![]() |
رواية إنما للورد عشاق الفصل الثاني عشر بقلم ماهي عاطف
في ليلة باردة غطت السماء بالسحب المملوءة بالمطر فتحول لونها كما باذنجانة ناضجة، كانت صفحات النهر تعكس ضوء النهار بخجل واضح، يتلاشى تدريجيًا تاركًا مكانه للنجوم التي بدت علىٰ إستحياء من خلف السحب، الهواء البارد يضرب حنايا المدينة
كانت كامنة في مضجعها تضم ساقيها إلىٰ صدرها تحملق أمامها في اللاشيء بشرود
تحاوطها الذكريات المؤلمة من جميع الجهات وتتناثر في الهواء كتراب هبت عاصفة قوية فقربته نحوها !!
أطبقت على جفنيها من ذبذبات حديثه التي اخترقت قلبها، ارتسمت على شفتيها ابتسامة وجع كلما تذكّرت ضربه المبرح لها، حديثه الذي يُشعرها بالخزى نحو ذاتها، امتعاض وجهه لرؤيتها؛ حتىٰ والدته لم تتسأل عن الكدمات الزرقاء البادئة فوق قسماتها بتاتًا !!
حقًا لم تجد ما يُسعفها من حديثٍ نحوهم سوى الخذلان !!!
رمقت وجهها المتورم بفعلته في المرآة التي امامها، وجنتيها التي أصبحت مليئة بالكدمات الحمراء تندرج إلىٰ اللون القرمزيّ القاني من شدة الصفعات التي نالتها
ابتسمت بمرارة ثم امسكت بكوب المياه ترتشف منه القليل كي تبتلع الغصّة المريرة التي باتت تشعر بها دومًا ..
تنفست بعمق ثم التقطت هاتفها عازمة على الهبوط لأسفل بعدما صدع رسالة منه يُخبرها بتناول العشاء سويًا ..
فتحت الخزانة تلتقط كنزة سوداء ذات أكمام شتوية وبنطال أسود، عكصت شعرها على هيئة كعكة يتدلى منها بعض الخصلات ثم تحركت نحو أسفل بعدوانية كعاصفة هوجاء قادمة نحوهم !!
جلست فوق مقعدها دون توجيه حديثٍ لأحد فقط تتناول طعامها في صمت دام لدقائق؛ فبادر "عاصي" بقوله الرزين نحو والدته: ماما بقول لك إيه، عايز اسافر أنا وفرح نكتب الكتاب برا علشان هسافر الفترة الجاية وقت طويل فبالمرة يعني
_"نعم؟ إيه الجنان ده لأ طبعًا، مش هاسمح بكدا أنت أول فرحتي لازم حفلة كبيرة ومعازيم "
زفر بحنق ثم وضع عيناه في الطبق متناولًا طعامه بإمتعاض؛ لتخترق فقاعة الصمت مرة أخرى "عنان" قائلة بنبرةٍ حماسية: عاصي كنت عايزة اقول لك إن عثمان عايز يحدد ميعاد الفرح
رمقها بدهشة عاقدًا حاجبيه فتحدث بإقتضاب: فرح إيه ياعنان دلوقتي؟ أنتوا لسه مخطوبين ياحبيبتي، هو سلق بيض؟
طأطأت رأسها أرضًا ثم أردفت بخفوت كابحة دموعها:
اللي تشوفه ياعاصي، بعد إذنكم
تحدثت بهذا الحديث ثم هرولت نحو غرفتها، تتساقط عبراتها بغزارة فشقيقها اصبح متغيرًا لم يكن هكذا من قبل، لقد تواعد معها بأنه سينصت لأي حديثٍ ترغب فيه والآن شعرت بالخزى نحوه من جديد !!
ضربت "فيروز" بقبضتها فوق المنضدة تناطحه بقولها الحاد:
مش ملاحظ إنك بقيت أناني ومش بتسمع لحد غير نفسك؟
_" ماما بقول لك إيه طلعيني من دماغك، فكك مني دلوقتي "
اشاحت بوجهها بعيدًا عنه وهي تضغط على كفها بقوة مغتاظة من وقاحته ثم غادرت دون قول شيء آخر ..
رفعت عيناها نحوه بعدما انتهت من طعامها، رمقته بنفور شعرت بهِ نحوه لأول مرة فلم يُعجبها ما قاله فاستطردت بإستحقار جليٍ : عاصي بالله عليك اتربي، مش هينفع نعيش كدا بعدين مع بعض
اعتقل خصرها بين ذراعيه مكبلًا حركتها، يضغط على كل حرف يخرج منه مما جعلها ترتجف داخليًا من القادم فأجابها
وأنفاسه تلفح بشرتها: حاضر، هربيكي يا بيبي الأول وبعدين اشوف الموضوع ده
نزعت يده بعنف تشير بسبابتها، فردت بشراسة: اوعي إيدك دي، إياك تلمسني تاني كدا
فاستكملت بخفوت حزين حينما شعرت بارتجافة جسدها:
عـ عاصي بالله عليك اديني كيس واحد بس، مش قادرة والله هموت من امبارح
شعر بالشفقة وهو يرآها ترجو منه استنشاق ذلك الشيء البشع، فلم يعلم ما يفعله نحوها كي تهدئ لكنه تحدث بحدة:
مافيش أكياس يافرح، انسي إنك تكلميني في الموضوع دا بعد كدا لحد ما نروح المصحة تتعالجي
جثت علىٰ ركبتيها عند قدمه تمسك يده لعله يشعر بها، لكنه ابتعد عنها مسرعًا فقالت بنحيب: هموت ياعاصي مش قادرة، بالله عليك ساعدني
زفر انفاسه بضيق ثم هتف بإنفعال لم يستطع كبحه: بطلي وهم، قومي من مكانك يافرح
ثم تحرك للمغادرة غير عابئًا بما تفعله كي لا يشعر بالوهن نحوها من جديد فبترت ذهابه ببكاء مرير وصراخ: ما تمشيش وتسيبني
تنفس بعمق ثم استدار نحوها، هيئتها وصوت بكائها مزقت نياط قلبه فاقترب منها يُعانقها بحنو أخوي مربتًا فوق ظهرها برقة ثم تحدث بنبرةٍ قوية: اجمدي زي ما أنا متعود عليكِ يافرح، ماتخليش حاجة تهزمك أبدًا، أنتِ أقوى من كدا صدقيني
بادلته العناق بقوة لتتحدث بإبتسامة باهتة بعدما جففت عبراتها قليلًا: أنا بعلن انهزامي للحياة خلاص، ما بقاش في حاجة اعيش علشانها، عايزة احقق حاجة واحدة بس في حياتي وبعدين امشي، حاجة واحدة بس نفسي انولها ياعاصي
_" متقوليش كدا بطلي عبط، قولي يلا إيه اللي عايزة تحققيه وأنا معاكِ أهو هساعدك. "
تهللت أساريرها كطفلة صغيرة ووثبت واقفة بحماس شديد، دققت النظر في عيناه مما جعله يرى وميض الحب يلمع كالنجم وسط السماء فهتفت بحبور: عايزاك تحبني، تحنن قلبك عليا، تعاملني بلطف، ساعتها هكون ملكت الدنيا ومش عايزة حاجة تاني بجد
لتتابع بوجع مطأطأة رأسها: بس مش عارفة ليه دايمًا بتزعق لي وبتتعصب عليا بسرعة
شعر بقبضةٍ تعتصر صدره وهو يُراقب اهتزاز عينيها بما تعانيه من عذاب صامت يفترسها وكلمات مُخباه داخلها فقال بكل هدوء لا يُقارن بما داخله: فرح، أنا لازم اخد وقت احدد مشاعري ونسياني لورد، عايز بس شوية وقت مش أكتر، ممكن؟
ابتسامة باهتة ارتسمت فوق شفتيها فقالت بتحشرج حزين: حاضر ياعاصي هستناك، هستناك عمري كله
تعلم أن حبها من طرف واحد ولن يشتركا بهِ بتاتًا، لكن يكفيها أن تعيش هذه اللحظة بقربه، أن يحتضنها ويضمها إلى صدره وأن كان ذلك بدافع شفقته نحوها؛ فلا يهم فهي قابلة بكل شيء مقابل أن تكون معه وبجواره دومًا ..
****
استيقظت من النوم، وجدت الطيور تحّلق في السماء، أوراق الأشجار تتراقص علىٰ ألحانها، كانت نسمات الهواء باردة مُحمّلة برائحة المطر، رمقت الفراشات التي حولها بإبتسامة هادئة؛ فتمنت بداخلها ألّا يشعر أحد بثقلها عليه كأجنحة الطير أو أخفّ ثُقلًا
جلست في الشرفة تغمض جفونها لعدة دقائق، تستمد القوة والصمود نحوها من جديد، عدم التفكير في شيء يجعلها تعود لنقطة الصفر، تود أن تكون بهيئة قوية تقوى علىٰ حملها
لم يَعُد هناك عائق بينها وبين ما ترغب به من أحلامها الضائعة، فقد اكتفت وهي ترى أحلامها تتخبر كالريح، تذهب لأشخاصٌ أخرى، يكفي الشعور باليأس والتحلى بالصبر والتفاؤل بدافع الاستمرار ..
اتجهت نحو المرحاض كي تغتسل وتؤدي فريضتها، بعد دقائق وقفت تدعو ربها بأن القادم يحمل معه السعادة لقلبها كي يحيا من جديد
انتهت ثم وقفت امام خزانتها تنتقي ملابسها بعناية فابتسمت بحماس ثم اخذت بذلة نسائية ذات لون أسود قد وقعت عيناها عليها واخرجت قميص أبيض لترتديه ثم التقطت هاتفها وهبطت لأسفل
وجدت عمها يتناول طعامه فذهبت تضع قبلة فوق رأسه ليبتسم لها بحبور ثم جلست بجانبه فتحدثت بنبرةٍ خافتة مليئة بالحماس: شكرًا أوي ياعمو بجد شكرًا، مش عارفة اقول لك إيه، لولاك ماكنتش هاخد الخطوة دي
ليبادلها حماسها هذا بروح معنوية قائلًا بنبرةٍ هادئة: مفيش شكر بين أب وبنته ياورد، الشغل هيخليكِ حد تاني، حد واثق في نفسه يقدر يتحدى أي حد يقلل منه، ربنا معاكِ ياحبيبتي
ابتسمت له بإمتنان فلولا حديثه المحفز هذا؛ لم تُجني العزيمة والإصرار نحو ذاتها، فقد وجد لها وظيفة شاغرة بمقر عمل رفيقه كي تبتعد عن الهموم قليلًا وأمام إلحاحه الشديد أذعنت بقرارها المحتوم بالموافقة ..
خرجت "كوثر" من المطبخ بيدها زجاجة عصير وطبق يحتوى على قطع طماطم صغيرة، فرمقت ملابسها بدهشة رافعة حاجبيها نحو زوجها الذي قابلها ببرود فتحدثت بتساؤل : رايحة فين ياورد على الصبح كده، رايحة للدكتور؟
هزت كتفها بلا مبالة فأجابت بحنق وغيظ مكتوم في آنٍ واحد: رايحة الشغل يامرات عمي
_" شغل؟ شغل إيه ياحبيبتي، قومي بس استهدي بالله واطلعي غيري هدومك دي وتعالي اعملي لك شغلانة في البيت بدل ما أنتِ محدش مستنفع منك بحاجة. "
بتر حديث "ورد" عمها بقوله الحاد الذي جعلها تصمت: اطفحي يا كوثر وعدي يومك اللي لسه ما بدأش ده
أومأت له على مضض ثم جلست تتناول طعامها وسط انتصار "ورد" وكبح قهقهتها على غيظ "كوثر" المكبوت نحوها.
****
جلس يتابع عمله باهتمام شديد خاصةً بأنه قد تركه لفترة طويلة، دلك عنقه ليشعر بالراحة ويزيل عنه الألم، تصبب العرق من جبهته مقاومًا ليأخذ أنفاسه بصعوبة من شدة الأرهاق، اغلق جفونه كي يستريح قليلًا، فصدح هاتفه في الأرجاء لينتشله من الخلوة مع ذاته فزفر بحنق مجيبًا بضيق: خير ياماما؟
_" مش هتنزل والا إيه؟ "
تنفس يهدئ من زروة غضبه التي تزداد من تدخُلها فيما لا يُعنيها: في حاجة يعني؟
زفرت بضيق ثم تحدثت بإنفعال: في إنك نايم على ودنك هناك ياحبيبي وسايب أمك هتموت مقهورة
_" في إيه طيب؟ "
تنهدت بيأس مُعقبة بإيجاز وعيناه تلمع بالحقد والكره الشديد: ورد ياماجد قال إيه لابسة ومتشيكة ورايحة الشغل، ابوك المعدول بقاله كام يوم بيزعق لي، داخل خارج من عندها دا ناقص يبات في حضنها
ابتسم حينما استمع لحديثها هذا فتحدث بفخر وإعجاب مما تفعله لتقوية ذاتها: طب والله جدعة ياورد، فيها إيه ياماما لما تشتغل وتعمل لنفسها كارير
فغرت شفتيها في صدمة ثم استوعبت ما قاله فتحدثت بغيظ مكتوم: بقول لك إيه أنت هتخرس والا أقفل في وشك؟
_" ياريت والله. "
هدرت بقوة جعلته يستفيق: نعم؟ بتقول حاجة؟
حمحم لينظف حنجرته مُجيبًا بتلعثم: أقصد يعني أنا قُلت إيه يعني علشان تتضايقي كده؟
_"بلا قُلت بلا ماقُلتش، خلاصة الكلام الأسبوع الجاي تنزل القاهرة عايزاك "
بنبرةٍ باردة كالثلج أجاب: مش فاضي والله
صاحت به بعدوانية وشراسة: يعني إيه؟ امك بتقول لك انزل تقول مش فاضي؟
تنهد قبل أن يعقب بإزدراء: أصل كلامك دايمًا بيكون فاضي ياماما وأنا مش هنزل علشان كدا يعني
اغلقت جفونها تصطكّ أسنانها ببعض هاتفة بغموض: هتنزل يعني هتنزل يا ماجد، عايزاك في موضوع مهم، عايزة احط النقط على الحروف
قال بنبرةٍ تحذيرية تحمل التهديد: خلاص هنزل بس صدقيني لو الموضوع تافه والله ما هتلمحي طيفي عندك، سلام.