رواية اشتد قيد الهوي الفصل الثالث عشر 13 بقلم دهب عطية

  

 

 رواية اشتد قيد الهوي الفصل الثالث عشر بقلم دهب عطية



شعور الغيرة بمثابة جذوةٍ مشتعلةٍ في كفّ اليد قابض أنت عليها غير قادرٍ على تركها
ولا على تحمّل آلامها...

تخشى من الخسارة ويجتاحك شعور التملّك
ويهتزّ عرش ثباتك فتقف أمام مرآة الحقيقة ناكرًا هاربًا...لكن في قرارة نفسك أنت تغار
تغار وبشدّة...

وقفت أمام والدها والغضب والحنق يتغذى على روحها هتف كمال مؤنبًا ابنته.... 

"انتي غلطانه يـانـغـم....." 

كان هذا أول تعليق نطق به والدها بعد ان انتهت من سرد ما حدث بينهما فردت بوجه مشدود التعبير....

"غلطانه بقولك قل ادبه عليا... قالي عيله 
واني بعامل الناس على حسب رصيدهم في البنك... ليه يقولي كده... هو فاكر نفسه 
مين....."

شدد كمال على كلماته بتقريع....

"طريقتك غلط معاه....وهو كذا مرة يشتكي
منك....مش كده يـا نـغـم احنا مش هنشتري
ونبيع في الناس....ولا انتي كنتي قاصدة تمشيه ؟!...."

ضاقت عينا والدها بالشك فقالت بتافف واضح....

"قاصدة ولا مش قاصدة اهو مشي وخلصنا...."

سألها والدها بهدوء....

"وانتي راضيه عن اللي عملتيه ده ؟!...."

جلست على أقرب مقعد تخفي عينيها عنه.
فهي تعيش صراعًا رهيبًا بين قلبها وعقلها
حربًا لا تجرؤ على الكشف عنها لأحد
ولا حتى لوالدها...

ومع ذلك ردّت بعناد يتعارض مع مشاعرها المتخبطة...

"يا بابا اعمل إيه...هو اللي قليل الذوق...بلاش
تيجي عليا... "

رفض والدها قائلا بعقلانية....

"بالعكس انا بحكم باللي قولتيه هو لسه مكلمنيش لحد دلوقتي...."

لوحت بيدها هاكمة....

"ملوش عين طبعًا يكلمك...."

هز كمال رأسه معقبًا....

"لا عشان عارف اني هضغط عليه وهقوله إرجع...."

خفق قلبها بقوة بين أضلعها بينما تمردت قسمات وجهها مزمجرة برفضٍ قاطع...

"يرجع فين....انا خلاص مش عيزاه معايا..
ا.... Sorry يا بابا مش موافقة...." 

رد والدها بنظرة حازمة.....

"شغل أيوب معاكي دا أمر مفروغ منه مش هنتناقش فيه...." 

سالته متوجسة..... "بمعنى ؟!..." 

قال والدها بنبرة أمره لا تحتمل النقاش...

"بمعنى انك هتروحي تعتذري... وتصلحي الغلط ده إحنا محتاجينه اكتر ماهو محتاج لينا.."

قفزت من مكانها ناهضة بغضب رافضة بصوت
محتد......

"مستحيل ده يحصل على جثتي...."

هتف كمال يشدد على الكلمات بنفاد 
صبر....

افهمي يـا نـغـم وبلاش عِند انا مش هلاقي شاب جدع وأمين زيه...انا ما صدقت بدأت ارتاح واطمن عليكي.. ليه عايزة تعيشيني
في قلق تاني..." 

ثم استرسل بتفهم أكبر....

"وبعدين انا مش شايف فيها إي حاجة انه
يساعد ليان في رسم تصميم دا كله راجع للشركة...." 

قالت نغم بنبرة غيورة.....

"طب مانا عرضت عليه يشتغل معايا أو يبيع تصاميمه وهو رفض...." 

قال كمال برجاحة عقل....

"خلاص يبقا براحته...الشغل مش بالعافية..."

عادَت الى مقعدها وهي تهدأ من حنقها وسؤالٌ يثير فضولها وحيرتها تجاه هذا الأيوب....

"يابابا بعيدًا عن كل ده انا عايزة افهم... إزاي حد موهوب كده زي ما حكيت لحضرتك في الأول ممكن يتخلى عن موهبته وميستغلهاش
ويستثمر فيها....." 

رد كمال بعد تفكير....

"احيانا الموهبة بتتحول لنقمه...." 

سالته ببلاده....

"مش فاهمه ؟!..." 

رد كمال بهدوء موضحًا...

"يعني اكتر حاجة بتحبيها بتبقا اكتر حاجة تعباكي فبتبدأي تفقدي شغفك ناحيتها ومع الوقت بتوصلي لدرجة التخلي عنها وعن 
اي حاجة مرتبطه بيها...." 

سألته بفضول أكبر....

"وازاي الانسان يقدر يدفن موهبته؟...." 

رد كمال بأسلوب خبير....

"فيه اللي بيقدر وبيتعايش مع الوضع وفيه اللي بتفضل واخده ركن جواه....مستني الفرصة عشان يرجع...." 

قالت نغم بتنبؤ....

"تفتكر أيوب النوع التاني ؟!...." 

أومأ كمال مؤيدًا....

"بظبط أيوب لسه في حالة انكار ومقاومة بس مع الوقت هيرجع...."

سألته نغم بأسلوبٍ حريص كمن يتسلل بين الكلمات باحثًا عن مبتغاه....

"بابا انت تعرف هو ليه بطل يشتغل في مجال الأزياء ؟!...." 

مط والدها شفتيه بمكر....

"لو عندك معلومة قوليلي...." 

هزت راسها نفيًا....

"لا انا بسألك تعرف ؟!...." 

قال كمال بعد تنهيدة.....

"الإجابة اسمعيها من صاحب الشأن...دا لو حسنتي أسلوبك معاه...." 

زمت فمها مغتاظة....

"برضو جاي عليا... وكأنه هو اللي إبنك..." 

لانَت نظرات كمال نحوها وتعبير حنون يعلو وجهه وهو يخبرها بمحبةٍ كبرى.....

"عايزة الحق انتي نور عيني وبنتي الوحيدة بس لو كان عندي ابن كنت هتمنى يكون 
زي أيوب عبدالعظيم...." 

أشاد كمال دون تردد.....

"الولد ابن بلد ممتاز وجدع....وقام بمهمته على أكمل  وجه لكن أسلوبك بوظ كل حاجة...." 

رفضت نغم بعد ان قراتها في عينيه
صريحة....

"مش هروح لحد عنده يابابا...أنسى...."

أمرها والدها بأسلوب صارم لا يقبل
الجدال.....

"هتروحي يـا نـغـم.... هتروحي وتعتذري كمان.." 

هزت راسها بعصبية رافضة رفض قاطع....

"مستحييييييل......."
............................................................
أحيانًا يصبح المستحيل أمرًا واقعًا عليك الرضوخ له وتنفيذه دون أن تعترض بحرفٍ واحد...

فما حدث لها في اليوم الثاني لم تتوقّع معه أن تجد نفسها واقفة أمام باب شقته تضغط على الجرس منتظرة أن يفتح لها... حتى تعتذر ؟!...

فتح الباب بعد دقيقة واحدة ليظهر أمامها. جفل عند رؤيتها وأخذ منه الأمر لحظات 
حتى يستوعب وجودها على عتبة بابه.

دققت نغم النظر إليه كان يرتدي بنطالًا بيتيًا وفانلة حمالات كحلية اللون تبرز عرض صدره وعضلات ذراعيه المشدودة. يلفّ حول رقبته منشفة صغيرة وشَعره يقطر بضع قطرات من الماء ويبدو أنه خرج للتو من الحمّام...

زمّت فمها منزعجة ومحرَجة مما أقدمت عليه وقد تخضّبت وجنتاها بلون الخجل تلوم نفسها في سرّها بينما ارتفع حاجب أيوب بعد أن أدرك حقيقة تواجدها أمامه....

"نـغـم....."

اومات براسها بملامح عابسة قائلة بضيق..

"مش بترد على تلفونك ليه....."

رد وهو يجفف وجهه وشعره بسرعة....

"عامله صامت...."

سالته بقنوط...

"وليه عامله Silent...."

رد بتجهم...

"مش عايز اكلم حد....."

ارتفع حاجبيها مع إتساع عينيها بحنق بالغ...

"وأكيد انا الحد ده.....انت عارف ان اللي انت بتعملو ده شغل عيال..."

ظهر طيف انفعال في عينيه مع تشنج فكه 
في سخط مكتوم....

"شغل عيال ؟!....قولي الكلام ده لنفسك...انتي
اللي منفسنه من ساعة ما رفضت ابيع تصاميمي للشركة...."

وكأنه صفع كبريائها بكلامه فاشارت على نفسها بذهول...

"انا منفسنه....هنفسن منك انت ؟!..."

حدق بها بجمود مؤكدًا وهو يقول 
بغلاظة....

"مش بظبط بس عشان منفذتش أوامر معاليكي....فـ حازة في نفسيتك شويتين تلاته...."

تبرمت نغم....

"مفيش الكلام ده....انتَ حُر...."

اوغر صدره بالغضب قائلا بتشنج....

"وطالما انا حُر بتشرطي ليه عليا وتقوليلي مكانك جمب العربية تفضل واقف عندها
إيه اشترتيني من سوق العبيد...."

عقدة ذراعيها أمام صدرها تخفي انفعالها 
خلف قناع الجمود مجيبة عليه....

"والله انا لما قولتلك كده كان ليا اسبابي...بس
واضح ان الموضوع ضايقك اصلك داخل الشركة تلطف وتعطف...."

على تعبير الدهشة وجهه مع طيف ابتسامة
متفاجئة ثم علق قائلا....

"الطف وعطف ؟!....طب ما انتي طلعتي حلوه اهوه وبنت بلد أمال في ايه بقا...."

برمت نغم شفتيها ممتعضة....

"هو لازم تكون الفاظي سوقيه عشان ابقا من البلد....."

تافف من ردها الوقح فقال بنفاد صبر...

"سوقيه ؟!...مقبوله منك ياهانم....اي اللي رماكي عليا بقا ما كُنا خلصنا وخالتي وخالتك وتفرقه الخالات...."

تململت نغم بعصبية.....

"والله؟!... تصدق اني غلط غلطة عمري 
اني جيت لواحد قليل الذوق زيك...."

لمعة عينيه بالغضب المتقد....

"وانتي بقا جايه لحد هنا عشان تسمعيني الكلمتين دول...."

رفعت راسها بشموخ قائلة بكبرياء....

"والله انا جيت هنا مضطرة...ومغصوبة
كمان... "

سالها أيوب بتهكم....

"ومين اللي غصب على نغم هانم اللي الكون كله بيدور حوليها...."

بصدرٍ يحترق بالغيظ صاحت....

"حقيقي انت أسلوبك لا يطاق.."

قابل كلماتها بنظرة مستهينة....

"والله هو ده الأسلوب اللي يليق بيكي...."

وقبل أن تتفوّه بحرف سمعت صوت والدته تقترب منهما تسأل بقلق...

"بتزعق مع مين يا أيوب؟... "

ظهرت صفية من خلف ابنها وقد انتابها القلق فور رؤيتها لنغم مما جعلها تهتف وهي تتشبّث بذراعه برهبة....

"في إيه يا بنتي.... أيوب عامل إيه تاني؟"

ابتسم أيوب وهو يربت على كفّ والدته المتعلّق بذراعه...

"مفيش حاجة يا صفصف متقلقيش..."

سألته والدته بعينين وجلتين...

"مقلقش إزاي؟... أمال الهانم جاية تاني ليه؟"

عقدت نغم حاجبيها تنقل نظراتها بينهما بحيرة فوالدته يبدو عليها الذعر والدهشة من وجودها...

دهشة كبرى وكأن ظهورها في الصورة مرةً أخرى يُعدّ حدثًا جليلًا !...

كادت أن تخبرها بسبب تواجدها هنا لكن
أيوب سبقها وهتف...

"هي جاية لحد هنا تاكل من إيدك....."

ظهر الانزعاج والغضب على وجه نغم فهو يضعها في صورة المتسوّلة التي أتت إلى بابهما لتأكل وترحل... تأكل دون دعوة
مسبقة !...

قالت صفية بدهشة...

"تاكل من إيدي؟!"

اتكأت نغم على أسنانها ترمقه شزرًا فابتسم أيوب بسمةً صفراء مستفزة وكأنه ينال منها بطريقة غير مباشرة.

أحاط أيوب كتفي أمه قائلًا بملاطفة...

"إيه يا صفصف هنسيب الضيفة واقفة على الباب كده... فين كرم الضيافة يا أم الكرم
كله..."

بدا على صفية التردد وهي تنظر إلى نغم ثم أطلقت تنهيدة مستسلمة للوضع وأشارت لها بالدخول مرحبة....

"لا إزاي أهلًا وسهلًا بيها... اتفضلي يا بنتي بيتك ومطرحِك."

دلفت صفية أولًا ثم نغم التي ألقت عليه نظرة حارقة وهي تقول من بين أسنانها...

"أنا جاية هنا... آكل؟!"

حرك أيوب بؤبؤ عينيه بشقاوة قائلًا بمناكفة

"ما أنا برضو معرفش إنتي جاية ليه..."

امتنعت عن الرد فهي لن تخبره أنها أتت لتعتذر عمّا بدر منها...إنه لا يستحق هذه المبادرة. لذلك أهون عليها أن تظهر في صورة الضيفة الغليظة الدخيلة على المائدة وكأن الدار دارها !....

جلست على الأريكة بتردد ولو كان الأمر بيدها لفرّت هاربة الآن لكنها قررت أن تتحمل بضع دقائق ثم تستأذن وترحل...

خبطت صفية على صدر ابنها عدة مرات بخفة قائلة بعدم رضا...

"ادخل استُر نفسك..."

اتسعت عينا أيوب جافلًا بينما أطرقت نغم برأسها ارضًا مبتسمة بشماتة فصححت الأم جملتها بعدما انتبهت أنها تخاطب رجلًا بطول ضلفة الباب وليست واحدة من بناتها...

"لحسن تبرد يا ابني..."

أومأ لها أيوب موافقًا وهو يدلف إلى غرفته قائلاً لنغم....

"شوية وراجع..."

قالت صفية بوجه متجهّم قليلًا...

"لمؤاخذة يا بنتي هروح أكمل تسوية الأكل... انتي مش غريبة...."

نهضت نغم تخبرها في مبادرة لطيفة...

"تحبي أساعدك يا طنط؟... "

رمقتها صفية بنظرة مُقيِّمة لا ترى فيها سوى شابة تشعّ ثراءً وأناقة... مدللة كل شيء يأتي إليها على طبق من ذهب دون أن تعيد طلبه مرتين. سألتها صفية بشك...

"وإنتي بتعرفي تطبخي؟"

توترت نغم وظهر الحرج على وجهها وهي تقول...

"خفيف يعني... حاجات بسيطة."

هزّت صفية رأسها عابسة بعدم رضا وهي تستدير متجهة نحو المطبخ قائلة بأمر...

"واضح واضح تعالي بقى قطعي بصل."

فغرت نغم فمها بدهشة رافعة كف يدها أمام وجهها تنظر إلى أصابعها الطويلة وأظافرها المطلية بطلاء وردي شفاف ناعم...

أظافر تعتني بهنّ وكأنهنّ أحد أبنائها. عقبت وهي تستوعب ما ستقوم به بعد لحظات...

"بصل؟!..... أنا أقطّع بصل؟!"

دلف أيوب بعد دقيقتين إلى المطبخ، ثم وقف على عتبة الباب يستوعب وجودها هناك في مطبخهم البسيط... بساطةٌ تتناقض مع هيئتها وملابسها وعطرها وتسريحة شعرها.

كانت قد صفّفت خصلات شعرها بشكلٍ مموج بجنون يتوازن مع جنون العواصف التي تشعّ من عينيها كلما حدث اصطدام بينهما.

لاحظ أنها تمسك السكين وتبدأ في تقطيع حبّة البصل على القَطّاعة بمنتهى الحرص والقلق وفي أقل من أربع ثوانٍ كانت عيناها قد امتلأتا بالدموع والرؤية غير واضحة أمامها مما جعلها تؤذي نفسها وتصرخ بفزع...

"آه صباعي ... "

وقبل أن تلتفت صفية إليها بهلع كان أيوب يسبقها بخطوات واسعة مقتربًا من نغم ساحبًا يدها إليه ينظر إليها بعينين قلقتين تنطقان بالخوف عليها....

"مالك؟... إيدك اتعورت؟...فين؟...في حاجة؟"

سالت دموعها وهي تترك يدها بين قبضتيه قائلة بوجع...

"من عند الضُفر... في حاجة بتوجعني... آه
دا اتكسر..."

كان يظن أن إصبعها قد بُتر من السكينة فسألها وهو يدقّق النظر في إصبعها المصاب...

"إيه اللي اتكسر؟"

أجابته بحزن مرير....

"الضُفر... أكبر ضفر اتكسر... ليه كده؟"

أطلق أيوب تنهيدة ارتياح...

"يعني إنتي ما اتعورتيش؟... الحمد لله..."

قالت بحسرة والدموع تنهمر من عينيها...

"ياريتني كنت اتعورت ولا إن ضُفري يتكسر..."

التوى فمه متهكمًا ساخرًا منها...

"لدرجادي المرحوم كان غالي عليكي؟!.. بكرة يطلع غيره اطمني..."

رمقته نغم بحنق...."إنت بتتريق ؟!"

دخلت والدته ووقفت بينهما وسحبت يد نغم من بين يدي ابنها قائلة باستنكار....

"عنده حق يتريق... الزعل ده كله عشان
ضُفر؟! وبعدين تربية الضوافر بتنقض الوضوء... وبتربي بكتيريا.. "

شعرت نغم بالإهانة فقالت باندفاع...

"أنا بنضفهم على طول يا طنط... مش شايفاهم؟!"

ورفعت أظافرها البيضاء اللامعة أمام صفية التي قالت بملامح قانطة....

"والله أنا بكلمك لمصلحتك... عمومًا سيبي تقطيع البصل أنا هكمل روحي انتي اغسلي إيدك وارتاحي."

تنفست نغم الصعداء وسألتها قبل أن تخرج..

"هما بنات حضرتك فين؟"

ردّت صفية بإيجاز....

"في الجامعة... زمانهم على وصول."

خرجت نغم بعد أن أشار لها أيوب إلى باب الحمام بينما كاد أن يغادر المطبخ لولا يد أمه التي تعلّقت بذراعه قائلة بغضب...

"خد في بالك أنا مش بلعه الكلمتين اللي انت قولتهم... الزيارة دي وراها حاجة وأنا لازم أعرفها.... "

حدّق أيوب في أمه دون رد فقالت صفية
بقلقٍ أكبر...

"بنت البهوات عايزة منك إيه تاني يا أيوب؟"

أبعد يد أمه عنه برفق قائلًا بمداهنة...

"بعدين يا صفصف نتكلم.. هنسبها قاعدة لوحدها؟"

ابتعد عنها ذاهبًا إلى الشرفة حيث اتجهت نغم بعد أن غسلت يديها بينما ظلّت صفية مكانها تدعو له بلوعة.....

"قلبي مش مطمن... ربنا يسترها عليك من بنت الأكابر دي..."

تشبثت يداها بسور الشرفة تأخذ أكبر قدر من الهواء مغمضةً عينيها بملامح مرتخية. باتت مشاعرها في حالة ذوبان وهي تتذكّر لمسة يديه ونظراته الملهوفة القلقة عليها...

ماذا يعني هذا؟.... والأهم ماذا تعني حالة الهيام التي تعيشها الآن؟

هل جُنَّت؟! وهل جُنَّ قلبها الفولاذي؟! هل مال إلى أيوب عبد العظيم دون غيره؟! إنه حدث جليل... يحتاج إلى الهروب... الهروب فورًا !

فتحت عينيها على اتساعهما وقد نوت الخروج من تلك الشقة فورًا....

استدارت مسرعة لكنها اصطدمت بصدره فتلقفها بين ذراعيه قبل أن تقع أرضًا....

"في إيه؟..... مالك؟!"

سألها أيوب بانزعاج وانفعال فقالت نغم بوجه متجهمًا....

"انا عايزة أروح...."

ردَّ عليها معقود الحاجبين باستنكار...

"إحنا مش خاطفينك على فكرة إنتي اللي جاية هنا برجلك..."

ابتعدت نغم عنه مسندة ظهرها إلى سور الشرفة وقالت بتبرُّم....

"غلط إني جيت..."

تافف أيوب وهو يقول بغلاظة...

"خلاص اعصري على نفسك سبت لمون واستحملي الساعة دي كمان... عشان أمي
ما تاخدش بالها.... "

سألته نغم بحنق...

"هي ما تعرفش إنك شغال معايا؟"

هزَّ رأسه نفيًا بتهكم....

"لأ..ولا عايزها تعرف.مش عايزها تعيش 
في قلق."

ثم نظر إلى عينيها نظرة نافذة سائلاً باستهجان...

"ما عرفتش برضو مين اللي غصب عليكي تيجي؟"

رفعت أنفها بكبرياء...

"هيكون مين... كمال الموجي بابا."

أخرج زفرة استياء مؤنبًا نفسه بصوت مسموع....

"لحد دلوقتي ما اتصلتش بيه ولا بلغته باللي حصل... زمانه زعلان مني بسببك."

أشارت على نفسها بضجر....

"بسببي أنا؟ ولا علشان حضرتك زعلان إنك هتبعد عن حبيبة القلب... ليان هانم؟"

صاح أيوب بتشنج...

"ما قولتلك مفيش حاجة من ناحيتها !"

مالت شفتيها في ابتسامة جانبية باردة تُذكّره بحديثه السابق....

"بس من ناحيتك إنت فيه..."

أجابها بنظرة جريئة مستفزة...

"أوي بصراحة... بس تفتكري هترضى بيا؟"

كبحت جماح غضبها وقالت ببرود

"ليه لأ؟... "

رد أيوب بنبرة مثخنة بالجراح...

"وليه آه؟... يعني واحد ملوش مستقبل زيي بياع على الرصيف هتقبل بيه واحدة زي ليان... أو غيرها؟"

قالت نغم بمؤازرة بالغة....

"بس إنت ممكن ترجع تمارس هوايتك من تاني وتشتغل وتنجح. إنت موهوب ولو اشتغلت على نفسك هتبقى أشهر فاشن ديزاينر في الوطن العربي.... "

تشدّق مدهوشًا...

"الوطن العربي مرة واحدة؟!"

أكدت بصوتها الناعم الراقي...

"وفي العالم كله كمان. لازم تصدق حلمك وتسعى لتحقيقه."

رد أيوب على حديثها بتبلّد أقرب للبرود...

"كلام كبير أوي لواحد كل اللي طمعان فيه محل تمليك في سوق **** يملأه بضاعة ويقف يشتغل فيه بدل الوقفة على الرصيف والبهدلة..."

امتقع وجهها وقالت بغيظ مكتوم...

"إنت ليه كاره مجال الأزياء أوي كده؟ إيه 
اللي حصل خلاك كده؟"

نظر إليها نظرة طويلة لو كانت تقتل لوجدت حتفها في الحال ثم رد عليها بجمود وقح..

"اللي حصل يخصني لوحدي وقلتهالك قبل كده."

"براحتك..."

أطبقت على شفتيها تكتم غيظها بينما عقلها يحاول فك شفرات حديثه وقلبها في سباق عنيف يضخ بقوة والخفقات تتوالى بلا هوادة.

نظّمت أنفاسها وهي تحاول لملمة الأحرف الهاربة في ذهنها لتكوين جملة مفيدة وبعد معافرة شاقة نطقت أخيرًا بصعوبة....

"على فكرة... أنا آسفة."

سألها بلؤم...

"بتقولي إيه؟"

قالت نغم ببغض....

"مش هكررها تاني... إنسى."

أطلق زفرة سأم معقبًا..

"إنتي صعبة أوي.... "

قالت بجسارة...

"وإنت قليل الذوق أوي."

اقترب منها بنظرة تنذر بالشر وسند كف يده على السور قربها حاصرها بذراعٍ واحد دون لمسها فباتت المسافة بين وجهيهما قريبة 
جدًا لدرجة أن أنفاسه وعطره تسلّلا إلى رئتيها بانسيابية كادت معها ساقاها أن ترتخيا من تحتها... أما قلبها؟

عليها أن تلغي التفكير بخفقاته فهو يتفاعل بجنون مع أيوب عبدالعظيم دون غيره !..

مال عليها أيوب بنظرة محذرة ونبرة خافتة عميقة....

"تاني؟!.... إنتي في بيتنا على فكرة..."

ازدردت ريقها بارتباك مع توهج وجنتيها وهي تدّعي القوة... مع أنها تنهار داخليًا....

"يعني إيه في بيتكم؟"

رد مبتسمًا وهو يأخذ أكبر قدر من عبق عطرها الفخم....

"يعني الاحترام واجب... يا حلاوة."

شعرت بأن وجنتيها تشتعلان فلامستهما بأناملٍ ترتجف بتأثر ثم قالت بحنق متحاشية النظر إليه....

"طب ابعد شوية واقف كده ليه.... "

سحب أيوب ذراعه بعيدًا عن السور ثم ظل واقفًا قبالتها دسّ يده في جيبه وأخرج شيئًا ثم أمرها...

"هاتي إيدك..."

نظرت إليه بتردد فبثّ لها الأمان والدفء من خلال عينيه العابثتين بالفطرة...

مدّت يدها إليه منتظرة فرأته يضع قطعة دافئة حول معصمها. نظرت نغم إليه لتراها إسوارة من الكروشيه باللون الرمادي مطبوع عليها قلوب بيضاء صغيرة رقيقة وفي المنتصف اسمها باللون الأبيض (نـغـم).

قال بهدوء....

"بما إني قبلت اعتذارك فلازم أعتذر أنا كمان... بس بطريقتي."

رفعت عينيها إليه بدهشة ثم عادت تنظر إلى الإسوارة وابتسامة رقيقة جميلة تشقّ طريقها على ثغرها الوردي كوردة تنبت من بين الصخور...كحبٍّ يأتي دون مقدمات.

ومع تلك البسمة الرائعة لمعت عيناها
الرماديتان بإعجاب لا يُخطئ....

"إسوارة كروشيه؟!"

عقّبت بإعجاب وتعجب فأومأ برأسه مصرحًا
بعينين مأخوذتين بها وهو يرى الإسوارة في معصمها الأبيض الصغير تزداد جمالًا معها...

"إيه رأيك؟ عملتها بإيدي."

سالته بحاجب مرفوع.....

"بتعرف تعمل الكروشية...."

رد عليها بنظرة فخر....

"دي أول حاجة اتعلمتها...."

والله يحق له الفخر... فما تراه تعجز عن وصفه إنه مميز يختلف عن أي رجل قابلته. ليس لأنه يفهم هذا المجال وتفاصيله فقط بل لأن هناك بصمة خاصة به تجعلها مشدوهة كلما اكتشفت هذا الجانب الذي يخفيه عن الجميع....

هل هي تبالغ بعد إسوارة كروشيه؟ للحق إنها ليست من النوع الذي يبالغ في تعظيم الأشخاص لكنه يستحق صدقًا يستحق. وقلبها يحترق حسرة على ضياع شخص موهوب مثله في مطحنة الحياة.

جميع الموهوبين ليسوا على قيد الحياة الكثير منهم توفوا داخل طاحونة الحياة والناجون كانوا فقط محظوظين....

فما أتاك خيرٌ وما ذهب عنك خيرٌ لك فلا تيأس من رحمة الله....

لمست القطعة الصوفية الناعمة بأصباعها وهي تقول مبهورة.....

"حلوة أوي... التفاصيل ما يعملهاش غير محترف.... "

سألها وعيناه تبحران في جمالها الخالص...

"عجبتك؟!"

أشادت بإيماءة من رأسها وهي تنظر إليه...

"تحفة بجد....... تسلم إيدك."

ثم استأنفت حديثها بحرج...

"يعني إنت كده مش زعلان؟!"

رد بصوت أجش دون أن تحيد عيناه عنها...

"المفروض أكون زعلان بس طالما جيتي لحد هنا... عيب أوي أكسر خاطرك...."

سالته بلهفة....

"يعني هترجع الشغل؟!"

قال لها بخفوت....

"إنتي عايزاني أرجع؟"

حركت أهدابها بارتباك قائلة...

"بابا اللي عـ..."

أوقفها أيوب قائلاً بنبرة حازمة لا تقبل نقاشاً

"مليش دعوة باللي عايزة كمال الموجي...أنا بسألك إنتي... عايزاني أرجع يا نـغـم؟!... "

هربت من عينيه والنظرة الآسرة فيهما بماذا ترد؟... وقلبها يخفق متجاوباً بشدة وعقلها ينكر بقوة وهي تتخبط بينهما في شتات...

"نـغـم....."

كفّ عن العبث بي أنا وقلبي عذارا لم نرتشف يومًا من كأس الهوى... امتنعنا عنه بعنادًا وجفاءًا حتى جئتَ أنت فكسرت القواعد
واكتشفتُ أنني وقَلبي قد شربنا حتى الارتواء...

لكنني كلما نظرتُ في عينيك أدركتُ أنني
لم أبلغ حدّ الاكتفاء بعد !...

كانت إجابتها الشغوف بسماعها... إيماءة أنثوية رقيقة تلتها حركة تحذيرية من إصبعها ارتفع في وجهه بسطوة أنثوية شرسة...

"بس ملكش دعوة بـ ليان أو أي حد في الشركة... خليك معايا أنا وبس... قصدي 
شغلك معايا أنا.... "

شملت الابتسامة وجهه منتشيًا بردها وهو يقول...

"معاكي إنتي وبس... موافق بس تغيري أسلوبك معايا...... اتفقنا ؟"

قالت برضا تام..."اتفقنا."

ثم رفعت يدها تنظر إلى الإسوارة مجددًا

"حلوة أوي..."

قال أيوب وقد تلبسه بعض الحرج....

"مبروك عليكي... مع إنها مش قد المقام لا دهب ولا ألماظ..."

قالت نغم بصوتٍ ناعم رقيق....

"بالعكس... يكفي إنك عملتها بأيدك دي عندي أجمل من الياقوت كمان..."

بعد لحظات كانت تشاركهما الجلسة للمرة الثانية حول السفرة لتناول وجبة الغداء..

قبلها قد ساعدت التوأمان في جلب الأطباق من المطبخ وترتيبها بينما بقي هو جالسًا في مكانه يراقب تحركها وخفّتها في بيته كالفراشة....

وكلما التقت عيناهما صافحته بابتسامة جميلة فبادلها الابتسام بعينين مفتونتين بها.....

وحين تجمّعت العائلة حول السفرة مرحّبين
بها بدأت ندى مناغشتها بعد لقمتين وسألتها بفضول...

"نورتينا والله يا نغم...مع إنها زيارة مفاجئة"

تحت الطاولة ضرب أيوب ساقها فقالت باستهجان....

"رجلي يا بوب "

هتف من بين أسنانه...

"اطفحي وانتي ساكتة..."

قالت نغم باستحياء....

"كنت معدية من هنا قريب وقلت أعدي أسلّم عليكم... أكل طنط وحشني بصراحة."

ردّت عليها صفية بتكلف...

"بالف هنا يا حبيبتي... بيتك ومطرحك في أي وقت."

لكزت ندى أختها هامسة وهي تنظر إلى معصم نغم والسوارة الكروشيه..

"نهاد شايفة اللي أنا شايفاه؟ أكيد أخوكي
اللي ادهالها..."

نظرت نهاد مثلها ثم قالت بهدوء...

"أكيد يعني ما فيش حد غيره...ما عملنا
قبلها... "

قالت ندى بخبث....

"أيوه إحنا أخواته عادي يعملنا ونلبسها..
بس هي..."

سألتها نهاد ببلاهة...."هي إيه؟"

همست ندى في أذن أختها....

"أنا حاسة إنهم بيحبوا بعض..."

هزّت نهاد رأسها بذهول وقالت...

"معقول؟.... دي تبقى علاقة معقدة أوي !"

تبرمت ندى بسخرية لاذعة...

"لا وانتي الصادقة مافيش علاقة معقدة هنا غير علاقتك إنتي والحـ... وسلامة !"

امتقع وجه نهاد بغيظ وقالت مدافعة...

"ليه بتجيبي سيرته؟.. ما قولتلك ربنا
هداه وبقى ماشي عدل..."

ضاقت عينا ندى....

"الله...... دا إنتوا بتتكلموا بقى"

تلعثمت نهاد وهي تغلق الموضوع...

"مش بالضبط يعني... بعدين نتكلم يا ندى..."

أومأت ندى برأسها صامتة بعد أن رأت شحوب وجه أختها ونظراتها الغائمة بالحزن..

تعابير لا تبشّر بالخير ومع ذلك فالصمت أفضل أمام هذا الجمع.....

قالت نهاد بعد لحظة صمت...

"ريحة السمك قرفاني... أنا بعد كده مش هاكل معاكم على سفرة واحدة لما تطبخوه."

قالت ندى باقتضاب....

"ما أمك عملتلك أكل مخصوص لسيادتك أهوه... مكرونة وسُدق كلي وسبيني أتمزّج
مع سمك المرجان...."

بدأت ندى تأكل متلذذة بالطعم بينما قالت نهاد باشمئزاز...

"بطلي قرف بقى... "

ردّت عليها ندى بتعنيف.....

"قرف إيه يا جاهلة؟.... دي السمكة دي ما بتاكلش في البحر غير الجمبري شايفة لحمها طري إزاي؟ ولا طعمها؟ سيدي يا سيدي!"

صاحت نهاد بقرف مما لفت أنظار الجميع إليهما...

"يا ماما خليها تسكت بقى وتسبني في حالي"

انكمشت ملامح الأم بضيق...

"مالك بيها يا ندى؟"

قالت ندى ببراءة...

"بحاول أقنعها تاكله !"

تململت نهاد تصيح بتشنّج....

"مش هاكل سمك يا ندى ولا أي نوع منه 
يا جماعة من ساعة ما اتولدت وأنا بقولكم مابحبهوش ليه أغير رأيي بعد تسعتاشر سنة؟"

قالت الأم بتجهّم.....

"سيبيها براحتها يا ندى... مش بالغصب هو."

مال أيوب على نـغـم هامسًا على حين
غرة....

"وسيادتك ليكي في المرجان ولا...؟"

أجابته نغم بقنوط واضح...

"بصراحة باكل الفيليه..الشوك صعب يتشال."

مطّت نغم شفتيها وهي تنظر إلى طبقها والسمكتان الموضوعتان فيه تنتظران منها
أيّ مبادرة لكنها اكتفت بأكل الأرز والسلطة دونهما....

نظر أيوب إلى طبقه ثم همّ بتفصيص السمك وإزالة الشوك منه بخفة وسرعة ثم بدّل الأطباق بينهما واضعًا أمامها لحم السمك جاهزًا للأكل.....

نظرت إليه بدهشة شابها حرج شديد فقال
لها بابتسامة جذابة...

"كده ملكيش حجة... بالف هنا...."

نظرت إلى الطبق وابتسامة ناعمة تزين ثغرها وبدأت في تناول الطعام رافعة عينيها للأمام بتلقائية لتفزع منتفضة في مكانها وقد رأت ثلاث أزواج من العيون تحدق بها تحاصرها بتساؤل يملؤه الغِيرة بعد حركة أيوب التي أصبحت كدليل إدانة...

وضعت الملعقة في فمها ببطء تحت أنظارهُنّ المشدودة عليها ثم مضغت الطعام بتوتر وهي تنقل عينيها عليهنّ بتساوٍ وتحفّز حتى اتسعت عيناها فجأة واحتقن وجهها وسعلت بقوة واضعة يدها على فمها.

اندفع أيوب نحوها بقلق يربت على ظهرها بيده عدة مرات فشهقوا جميعًا بصدمة وهم ينظرون إليهما ثم إلى بعضهم البعض.

ناولها كوبًا من الماء فأخذت منه رشفة كبيرة ثم شكرته ونهضت من مكانها تختبئ من نظراتهنّ ومن الموقف برمّته خلف باب
الحمام...

بينما واصلوا هم التحديق في أيوب باتهام صريح تجاهل هو نظراتهم متابعًا تناول 
طعامه بلا أدنى اكتراث....

لكن لم تمر سوى لحظات حتى وجدها تخرج والهاتف بين يديها والدموع تغرق وجنتيها.
نهض مسرعًا نحوها يسألها بقلق....

"مالك يا نـغـم؟...... بتعيطي ليه؟"

هتفت وهي تهم بالخروج وصوتها يرتجف...

"بابا تعِب أوي... ونقلوه المستشفى."

اتجهت نحو الباب مسرعة لكنه أمسك بذراعها يوقفها بحزم...

"استني... هلبس هدومي وآجي معاكي
مش هتمشي لوحدك."

أسرع أيوب إلى الغرفة ليغير ملابسه بينما اقتربت صفية منها وقالت بحنو....

"يمكن تكون حاجة بسيطة... ربنا يطمنك عليه.... "

رفعت نغم عينيها إلى السماء تدعو بقلب يرتجف من الخوف...

................................................................ 
فتحت

❤️❤️❤️


فتحت أبواب الترام أمامها فدخلت بخطواتٍ سريعة تبحث بعينيها عن مقعد شاغر بجوار النافذة...وبالفعل جلست على مقعدٍ قريبٍ من النافذة.

ثم أخرجت السماعة من حقيبتها ووضعتها
في أذنيها، وضغطت على شاشة هاتفها تختار أغنية كافية لفتح باب خيالها معه...تنسج مواقف وحكايات لن تحدث إلا في عقلها.

تسرح هاربة من عالمها إلى عالمٍ يحتويهما دون قوانين حازمة تقيّدهما وتُضني قلبيهما.

بدأ قلبها يقرع بين أضلعها متفاعلًا مع كل لحظة بلهفة وحنين...

وكلمات الأغنية تتسلل بعذوبة إلى أحلامها تشاركها الوهم بأجمل الصور وجعًا وتعلّقًا.

وعلى بعد صفوف خلفها في الجهة المقابلة كان جالسًا يراقبها دون أن تراه غارقٌ في صمتها شاردٌ في انحنائها الحزين ونظراتها الهائمة إلى الطريق المتحرك خارج الترام...

تضع السماعة وتبني حاجزًا بينها وبين العالم بأسره بينما هو يطالعها بحرمان كطفلٍ ينتظر أن تتعرّف عليه والدته وتشبعه حبًا واهتمامًا.

لكنه يخشى أن يزعجها بوجوده... أن ترفضه أن تكرهه... أن تُحرَّم عليه حتى متعة النظر إليها من هذه المسافة البعيدة.

بعيدةٌ أنتِ... وقريبةٌ أنتِ...سهلةٌ اللقاء... وصعبةُ المنال...أحبيبةٌ دائمة أم فترة ماضية
أخشى على قلبي منكِ وأخشى عليكِ من نفسكِ...

فلماذا تلاقينا على ضفة الهوى؟... فأنا أقلُّ 
من أن أُعطي وأنتِ كثيرةٌ عليّ !...

انعقد حاجباه متجهمًا وبدا متحفزًا بأعصابٍ مشدودة في جلسته بعد أن رأى شابًا يقترب منها ويجلس بجوارها وقد نظر إلى جانب وجهها طويلًا مدّعيًا التحديق في النافذة...

جاشت مراجل الغيرة في صدره كأتونٍ حارق وأوشك على النهوض وتلقينه درسًا وليحدث بعد ذلك ما يحدث...

لكنه رآها تعتدل في جلستها منزعجة ثم نزعت السماعة من أذنيها وأغلقت الهاتف وتحدثت إلى الشاب بكلمات قليلة بملامح شديدة التحفّظ أشبه بناظرة مدرسة صارمة.

توتّر الشاب ونهض بسرعة مفسحًا لها الطريق.
نهضت نهاد وتحركت بخفة بين صفوف المقاعد تبحث عن مقعد آخر بالقرب من 
الباب فقد اقتربت محطتها...

امتد شعور الفقد داخله بعد أن أصبحت رؤيتها صعبة من هذه المسافة البعيدة جدًا.

أطلق تنهيدة مثقلة بالوجع والحنين إليها وهو يراها تترجّل من الترام بعد أقل من دقيقتين.

غيابك صعب يا دكتورة...لكن لقاءكِ شاق....

شقاءٌ لا يترك لقلبي راحة ولا لنفسي طمأنينة.

................................................................
"انت بتقول إيه؟!....." 

هتفت بها أبرار مستنكرة بنظرة شرسة كمن ستنقضّ عليه الآن إن طال الحديث حول
هذا الأمر...

"اللي سمعتيه..."

قالها ياسين باستياء وهو يتمدّد بجسده على أرض غرفة السطح عيناه متعلقتان بالسقف حيث الملصقات اللامعة مجرّة من الكواكب والنجوم...

بدا عليه الإرهاق المُضني فيبدو أنه لم ينَم خلال الثماني والأربعين ساعة التي غاب 
فيهما عن البيت وعليه مقاومة هذا التعب حتى ينهي هذا الخلاف الذي أوقعت نفسها فيه بمنتهى الغباء وانقلب الجميع ضدها...

أشارت إلى نفسها بفمٍ مفتوح وصدمة متلبسة بغرورٍ متشابكٍ بالعناد...

"أنا؟... أنا أبرار صالح الشافعي؟! أنزل أعتذر 
ليها.... لشروق...مين دي علشان أعتذر لها؟!"

جزّ ياسين على أسنانه ومال برأسه نحوها يطالعها بنظرة حادة قائلًا بجزع...

"هو أنا هعيد تاني؟!... نزولك ده ليه سبب علشان خططنا تنجح..."

ضاقت عيناها بشك وقالت متهكمة...

"خطة؟!.... خطت إيه؟! ده أنا عارفاك انت بتاخدني على قد عقلي... هتقف معايا أنا علشان شروق وبنتها ؟!"

أومأ برأسه مزمجرًا بغيظ...

"واقف معاكي قصاد الدنيا دي كلها يا هَبلة... اللي بقوله ده لمصلحتك.. "

بملء شدقيها قالت باستنكار....

"لمصلحتي إني أنزل أعتذر لها يا ياسين هستفيد إيه بالله عليك..."

أخبرها بصوتٍ متزنٍ صبور....

"هتستفيدي إن الدنيا تهدى شوية من ناحيتك وجدتك وأبوك يصفوا من ناحيتك... ساعتها بقى نخطط أنا وانتي إزاي نمشيها من هنا..."

وعندما رأى في عينيها بعض الرضا والاقتناع تابع بصوتٍ خافت....

"بس من غير ما نبقى إحنا في الصورة... تمشي من نفسها..."

امتقع وجه أبرار وتشنّجت الكلمات على شفتيها بحقد...

"وده هيحصل إزاي مع واحدة بجحة لازقة فينا بغرة.....أنا بقول أنزل أطردها تاني يمكن تحس على دمها وتغور..."

اتسعت مقلتا ياسين وصاح بنفاد صبر...

"إنتي شيطانك غلبك كده ليه؟!... ما تهدي شوية يا أبرار... "

تململت بكراهية وعيناها تنفثان نارًا تحوي غلًا وغضبًا كبيرًا...

"محروقة منها يا ياسين...البيت كله قلب عليا علشان عيونها البجحة خطّافة الرجالة عايزة تبقى مرات أبويا؟!... ياخي ده بعدها..."

ثم صرخت فجأةً بشراسة...

"مفيش حد زي أمي... مفيش حد زي جميلة ولا حد هيعرف ياخد مكانها في البيت ده سااااااااااامع... "

وضع ياسين إصبعه في أذنه يرجّها عدّة مرات بعدما آلمته بسبب صرختها المدوية الأشبه بعِرَسة تستغيث في جُحرها...

"أنا من كتر ما أنا سامع... هطَرِش!"

ثم استرسل ياسين بآخر ذرة صبرٍ متبقية لديه.....

"ممكن تهدي وتسمعي الكلام أنا هنزل معاكي مش هسيبك تنزلي لوحدك... اتفقنا؟"

هزّت رأسها بعناد وكرامتها تصرخ رفضًا..

"ما اتفقناش... ومش هيحصل كرامتي فوق كل حاجة..."

امتعض ياسين متجهمًا وقال بحنق...

"مافيش حد مس كرامتك اعترفي إنك غلطي مهما كانت أسبابك اللي بتسعي ليها... إنتي غلطانة يا أبرار.... "

قالت بصفاقة وجه...

"عادي... أنا غلطانة آه ومبسوطة بالغلط اللي عملته ومش هنزل أعتذر لوحده زيها !"

"لا بقى... أنا تعبت...."

استقام ياسين واقفًا ثم توجّه نحو الباب المفتوح ينوي الخروج والنزول إلى شقته ليأخذ قسطًا من الراحة...

هرولت نحوه أبرار تلحق به وعندما وقفت أمامه سألته بدهشة...

"رايح فين يا ياسين؟!"

نظر إليها باستياء قائلًا بصوتٍ مرهق...

"رايح أنام... أنا بقالي يومين مطبق وجاي
على ملى وشي وقاعد مع سيادتك من ساعة ما دخلت البيت وبقالي تلات ساعات بتحايل عليكي وشوية وهبوس إيدك عشان توافقِي تنزلي..."

"بس طالما ركبة دماغك أوي كده... هاخدها من قصرها وأروح أنام."

انعقد حاجباها بتساؤل هاتفه بتملك..

"يعني إيه تروح تنام؟!.... أنا ولا النوم؟"

ردّ عليها دون أن يفكر مرتين...

"النوم طبعًا !... متحطيش نفسك في مقارنة خسرانة..."

وكأنّه صفعها بردّه الفظ فقالت بسخط...

"النوم أحسن مني يا ياسين؟! أمال إيه أقف قُصاد الدنيا كلها علشانك.... أي كلام صح.. "

هزّ رأسه نافيًا مؤكِّدًا بجدية صادقة...

"مش كلام فعل بدليل إني واقف معاكي لحد دلوقتي ومستني قرار معاليكي نازلة ولا المحطة الجاية؟"

تبادلت معه النظرات بصمت بينما عقلها يتخبّط ما بين قبول ورفض... فقال ياسين وهو يوليها ظهره...

"المحطة بعيدة أوي كده... لا مع نفسك بقى."

تعلّقت بذراعه كطفلة ترى فيه طوق النجاة الأمل الوحيد بعد أن تخلّى الجميع عنها
وقالت بملاطفة محاولة كسب مزيد من الوقت معه...

"استنى بس... ومتبقاش حمقي كده يعني إيه رأيك... أبعَت لها رسالة على تليفونها... اعتذار مع قلب أبيض؟"

ارتفع حاجبه للأعلى مُرتابًا منها وهو يعلّق على هذا الاقتراح الرائع... روعة تصيبه في مقتله !

"قلب أبيض؟! بعد كل اللي عملتيه ده قلب أبيض؟!.... أمال لو كان أسود كنتي عملتي إيه فينا يا أبرار... أنا نازل أنام....."

عادت تتشبّث به أكثر ويبدو أنه أحب هذه المسكة فقلبه الان يقرع كطبول الأعراس
بينما عيناه تلمعان بالعاطفة.....

قالت أبرار بابتسامة واسعة....

"استنى بس يا سينو... فكرة الرسالة حلوة... هحط قلب أخضر كمان معاها..."

ارتسم تعبير السخرية على وجهه وهو يعقّب بصرامة...

"هي المشكلة في لون القلوب اللي هتحطيها مع الرسالة؟!..... ماينفعش يا ماما... انزلي واعتذري لها وش في وش خلينا ننهي الحوار اللي خد أكبر من حجمه ده.... "

بان التردد في عينيها وهي تناديه برجاء....

"يا ياسين..."

رفع إصبعه أمام وجهها وقد عيل صبره وقال بصرامة.....

"كلمة كمان و والله يا أبرار... هنزل وأسيبك تخبطي دماغك في اجدعها حيطة عندك..."
...............................................................
ضغط ياسين على زر الجرس منتظرًا بينما كانت هي تقف بجواره متململة في وقفتها ترتدي إسدال الصلاة وهو لا يزال بملابسه التي عاد بها لتوّه من العمل...

"بس عارف لو فتحت بُقها بكلمة والله ما هسكت لها..."

هتف ياسين بوجه مكفهر...

"إحنا جايين نصلح ولا نخرب؟ اتكي على الصبر شوية..."

وقبل أن تنطق أبرار عبارتها الغاضبة فُتح الباب وظهرت شروق تُلقي طرف الوشاح على كتفها. بدا الحنق والرفض واضحين في عينيها تجاه أبرار ومع ذلك التزمت الصمت والترقّب توزع نظراتها عليهما بالتساوي...

شاكسها ياسين بنظرة شقية...

"إيه الاستقبال ده يا أم ملك؟!... إنتي زعلانة مني ولا إيه؟"

هزّت شروق رأسها مبتسمة ببشاشة في وجه الشاب الوسيم...

"إنت محدش يقدر يزعل منك يا ياسين... يا ريت الناس كلها زيك."

وبطرف عينيها ألقت نظرة على المعنيّة بالحديث مما جعل أبرار توشك على المغادرة لولا قبضته التي أمسك بها ذراعها... أمسك بها قبل حتى أن تتحرّك من مكانها.

لاحظت شروق مسكته لذراع أبرار فسألت باقتضاب...

"محتاجين حاجة؟"

رد ياسين بنبرة حازمة...

"كوباية شاي... محتاجين نشرب معاكي كوباية شاي...."

اتسعت عينا أبرار وهي تنظر إليه رافضة فتكأ على معصمها حتى كاد أن يهشّمه فتأوّهت بغيظ وهي تدهس قدمه بعنف فوق الحذاء. انعقد حاجبا شروق بارتياب من تصرفاتهما.

بينما قاوم ياسين الألم يلكزها مُبعدًا قدمه عنها وهمس من بين أسنانه عند اذنها...

"هتدخلي...ياما و رحمة أبويا هقاطعك زي الكل..... "

هل يهدّدها؟! هل يضغط على نقاط ضعفها؟! بعد أن بكت لساعات معه على الهاتف وحتى عندما وصل لم تكفّ عن الشكوى والبكاء لأجل جفاء الجميع معها... يهدّدها بأن يُعاملها بالجفاء نفسه؟!

إلا ياسين... لا تتحمل. فليخاصمها والدها أو جدتها لعدّة أيام أخرى لكن ياسين؟! لن تقدر على خصامه لساعة واحدة !...

صدقًا هو كلّ ما لديها في هذا العالم... كما 
تبدو هي عائلته وأمّه الصغيرة !

كانا يلعبان تلك اللعبة في طفولتهما حتى أصبح هذا هو الشعور الصادق بينهما. وبرغم صِغر سنّها إلا أنها أصبحت أمًّا لشاب في الخامسة والعشرون من عمره ولا سبيل
لتغيير ذلك !!....

من باب الذوق أفسحت لهما شروق المجال عند الباب ليدخلا....

وعندما جلسا على الأريكة بجوار بعضهما قالت لهما بلباقة....

"هروح أعملكم حاجة تشربوها..."

وحين استدارت نحو المطبخ قالت أبرار من خلف ظهرها بتردد...

"زَوّدي السكر... بحب الحاجة حلوة..."

التفتت لها شروق ونظرت إليها نظرة باردة
ثم أومأت برأسها وابتعدت...

بينما هتف ياسين مستهجنًا...

"ما شوفتش في بجاحتِك..."

رفعت أبرار رأسها بعجرفة....

"ولا هتشوف... دا بيتنا أصلًا !.. "

التوى فكه بسخرية لاذعة...

"يعني السكر اللي عندها جايباه من تموينكم؟"

قالت بنظرة محتدة....

"هي كده كده رايحة تعمل حاجة نشربها وأنا مش بحب الحاجة غير..."

فأكمل عنها....

"عسل نحل !"

أومأت وهي تهز كتفيها ببلادة...

"بظبط إيه المشكلة بقى لو قولتلها تزود السكر وبعدين تعالى هنا إحنا متفقناش إني هدخل أقعد معاها.... أنا قلت هعتذر من على الباب"

قست نظراته وهو يحدثها بازدراء...

"وانتي لما عملتي عملتك السودة كانت من على الباب؟!.... أنا عايزك تركّزي كده وتعصري على نفسك سبت لمون وتصلحيها كلمتين حلوين كده خلي الحوار ده يخلص..."

سألته بشفاه ممطوطة...

"أقولها إيه يعني؟... "

تأفف ياسين بنفاد صبر...

"مش أنا اللي هقولك كمان... اتصرّفي وبسرعة عشان هموت وأنام !"

لمعت عيناها بالغيرة وقالت بانزعاج...

"يادي النوم اللي مشاركني فيك..."

أشاح بوجهه عنها دون رد بينما أجاب في نفسه هامسًا بمرارة يتجرعها كل لحظة
بقربها...

(ما انتي لو تفتحي قلبك ليا هتشاركيني النفس اللي بتنفسه...)

بلع غصة مسننة في حلقه حين انتبه لاقتراب شروق منهما بكوبين من العصير وزعتهما عليهما بضيافة. فأخذ كلٌّ منهما كوبه بصمت يشربه بينما هي جلست على المقعد المجاور للأريكة تنظر إليهما بين الحين والآخر بترقّب.

نظر ياسين إلى أبرار بحدّة كي تبدأ بالكلام لتكسر ذلك الصمت الخانق المحرج بينهم وبالفعل بدأت بالقول...

"بصراحة العصير ماسخ أوي... انتوا ما عندكوش سكر ولا إيه؟"

أغمض ياسين عينيه بقوة جازًا على أسنانه بينما لوت شروق شفتيها وقالت بتهكم بارد

"أنا خليت العصير حلو زي ما طلبتي لكن لو ماسخ زي ما بتقولي فأنا أجيبلك كيس السكر قدامك تسفّيه أسهل !"

وضعت أبرار الكوب فارغًا بعد أن شربته ثم زمت شفتيها وقالت بمسكنة...

"سامع يا ياسين؟... شايفاني نملة... أنا 
بتهان !. "

ربّت ياسين على ذراعها قائلًا بحنو...

"هي ما تقصدش... طوّلي بالك... "

نظرت لهم شروق بنفاد صبر وقد قررت الدخول في صلب الموضوع طالما أنهما يتلاعبان بها منذ أن وقفا أمام باب شقتها.

قالت بلهجة حانقة...

"إنت وصلك اللي عملته أبرار يا ياسين وأنت مش موجود ؟"

عبارة شروق الغاضبة التي تحمل شكوى فجّرت فيضًا من المشاعر في صدره وكأنها تشكو له من زوجته العنيدة !...

مالت شفتا ياسين في ابتسامة شاردة ثم اتسعت مع تدفّق المشاعر في قلبه... اتساعٌ أصاب شروق بالريبة نحوه فتراجعت في مقعدها بحذر تتساءل بنظراتها نحو أبرار عمّا يحدث معه لكن الأخيرة هزّت كتفيها قائلة بوجوم....

"يمكن تأثير قلة النوم..."

خبطت أبرار على كتفه بخفّة سائلة

"إنت روحت فين؟... "

هز ياسين رأسه بعنف كمن يفيق من حالة نشوة تلبّسته ثم نظر إلى شروق بجدية وقال

"اللي عملته... أنا مغلطها فيه عشان كده نزلت أراضيكي... "

سألتها شروق بشك....

"من نفسها؟!.... واضح إنك غاصب عليها..."

هز ياسين رأسه قائلاً بمداهنة...

"لأ دي قعدت تتحايل عليا... لازم أُصالحها. يا ياسين أنا غلط في حقها يا ياسين... خليك وصلت خير بينا يا ياسين... ساعتين بتتحايل عليا لحد ما رضيت ونزلت معاها..."

سألها دون النظر إليها...

"مش حصل يا أبرار ؟!"

هزت رأسها بوجهٍ محتقن...

"محصلش..."

جحظت عيناه وهو ينظر إليها بقوة فابتلعت ما بحلقها وقالت بسأم....

"تقريبًا..."

ثم خصت شروق بالحديث وقالت بصعوبة...

"عامةً متزعليش سواء تفاهم وعدّى..."

على وجه شروق ارتسم تعبير الحنق فعقّبت بازدراء...

"سواء تفاهم؟!...إزاي ده إنتي اتهمتيني إني ضربتك..."

قالت أبرار مشددة على حروفها...

"ما إنتي مسكتي دراعي وهددتيني إنك هتكسريه..."

قارعتها شروق بنفس الشدة...

"عشان إيدك طولت.... وأنا مش صغيرة..."

تدخّل ياسين يقول بملاطفة...

"حقك عليّا يا أم ملك... أبرار لسه صغيرة اعتبريها زي بنتك..."

بملء شدقيها عقبت أبرار باستنكار رافضة...

"بنتها مين إنت كمان!... أنا مفيش حد زي أمي..."

قالت شروق بنظرة معاتبة...

"وأنا مش جاية هنا آخد مكان أمك... طلعي الأوهام دي من دماغك..."

تبرمت أبرار...

"مش لما تطلعيها إنتي الأول..."

ارتبكت شروق داخليًا وكأن الكلمات صفعة قلبها قبل روحها فقالت باحتجاج...

"شايف قلة أدبها ؟!"

تأفف ياسين يحاول إنهاء النزاع قدر المستطاع...

"ما خلاص بقى يا أبرار إحنا جايين نحلها
ولا نعقدها أكتر؟"

سحبت أبرار نفسًا طويلاً تخفف من حدتها 
وهي تنظر إلى شروق بصبر

"ماشي... هفترض إني ظلماكي، وإن مفيش حاجة في نيتك من ناحية أبويا... وإن اللي عملته غلط..."

عقبت شروق بدهشة منزعجة...

"هتفترضي إن اللي عملتيه غلط؟! إنتي مش معترفة بقى؟!"

جادلتها أبرار بمنتهى الجسارة..

"مش هاعترف غير لما تثبتي حسن نيتك من ناحيتي وإنك مش ناوية على حاجة من ناحية أبويا..."

بلعت شروق ريقها والغصة تكاد تشطر حلقها نصفين على ذِكر الشيخ وعلاقتها به... علاقة لم تتخطَّ حدود قلبها هي !...

ومع ذلك تكلمت بجدية تقنع بها نفسها...

"أبوكي بالنسبالي الشيخ صالح ابن الست اللي مدت إيدها ليا بعد ما الكل اتخلى عني...

أبوكي راجل محترم ومتدين وبيعرف ربنا... ويبختك بيه... ولو ده كان أبويا أو أخويا كنت هاكل بأسناني أي واحده تقرب منه... مش 
بلوم عليكي..."

ظهر الارتباك جليًا على وجه أبرار التي بهتت وجفلت متبادلة النظرات مع ياسين ببعض الحرج...

ثم استرسلت شروق تقول بعطف لم تقدر
على إخفائه..

"بس هقولك النصيحة دي... مش عشاني أنا أصلًا قريب أوي همشي وأريحك من وجودي اللي عاملك القلق ده كله...

زي ما بتحبي نفسك أوي كده حبي أبوكي واتمني له الخير مع واحدة تستاهله... مش شرط تعوض مكان أمك بس تملى الفراغ اللي سبته في حياته... هو من حقه يعيش زي ما إنتي كمان من حقك تعيشي وتبني حياتك مع صاحب النصيب..."

نظرت إلى ياسين تعنيه بالحديث فاندهش من كونه مفضوحًا هكذا أمام الغرباء بينما صاحبة الشأن لا ترى في علاقتهما أبعادًا... فهو اخاها  
اخاها فقط ! وكم يحرقه هذا على جمار الانتظار...

ردت عليها أبرار بوجوم...

"هفكر في نصيحتك حاضر... وأنا آسفة لو تصرفت بطيش معاكي... شيطاني غلبني وقتها..."

ابتسمت شروق في وجهها بوجه سمح
صافٍ....

"أنا مسمحاكي يا ستي... وأنا اللي هبوس راسك كمان..."

اقتربت شروق منها وقبّلت رأسها بالفعل
فزاد الاختناق في صدر أبرار والحرج من كونها الظالمة الجبارة هنا...

لفت شروق ذراعها حول كتف أبرار التي نظرت إليها دون تعليق تتأمّل هذه المرأة اليافعة بالأنوثة والجمال... عيونها في
جمال الغزلان وفي طبيعة البرّية...

كانت تقف بجوارها تشبه الطفلة فهي تفوقها طولًا وأنوثة ناضجة... ناضحة حتى الكمال
المغيظ...

بينما هي تشبه الطفلة بقامتها القصيرة وجسدها النحيل ووجهها الصغير بملامح تجمع بين الطفولة المتشبثة بها والأنوثة المداعبة لها... مزيج تكرهه...

مزيج رائع جذّاب في عينين من يطالعها الآن بإعجاب صارخ وكأنه لا يرى في العالم سواها...

قالت شروق وهي تمرر يدها على كتف أبرار بمحبة...

"والله أنا بعزك وكان نفسي أوي نكون
صحاب بس إنتي اللي بدأتيها معايا غلط..."

تدخل ياسين قائلاً...

"إنتو فيها ممكن تبقوا صحاب..."

"ياريت... بس هي ترضى..." نظرت إلى أبرار التي زمت فمها قائلة بجفاء...

"بصراحة كل صحابي من سني... أول مرة أصاحب واحدة أكبر مني بتلاتاشر سنة..."

ضحك ياسين وشاركته شروق الضحك قائلة بنبرة ناعمة مغوية...

"آه منك يا دبش... جربي ياختي مش هتخسري حاجة... يمكن تحبي صحوبيتي وقعدتي وأبقى أنا بصاحبك كلهم..."

أومأت أبرار واجمة والتردد يعلو نظراتها

"ربنا يسهل..."

عندما خرجا من الشقة معًا كما دخلا ودّعتهما شروق عند الباب بابتسامة حنونة ودودة وقد غمرها شعور بالارتياح والسلام بعدما طُويت صفحة الخصام وانتهى الخلاف بينهما  ولو مؤقتًا فهي لا تعرف نوايا أبرار نحوها...

رغم أنها تشعر بان هذه الأبرار أنقى وألطف مما تُظهره وأنّ النزاع ليس إلا غيرة على والدها... ويحق لها لا تلومها إطلاقًا. فمن يمتلك رجلًا مثل صالح الشافعي بأي صفة كانت يجب أن يحتفظ به كما يُحفظ 
القلب بين الضلوع !....

وعلى سيرة صالح الشافعي... يتسلل عطر العود القوي إلى أنفها هل تتوهم؟... أم أنه 
حضر سامعًا همساتها؟!...

ارتبكت وهي ترفع عينيها لتراه يدخل من الباب وقد توقف بعد خطوتين منتبهًا لوجود الجميع أمام شقتها.

انعقد حاجباه وقست تعابير وجهه بخشونة وهو ينظر إلى ياسين سائلاً دون أن يُلقي
حتى تحية...

"إنت كنت هنا بتعمل إيه؟"

انكمشت ملامح شروق عابسة نظرته تحوي اتهامًا صريحًا. ألا يرى ابنته برفقته وقد
خرجا كما دخلا ؟! هذا السؤال مهين... 

والإهانة تُلقى عليها هي وحدها....كيف يجرؤ الشيخ أن يرميها بالباطل بسؤال كهذا  أو بنظرة كتلك ؟!...

تحدثت أبرار ترفع الحرج عن الجميع...

"أنا كنت عندها يا بابا... بعتذر لها وخليت ياسين ييجي معايا... يراضينا على بعض."

تجهم صالح قائلًا بصرامة واضحة....

"بس ما يصحش يدخل شقتها."

هذه المرّة رفعت شروق حاجبها للأعلى بضجر والغضب شررٍ يتطاير من عينيها البنيّتين كعيون الغزلان لكن الغضب فيها الآن وحشٌ كاسر يودّ الهجوم فورًا...

قالت أبرار محاولة كسر الجو المشحون...

"وايه المشكلة يابابا.....ما أنا معاه."

هتف صالح بأمرٍ قاطع...

"ما تتكررش تاني... سامع يا ياسين؟.. "

خصّ ياسين بهذا الأمر رافعًا إصبعه بحدة ونظرة غاضبة تلمع بتملك لا يفهمه سوى الرجال...

ابتسم ياسين وهو يرى أول شرارة حبّ من عمّه نحو امرأةٍ تختلف عنه اختلاف السماء عن الأرض. ومع ذلك كان انجذابهما لبعضهما كالمغناطيس...

انجذابٌ صنع هالةً خاصة يُمتع بها عيناه الآن باستمتاع وتسلية !...

جاشت مراجل صالح بالغضب الهائل فتقدّم خطوة نحو ابن أخيه قائلًا بملامح جافية قاسية....

"إيه اللي يضحك في اللي قولته؟... مش 
عاجبك الكلام ؟! "

وضعت شروق يدها على فمها بصدمة من تصاعد الموقف فتدخّلت لإنهاء هذا النزاع..

"هو مش قصده... دا بس عشان مطبق،
فـ مش مركز...."

ليتها ما تحدثت...فقد زادت الأمر بلّةً بتداخلها الغير المسموح... رفع صالح عينيه نحوها ناظرًا لها نظرة خطرة قاسية جمّدت الدماء في
عروقها فبهت وجهها ونظرت إلى الأرض 
خيفة....

وقفت أبرار أمام والدها وياسين خلفها ملتزمًا الصمت تاركًا عمّه يخرج عن شعوره كما يريد... 

فما المانع من المساعدة قليلًا؟!

"بابا... ما حصلش حاجة لكل دا أنا السبب.
أنا اللي قولت له ينزل معايا.. عاقبني أنا."

لو بيده لضمّها إلى صدره بعنفًا وأسكت هاتين الشفتين الهادمتَين للذات بقوة تضاهي عشقه لها...

اتركيني أعبث قليلًا مع والدك فهو يبدو على أعتاب الهوى يتردد...

تراجع صالح مستغفرًا ثم ترك الجميع دون كلمة وصعد على السلالم متابعًا صعوده نحو السطح حيث رفاقه الصغار... الحمام.

بينما نظرت شروق إلى ظهره الصلب المشدود بملامح حزينة معاتبة....

صعد ياسين برفقة أبرار وهتف بلؤم:

"كده بقى نبدأ خطتنا..."

بان التردد في عينيها والرفض وهي تقول...

"خطط إيه؟! هي أصلًا قالت إنها هتمشي... مش مستاهلة خطط ومجهود على الفاضي
ما صدقت الحوار انتهى..."

ضاقَت عينا ياسين بشك وسألها...

"متأكدة؟!"

أومأت برأسها مؤكدة وهي تتابع الصعود للأعلى....

"أيوه طبعًا..."

فقال بعد زفرة ارتياح...

"أحبك وإنتي عاقلة ومسالمة..."

هزت رأسها بتمرد وقالت بتوعد شرس...

"أنا لا عاقلة ولا مسالمة... أنا بتكلم على حسب اللي سمعته منها بس لو كانت بقى بتشتغلني والله ما هسكت لها..."

زمّ فمه مستنكرًا بقنوط....

"رجعنا تاني للكلام اللي مالوش لازمة... اطلعي خليني أصلحك على تيتة..."

قالت أبرار وهي تقف أمام باب شقتهما بينما عينها تتطلع للأعلى حيث السطح مفكرة بصوت مسموع....

"هو بابا اتضايق كده ليه لما شافنا خارجين من عندها؟"

رد عليها ياسين باقتضاب...

"هو اتضايق من وجودي أنا كالعاده... أي تصرّف بعمله مش بيعجبه..."

ثم امتعض سرًا...

"هيبقى حمايا إزاي ده..."

سألته أبرار.... "بتقول إيه؟"

أطلق تنهيدة متعبة..

"بقول... إمتى هنام؟!....... تعبت..."
...............................................................
صفع الهواء العالي صفحة وجهها بقسوة وقدماها تخطوان على أرض السطح تبحث بعينيها عنه والغضب الهائل يتمكن منها كجِنٍّ تلبَّسها بعد نظراته الصريحة بالاتهام وكلماته المبطّنة نحوها...

ماذا يظن نفسه فاعلًا ؟! هل يدّعي معرفة أصول الدين؟ ثم يرميها بالباطل وهو لم يرَ منها شيئًا طوال شهر ونصف عاشته تحت بيته...

رأته يوليها ظهره عند برج الحمام يقف يشاهد الحمام يأكل الحبّ الذي تناثر أرضًا بفعل يده.

يقف شامخًا كجبلٍ لا يهاب مرتديًا حلّة عملية فخمة عاد بها للتو من العمل وبين يديه السبحة السوداء اللامعة يلفت لمعانها الأنظار...

وما يشدّ الأنظار فعلاً ويثير الإعجاب في عينيها أصابعه التي تحرك حبات السبحة باعتيادية جميلة وشفاهه الصامتة بينما عيناه الهادئتان تسبّحان مع كل حبة يلمسها ويمررها كغيرها...

فاقت من حالة الضياع المُسكر لحواسها كلما تأمّلته وسرحت فيه... ثم بدأت تستعيد الغضب الكامن في داخلها واقتربت من الشيخ...

لم تلقِ السلام بل ظهرت أمامه تطلّ عليه بنظراتٍ غاضبة وكأن معها كامل الحق في
أن تواجهه بها...

ظهرت كالجنيّة وهو لا يراها سوى جنيّة أتت إلى حياته لتهزّ عرش ثباته ورجولته وتُخرجه عن طوره ثم ترحل مكتفيةً بهذا القدر !...

التزم هو أيضًا الصمت يلتقي بعينيها الشرستين دون اكتراث بينما بدا الانفعال في تشنّج فكه ونظراته القاسية نحوها وقبضته الحرة مضمومة حتى ابيضّت مفاصلها أما الأخرى فتحرّك حبات السبحة بسرعة تُشي بانفعالات كثيرة يكبحها وهي أمامه حيّة تستفزه تجعله يوشك على الانفجار... مجددًا... معها وحدها...

"خير ؟... "

لم يجد فائدة من الصمت والنظرات التي تشنّها عليه بحربٍ قادمة فأعطاها سببًا للاندلاع بهذه الكلمة البسيطة المستفزّة لأعصابها...

"إيه لازمة نظراتك وكلامك اللي قولته في المدخل تحت وإحنا واقفين؟... تقصد إيه؟"

"قصدي وصلك... عشان كده واقفة قدامي وبتعاتبيني وكأن معاكي كل الحق..."

ردّ عليها صالح وعيناه لا تحيدان عنها تكادان تغرقانها في جحيم غضبه...

لم لا يغضّ بصره عنها؟!... إنها تستفزّ كل ذرة رجولة داخله...امرأة جامحة صعبة الترويض...

بريّة... امرأة بريّة... إنه الوصف المثالي لها !..

قالت شروق بغضب...

"طبعًا معايا كل الحق !... غلط في إيه.؟! أنا عشان أستحق نظرتك وكلامك ده؟!"

ردّ بنبرة خافتة لكن في باطنها عنف لا تخطئه الآذان....

"غلطك إنك سمحتي ليه يدخل يقعد عندك... في شقتك...."

وضعت يدها على خصرها بغيظ متمايلة بأنوثة وافتتان...

"سلامة النظر ماخدتش بالك إن بنتك كمان كانت معاه ؟!"

زجرها بنظرة خاطفة حادّة...

"اقفي عدل."

وبالفعل اعتدلت في وقفتها بخوف منه وهي تعض على لسانها بضيق....

ثم رد على جملتها قائلًا بحزم...

"بنتي أو غير بنتي... ما ينفعش راجل غريب يدخل عندك... لأي سبب."

أطلت نار جامحة من عينيها وهي تصيح..

"إنت بتتحكم فيا بصفتك إيه؟!... مين إنت علشان تشتري وتبيع فيا؟!"

اقترب منها عدة خطوات ينظر إليها كجبلٍ شامخ يطل عليها ليقول....

"أنا لا بشتري ولا ببيع. شكلك ناسية إني قولتلك طالما قاعدة في البيت ده يبقى بشروطي."

ثم ذكرها بمنتهى القسوة....

"وتبعدي عن بنتي وابن أخويا."

لمحة من الحزن طلت من عينيها وانعكست بخطوط عريضة على وجهها فقالت مبهوتة...

"هو أنا وباء؟!.... خايف عليهم مني أنا
بعتبرهم زي ولادي... "

رفض بنظرة لا تلين...

"إنتي أصغر من إنهم يبقوا ولادك."

سألته بسخرية مريرة...

"أعتبره مدح؟... ولا ذم؟"

ردّ صالح بنبرة خشنة...

"اعتبريه تحذير واللي شوفته ما يتكررش تاني."

قالت شروق بصوت متحشرج...

"إنت بتسيء الظن فيا."

هزّ رأسه قائلًا باتزان جاد...

"لو فيه سوء ظن من ناحيتي صدقيني ما كنتش هقف أتكلم معاكي كده."

"لدرجادي؟!"

رد عليها بصوت أجش بنبرة حامية...

"زي ما إنتي ست حرة... أنا كمان راجل حر ومقبلش أقعد ست في بيتي وأنا شاكك في أخلاقها. كلامي معاكي نصيحة... وتحذير."

زمت فمها وأبعدت عينيها عنه قائلة بجفاء..

"كده كده...رمضان فاضل عليه كام يوم..."

ردّ من باب الذوق وهو لا يفهم مغزى حديثها

"كل سنة وانتي طيبة."

ردت دون تبسم...

"وإنت طيب... اللي أقصده إني همشي بعد رمضان."

وكأن قبضة جليدية قد اعتصرت قلبه فجأة لكنه لم يُظهر شيئًا على ملامحه الجامدة وهو ينظر إلى عينيها الكحيلتين الحزينتين بهدوء سائلًا بعد لحظتين...

"شوفتي شقة؟"

أومأت برأسها وهي ترفع عينيها إليه بظفر فأخيرًا ستهرب من مشاعرها ومن قيوده التي يضعها حولها كلما تصرّفت على طبيعتها...

طبيعة لا يتقبلها أبدًا وكأنها وباء يجب
الابتعاد عنها الاف الاميال....

"أيوه وسكّانها هيمشوا بعد رمضان واتّفقت 
مع صاحبها كمان."

ردّ بنبرة جافة تحمل في طيّاتها اهتمامًا وحماية تلمسهما منه بين الحين والآخر..

"تمام هاجي معاكي ونشوفها... عشان أطمّن أكتر.... "

رفضت عابسة...

"مالوش لزوم تتعب نفسك."

أردف بنظرة جامدة مُصرّة وبصبر...

"ليه لزوم بالنسبالي... وبالنسبة للحاجة أبرار... عشان نطمن عليكي أكتر. إنتي بقيتي مسؤولة مننا..."

شعّت عيناها بالعتاب وهي تقول بمرارة...

"لو فعلًا مسؤولة منك... ما كنتش عملت اللي عملته."

سألها بدهشة...

"بتعتبيني؟!"

أومأت برأسها دون تردد وبجرأة أربكته وقالت...

"الغلاوة على قد العتاب."

"وأنا غالي عندك؟!"

سألها وعيناه متعلقتان بشفتيها الممتلئتين اللتين تهمسان بكل ما هو خطِر وغير مقبول عنده.

عادت الشفتان تتحركان بهمسات مغوية كأنها تُقبّل الكلمات قبل أن تنطقها حتى يكون السحر الخالص فيهما و أكثر فاعلية مع نظرات عينيها الكحيلتين الجميلتين...

"قولتلك قبل كده إن مقامك كبير عندي أوي
يا شيخ صالح... مش مصدق؟"

أخرج نفسًا خشنًا من صدر يموج بالعديد من المشاعر العنيفة وهو يأمرها بصوت عميق....

"اثبتيلي إن مقامي كبير عندك... وبلاش تكحّلي عينيكي تاني."

شهقت بدهشة ورفعت عينيها إليه أكثر بتساؤل...

"ليه؟!...... مالُه الكحل؟!"

أجابتها عيناه الخضراوان بصراحة مطلقة جعلتها تتورد بينما قلبها يخفق بجنون يكاد يقفز من بين أضلعها أمامه...

"أوامرك يا شيخ..."

انساب صوتها الأنثوي بوداعة تنصاع لأمره بينما هو شعر بأن الكلمتين لهما مذاق الشهد... فبلع ريقه شاعرًا بحرارة تجتاح جسده فأبعد عينيه عنها بضيق من نفسه....

ثم بعد لحظة صمت سالها صالح متجنبًا النظر
إليها.....

"سامحتي أبرار....."

قالت شروق بنفس سمحة....

"أيوا طبعا....يكفي انها جت لحد عندي ورضتني....

ثم اضافت باعجاب لا تعلم انها تلامس وترًا حيًا فيه ظن انه دفنه على مر السنوات....

"تعرف هي معاها حق تغير عليك....لو كان في حياتي راجل زيك....كنت هعمل اكتر من كده.."

رفع عينيه عليها بجمود اربكها حتى ارتجف
صوتها متلعثمة بالقول....

"مقصدش حاجة انا بس....."

بتر عبارتها وهو يقول بملامح صارمة
جافية..

"انزلي دلوقتي....وقفتنا كده مع بعض متنفعش.....وبعد صلاة الفجر مهما كانت
اسبابك بلاش تطلعي فوق السطح طول
مانا فيه.."

وكأنه لكمها في معدتها بعبارته الحارقة 
شعرت بنيران تشتعل في احشاؤها وهي 
تسأل بوجهٍ محتقن.....

"هو انا قولت حاجة ضايقتك....."

هز راسه نفيًا وبجمود أخبرها...

"بالعكس كلامك بينبهني لحاجات مش واخد
بالي منها...."

بلعت الغصّة المسنّنة في حلقها بعذاب
وهي تقول بعصبية...

"مش هتشوفني هنا تاني...لا وقت غروب
ولا وقت شروق..... عن إذنك..."

ابتعدت عنه بخطوات غاضبة كمن يحفر الأرض وهو يسير بينما هو نظر إلى ما وراء حدود سور الشرفة إلى الآفاق.

وضع يده على صدره الخافق بعنف كمضخة قوية تضخ فيضانًا من المشاعر... مشاعر تهفو إلى امرأةٍ واحدة.

مشاعر استيقظت من رقدتها بعد عشر سنوات صارخةً باسمها هي..دون غيرها...

"شـروق..."

تعليقات