دُهشت خاصةً لا يوجد حديثٍ يجمعهما سويًا لكن أرادت التريُث ومعرفة مايرغب بهِ ..
تنفس بعمقٍ مُحاولًا إخراج نبرةٍ هادئة بعض الشيء: أنا حابب اتكلم مع حضرتك يامدام كوثر في موضوع مهم
أومأت له بعينيها ليُتابع بجمود عكس ما بداخله من بركان جحيمي: أنا عارف إنه مش وقته، بس أنا لو ما تكلمتش دلوقتي مش هيبقى في كلام بعدين
تخلّت عن صمتها لتردف بتساؤل حاد: عايز إيه ياعاصي؟ وبعدين احنا لا في بينا كلام ولا مواضيع تجمعنا من الأساس
ارتسم على شفتيه ابتسامة جانبية قبل أن يُعقب على حديثها بمكر: إزاي بقى الكلام دا؟ عمومًا هدخل في الموضوع على طول علشان الوقت
تنهد مُضيفًا بنبرةٍ حادة: أنا عايز اتجوز ورد بدل ابنك ماجد
اتسعت عيناها من حديثه الصادم لها، كيف يفكر من الأساس بقول هذا ولم يمر علىٰ وفاة نجلها سوىٰ شهر ونصف !!
وقفت في موضعها لتُشير نحو الباب قائلة بعصبية مفرطة: اخرج برا ياعاصي، أنت شكلك اتجننت
حرك رأسه بنفي، فتحدث بغضب سافر: مش خارج وأنا مقولتش حاجة عيب ولا حرام، بنت خالتي وعايز اتجوزها بعد ابن عمها ما مات يوم فرحهم، إيه الجنان في كدا؟
بتر حديثها بنبرةٍ حزينة ورجاء في آنٍ واحد: ارجوكِ ساعديني أنا والله بحبها، لولا ابنك كان زماني متجوزها، علشان خاطري ارجعي عن رأيك في موضوع جوازها من ابنك التاني
تساقطت عبراتها بغزارةٍ فوق وجنتيها من حديثه، حركت رأسها برفض قاطع، مُرتمية فوق المقعد، بنحيب أجابت: مش هينفع ياعاصي، والله يابني ماينفع تتجوزها
استرسلت حديثها بإصرار وعزم شديدين: لازم ورد تتجوز من ماجد، لازم
اصطكّ أسنانه ببعض، احتدت ملامحه قائلًا بعدوانية: اشمعنا هو مش أنا
ردت بعصبية وقوة فلم تعُد لديها قدرة على تحمُل حديثه المرجو والغاضب لها في ذات الوقت: علشان ورد حامل في ابن فريد، افهم بقى علشان كده هجوزها لأخوه
شحب وجهه من حديثها الصادم ،بينما هي طأطأت رأسها أرضًا
لتستطرد بمرارة: فهمت بقى أنا مش عايزة اجوزها ليك ياعاصي !!!
أطلقت قذيفتها التي اخترقت جسده كالرصاص، تحطمت أحلامه مرةً أخرى كقلاع واهية من الرمال !!
منذ سويعات كان يحلق في الفضاء والآن سقط بقوةٍ علىٰ أرض قاحلة قاسية !!
حديثها أوقف دقات الساعة عند هذه اللحظة اللعينة !!!
أطرقت رأسها كي تخفى دموعها التي تسيل كالشلال، تهمس بتشنج يحتوى علىٰ رجفة وصوت متقطع: ورد حامل في الشهر التاني من فريد، ولازم تتجوز ماجد أخوه علشان الفضيحة
_" لأ لأ مش ممكن ورد تعمل حاجة زي كدا، دي خاتمة القرآن وبتصلي، مستحيل تعمل حاجة تغضّب ربنا، أكيد اللي حصل ده غصب عنها "
عقله يتلاعب بهِ، جن جنونه من مجرد التفكير بهذا الشيء الشنيع، لم تفعل شيءٌ بغيض هكذا لم تفعل
ظل يخبر ذاته بهذا الحديث رافضًا الاستعاب بما وقع علىٰ مسامعه للتو من حديثٍ قاسي كالسُم اخترق قلبه !!
بينما الأخرى تخلّت عن صمتها، متوجسةٍ من ردة فعله الغير متوقّعة نهائيًا، تنفست بعمق ثم غمغمت بثلاثةِ كلمات جعلته يفقد صوابه نحوها: ما هو غصب عنها فعلًا
ركل المقعد الذي بجواره ليسقط على الأرضية بقوةٍ وفوقه كوب زجاج تناثر لأشلاء كقلبه، رغمًا عنه تساقطت دمعة حارة من عيناه، مُشفقًا نحو تلك "الورد"، زهرته الرقيقة، حبييته
اقترب منها بخطواتٍ متأنية، يحدجها بنظرات نارية كالأسد المنقض علىٰ فريسته، ليغمغم امام وجهها بشراسة: كله كوم واللي ابنك عمله فيها كوم تاني، اقسم بربي ما هاتدوقوا طعم الحلو في حياتكم ياكوثر
ثم صاح هادرًا بقوة غير عابئًا بتوجسها نحوه ونبرته المتعالية: ورد
استجابت لنداءه فهي استمعت إلى الحديث الذي دار بينهم، هبطت الدرج سريعًا ترمق هيئته بدهشة، شهقت حينما وجدت الزجاج متحطمًا، زوجة عمها تنحب في صمت تام غير قادرة على النظر نحوها حتى !!
بتر تساؤلها بنبرةٍ حادة مريبة: اطلعي هاتي كل حاجة تخصك، علشان نمشي
حدجته بطرف عيناها في استنكار، محاولة كبح دموعها فاقتربت منه، غمغمت بخفوت حزين: هتفضح ياعاصي، خليني محبوسة هنا أفضل، مش عايزة كلام من الناس
اشتدت الحرب، أزدادت أشتعالًا حتىٰ وصلت إلى أكثر نقطة مثيرة وهو همسه الغير مبالى الذي يعبر عن نفس غاضبة: لا عاش ولا كان اللي يفضحك، يلا ياورد بقول لك، اسمعي كلامي
هزت رأسها بنفي، غامت عيناها بالعبرات لتجلس فوق الأريكة هاتفة باكية بحرقة: مش هقدر اخرج، مش هستحمل نظرات من حد، نظرة خالتي ليا، كلام سم يخليني اموت مقهورة، مش هقدر امشي صدقني، مش هقدر ياعاصي، والله ما هقدر
ظلت تهذّى بهذا الحديث، تضم قدميها إلى صدرها محتضنة إياها ليجلس بجوارها، يربت فوق كتفها بحنان، ثم تحدث هامسًا لها: خلي بالك من نفسك، خليكِ قوية ياورد، أنتِ اتولدتي علشان الفرح مش علشان تعيطي
ليتابع مازحًا إياها: الورد بتاعنا دبل عاجبك كده؟
ابتسمت على حديثه الأخير الفكاهي، تؤمى له بعينيها، بينما هو وقف ينظر نحو "كوثر" بأعين نارية متواعدًا لها ثم غادر في صمت بعدما اطمئن علىٰ حبيبته ..
****
وقفت في شرفتها تدندن مع كوكب الشرق التي تخرج مع حروفها سيمفونية رائعة لم تستمع إليها طيلة سنوات عمرها المنصرمة البائسة، حينما لمحته يترجل من سيارته اغلقت الموسيقى سريعًا ثم هرولت للأسفل حيثما تجلس والدته ..
وقفت امام غرفة المعيشة بإرتعاب خوفًا من رؤية أحد لها بهذا الوضع، اطلقت شهقة ذعر حينما استمعت لصوت"عاصي" المحتدم نحو والدته: بقول لك مش هينفع تيجي، خلاص ياماما ورد اتكتب عليها تعيش وتموت في بيت عمها
_"يعني إيه الكلام ده؟ هو دا اللي محضره بقالك شهر علشان تروح عندها وتيجي تقوله لي؟ يافرحتي، طب اسمع بقى ياتروح تجيب ورد يا اقسم بالله ما هاتعرف لي طريق ياعاصي. "
اتسعت عيناه من حديثها القوي؛ ليتنهد واضعًا رأسه بين كفيه فتحدث بتحشرج حزين: ورد هتتجوز من ماجد ياماما، مش هينفع تيجي تعيش معانا
رفعت حاجبيها بدهشة، ثم احتدت ملامحها؛ لتشير بسبابتها مُعنفة إياه: بطل وهم ليا وكدب، ورد مش طايقة حد منهم فإزاي هتعيد تجربة الجواز من عندهم؟
_"هو دا اللي هيحصل، بس مش هقول لك سبب الجواز "
تحدث بهذا الحديث ثم تحرك ينوى المغادرة فاسرعت تجذبه من رسغه هادرة به: اقف هنا كلمني، وضح لي كلامك، مش دي اللي كنت هتموت عليها وعايز تتجوزها، إيه اللي غيره بقى؟
تحدث بنبرةٍ جامدة عكس ما يشعر به: كنت ياماما، كنت بحبها
حرر يده من قبضتها ثم غادر نحو أعلى تاركًا شخصٌ يقفز من فرط السعادة التي استحوذت عليه، اقسمت بأنها فقدت عقلها من هذا الخبر الذي وقع على مسامعها، هرولت نحو غرفتها كي تتجرع كوب من الخمر احتفالًا بما استمعت إليه للتو !!!
****
وضعت هاتفها فوق الأريكة ثم اتجهت نحو الخزانة تجلب صندوق خشبي كبير يلمع بشدة، احتضنته بقوة لثقل حجمه ثم وضعته بجوار قدميها علىٰ الأرضية بصعوبةٍ، اخرجت قارورة من الخمر وكيس يحتوى على السعادة نحو قلبها ..
امسكت بالكوب المخبأة بالكومود ثم وضعت به الخمر، وضعت سبابتها بداخل الكوب ثم وضعته بفمها بتلذذ !!
تركته فوق المنضدة بجوارها لترتشف من الزجاجة كميّة كبيرة، امسكت بالكيس تسكب محتواه فوق ظهر كفها؛ فقربته من أنفها تستنشقه بإنتعاش شديد وسعادة غير مبررة !!
_"حلو الدقيق مش كده؟ "
فرت الدماء من وجهها وتغلغل الرعب داخل اوصالها، نظرت نحو مصدر الصوت لتجده يجلس بجوار الباب علىٰ الأرضية، انقبض قلبها بخوف واعتدلت في جلستها بذعر من تواجده الآن داخل غرفتها فتحدثت بتلعثم: عـ عاصي
وثب واقفًا، شبك كفيه ببعض خلف ظهره، مقتربًا منها بتأني، قائلًا بهدوء ما يسبق العاصفة: أيوة عاصي، إيه فاكرة إن حوار المندوب دخل عليا؟
ابتلعت ريقها تحاول إيجاد حديثٍ مراوغ لكنها فشلت،
مُعقبة بتوجسٍ من هدوءه: عاصي أنا
تفاجأت حينما هوى بصفعة قوية فوق وجنتها اليمنى كأنها بمثابة الضوء كي تصمت، استشاط غيظًا من وقاحتها اللا منتهية والبحث عن حديثٍ كاذب لإرضائه ..
جذبها من خصلاتها المتمردة بعنف، صائحًا بها: أنتِ إيه؟ بقى بتشمي هروين وكمان مخبية ازايز خمرة في بيتي؟ طب ماتجيبي راقصات ونقلب البيت دعارة أحسن
صرخت بهِ أن يتركها؛ لكنه رفض فهدرت به: اوعى كده ملكش دعوه بيا
ضحك بتهكم مُجيبًا بنبرةٍ ساخرة: مليش دعوة؟ لأ ما هو من هنا ورايح ليا يافروحة
_" ابعد عني يازبالة "
انهال عليها بالصفعات فجعلها تصرخ بإنهيار، ابتعد عنها فجأة ثم قبض على خصلات شعرها بعنف مرةً أخرى، صرخت ببكاء مرير وهي ترجو منه أن يتركها؛ لكن لا جدوى !!
فتحدث بفحيح: أنا هوريكي الزبالة دا هيعمل إيه؟
فتح باب غرفتها تاركًا إياها غير قادرة على التحرك من موضعها من شدة الألم والتوجس نحو القادم، بينما هو وقف أعلى الدرج صائحًا بنبرةٍ قوية: مـــامـــا
اغمضت جفونها جاهلة ماينتظرها من طوفان عاتي لحديثه الغامض المريب لها ..
رغم الألم المبرح التي تشعر بهِ إلاّ إنها سارت بصعوبةٍ نحوه، جذبته من يده بإصرار عجيب ثم دلفا مرة أخرى، اسند بظهره خلف الباب بينما هي تقف امامه تكاد أن يتلاصق جسدها به من قربها ..
التزمت الصمت مطرقة رأسها في خزى، تلهث مما في صدرها من الألم والحزن لمعاملته القاسية لها، تارةٍ تجده هادئ وتارةٍ أخرى غاضب، لقد سئمت حقًا ..
تسألت إلى أي مدى ستظل الأوضاع بينهم متذبذبة هكذا؟
جعلها تقف في ارتيعاب حينما صاح بقوة: ابعدي عني دلوقتي أحسن لك
تخلّت عن توجسها نحوه لتقول برجاء وهي تحتضن كفيه بين راحتها: بلاش تقول حاجة لروزا بالله عليك، مش هشرب ولا هَشم تاني، خلاص والله
_" ابعدي عني بقول لك. "
بتر حديثهما طرق الباب لتشهق "فرح" حينما دفعها للخلف كي يفتح؛ فوجدها والدته التي نظرت إليهم بعدم فهم، ليقطع السكون وتبادل النظرات بقوله الحاد: نعم ياماما
_" عاصي كويس إنك لسه موجود، في خبر حلو ياحبيبي "
حمحم بصوته الرجولي لينظف حنجرته مُعقبًا بتساؤل: خير؟
بمكر ونظرات تفحص لكلاهما أجابت: ابن خالة عثمان شاف فرح في الخطوبة وعجبته، فكان عايز ميعاد منك علشان يتقدم يعني، إيه ده فرح مين عمل فيكِ كده؟
تجاهل حديثها الأخير، فأردف بنبرةٍ حادة مريبة جعلتها تنتفض في وقفتها: ارفضي ياماما، مفيش حد هيتجوز فرح غيري
_" أنت بتقول إيه ياعاصي؟ إزاي يعني. "
جذب يد تلك التي تحاول السيطرة على ذاتها من شدة الصدمة التي اخذتها للتو، فاستطرد بنفاذ صبر: اللي سمعتيه، بعد إذنك علشان عايز فرح في كلمتين
تحرك بها نحو غرفته، اغلق الباب بعنف جعلها ترتجف فتحدث بغضب عارم وهو يقترب منها: أنا مش هتجوزك حبًا فيكِ، لأ ياحلوة دا علشان اروق لك وتتعالجي غصب عنك، بمجرد ماتنتهى فترة علاجك هنتطلق، فاهمة؟
نظرت له بأعين زائغة، هيئة لا حياة فيها ولم تُجب فزفر بعمق مستطردًا بإيجاز: عارفة أنا كنت شاكك فيكِ بقالي شهر بس كدبت نفسي، دخلت من وراكِ لقيت كمية هروين مش طبيعية، بس للأسف بدلتها لك بدقيق يعني أنتِ واهمة نفسك إنك مدمنة بقالك أسبوعين.
دُهشت فتحدثت أخيرًا بعد صمت دام لعدة دقائق: وما قولتش لية لمّا عرفت؟
ابتسم ساخرًا ليعقب بإزدراء: مجتش مناسبة، آه صح ابقى رني على فخري بتاع مزاجك اطمني عليه، اصله بقاله يومين محجوز في المستشفى بين الحياة والموت
استكمل حديثه مازحًا إياها لهيئتها الشاحبة تلك نحو حديثه: حد طلب منه كمية فرفض يجيب له علشان السوق واقف زي ما كان بيقول لك فعملوه بطاطس مهروسة، يلا ربنا يكمل شفاه على خير أو يريحه أيهما أقرب يعني
ثم قهقه بصخب جاذبًا خصلاتها في يده، ارتدت للخلف من شدة دفعه لها، رمقها باشمئزاز ثم صفق الباب بوجهها بقوة تاركًا إياها تنحب بشدة، تجر خيبة أملها من الوصول نحو قلبه !!
كانت ترغب أن يبادلها الحب الكامن له؛ لكنها صُعقت لمعرفة ما تخفيه منذ فترةٍ والآن اتضح له كل شيء، باتت شخصٌ ينفر من وجوده !!
لا أريد شيء سوى وجودك معي؛ لتروية قلبي الملتاع العاشق لك ياعزيزي ..
اقسمت بأنها ستتغير لأجله، لأجل عشقها له، لعله يشعر بها وينقلب الشعور نحوها من النفور والاشمئزاز إلى حبٌ مهلك لكلاهما ..
****
جلس فوق مقعده ينظر لطاولة الطعام والمقاعد الشاغرة
بابتسامة وجع ارتسمت على محياه، متسائلًا من أين ستأتي الشهية وقد رحل العزيز وصارت الطاولة فارغة؟
منذ وفاة نجله يشعر بالوحدة تكاد تقتله ببطء، اشتاق له بشدة، دومًا يقف معه امام صمود زوجته وعجرفتها في الحديث معه، يفعل الكثير لأجله، لأجل سعادته وطيبة قلبه التي تشعُره بتقليل ذاته كما تخبره تلك الشمطاء !!
لا يملك من القوة كافيًا كي يقف امامها، لم تترك وقتٍ سوى الشعور نحوه بالغضب والحديث اللاذع المُهين له، دومًا ينصت جيدًا لحديثها ويبادلها الصمت دون جلب حقه؛ مما جعلها تفعل ما ترغب به دون اللجوء لأحد !!
هبطت الدرج بتعالٍ ثم اقتربت منه ترمقه بغيظ مكتوم؛ لجلوسه الدائم امام عيناها فاستطردت بمكر أنثوي: عايزين نفكر في طريقة علشان نقنع ماجد ينزل القاهرة، نحدد كتب كتابه على ورد
_" أنتِ اتجننتي ياولية أنتِ؟ ابنك ميت بقاله شهر ونص "
مصمصت شفتيها لتقول بعتاب وهمي: اتجننت علشان عايزة استر على بنت أخوك يا راجل؟
ضرب فوق المنضدة بقبضته، فتحدث بشراسة: قطع لسانك، مالها بنت اخويا
ضحكت بغنج ثم اقتربت منه بدلال فقالت بإعجاب: دا حلو أوي اللي بسمعه دا، ما أنت طلعت بتزعق وصوتك عالي اهو، أومال كنت بتخرس ليه ياحبيبي دايمًا؟
نفض يدها ثم تحدث بفحيح: بلاش كلام ستات فاضية، قولي لي ورد مالها؟
طأطأت رأسها أرضًا مستطردة بآسف وهمي: ابنك فريد للأسف الله يرحمه ضحك عليها وسابها حامل منه، تخيل !!
اتسعت عيناه من هول ما وقع علىٰ مسامعه، فأجاب بتلعثم:
إ إزاي؟ قولي إنك بتكدبي ياكوثر؟
_"دي الحقيقة ياحبيبي، علشان كده لازم في اسرع وقت تتجوز، غلطت أنا بقى لمّا قُلت إن ابنك التاني يتجوزها ؟ "
بتر حديثها واقفًا في موضعه ثم تحرك نحو غرفة المكتب،
ما زالت الصدمة مستحوذة عليه؛ ليتذكر نبرتها الواهية، عبراتها الغزيرة، نظراتها الحزينة، انطفاء وجهها البشوش، تذكّر أيضًا يوم تجمعهم هُنا، كانت هيئتها لا حياة فيها، الصمت متملك بها، كل شيء كان يدل أن هناك فجيعة حدثت؛ لكنه كالعادة أحمق لا يعلم ما يخفونه عنه !!
****
اقترب من فراشها يهزها بعنف، فشهقت بقوة متألمة من قبضته، اعتدلت في جلستها لترى من فعل هذا، اتسعت عيناها حينما وجدته عاقدًا ساعديه امام صدرهُ متفوهًا بإستخفافٍ: هنفضل نايمين والا إيه؟
استلقت مرةً أخرى بلا مبالة ولم تُجب، فاصطكّ أسنانه ببعض من تجاهلها نحوه؛ فلمع المكر بعيناه عندما وجد كوب من المياه بجواره، امسكه وقام بسكبه فوق وجهها؛ ارتجف جسدها بشدة كورقة خريفية، ثم وقفت في موضعها مسرعة تهندم ثيابها المُبللة
شعر بالشفقة نحوها لكنه لم يظهّر هذا، تحدث بغضب عارم لترتجف من نبرته: مفيش حد في البيت وعايز افطر، قومي يلا اعملي لي فطار
طفح الكيل من حالاته المزاجية المتغيرة هذه فهي ليست مرغوبة على تحمُل ذلك؛ لتصيح به في اندفاع: وأنا مالي، كنت الشغالة اللي جابوها لك؟
تجمد في مكانه ولاح الغضب على وجه من صوتها المرتفع،
فدنى منها متشدقًا بصوت ساخر مُهين لكبريائها: لأ ما هو تدريب ليكِ قبل الجواز ياحبيبي، علشان اشوف مراتي فالحة في المطبخ زي تظبيط دماغها والا لأ
صاحت به بهيستيريا كي يصمت عن هرتلته: مش هتجوزك ياعاصي، أعلى ما في خيلك اركبه
قبض على ذقنها، فاستطرد بعصبية فارطة: مدمنة زيك تتكلم معايا وتعلى صوتها عليا؟ أنتِ فاكرة نفسك ليكِ قيمة أصلًا علشان تتعوجي كده؟
ردت عليه بغضب يكاد أن يطيح بالأخضر واليابس: غصب عنك ليا قيمة، أنا مش عليا حاجة الحمدلله علشان تكسر عيني وتقلل منى أبدًا، فوق ياعاصي، فوق ياحبيبي
اعتصر ذقنها بين يديه وهو يهمس بهسيسٍ مُرعب: بجاحتك دي ما شوفتش زيها، بس اوعدك هقطع لسانك دا ياحثالة
توسعت عينيها مع إكماله كلماته القاسية متابعًا حديثه بجنون:واحدة زيك تكلمني كده وتقلل مني، لأ أنتِ شكلك وحشك قلم زي امبارح وهاحقق طلبك حالًا
صرخت بهلع حينما رآت ذلك البريق المُخيف بعينيه واقترابه نحوها؛ لتهرول نحو الخارج بعدما دفعته بعيدًا عنها، ركضت بأقصى سرعة لديها؛ كي لا يلحق بها ويلقنها درس صعب نسيانه !!
ظلت تركض لا تعلم وجهتها تقودها إلى أين؛ لكنها وجدت ابنة عمها امامها بالحديقة تسير مع "عثمان" الذي شعر بالاحراج من وجوده بينهم فاستأذن من حبيبته ورحل، امسكت "عنان" بيدها عنوةٍ تجذبها خلفها غير عابئة بالنظرات الجحيمية التي ترمقها فجعلت الذعر ينشب مخالبها !!
فكرت بيأس لو تظاهرت بفقدانها للوعي الآن هل ستتمكن من إنهاء هذا اللقاء أم لا ؟!!!