رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان و الثانى عشر 212 بقلم اسماء حميدة

 

 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان و الثانى عشر


كانت عيناها مغلقتين بإحكام كما لو أنّها تُسدِل ستارًا ثقيلًا على مشهدٍ لا ترغب برؤيته أو استشعاره ارتجف جسدها بخفوت كأنّ روحها ضاق صدرها بها ولم تجد مهربًا إلا في رعشة صامتة… عندها فقط، توقفت يداه بل تجمّدت أصابعه في منتصف طريقها وقد أدرك في لحظةٍ مؤلمة أنّها لم تكن نائمة.

إذا العرق الذي بلّل جبينها، لم يكن بفعل حرارة الغرفة، بل حرارة الموقف، وحرارة الصراع بين الكتمان والانفجار.

تنفست الصعداء عندما أحسّت بتوقّفه كمن نجَت من عاصفةٍ لم تكن لها القدرة على مواجهتها… ورغم التصاقه بها، ورغم شعور الدفء الذي حاول أن يفرضه بينهما لم يغمض له جفن فظل يحدّق في سقف الغرفة وكأنّه يبحث عن مجرّةٍ مفقودة في العتمة وحين ضاق صدره أكثر نهض دون صوت وخرج من الغرفة كمن يهرب من ظله.

في الصباح فتحت سيرين عينيها على فراغ.

لم يكن بجانبها فظنت أن الليل كله كان مجرّد

حلم ضبابيّ… لم تفكّر طويلًا بتكاسلٍ نهضت واتجهت إلى الحمّام لتغتسل علّ الماء يغسل عن جسدها بقايا ما لم يُقال.
وقفت أمام المرآة تتأمل وجهها الشاحب كمن ينظر إلى نسخةٍ باهتة من نفسه تحاول عبثًا أن تُعيد الحياة إلى روحها ببعض التنهيدات وبعض التظاهر بالثبات.

خرجت أخيرًا من الغرفة وعلى حين غفلةٍ من خطاها وجدت باب مكتبه مفتوحًا.

ألقت سيرين نظرةً خاطفة فرأته جالسًا خلف المكتب كأنّه قطعة من الأثاث العتيق... جامد، متماسك، يراجع الأوراق بلا حراك لكنه داخله كان كالعاصفة المتكتّمة.

فكرت ملياً تقر بأن الخطة التي تعمل عليها منذ الأمس لم تَعُد تحتمل المراوغة، ولا القلب يحتمل مزيدًا من الانكسار لذا لم يكن أمامها سوى خطوةٍ واحدة: أن تتنازل عن كرامتها؟ عن عنادها؟ لا تدري لكنها مشت نحو الغرفة، وطرقت الباب بخفةٍ.

دون أن يرفع ظافر رأسه قال بصوتٍ هادئٍ بارد:

"ما الأمر؟"

ترددت

ثم تنفّست بعمق وقالت:
"أنا آسفة بشأن ما حدث ليلة البارحة... ربّما كنت أشعر بالظلم، فخرج مني ما لا ينبغي."

ظلّت عيناه معلّقتين بالسطور الأولى من إحدى الوثائق لكنه لم يقرأ كلمةً منها…. كان عقلُه معلقًا بصوتها، بحزنها، بذلك الفتور الذي لم يكن فيه ضعف بل نوعٌ غريبٌ من الثبات.

وضع الأوراق على الطاولة ثم نظر إليها.
فوجدها تقف هناك بقميصٍ بسيطٍ يُشبه براءتها القديمة، وشعرها الطويل ينسدل كستارٍ ناعم فوق كتفيها، ووجهها يُشبه وردةً فقدت لونها تحت المطر… كانت تشبه سيرين التي عرفها... لكنّ شيئًا ما تغيّر… شيءٌ في عينيها لم يعد كما كان…. شيءٌ لا يُمكنه لمسه لكنّه يشعربه… وبعد لحظات من التأمل قال أخيرًا بصوتٍ منخفض:

"اقتربي."

دخلت الغرفة بخطواتٍ حذرة واقتربت حتى باتت أمامه مباشرة ثم تمتمت وكأنها تُقنع نفسها:

"لنعد إلى القصر... أريد أن أعتذر للين."

حدّق فيها بعينين

تحاول أن تسبرا أغوار قلبها. ثم سألها كمن يعرف الإجابة مسبقًا:
"ولِمَ أشعر أنّك لا ترغبين بفعل ذلك؟"

تقلّصت أصابعها في قبضتين مرتجفتين، وهمست بإصرارٍ مشوب بالمرارة:

"صحيح... لا أرغب في ذلك لكن يمكنني أن أفعلت من أجلك."

سقطت الكلمات بينهما كحجرٍ في ماءٍ ساكن. لم تكن مجرّد جملة، بل كانت تنازلًا مُبطّنًا، ووعدًا غير مُعلن…. كان في عينيها ذلك الحزن الذي لا يُقاوَم، وفي صوته الصمت الذي يسبق كلّ قرارات الحياة.

راح ظافر يتأمل ملامحها بدقة، يُعيد قراءة سطور وجهها باحثًا عن صدقٍ قديم كان يراه فيها، صدقٍ تغيّر، تشوّه، أو ربما تلاشى… فقفقد نت سيرين فيما مضى وديعة، مُنكسرة العينين، تضع . أما الآن تشبه الطيف لا يمكن الإمساك به ولا نفيه.

قال يائساً بصوتٍ خرج من فمه قبل أن يُدركه عقله:

"هل ما زلتِ تحبّينني؟"

سؤالٌ أطلقه كما يُطلق السجين صرخةً في زنزانة مظلمة لا

ينتظر منها ردًّا بقدر ما يُفرغ بها ضجيجه الداخلي.

تفاجأ بنفسه… حتى هو لم يتوقع أن ينهار صمته بهذه السهولة فقد سألها هذا السؤال من قبل، يوم كان الظلام لا يزال يتسع بينهما، فأجابته حينها بأنها لا تعرف. والآن ارتجفت في وقفتها وبدا على وجهها أثر الصدمة، ثم قالت...
"نعم..."
كلمة قصيرة نُطقت بهمسة كاعتراف غير مكتمل أو رجاء مغلف بالخداع… كانت لهجتها وديعة، محايدة، لا تحمل حرارة الاشتياق، ولا برودة الكره. لكنه شعر باضطراب في صدره لا يعلم إن كان فرح أم حزن فوجد نفسه ينظر بعيدًا وعيناه تجولان في فراغ الغرفة كأنهما تهربان منها وقال بنبرة مُحمّلة بالبرود المتعمد:

"احزمي أغراضكِ... سنعود بعد قليل."

ثم أضاف دون أن يلتفت نحوها:

"لا داعي للاعتذار من لين... لقد غادرت البلاد البارحة، ولن تعود مجددًا.

"
عبارته الأخيرة كانت أشبه بقفلٍ يُغلق بابًا إلى الأبد… لم تستفسر سيرين عن التفاصيل، لم تسأله إلى أين ذهبت لين، أو لماذا رحلت. بدا الأمر كما لو أن جزءًا منها قد أُطفئ عمداً فاكتفت بالصمت ثم استدارت بخُطى هادئة لتحزم حقائبها… تمشي لا كمن يعود إلى قصر، بل كالذي يسير إلى مصير يساق إليه.

في قصر نصران، حيث تتعالى الجدران شاهقة كالأسرار وتنساب الأرواح كالغبار في الضوء، جلست شادية  مع كوب الحليب الساخن.. نظرتها ثابتة، مشوّشة، تتقاطع فيها دهشة المكتشف مع مرارة الاعتراف... لقد بلغها ما جرى البارحة مع لين وها هي الآن تغلي من الداخل في صمتٍ يشبه البركان المُبتسم.

همست لنفسها دون صوت:

"كنت أظن أن سيرين امرأة ساذجة... يبدو أنني كنت غافلة،

أو جاهلة... أو ربما عمياء."
وضعت شادية الكأس جانبًا بحركةٍ متباطئة، ثم التفتت إلى ماندي سكرتيرتها التي كانت تقف قربها كظلٍ لا يغادر:

"غدًا هو يوم المهرجان... هل يعني هذا أن مالك سيأخذ استراحة؟"

أومأت ماندي برأسها كمن يؤدي طقسًا معتادًا، وأجابت بصوت هادئ:

"نعم سيدتي درسه ينتهي عند الساعة الثانية عشرة ظهرًا اليوم."

رفعت شادية ذقنها وقالت وكأنها ترسم خطة لا تخصّ أحدًا سواها:

"سأذهب لأخذه بنفسي. أحضري الألعاب التي اشتريتها له جميعًا."

أجابت ماندي بامتثالٍ خافت:

"مفهوم."

لكن الحقيقة لم تكن في الألعاب ولا في المهرجان ولا حتى في مالك... كانت شادية تبحث عن مبررٍ مرهف كي تقترب من زكريا، الطفل الذي هزّ داخلها شيئًا لم تعترف بوجوده من

قبل… تمنّت لو كان حفيدها... تمنّت لو استطاعت أن تختصر المسافات إليه دون أن تعرف لذلك مسمى.
وفجأة قطعت مدبرة المنزل شرودها وهي تدخل برفق:

"سيدتي... السيد ظافر والسيدة سيرين وصلا."

لم تتحرك شادية من مكانها بل اكتفت بالبقاء على أريكتها حيث انعكست في عينيها نظرة غامضة كأنها تتنبأ عاصفة ومن ثم قالت بهدوء بارد:

"أفهم..."

بعد أن تفرّق من حولها الجميع، تركت الغرفة وصعدت وحدها إلى العلّية... فتحت الباب فاستقبلها الصمت وكان كل شيء مغطى بملاءات بيضاء كما لو أن المكان يرتدي الحداد.

تقدّمت شادية بخطًى متوجسة تنظر إلى الأثاث الباهت كأنّه أطياف زمن لم يمت تمامًا ولم يعد حيًّا أيضًا.

وقفت للحظة ثم أخرجت هاتفها، وبأصابع مرتجفة كتبت رسالة قصيرة

إلى سيرين...
لكن ما لم تكتبه كان أعظم مما كُتب.
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1