رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان و الثالث عشر
ما إن انتهت سيرين من تناول إفطارها بجانب ظافر داخل قصر نصران حتى اهتز هاتفها بإشعار جديد. كانت رسالة... من شادية.
نظرت إلى الشاشة بتوجس مكتوم ثم رفعتها بصوت ناعم
إنها والدتك تريد مقابلتي.
رمقها ظافر بنظرة جانبية وجاء صوته هادئا لكن محملا بما بين السطور
إن لم ترغبي بالذهاب فلا تجبري نفسك.
تأملت وجهه ولم تدر إن كان صادقا أم يخفي رأيا آخر تحت ظلال كلماته. فرسمت على ثغرها ابتسامة واهنة وهمست
لا بأس سأذهب.
غادرت إلى حيث تنتظرها شادية التي كانت قد خرجت من صومعتها المريبة بالأعلى وتتمشى في الحديقة تسقي الزهور التي لم يكن لها عطر وحين اقتربت منها سيرين ناولت شادية إبريق الري إلى مدبرة المنزل وأصدرت أوامرها بنبرة جليدية
بدلي كل زهرة لم تتفتح هنا.
رمقتها سيرين بجمود صامت عارفة بما ترمي إليه تلك الجملة لم تكن الزهور سوى استعارة أو بالأحرى لافتقادها لها فهي لم تنجب لها حفيدا للآن فقط لو تدري شادية.
لم تظهر سيرين تأثرا بل ثبتت عينيها على وجه السيدة الكبيرة وصمتت.
أشارت لها شادية نحو السيارة فاستقلتاها معا والصمت بينهما يشبه طنين نحلة عالقة في جمجمة.
وبصوت بدا رقيقا على غير عادته قالت شادية
هل تعلمين يا
سيرين رأيت مؤخرا فتى رائعا... يشبه ظافر حين كان شابا.
تصلبت قسمات سيرين وتقلصت أنفاسها للحظة إذ خيل إليها أن شادية قد اكتشفت شيئا لكن السيدة تابعت بصوت خافت
للأسف
قالت سيرين وقد بدأ صوتها يفقد نعومته
يجب أن تعلمي أن عدم حملي ليس ذنبي وحدي.
كانت نبرتها أكثر مرارة مما أرادت لكنها لم تندم أما شادية ورغم معرفتها بقسوة ظافر وانشغاله لم تظهر تأثرا بل سألت بهدوء مقصود
كان سؤالا يبدو بريئا لكن ما خلفه كان كبحر مالح يخفي الغرق تحت تموجاته كانت شادية قد رأت بعيونها خلف الأبواب الموصدة ومنذ ذلك الحين أدركت أن دينا لم تعد الذي تراهن عليه وحين هزت سيرين رأسها بالإيجاب بدا على شادية الرضا وارتسمت على وجهها ابتسامة مكسوة بالهدوء وقالت
أخطأت كثيرا بحقك لكن إن استطعت أن تنجبي حفيدا لي من ظافر... أعدك بأن أعاملك أنت وطفلك بلين لم تعهديه من قبل.
توقفت شادية لوهلة تنظر إلى سيرين بإلحاح كأنما تستجدي فيها الرجاء
سأمنحك كل ما تريدينه.
لم تكن تلك نبرة ندم أو حب بل نبرة امرأة تدرك أن الأحفاد هم التذكرة الوحيدة للخلود
وبالغت شادية حين أمسكت يدي سيرين تتظاهر بالحنان لكن سيرين التي اعتادت على قناع العطف المزيف
سحبت يديها ببطء وقالت بحزم
لا يمكنني أن أعدك بشيء.
تجمدت الابتسامة على وجه شادية وللحظة ظنت سيرين أن شادية ستنفجر لكنها لم تفعل. بل ألقت ورقتها الأخيرة
سكتت لحظة ثم أكملت
لكن... سيكون عليك الخضوع للفحوصات الطبية أولا. أريد أن أتأكد أنه سيكون سليما. وبعد الولادة سنرعاه نحن.
كانت الكلمات وقد فهمت تماما ما ترمي إليه شادية
إنها تخشى أن يصاب الطفل تخشى أن يشبهها في ضعف السمع في هشاشة الصدى.
نظرت سيرين بعيدا وكأنها ترى صورتها لبيت لا يعرف ابتسمت... لكنها لم تكن ابتسامة رضا بل ابتسامة مرة ابتسامة من اكتشف أن العائلة التي تظنها نبيلة إنما هي غابة من الوحوش كل منهم يطلب ما يريد بأسلوب مختلف لكن بثمن واحد دائما..
قالت سيرين بصوت ثابت يخفي بين ثناياه رجفة الكبرياء المجروح
سيدة شادية يبدو أنك قد أسأت فهمي. أنا لست بحاجة لمن يعيلني أستطيع تدبر معيشتي بنفسي وإن قدر الله لي طفلا فبوسعي أن أرعاه بحنو كامل دون أن أمد يدي لأحد.
كان في نبرتها شيء من السكينة... وسيف من الكرامة لا يرى.
بدت شادية وكأنها على وشك أن تفتح جولة أخرى من المفاوضة المبطنة لكنها ابتلعت كلماتها على عتبة الصمت حينما توقفت السيارة أمام بوابة
روضة الأطفال.
نظرت سيرين من نافذتها فتجمدت ملامحها للحظة... كانت تلك الروضة مألوفة موشومة في ذاكرتها مثل صورة قديمة خبئت في درج القلب. لوهلة كأن الزمان نزع عنها فجأة غلاف الستر.
لماذا أحضرتها شادية إلى هنا
ما الدافع الخفي
دقائق قليلة وبدأت أفواج الصغار تتدفق من بوابة الروضة تتقافز ضحكاتهم كفقاعات ضوء في المساء ومن بين الزحام رأته...
زكريا.
هو ذاته من جاءت لأجله شادية ولا شك في ذلك عيناه الواسعتان وطريقة مشيته التي تمزج بين براءة الصغار ووقار ورثه عن أب مجهول جعلا خفق قلبها كما لو أنه يستعيد نبضه الأول بكل ما أوتيت من حنين أمومي مكسور.
لكنها لم تفعل.
لم تستطع. فقط لو نطق باسمها لو رآها وهرول نحوها لسمعته شادية... وانهار كل شيء لذا لم تجد بدا سوى الاختباء خلف أحد الآباء الواقفين تحاول أن تخفي دموعها كما يخفي الجدار ظله في ليل بلا قمر.
أما شادية لم تشغل بالا لسيرين لم تلتفت نحوها إطلاقا بل تقدمت مباشرة نحو زكريا بخفة مريبة تمسك بعلبة صغيرة ملفوفة بورق لامع
زاك انظر يا صغيري... انظر إلى ما جلبته لك اليوم. كأنها تغرس حبها في تراب لم يرو يوما بماء حقيقي.
ومن حيث كانت واقفة شعرت سيرين بوخزة غائرة
كانت