رواية اشتد قيد الهوي الفصل الرابع عشر 14 بقلم دهب عطية

  

 

 رواية اشتد قيد الهوي الفصل الرابع عشر بقلم دهب عطية



كانت تجلس على المقعد أمام غرفة الكشف
عيناها معلَّقتان على الباب المغلق وعقلها ينسج أبشع السيناريوهات بينما قلبها ينزف ألمًا وخوفًا من القادم...

كان يراقبها عن بُعد خطوتين يرنو إليها بنظراته والقلق يستوطن قلبه عليها
لم يقاوم كثيرًا رغبته في الاقتراب منها والجلوس بجوارها...

وعندما فعل نظرت إليه بعينين غائرتين جافتين من الدموع وكأن الخوف احتجزهما في مكانٍ ما...

همست بشفاهٍ ترتجف وقالت أول شيءٍ شعرت به....

"أنا خايفة يـا أيـوب..."

مد يده قابضًا على يديها المرتجفتين في حجرها يداهم عينيها بنظرةٍ حنونة تبث الطمأنينة إلى قلبها المرتعب هامسًا بعدها بصوتٍ عميق آمن إلى أبعد حد...

"أنا جنبك يـا نـغـم... متخافيش..."

ما يحدث الآن ضربٌ من الجنون لكنه حدث
حين ألقت نفسها بين ذراعيه منهارة على صدره...

أحاط جسدها الناعم نعومة البسكويت وهشاشته بذراعيه القويتين بخفةٍ وحنان مربتًا على ظهرها هامسًا بصوتٍ أجش..

"هيبقى كويس يا نغم... هيبقى كويس والله..."

قالت بتحشرج وهي تذرف الدموع على قميصه...

"الدكتور بيقول إنه هينقله العناية... الحالة مش مستقرة... والعلاج مش جايب نتيجة.
أنا خايفة... خايفة يسبني... بابا لو حصله حاجة.... أنا هاروح وراه..."

خفق قلبه بشدة متجاوبًا مع كل لحظة تمر بينهما حتى إن ألمها وصل إليه أضعافًا مضاعفة...لذلك همس يطمئنها ويطمئن
نفسه معها...

"بعد الشر عليكي... اتفائلي بالخير... والله هيبقى كويس... ومفيهاش حاجة خالص لو بقى في المستشفى فترة... الرعاية هنا أحسن من البيت..."

غمغمت بارتجافٍ واضح على صدره الخافق بقوة كمضخّة قوية...

"إزاي هدخل البيت وهو مش موجود فيه؟"

"نغم..."

ظهرت جيداء من العدم واقتربت منهما بخطى سريعة ثم جلست بجوار صديقتها المنهارة الضائعة وسحبتها من بين ذراعي أيوب
الذي شعر بالصقيع يقبض على صدره بعد شعور الدفء الناعم الذي أثارته...

ضمتها جيداء إلى صدرها وهي تلقي نظرة حانقة مشتعلة نحو أيوب وكأنه استغل الفتاة وهي في حالة من اللاوعي وضمها عنوةً عنها...

هي من ألقت نفسها بين ذراعيه وياليتها تفعلها دائمًا فما حدث له بعدها شعورٌ لا يُقاوم ينمو بالاكتفاء وامتلاك العالم بأسره !..

هل هكذا يكون الحب؟ هل هكذا يكون شعور الرجل عندما تميل عليه أنثى منهارة تطلب الدعم؟..... أنثى مثل نغم الموجي...

هناك أشياء من روعتها يكون حدثها استثنائيًا لا يتكرر...

وهي استثنائية في كل شيء حتى وهي تميل على صدره كوردة لم تحتمل هبوب الرياح فمالت تستند إلى أقرب شخص بجوارها...

ربّتت عليها جيداء وهي تبكي معها قائلة بتعاطف...

"هيبقى كويس يا حبيبتي اطمني... كفاية يا نغم أنكل لو شافك في حالتك دي هيتعب بزيادة..... اجمدي كده عشان خاطري..."

قالت نغم بوهنٍ مرير...

"مش قادرة أتحمل يا جيداء... كل حاجة بتضيع مني حتى بابا...هو الوحيد اللي 
مش هقدر أتحمل خسارته..."

قالت جيداء بمؤازرة حانية...

"بعد الشر... هيبقى كويس والله..."

فتح الباب وظهر الطبيب ومعه المساعدات.
هبت نغم واقفة تقترب منه يسبقها في 
الخطى أيوب الذي سأله بقلق...

"طمنا يا دكتور..."

وزّع الطبيب نظراته عليهما قائلًا بعملية...

"زي ما بلغتكم هنحضر وننقله العناية.بس قبل ما ده يحصل هو عايز يشوفك إنتي والشاب اللي معاكي..."

تبادلت نغم مع أيوب النظرات بصمت بينما زمّت جيداء شفتيها مستنكرة الوضع غير مقتنعة بما يحدث. فهذا الأيوب تطورت مكانته وسط عائلة الموجي بسرعة البرق يومًا بعد يوم حتى أصبح واحدًا منهم !..

لم ينتظرا كثيرًا بل دخلا الغرفة وأغلقا الباب خلفهما بينما بقيت جيداء وحدها في الخارج كخيال مآتة...

"بـابـا..."

قالتها نغم وهي تقترب منه جالسة على المقعد المجاور لفراشه تمسك بيده بقوة كأنها تستمد منها صبرها على التحمل...

نظر إليها والدها من بين الأسلاك الموصلة به بوجه شاحب ومتعب وكأنه تقدم في العمر فجأة وكبر فوق عمره.... قال بحنو...

"ليه الدموع دي يا حبيبتي؟... أنا كويس 
شوية تعب بسيط هي أول مرة؟..."

سالت الدموع على وجنتيها وهي تقبّل يده عدة مرات دون أن تقدر على التفوه بكلمة واحدة...

ابتسم كمال بتعب وهو يرفع عينيه نحو أيوب مشيرًا له بيده أن يأتي بمقعد ويجلس بجوارها فعل أيوب وقال بحرج...

"ألف سلامة عليك يا كمال بيه... إن شاء الله هتخف وتبقى كويس وترجع لنا بالسلامة..."

نظر إليه كمال وقال بصوت ضعيف...

"ما تزعلش من نغم يا أيوب... نغم مش وحشة..."

رد أيوب وهو ينظر إلى جانب وجهها الحزين المائل بضعف على يد والدها...

"مفيش زعل ولا حاجة... اتصافينا ورجعت الشغل من تاني..."

قال كمال بجهد...

"خد بالك منها..."

رد عليه أيوب بنبرة جادة...

"مش محتاج تقولي كده... إنت عارف إني مش مقصر من ساعة ما اشتغلت معاكم..."

اكتفى كمال بإيماءة بجفنيه قائلًا بصوت متعب...

"الشهادة لله لا... لكن أنا عايزك تطوّل بالك عليها وتفضل معاها زي ضلها... خد بالك منها ومن... من الشركة... الحمل تقيل عليها لوحدها..."

رفعت نغم عينيها الرماديتين إلى والدها بصدمة وفعل أيوب المثل باستفهام...

"إيه دخلي بالشركة؟... إحنا اتفقنا إني أحميها من أي حد ممكن يتعرض لها لحد ما القضية تخلص..."

تحفّز كمال قائلًا بعقلانية...

"الشركة محتاجة لحد زيك... آن الأوان تنسى اللي فات وتفكر إزاي تستفيد من ورا موهبتك...إنت تستحق تبقى زيي وزي
ناس كتير شاطرة في المجال ده..."

نمت الغصة في حلق أيوب وهو يستمع إلى كمال الموجي بوجه جامد كالصخر وانعكس ذلك في عينيه...

توترت نغم وهي ترى هذا التغير المفاجئ به وكأن والدها فتح صندوقًا أسود في وجهه مملوءًا بكل ما هو مؤلم وقاسٍ...

أكمل والدها بصوتٍ حانٍ...

"وأنا بقولك ابدأ من شركة الموجي... وبكده هتكون اختصرت على نفسك نص الطريق..."

حاول أيوب تغيير مجرى الحديث...

"الكلام ده سابق لأوانه... ما تجهدش نفسك بالكلام..."

رفض كمال قائلًا بصلابة...

"اسمع الكلام يا أيوب... ده لمصلحتك قبل ما يكون لمصلحتي..."

اشتد نفس أيوب وهو يقول بصعوبة...

"إنت كده بتحمّلني فوق طاقتي..."

حركت نغم أهدابها بريبة بينما لم يهب 
والدها وتجادل معه...

"بس أنا عارف إنك قدها... ابدأ يا أيوب وارجع للحاجة اللي بتحبها يمكن تلاقي نفسك الضايعة من تاني..."

عاد أيوب يرفض بغصة مسننة في جوفه..

"مش هقدر... مش هقدر أقعد على مكنة تاني ولا أرسم حاجة وأنفذها... مش عايز..."

خاطبه كمال بجدية تامة...

"عمره كان كده... وإنت ملكش ذنب..."

اتسعت عينا نغم وهي تنظر إلى أيوب الذي تناسى وجودها وعيناه على والدها يهتف بانفعال..

"لا ليا لو ما كنتش عندت مع ابن الحرام ده
ما كانش دخل وضربه بالمطواة وهو قاعد على مكانتي بيخلص شغلي... أنا السبب..."

نظر إليه كمال وبجهد هتف...

"إللي أعرفه إنك اتأذيت وقتها وإنت بتدافع عنه... وكمان حاولت تنقذه..."

نظرت نغم إلى تلك الندبة القاسية في عنقه فبلعت ريقها بمرارة شاعرة بوخزة قوية تداهم قلبها وهي تسمع أيوب يقول بلهجة تقطر ندمًا وعذاب ضمير...

هي على دراية بهذا العذاب فهذه مشاعرها القاتمة منذ انتحار أسر العزبي !...

"بس على ما وصلت بيه المستشفى... كان مات... مات بسببي..."

ثم هز أيوب رأسه بعنف رافضًا الأمر بكراهية

"أنا مش هقدر... اطلب مني أي حاجة إلا الطلب ده..."

قال كمال بنبرة حازمة رغم التعب الذي نضح من بين كلماته...

"أنا مش عايز أي حاجة إلا الطلب ده... بنتي والشركة... أمانة في رقبتك لحد ما أخرج من هنا..."

هكذا انتهى الجدال وخيّم الصمت على الجميع بكآبة ووجع...

حتى حضر الطبيب والمساعدون وبدأوا في نقل والدها إلى العناية المركزة لعلاج مكثف يحتاج إليه بعد هذه الوعكة الصحية...
...........................................................
دلفت من باب الغرفة ثم بدأت تسير على أطراف أصابع قدميها كمن يرقص الباليه.
بخفة ورشاقة اقتربت من الفراش النائم عليه مستلقٍ على بطنه فمه مفتوح قليلاً وأنفاسه منتظمة وعالية....

جثت أرضًا على ركبتيها وأسندت مرفقها على حافة الفراش سندت ذقنها على يدها تتأمل هذا الوسيم ابن عمها الحبيب بابتسامة
رقيقة.

كم يبدو فوضويًا جدًا في نومته فوضى جذابة.شعره الأسود الغزير المشعث بفعل التقلب أثناء النوم ووجهه الرجولي يبدو
بريئًا مسالمًا عكس شقاوته ووقاحته مع الفتيات....

زمت شفتيها للأمام عابسة فما دخلها هي لماذا تزعجها الفكرة... فليكن وقحًا كما يشاء... فهذا ليس من شأنها...

مدت يدها تضعها على ذراعه المختبئ أسفل الغطاء كان جسده كله مختفيًا تحته.

كيف يتحمل الجو حار صحيح أنها بداية الصيف لكن الطقس خانق لا يُحتمل...

"مستغطي إزاي كده؟..."

"يـاســيــن...يـاســيــن قوم إنت اتأخرت على شغلك. تيته نزلت السوق وحضرتلك الفطار..."

لم يرد عليها وظل مستلقيًا على بطنه يدثر جسده تحت الغطاء الثقيل ولا يظهر سوى رأسه...

مدت يدها بتلقائية تلامس رأسه لتشعر بحرارة تنبض فوق بشرتها تكاد تحرقها...

انتفضت واقفة بخوف وهي تشهق...

"ده سخن !... من إيه؟..."

عادت تيقظة استعملت يدها وصوتها حتى استيقظ ياسين بإعياء واضح يفتح جفونه بصعوبة ناظرًا إليها...

"أبــرار..."

قالت أبرار بلهفة...

"إنت سخن يا ياسين... لازم تقوم تاخد دش."

هز رأسه رافضًا بصوت ضعيف...

"مش قادر... شوية وهقوم... روحي إنتي..."

رفضت بشدة وهي تقول...

"أروح إزاي وأسيبك؟ تيته كمان لسه نازلة وقالت هتتأخر... اتصل بيها؟.."

رفض ياسين منفعلاً...

"لا قولتلك هبقى كويس سبيني !"

صاحت مثله لكن بلوعة...

"بلاش تتعصب عليا... مش هسيبك ارتاح على ضهرك..."

نفّذ طلبها على مضض مستلقيًا على ظهره ثم وضعت هي الوسادة أسفل رأسه.رأت اهتزاز جسده تحت الغطاء فذهبت لتحضر غطاءً آخر ووضعته فوقه ثم نزلت إلى الطابق الأرضي حيث شقة شروق...

طرقت على الباب ثلاث مرات منتظرة.
فتحت لها شروق متفاجئة من طرقتها المهذبة لأول مرة سألتها بقلق...

"خير يا أبرار مالك؟ وشك مخطوف كده ليه؟"

سألتها أبرار...

"عندك حبوب خافضة للحرارة؟"

أومأت لها شروق وهي تمد يدها تلامس وجنة أبرار بقلق أكبر....

"عندي يا حبيبتي... إنتي تعبانة؟ ادخلي."

قالت بعينين سوداوين تلمعان بالدموع...

"لأ... ياسين هو اللي تعبان. هاديه حاجة خافضة وأعمله كمادات..."

"طب استني هدخل أجيبها..." قالتها شروق ثم ابتعدت وعادت بعد أقل من دقيقة تعطيها شريط الأقراص قائلة بحرج...

"كان نفسي أساعد بس إنتي عارفة إنه مينفعش..."

لا تريد اصطدامًا آخر مع والدها يكفي ما حدث منذ يومين على سطح البناية...

من وقتها وهي تنزوي في شقتها مع ابنتها لا تختلط بأحد من سكان البيت إكرامًا لنفسها وعليها أن تتحمل شهرًا آخر على هذا الوضع...

طالما هي موضع شبهات كما تلقي عليها نظراته دائمًا...

ثم استرسلت شروق بحنو...

"اديه إنتي حباية منها ومع الكمادات هتنزل الحرارة إن شاء الله."

نظرت لها أبرار بامتنان....

"شكرًا يا شروق..."

ربتت شروق على كتفها بود....

"العفو يا حبيبتي... على إيه؟"

ابتعدت أبرار صاعدة الدرج لكنها تعثرت عند أول درجة من قلة تركيزها وتعجلها مما جعل شروق تنتفض بفزع صائحة...

"حاااااسبي..... هتقعي"

لم تنظر إليها أبرار تابعت صعودها كأنها لم تلاحظ تعثرها كما رأت شروق...

فلاح على شروق ابتسامة ماكرة وهي تقول بلؤم....

"ده واضح إن مش هو بس اللي وقع لشوشته..."

صدح هاتف شروق من الداخل...اغلقت الباب
ثم اتجهت إليه وقد خصصت لرسائله نغمة موسيقية مميزة فتحت الرسالة...

(ما تنسيش صلاة الظهر...)

جلست على أقرب مقعد تنظر إلى أحرف الرسالة بصمت.

منذ أن اتفق معها أن يرسل لها تذكيرات للصلاة حتى لا تتكاسل وهو لا يتوقف لحظة وكأنه أمر اعتيادي....

في الحقيقة هذه الرسائل المختصرة البسيطة ساعدتها كثيرًا في الانتظام مؤخرًا.

لا تعرف سر التغيير المفاجئ لكن المؤكد أنها متعبة وتجد سكينتها وراحتها على سجادة الصلاة...

وصالح الشافعي يُحفّزها برسائله... أو ربما بوجوده...

إنها تجد ضالتها معه رغم جفائه وقساوة قلبه أحيانًا نحوها.

ممتنة هي للأيام التي عرفتها عليه معرفة عابرة لكنها ستترك أثرًا جميلاً في نفسها...

أثر يشبه عبق العود... على صالح.... صالح الشافعي...

صدح الهاتف في يدها معلنًا عن اتصال منه!؟

هل بالفعل هو؟ أم أنها تتوهم؟

إنها سجلت رقمه بل حفظته عن ظهر قلب
هو لا مجال للشك... هو يتصل بها...

لماذا؟ بعد ما قال وبعد ما فعل؟

لأول مرة تضع على قلبها حجرًا ثقيلًا وأغلقت الهاتف نهائيًا معلنةً الثأر لكرامتها منه.

فقد تمادى كثيرًا معها وهي لن تقبل القسوة من أي رجل مهما كانت صفته في حياتها...

وضع شيئًا جافًا في حلقه تبعته رشفة ماء كبيرة أخذها بعد أن طلبت منه..ثم غاب عن الوعي... لم يفق إلا على شيءٍ باردٍ يُوضع
على جبهته فانكمشت ملامحه مستنكرًا 
بينما همس صوتٌ ناعمٌ حنونٌ بالقرب من 
أذنه....

"إن شاء الله هتبقى كويس بعد الحباية دي...
أنا هقعد جمبك وأعملك الكمادات... ارتاح يا ياسين... ارتاح يا حبيبي.... أنا معاك..."

حبيبي؟!

نطقتها بمنتهى العفوية كأمٍ تدلل صغيرها بينما قلبه انتفض معها انتفاضة ما بعد الموت....

ليتها تعلم... وليته قادر على الاعتراف... لكن حواجز الماضي تعيق مشاعرهما.

الأول علاقته المتوترة بأبيها منذ الصغر...

والثاني أمه... الحاجز الأكبر الذي فصل بينه وبين الحب...

أَيخاف الحب؟ لا... بل يخشى الخسارة.
أن يخسر أمه الصغيرة.. رفيقته منذ الطفولة حبيبته....

خسارة أبرار خسارة جسيمة لن تعوّضها السنوات ولو عاش فوق عمره عمرًا.
لن يجد العوض في غيرها... مستحيل.

إنها تمتلكه...تمتلكه حد الضياع دونها....

انه يقبل العذاب بقربها لكنه لا يستطيع احتماله في بُعدها ولو لثانية واحدة !...

أقسى شعور في الحب أن تسير في دروبه دون أنيس يشاركك وحدتك...

وحدة موحشة مرّة ورغم مرارتها تجذبك إليها أكثر حتى وأنت تتمنى العودة إلى عهدك السابق...

لكن هيهات ! إنها اللعنة...لعنة الحب من طرف واحد.....

ظلت الصور تتداخل أمام عينيه...

أمه وهي تتركه وترحل أبوه وهو يحتضنه باكيًا... ثم مرض أبيه وصراعه وموته مقهورًا على خائنة...

ثم أبرار... لعبها معه ضحكتها غمازتاها الجميلتان قبلاتها السحرية على جروح
يده....

موت جميلة أحنّ البشر عليه تعب أبرار بعدها وصمتها الذي طال لعامين...عامان كانا كالعقاب
مع نظرات عمه الجافة وتعامله البارد حتى تباعدا تمامًا....

أصبحا غريبين رغم أنهما تحت سقف واحد ويعملان سويًّا... شركاء في إرث الجد.

إرث تسعى عبلة العزبي للاستيلاء عليه تحت مسمى الأمومة المنسية قد تذكرتها بعد خمسة عشر عامًا !

وأمس قد جاءه اتصال من رقم غير مسجل...
إنه يحظر كل أرقامها ومع ذلك لا تيأس في
محاولة الوصول إليه....

(الو....)

قالها ياسين وهو يجلس خلف مكتبه يدون شيئًا في الدفتر فهمست عبلة بصوتٍ دافئ حزين..

(ياسين ياحبيبي...وحشتني.... ليه مش بترد
على ارقامي بيديني مشغول ؟!....)

رد عليها بجفاء...

(اصلي حطك على البلاك لست خير....)

هتفت عبلة بحرقة تتقن الدور......

(دي طريقة تكلم بيها مامتك احنا بقالنا اكتر من اربع شهور منعرفش حاجة عن بعض....)

صحح لها المعلومة قائلا بازدراء.....

(احنا بقالنا خمستاشر سنة منعرفش حاجة
عن بعض....عايزة إيه....أنا مش اخر مرة شوفتك فيه قولتلك اني مش عايز اشوفك
تاني....)

قالت من بين اسنانها محتدة....

(اخر مرة.... لما رميت الفلوس في وشي وطردتني من المصنع.....)

ألقى القلم بعصبية وأسند ظهره إلى المقعد قائلًا بأعصاب مشدودة...

(الفلوس اللي انتي جايه عشانها....)

قالت بتوتر.....(بس انا مش عيزاها....)

سخر منها بتهكم...

(غريبة وليه خدتيها وانتي ماشية؟!...)

رن الصمت بينهما لحظات حتى قالت عبلة
بصوتٍ باكٍ....

(ياسين انا تعبانه يابني....تعبانه ومليش حد
غيرك....)

بلع ريقه مضطربًا متأثرًا ببكائها رغمًا عنه 
ومع ذلك قاوم ضعفه وقال بصلابة..

(ليكي جوزك.....انتي بنسبالي موتي....)

ادعت عبلة الوعة قائلة.....

(متقولش كده انا امك مهما عملت انا أمك...)

هبّ من مقعده واقفًا وراح يدور حول المكتب وهو يصرخ بعد أن بلغ ذروة غضبه بسببها...

(لا مش أمي....امي اللي سبتني عشان واحد
امي اللي جابت لابويا المرض وقتلته بحسرته
مش أمي...ولا عمرك هتكوني أمي ساااامعه..)

قالت عبلة بارتجاف وقد مسها حديثه
بقسوة.....

(انا غلطانه اني اتخليت عنك...لكن مش غلطانه لما اطلقت من ابوك من حقي أختار الراجل اللي هكمل معاه....وانا مقدرتش احب أبوك....)

التوى فكه بتشنج معقبًا بامتعاض....

(كنتي مستنه تعيشي معاه حداشر سنة 
عشان تكتشفي من يوم وليله انك مقدرتيش تحبيه....)  

ثم استرسل يواجهها بجسارة....

(بتكدبي على مين....انتي خونتيه....كلهم قالوا
كده....واتاكده بعد جوازك....)

هدرت عبلة بقوة نبرة تقطر حقدًا وكراهية....

(متصدقهمش كدابين....صالح وامه بيكرهوني
من زمان وكانوا علطول يسخنو ابوك عليا...
دول فرحوا لما اطلقت...فرحوا لما سبتوا ليهم عشان ينهبوا....)

مرّر ياسين أصابعه في شعره يرجعه إلى الخلف بعصبية مفرطة وقد علا نشيج 
أنفاسه بعنف بينما كان يسمعها تتابع حديثها بعدوانية...

(ودلوقتي بيقسو قلبك عليا لكن والله ما هيحصل....انا هرجعك لحضني تاني غصب
عنهم كلهم....مش هسيبك وسطهم....)

رد عليها باستهزاء بارد.....

(انا طول عمري وسطهم مفيش حد وقف معايا غيرهم.....انتي اللي عمرك ما كنتي في الصورة....)

قالت بتوسل وهي تبكي....

(اديني فرصة ياحبيب أمك....وبلاش
تشمتهم فينا.....انا وانت ملناش الا بعض)

رد ببصوت مثخن بالجراح.....

(احنا منعرفش بعض عشان نمسك في بعض)

ارتفع صوت نحيبها عبر سماعة الهاتف فأغمض جفنيه بقوة يقتصّ من هذا الشعور المميت داخله واضعًا نقطة النهاية لمحاولتها البائسة في استعادته..... هو وما يمتلكه...

هتف بنبرة حادّة مسنّنة...

(أنسي ان اللي بينا يتصلح خمستاشر سنة
مش هيتنسو بدمعتين....ارجعي لجوزك وحياتك اللي اختارتيها وسبيني في حالي
انا مش محتاجك....سامعه مبقتش 
محتاجك..)

"ياسين انت بتعيط؟!....إيه اللي بيوجعك
سينو رد عليا متقلقنيش عليك...."

همست بها أبرار بصوتٍ مندهش وهي تمسح بكفها الناعم دمعتين انسابتا من تحت جفونه المغلقة...

بعد فترة لا يعلم مدتها، فتح جفنيه ببطء عدة مرات شاعرًا بجسده ساخنًا يتصبب عرقًا. 

دفع الغطاء بساقيه وهو ينظر إلى جواره نحو المنضدة الصغيرة والأشياء الموضوعة عليها والتي ساعدت في خفض حرارته. نظر إلى السقف قليلًا ثم مدّ يده أسفل الوسادة فأخرج علبة السجائر ووضع واحدة في فمه وقبل أن يشعلها بالقدّاحة وجدها تُسحب من فمه بعنف...

"أكتر من خمس ساعات قاعدة جنب سيادتك وأول ما تفوق تشرب سجاير؟!... إيه الاستهبال ده... "

حرّك رأسه على الوسادة ناظرًا إلى أبرار الواقفة أمامه( باسدال الصلاة) منفعلة وعيناها تكادان تقدحان شررًا... همس يسألها بإرهاق

"إيه اللي حصل؟... "

استوى ياسين جالسًا على الفراش بينما قالت أبرار...

"اللي حصل إنك كنت بتموت... وأنا أنقذت حياتك... تقوم تشرب سجاير وانت لسه ما فقتش من تعبك ؟!"

سألها بمرح طفيف واضعًا يده على رأسه وهو يشعر بالصداع يتفاقم بداخله...

"بموت إزاي يعني؟!... وأنقذتيني إزاي يا سوبر هيرو؟"

وضعت يدها في خصرها وقالت بوجهٍ عابس

"اتريق... اتريق... دخلت أصحيك بعد ما تيته نزلت السوق لقيتك سخن مولع فاديتك حباية خافضة للحرارة وعملتلك كمادات... أبقى  أنقذتك ولا ؟!.. "

زفر بضيق وكأن هناك جبلًا فوق صدره هامسًا بصوت بائس...

"ياريتك ما عملتيها... كان زمان السر الإلهي طلع وخلصت..."

رفعت حاجبيها واتسعت عيناها وهي تقترب منه جالسة على حافة الفراش تسأله بدهشة وعينين قلقتين...

"الله !... إيه الكلام اللي كله تشاؤم ده على إيه كل ده إيه اللي حصل معاك يا ياسين؟"

رد باختصار باهت...

"ولا حاجة شكرًا يا أبرار... تعبتك معايا."

لم ترد أن تضغط عليه فقالت بنبرة مرِحة..

"تعبك راحة يا سيدي إحنا عندنا كام سينو
هو واحد ومطلع عنينا"

"ماشي يا لمضة..." قالها وهو ينوي التحرك بعيدًا عن الفراش فأوقفته أبرار سائلة...

"رايح فين؟"

زمّ شفتيه بعدم ارتياح...

"رايح آخد دُش... مش طايق نفسي..."

قالت أبرار وهي تشير إلى المنضدة حيث طبق الحساء الساخن...

"استنى بس تيته عملتلك شربة خضار اشربها وبعدين قوم اتحرك زي ما إنت عايز... "

رفض ياسين.... "مش عايز."

قالت أبرار بنظرة شقية...

"لا تيته قالت لازم تاكلها دي فيها كوكو."

نظر لها مستنكرًا.... "إيه كوكو ده؟!"

اتسعت ابتسامتها بفجوة جميلة في منتصف وجنتيها فجوة يود لو يختبئ بينهما ويترك العالم بأسره...

"فراخ يا سينو... يلا بقى بسم الله..."

نظر إلى سعة عينيها اللامعتين كمجرةٍ تحوي الكثير وتخفي أكثر ثم أنزل عينيه إلى طبق الحساء بين يديها ليطلب بخبث...

"طب أكليني إنتي... "

زجرته أبرار بوجه مكفهر...

"إنت هتدلع ولا إيه؟!"

ادعى الأسى بمهارة قائلًا بصوتٍ حزين مثقل

"دراعي وجعني مش هقدر أمسك الطبق... يلا بقى خليكي جدعة وكملي جميلك للآخر..."

أطلقت تنهيدة طويلة مترددة ثم أمام نظراته المترجّية البريئة كطفل يناشد أمه ترخّت وجلست بجواره على حافة الفراش ثم
رفعت ملعقة من الحساء أمام فمه...

"أمري لله... اتفضل..."

أخذ من الملعقة ثم تدلل عليها قائلًا...

"سخن... انفخي فيه..."

قالت بجزع...

"بس بابا قال حرام ننفخ في الأكل..."

رد يجادلها وعيناه تتشربان من جمالها وشقاوتها المحببة لقلبه الهائم بها...

"هو مش حرام هو غير مستحب... وبعدين أنا مش قرفان منك ممكن آكل من وراكي عادي."

امتعض وجهها هازئة...

"إنت كده نفسك حلوة يعني؟"

رد بنظرة جذابة..... "معاكي إنتي بس..."

بلعت ريقها مضطربة وهي تخفض عينيها إلى الحساء متبرّمة...

"هتفوق عليا يعني.... "

التوى فكه واجمًا معقبًا...

"ما كنت بودع... إنتي اللي دخلتي في آخر لحظة..."

قالت بلهفة...

"بعد الشر عليك يا سينو..."

تلاقت بعينيه ولمسته لهفتها الصادقة نحوه فسألها وعيناه تجوبان وجهها ثم عينيها السوداوين وكأنه يطوف في مجرة لن يجد أروع منها لاكتشافها...

"لو جرالي حاجة... هتزعلِي؟"

زمت أبرار فمها معاتبة...

"أزعل بس؟!... هو إنت متعرفش غلاوتك عندي ولا إيه؟!"

هتف ياسين بحرارة...

"عارف يا برتي...وإنتي في قلبي حاجة تانية... حاجة تانية خالص..."

تخضّبت وجنتاها بخجل وعلت خفقات قلبها بين أضلعها متجاوبة مع كلماته...

ازدردت أبرار ريقها باضطرابٍ لذيذ وهي ترفع الملعقة مجددًا بالقرب من فمه قائلة بشقاوة

"القطر ده رايح فين.... هم يا جمل"

فتح فمه وأخذ ما تحوي الملعقة ثم رمقها شزرًا محذرًا من الاكمل....

"خفي تعومي...... ياظريفة.."

حركت كتفيها بمناكفة شقية....

"مش عايز تاكل من ايدي استحمل بقا...."

ثم رفعت الملعقة بقطعة من الدجاج وهي تقول ممازحة....

"يلا الكوكو ده رايح فين... "

رفض ياسين الأكل ناظرًا إليها بضيق

"بــت..."

"خلاص هاكله أنا..."

ضحكت أبرار وهي تضع الملعقة في فمها فابتسم وهو يراقب عفويتها بنشوة....

دلفت الجدة إلى الغرفة فوجدت فم أبرار ممتلئًا بالطعام والطبق بين يديها فقالت بتقريع...

"إنتي قاعدة تاكلي أكله يا أبرار؟!"

قالت بوجهٍ ممتلئ بالطعام الذي لم تمضغه بعد....

"بساعده يا تيته... بساعده..."

"ونعمة المساعدة... روحي خدي طبقك
من المطبخ..."

نهضت أبرار خارجة من الغرفة بعد أن لوّحت لياسين بيدها فابتسم إليها ثم عاد ببصره إلى وجه الجدة التي جلست مكان حفيدتها تسأله بحنو وهي تلمس وجهه تتأكد من انخفاض حرارته كما بلغتها أبرار...

"عامل إيه دلوقتي يا حبيبي؟"

رد عليها ياسين... "الحمد لله أحسن..."

أمسكت الجدة الطبق تنوي إطعامه...

"طب يلا عشان تاكل... تصلّب طولك..."

رفض ياسين وهو ينهض عن الفراش ببطء...

"مليش نفس يا تيته... هقوم آخد دُش عشان افوق..."

"على مهلك يا حبيبي..."

وعندما خرج من الغرفة أمام عيني الجدة تنهدت وهي تدعو له بقلب أم مفطور على حاله...

"ربنا يحفظك يا ياسين... ويبعد عنك الحزن والغم..."
..............................................................
دخلت ملك إلى المطبخ تضع الطبق بعد أن أنهت وجبتها أمام التلفاز ثم سألت أمها الواقفة أمام الرخامة...

"ماما بتعملي إيه؟"

ابتسمت شروق وهي تتابع ما تفعل بشغف..

"بعمل مخلل بتنجان... عشان رمضان."

نظرت ملك إلى العلبتين الكبيرتين الممتلئتين بالباذنجان المخلل ثم قالت متعجبة...

"وكل ده هناكله لوحدنا؟... "

أجابتها شروق....

"لأ عامله بزيادة علشان خالتي أبرار كمان."

"طيب..."

لاحظت شروق عبوس ابنتها ونظراتها الغريبة وكأنها تريد شيئًا فسألتها بحنو...

"مالك يا ملوكة قلبه وشك ليه؟"

قالت ملك بنظرة حزينة تشبه الجِراء الصغيرة عندما ترغب في شيء...

"عايزة فانوس... صحابي كلهم جابوا وأنا لسه.... "

احتوتها شروق بنظرة دافئة وقالت...

"بُكرة هننزل أنا وانتي ونجيب أحلى فانوس."

هتفت ملك ببهجة...

"اللي أُشاور عليه؟.. "

أجابت شروق مبتسمة...

"عيوني اللي تشاوري عليه هاجيبه."

ابتعدت ملك بخطوات أشبه بالقفزات تصيح بسعادة وحماسية بينما ضحكت شروق وعادت لما كانت تفعله.

وفجأة دوّى صوت جرس الباب فقالت وهي
ما زالت واقفة أمام الرخامة...

"افتحي الباب يا مـلـك."

لكن الجرس عاد يرن وصوت التلفاز بالخارج عالٍ فزمت شروق شفتيها وهي تترك ما بيدها 

ثم غسلت يديها وجففتهما وخرجت إلى الباب واضعة الوشاح على رأسها بعشوائية وكانت ترتدي عباءة بيتي مناسبة...

داهم أنفها عطره القوي قبل أن ترفع عينيها إليه. اضطربت خفقاتها وهي تتلاقى بعينيه الخضراوين واقفًا أمام باب شقتها بقامته الشامخة ينظر إليها بصمتٍ وإمارات الانزعاج تعلو محيّاه...

قال بنبرة حادة...

"رنيت عليكي.. وتليفونك اتقفل بعدها..."

كانت تودّ أن تصرخ في وجهه وتخبره أنها هي من أغلقته لكنها أمامه تتضاءل شجاعتها فاكتفت بأن قالت بخفوت...

"فصل شحن..."

أخرج صالح نفسًا طويلًا خشنًا وهو يقول بهدوء...

"على العموم أنا كنت جايب ده لملك... وصليه ليها... وكل سنة وهي طيبة."

نظرت إلى يده الممدودة بحقيبة هدايا لم تأخذها منه وسألته...

"إيه اللي إنت جايبه ده؟"

رد صالح بصوتٍ حانٍ....

"فانوس... متعود أجيبه لأبرار كل سنة والسنة دي تختلف عشان ملك معانا..."

لماذا لمستها الجملة بكل هذا الدفء ومع ذلك شيطانها يغلبها شاعرةً بأنه يشفق عليها هي وابنتها. رفعت وجهها بإباء رافضة....

"كتر خيرك... بس أنا جبت لملك خلاص."

اهتزت ملامحه قليلًا وعبس معقبًا....

"وإيه المشكلة يبقى معاها ده كمان؟"

قالت بأعصاب مشدودة....

"بس إحنا مش محتاجين إحسان من حد."

تغيّرت ملامحه أكثر في وجوم وتبعها بكلمات مستنكرة....

"إحسان؟!.... ومين قال إني لما أجيب فانوس لبنتك يبقى دا إحسان...أنا جبت لها زي ما جبت لبنتي...إيه الكلام الغريب ده.... "

ظلّت شروق واجمة وجهها محمر غضبًا بينما عيناها تنطقان باللوم...

فقال صالح بصبر....

"النبي قبل الهدية... وصليها ليها... "

وضع الحقيبة عند الباب وهو يستقيم يحرك حبات السبحة بين أصابعه ثم عاد إليها بعينيه الهادئتين قائلًا....

"واعملي حسابك بكرة هروح معاكي لسمسار الشقة أشوفها... وأشوف المكان اللي هتقعدي فيه...."

عبست بشدة معقبة...

"وإيه لازمتها تيجي معايا؟... أنا اتفقت وبعد رمضان هنقل..."

رد صالح بصوت جاد حازم....

"ليها لازمة. الحاجة أبرار وصتني إني أشوفها ونتطمن قبل ما تتحركي من هنا."

لمعت عيناها بالتمرد رافضة....

"كتر خيركم بس أنا مش محتاجة واصي  عليا..."

قال بهدوء مستفز لأعصابها....

"بلغي الحاجة بالكلام ده وساعتها لو قالت سيبها على راحتها... هنفذ."

كان رده مغيظًا مما جعلها تقارعه من بين أسنانها....

"إنت عارف إني مش هقدر أقولها الكلام ده."

نظر إليها بنظرة مهيبة من عينيه الخضراوين وعقب ببطء...

"بس تقدري تقوليه ليا أنا... عادي؟!"

بلعت ريقها بتوتر ثم شنّت هجومها عليه فجأة أجفله للحظة....

"ما تفكرش إني مسامحة في اللي إنت قولته فوق السطح.... "

عقب صالح بتساؤل....

"عشان كده ما بقتيش تخرجي من شقتك غير على شغلك..."

تحركت شفتيها بشراسة...

"الأحسن إني أتجنبك... مش هستحمل حرقة دم أكتر من كده..."

سألها بنظرة هادئة...

"كلامي حرق دمك أوي كده؟!"

أسبلت جفنيها ويدها تتشبث بحرف الباب كمن يستمد منه القوة وقالت بغصة مريرة...

"كلامك وجعني..."

نظر صالح إلى وجهها المنحني بألم فقال ما أملاه عليه قلبه دون تفكير....

"ألف سلامة عليكي من الوجع..."

شهقت دون صوت وهي ترفع عينيها إليه فصدمها التعبير الدافئ في عينيه. لم تكن مستعدة لرؤية هذا الوهج المنبعث منهما نحوها...

ارتبكت بشدة ورجفة خاصة سرت على طول ظهرها وكأن كلماته لمستها بل احتوتها... ويا
له من احتواء...

"شــروق..."

توقف.... أرجوك توقف... قلبي غير قادر على التحمل...

كيف يمكن أن يكون اسمها بهذه الروعة على لسانه وبين شفتيه وكأنه ينطق تعويذة غرامية...

عاد ليسحرها بالكلمات سارقًا أنفاسها المضطربة وسالبًا عقلها مكملًا ضياعها المقبول معه بتلك الكلمات التي نطقها بصوتٍ أجش معتذرًا عمّا بدر منه سابقًا....

"حـقـك علـيـا... ما قصدش أوجعك أو أجرحك... إحنا أكبر من إننا نتصرف كده... 
اللي قولته كان لمصلحتنا..."

عندما لم يجد منها ردًا دقق النظر في ردة فعلها ليرى تأثيره الواضح عليها.. شفتيها فارغة قليلًا بدهشة وعدم استيعاب وجهها متورد بعينان رغم ضياعهما متوهجتان
بجمالٍ فاق الوصف...

أشاح صالح وجهه عنها عن تلك اللوحة...الـ الـفـاتـنـة...

تنحنح صالح قائلًا وهو يوليها ظهره صاعد
الدرج....

"هستناكي بكرة الصبح قبل ما أروح المصنع نروح نشوف المكان اللي هتسكني فيه... وأطمن أكتر عليكي إنتي وبنتك."

اختفى من أمام عينيها المتجمدتين في مكانهما بينما كلماته تتكرر مجددًا على مسامعها بنفس المشاعر والدفء...بينما 
عطره يتوغل إلى أنفها يشاركها اللحظة
بجنونٍ يوازي خفقاتها المرتفعة...
.............................................................
في صباح اليوم الثاني وبعد أن حدثتها الجدة أبرار عبر الهاتف حول ضرورة ذهاب صالح معها إلى مسكنها الجديد والاطمئنان عليها وعلى ابنتها من حيث المكان وسكان العقار قبل أن تنتقل كما تنوي...

خرجت شروق من البوابة الحديدية وكانت ترتدي طقمًا بسيطًا عبارة عن تنورة جينز ضيقة تعلوها بلوزة تلائمها والوشاح يغطي رأسها....

كانت عيناها كحيلتين وتضع ملمع شفاه على شفتيها...

فتحت باب السيارة وجلست على المقعد المجاور له بحرج ثم ألقت التحية بصوتٍ خافت.

أعطاها صالح نظرة جانبية ثم شملها بنظرة كاملة جعلت ملامحه تكفهر من أناقتها المبالغ فيها وارتدائها لمثل هذه الملابس اللافتة....
❤️❤️❤️


أعطاها صالح نظرة جانبية ثم شملها بنظرة كاملة جعلت ملامحه تكفهر من أناقتها المبالغ فيها وارتدائها لمثل هذه الملابس اللافتة....

لا يعلم ما مشكلة النساء مع الجلباب...

غريبات هنّ ألا يرَين أنفسهنّ جميلات في الأثواب الفضفاضة؟ ألا يجدن في الحشمة جمالًا وعفّة؟...

هل أصبح استعراض تفاصيل الجسد والقوام قمة التحضر ومن يتدخل يُعد من أهل الجهل؟!...

ولماذا تُتعب نفسها بغطاء الرأس؟ فلْتنزعه
فهو لا يشكل فارقًا...

زفر صالح باحتجاج واضح ورد التحية من تحت أسنانه....

"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..."

ارتفع حاجب شروق وقالت بوجوم...

"هو أنا اتأخرت عليك؟... ولا إنت جاي معايا غصب عنك؟"

رمقها صالح شزرًا مستهجنًا...

"مين هيقدر يغصبني شايفاني عيل صغير.. "

هتفت بعفوية...

"مقصدش..... إنت سيد الناس..."

تبرم صالح محتجًا....

"وطالما أنا سيد الناس...كحلتي عينيك ليه وإيه اللي حطاه ده...... وإيه اللبس ده... "

ارتجف قلبها بين أضلعها بينما أسبلت جفنيها تُخفي ارتباكها تفرك يديها في حجرها ثم 
قالت بعد لحظة صمت بثبات

"إنت كده هتتأخر على شغلك..."

فيض من المشاعر اجتاح صدره فلفظ بتهور لم يكن من شيمه يومًا....

"بتعانديني يا شـروق؟"

رفعت عينيها إليه مندهشة وقد صدمها وهج التملك في عينيه الخضراوين فقالت بصرامة وعناد....

"أم ملك... اسمي أم ملك..."

شعر كأن أحدهم سكب عليه دلوًا من الماء البارد فتسمّر في مكانه بلا حراك ينظر إليها بقوة تكاد تبتلعها في ظلمات غضبه...

بينما هي تجاهلته ناظرة إلى النافذة...

فمن هو حتى يفرض عليها ما ترتدي وما تضع؟....

ألم يُخبرها أن تبتعد عنه وعن عائلته؟

ألم يطردها من فوق السطح بمنتهى القسوة والمهانة؟ من هو كي يتحكّم بها؟

لن تضع حياتها بين قبضة رجل مجددًا... حتى لو كان صالح الشافعي.

"تمام يا أم ملك... العنوان فين؟"

سألها صالح بخشونة وهو يدير المحرك فقالت دون أن تنظر إليه...

"اطلع يا شيخ.... وأنا هقولك في الطريق..."

وقف صالح معها في ردهة الشقة الفارغة وعيناه تلتقطان كل زاوية فيها بينما كان صاحب الشقة يتحدث بصوتٍ عالٍ مزعج
يعدّد المزايا بحماس كأنه يبيع في قطار...

"وبالصلاة على النبي... الشقة هنا شرحة
وبرحه فيها مطرحين وصالة وحمام ومطبخ
مفيش بعد كده وإيجارها بسيط خالص... ٨٠٠ جنيه ومش هاخد منك مقدّمة كمان..."

غمرتها السعادة والارتياح وابتسمت ناظرة إلى صالح تنتظر رد فعله رغم أنها كانت معترضة من البداية على مجيئه معها !.

نظر إليها بطرف عينيه ولم يتكلم. ظل ينقل نظراته بين أركان الشقة وبين ذلك الرجل الغير مريح و الذي كان يختلس النظر إليها... وإلى جسدها.

سحب صالح نفسًا طويلًا خشنًا كاد معه أن يخلع أزرار قميصه...

قالت شروق بابتسامة فاتنة...

"بصراحة الشقة عجبتني... وناوية أسكن 
فيها و..."

قاطعها صالح موجّهًا حديثه للرجل...

"كنت قايل لها إن الشقة فيها ناس ساكنين
ومش هتأجرها غير بعد رمضان... بس أنا شايفها فاضية ومفيش حد فيها!"

أومأ الرجل مشيرًا بيده إلى الغرفة المغلقة بالقفل قائلاً باستفاضة...

"ما السكان اللي فيها شباب بيجوا عالنوم
والأوضة المقفولة دي أوضتهم وناويين يسيبوها بعد العيد إن شاء الله."

سأله صالح بوجوم....

"وكانوا مأجرينها بكام؟"

رد عليه باقتضاب.... "بألف ونص."

انعقد حاجبا صالح بتساؤل... "واشمعنـا؟"

اندفعت شروق بغيظ...

"هو إيه اللي اشمعناا؟! انت عايزه يغلي الإيجار عليا؟"

ألقى عليها نظرة خطيرة هامسًا من بين أسنانه....

"ممكن تسمعي وإنتي ساكتة؟"

ردت بنفس الهمس لكن بشراسة أنثوية...

"إنت كده هتبوظ البيعة... أنا ما صدقت"

تجاهل عبارتها الغاضبة وسأل الرجل بنظرة مهيبة...

"اشمعنا هي بـ٨٠٠؟ وليه مش هتاخد مقدّمة مش فيه عقد؟... "

شعر الرجل أن أمره انكشف فألقى القنبلة في وجهيهما....

"لا مفيش عقد."

صرخت شروق بملامح مذهولة غاضبة...

"ليه مفيش عقد؟!"

"استني إنتي..."

أوقفها صالح بنظرة ترجف لها الأبدان ثم خطا خطوة نحو الرجل وسأله بصوت خافت... هدوء ما قبل العاصفة...

"هات من الآخر... وقولي اللي في ضميرك."

تحدث الرجل بصفاقة...

"مفيش حاجة في ضميري يا بيه. أنا كنت مفكّرها ست منكسرة وملهاش حد فقولت
أأجّر لها الشقة الشهرين دول لحد..."

ثم ألقى نظرة نحوها تحمل لمحة من نوايا
غير شريفة...

"لحد ما نشوف سكتها إيه... ما هي مطلّقة وممكن تكون لمؤاخذة يعني ا.."

وقبل أن يُكمل عبارته وجد نفسه يطيح أرضًا بعد لكمة أصابت فكه.

اتسعت عينا شروق شاهقة وتراجعت إلى الخلف برهبة...هل هذا هو الشيخ الهادئ بشوش الوجه من أطاح الرجل بقبضة واحدة مثل المصارعين؟.... إنه صالح الشافعي...

ان الغضب قادر على تغيير شيم الإنسان.

صرخ الرجل باهتياج...

"وطالما هي غالية عليك أوي كده... راميها ليه ؟!... "

في تلك اللحظة بلغ صالح ذروة غضبه وألقى نظرة كفيلة بإحراق الرجل حيًّا.

أخذ خطوة ناحيته ينوي البطش به لكن شروق وقفت أمامه وبكلتا قبضتيها أمسكت بذراعيه

"صالح... صالح كفاية عشان خاطري"

تقلص حاجباه وتصلبت ملامحه كالحجر
وخلف الصمت... نيّة شرسة لهذا الفاسق.

نظر إلى عينيها اللامعتين بالدموع إلى همستها الراجية إلى لمستها المرتجفة على ذراعيه... فزفر غاضبًا وأعاد عينيه إلى الرجل الذي بدأ الخوف يتسلل إليه بعد أن رأى نظرة صالح والغضب المسيطر عليه...

عادت شروق تهمس مجددًا... بصوت 
متهدّج....

"عشان خاطري يا شيخ... كفاية."

في السيارة كانت تجلس بجواره لكنها لم تتوقف عن البكاء وعيناها إلى الأرض تشعر بالخزي والعار بعد حديث ذلك الرجل المهين...

"ممكن تبطّلي عياط... كفاية يا شروق..."

قالها صالح بنبرة حنونة وهو يشعر بثقل فوق صدره لمجرد رؤيتها تبكي منهارة بهذا الشكل.

كان يود الآن أن يتركها ويذهب إلى ذلك الفاسق ليكسّر عظامه واحدة تلو الأخرى لعلّه يشعر ببعض الراحة أو يخفف عنها بعضًا من وجعها.

أخرجت شروق المحرمة التي تخصه من حقيبتها كانت لا تزال تحمل عبق العود
وقالت وهي تجفف دموعها بوهنٍ مرير...

"أنا مش عارفة فيه إيه بالضبط... الكل طمعان فيّا... واللي ناصب ليا المحاكم... وكأني مذنبة... مذنبة عشان اتطلقت...اتطلقت بعد ست سنين دوقت فيهم المر مع واحد ردّ سجون لا بيفرّق بين الحرام والحلال..."

لم يعلّق على حديثها رغم أنه تفاجأ بكمّ الحقائق التي عرفها الآن عن طليقها....

"ممحكن تهدي وتبطّلي عياط... هنحلها... 
مش عايزة تمشي؟"

أومأت برأسها وقالت باقتضاب...

"أيوه عايزة أمشي... مش عايزة أقعد معاك."

التوت ابتسامة صالح بسخرية خفيفة وقال..

"جزاكِ الله كل خير... على العموم أنا هاشوف لك شقة إيجار وسعرها كويس وفي مكان مضمون... اتفقنا؟"

زمت فمها بحرج...

"وانت ذنبك إيه تفضل تلف وتدور عشاني؟"

أدار صالح محرّك السيارة وقال بجدية...

"مفيش لف يا أم ملك... أنا هكلم كام سمسار أعرفهم وهم هيدوّروا بمعرفتهم."

لمعت عيناها بأمل فقالت بلهفة...

"بس تكون قريبة من مدرسة ملك..."

"ده شرط أساسي... متقلقيش."

"كتر خيرك... هتعبك معايا."

انطلق بالسيارة دون تعليق. فهو يدرك أنه بطريقة ما كان سببًا في إيصالها إلى هذا الوض...، بسبب معاملته وردود أفعاله
القاسية تجاه كل تصرّف تقوم به.

عندما وصلت شروق إلى باب شقتها كان
صالح يرافقها ينوي الصعود لجلب شيء
ما قبل ذهابه إلى العمل.

وقبل أن تضع المفتاح في الباب...فُتح الباب وطلّ منه آخر وجه كانت تتوقع رؤيته هناك...

"لسه بدري يا أم ملك..."

تراجعت شروق إلى الخلف بصدمة وعيناها متسعتان وهي ترى عنايات  داخل شقتها بشحمها ولحمها تقف وقد فتحت الباب للتو.
وإلى جوارها ظهرت ابنتها تنقل نظراتها البريئة بينها وبين صالح....

لكن عنايات كانت توزّع نظراتها بين الاثنين باتهامٍ صريح وابتسامتها البغيضة تشقّ شفتيها الجافتين وندبتها البشعة..... تكشف عن سنتها الفضية...

"مش قولتلك يا ملك... أمك مش فاضية..."

قالتها وهي تنظر إلى صالح الشافعي والحقد يتفجّر من بين كلماتها ينهش صدرها كمخالب حادة...

فكيف لرجل بهذه الهيبة والرجولة التي لا تخطئها العين أن يميل إلى امرأة بائسة
بشعة كانت يومًا زوجة ابنها ؟!...

أوقعت شقيًا في هواها وقيدت شيخًا في حبها...فمن سيفوز بها في النهاية؟!

.............................................................
عندما يطول الاعتياد على الظلام في عزلةٍ مقبولة يصبح مع الوقت ملاذًا... تتعايش معه بكل جوارحك متأقلمًا... وإن أتاك نورٌ ولو خافتًا يصبح تهديدًا لا مفاجأةً سارّة.

نخشى النور أحيانًا فخلفه حقائق تُكشَف وأسرار تُروى... نميل إلى الظلام فهو كعباءةٍ سوداء تستر تفاصيلنا أوجاعنا مخاوفنا
وكثيرًا من ذنوبنا !...

سحب نفسًا طويلًا توغّل إلى صدره المحترق بقوة غير قادر على إطفاء نيران قلبه...

ماذا يفعل؟ لماذا هو هنا؟... هل سيعود إلى هذا المجال بعد كل العهود التي أخذها على نفسه
يعود إلى عالم الأزياء إلى التصميم والتفصيل والتنفيذ.... أيعود بعد موت الرجل الذي ما زالت دماؤه عالقة في عنقه؟

"ده المكتب اللي بابا قالك عليه..."

قالتها نغم، وهي تقف في منتصف هذا المكتب البسيط الذي لا يخلو من الأناقة والفخامة والتي تطال كل جزءٍ في هذا الصرح الكبير.

كان يقف خلفها ينظر إلى ما تنظر إليه يتابع حركاتها بملامح صخرية جامدة...وقد مات التعبير في عينيه وحلّ الجمود في كل
شيء...

نظرت إليه لترى ردّ فعله...فهو قد ارتقى فجأة بين ليلةٍ وضحاها من حارس شخصي إلى مصمم أزياء سيتم الاعتماد عليه بدلًا من صاحب هذا الصرح الكبير... ولو مؤقتًا.

لقد نال ما لم ينله أحد قبله...

ترى أن التعبير قد مات في عينيه والجمود يأخذ الحيّز الأكبر لكنها تلمح خيوطًا رفيعة من التردّد يحاول إخفاءها... لكنها تظهر... تظهر لها هي فقط...

بلعت ريقها محاولة أن تكون طبيعية معه حتى يخرج من قوقعته تلك...

"عجبك المكتب مش كده؟"

"كويس..."

كلمة بسيطة نطقها جعلتها تزام شفتيها وهي تقترب منه بهدوء...

"أيوب إنت هتفضل كده؟"

نظر إلى عينيها وأجاب بوجوم...

"مالي يعني؟... ما أنا كويس..."

قالت بضيق..."لا.... مش كويس..."

ترجاها بنظرة من عينيه قائلاً...

"بلاش نتكلم في اللي اتقال في المستشفى..."

فقالت بنظرة أنثوية تحتويه وبحنو...

"مافيهاش حاجة لو اتكلمنا وطلعت اللي جواك..."

هزّ رأسه بجمود رافضًا...

"بس محدش هيفهم اللي جوايا..."

قالت مشددة.... "أنا هفهمك..."

سألها منزعجًا.... "وليه بقى؟"

قالت بغصة مريرة...

"يمكن... عشان حاسين بنفس الإحساس...
الذنب..."

أشاح بعينيه بعيدًا عنها ناظرًا إلى نقطة بعيدة وهو يقول بصوت مثقل بالجراح....

"أنا مش هقدر أقعد على ماكينة خياطة تاني...
مش هقدر... صوته وهو بيستنجد بيا... صوته وهو بيطلع في روحه بين إيديا..مش هقدر."

شعر بأن الأرض تميد به والهواء يتقلص من بين رئتيه وشعور هائل بالاختناق انتابه وكأن الحوائط تطبق عليه. فوضع يده على ربطة عنقه يحاول نزعها ووجهه متوهج بلون الدماء...

خفق قلبها بلوعة وهلع عليه فاقتربت منه تحاول مساعدته... ساعدته على الجلوس على أقرب مقعد وجلست هي بملابسها الفاخرة على ركبتيها أمامه على الأرض...

"اهدى... خد نفس... اهدى يـا أيـوب..."

بدأت تنطق تلك الكلمات وهي تنزع عنه ربطة عنقه يليها أول أزرار قميصه هامسة بصوت مرتجف...

"خد نفس براحة... تحب أجبلك ماية..؟"

هز رأسه رافضًا وهو يتابع الحديث ويلقي اللوم على نفسه بقسوة...

"لو كنت إديت البلطجي ده الفلوس اللي كان عايزها ما كانش اتهجم على المحل وفش غليله في الراجل الكبير..."

ترقرقت الدموع في عينيها وهي تُخرج من جيبها علبة مناديل صغيرة أخرجت منها واحدة وبدأت تمسح بها قطرات العرق 
عن جبينه ووجهه...

أما هو فكان كأنه في عالمٍ آخر لا يشعر بشيء سوى تلك اللقطات السوداء التي تتكرر بعذاب الضمير أمام عينيه...

"كان ناوي يسرق اللي في المحل... بس هو اللي منعه وقتها طلع المطواة وطعنه أكتر من خمس طعنات ولما وصلت كان صايح في دمه على الأرض..... بيصرخ من الوجع..."

أغمضت نغم عينيها وانسابت دمعتان على وجنتيها متخيلة بشاعة المنظر وشعور أيوب وقتها والعجز والحيرة اللذين وقع فيهما...

أضاف أيوب بصوت متحشرج وعينين تكسوهما حمرة الانهيار كأن النهاية تقف فيهما...

كانت نهاية مأساوية فعلا أصبح فيها يعاني من عذاب الضمير وكلمة يا ليتني... وما 
أصعب تكرارها كل يوم بلا جدوى...

"في لحظة ذهول مني حسيت بخط نار في رقبتي والدم بينزل منها. وقتها ضربني ولما دافعت عن نفسي وضربته الناس اتدخلت وبلغت البوليس. وقتها جريت على أقرب مستشفى بالراجل..."

"بس كان خلاص... مات وهو بيشهد على إيدي..."

مسحت نغم دموعها وهي تمسك يديه وتتّكئ عليهما بقوة قائلة أمام عينيه الضائعتين...

"أيوب إنت مالكش ذنب في اللي حصل... عمره كان كده..."

نظر إليها فرآها جالسة على الأرض أمامه تتشبث بذراعه تمنحه دعمًا ومساندة هو في أمس الحاجة إليهما فأخبرها بصوت متألم...

"أنا السبب في موته يـا نـغـم..."

هزّت رأسها نفيًا وقالت بصوت حازم...

"إزاي بس؟! ما انت حاولت تنقذه... واتأذيت زيه... إنت ما كنتش بتتفرّج عليه يا أيوب
إنت عملت كل اللي تقدر عليه..."

تعلق بعينيها بصمت ولم يقدر على الرد 
فقالت بمؤازرة...

"بلاش تدفن نفسك بالحياة... وتكره حاجة بتحبها..."

هزّ رأسه وبصوت ميت قال...

"أنا ما بحبهاش يا نغم... دي شغلانة زي أي شغلانة..."

قالت نغم بنبرة مشددة...

"بس هي مش شغلانة عادية بالنسبة لك... دي بتعبر عنك... إنت تستحق تكمل في حاجة بتحبها وبتعبر عنك... بلاش تقسى على
نفسك يا أيوب..."

قال بصوت واهن...

"مش عايز أأذي حد تاني بسببي..."

لانت شفتيها في ابتسامة حزينة جميلة في رقتها....

"مستحيل تأذي حد... اللي زيك ما يعرفش يأذي..."

سألها مستنكرًا...

"تعرفيني كويس؟!"

قالت بجديّة واثقة...

"من فترة قصيرة بس كانت كفيلة تخليني أقول كده... وأكتر كمان..."

فتح الباب فجأة عليهما....

"نـغـم سألت عليكي..... قالوا إنك هنـ..."

توقفت جيداء عن التحدث بعد أن دخلت دون استئذان وقد انتبهت إلى هذا المشهد العجيب نغم تجلس عند ساقي رجل...

بكامل أناقتها وفخامتها ومكانتها في هذا المجتمع الراقي تجلس عند ساقَي أيوب عبدالعظيم... على الأرض !

لماذا فعلت هذا؟ ولماذا تبكي؟ وما باله هو الآخر غير طبيعي بالمرة؟!

ماذا يحدث بين هذين الاثنين؟! هل هما حبيبان؟! عجبًا! رفضت الكثيرين الأوسم والأغنى كي تقع عند قدمي رجل يعمل لديها سائقًا !...

استقامت نغم واقفة تنفض التراب عن بنطالها وهي تسأل صديقتها بحرج واضح...

"في حاجة يا جيداء؟"

مطّت جيداء شفتيها بعد أن أنهت توزيع نظراتها المندهشة والمزدرية عليهما قبل
أن تقول بقنوط....

"في اجتماع كمان نص ساعة... والأخبار مش في صالحنا... ولا في صالح المصمّم الجديد..."

رمقت أيوب باستهجان فبادلها النظرة ببرود وكأن الحديث لا يعنيه...
...............................................................
اتسعت عينا نغم وهي توزِّع نظراتها على الموظفين الجالسين حول طاولة الاجتماع.

"يعني إيه رافضين يدونا قماش؟!... وإيه الأسعار الخرافية دي.... ليه دا كله؟!"

كان أيوب يشاركهم الجلسة لأول مرة حول طاولة الاجتماع وقد عرف الجميع أنه تم تعيينه مصمّم أزياء معتمدًا عليه. فرحت ليان كثيرًا بهذا الخبر فهي تعرف مهاراته جيدًا

بينما كان معظم من في الشركة في حالة استنكار لهذا التغيير المفاجئ وغير المتوقع فمن حارس شخصي إلى مصمّم أزياء لشركة الموجي !...

تولى تيم الرد عليها وهو يقول بشكّ...

"انا حاسس ان في حد عايز يعجزنا لما عرف
اننا هنقدم في مسابقة الفاشن ويك...."

شاركت جيداء بالقول مؤيده...

"مين غيره بيحارب الشركة عشان تقع...جاسر العبيدي أكيد...."

قالت ليان بغيظ وهي تتكئ على قلمها
الامع..

"يبقا هو اللي كلم الموردين وقلبهم علينا..
عشان كده رفضوا يبيعوا لينا...ولو عايزين
هناخده بسعر يخسرنا مش يكسبنا...."

عادت ليان بعيناها الى نغم سائلة بقلق...

"هتعملي إيه يانغم....احنا لازم نشارك في المسابقه مفضلش عليها كتير...."

بدأت نغم تنقر بأظافرها المطلية على سطح المكتب بإيقاع هادئ لكنه مقلق وعيناها تراقبان المتحدثين بلا انقطاع...تمامًا كأيوب الذي يجلس ينصت لهما في صمت ثقيل...

هتف تيم بقنوط....

"ماهو ياجماعة منقدرش نستخدم قماش أقل من الجودة المطلوبة....."

اكدت ليان بحنق بالغ...

"ولا نشتري بالسعر ده...دا خراب بيوت...."

قالت جيداء بتافف.....

"انا من رأيي نعتذر....كده كدا لو لقين القماش
المطلوب بالخامات اللي عايزانها..."

رفعت عينيها على أيوب في استهانة
واضحة واضافت....

"مش هنلاقي المصمم اللي يقدر ينافس جاسر العبيدي واللي زيه سوري يا أيوب....بس انت متجيش حاجة جمب كمال الموجي وموهبته...."

لم يرد عليها أيوب بل ظلّت عيناه مسمّرتين عليها خاليتين من أي تعبير إنساني كأنها لم تكن... كأنها مجرد هواء لا يُرى ولا يُسمع. وتلك في عُرف أيوب أقل نظرة يستحقها من يتعمد التقليل من شأنه !.....

اندفعت ليان بقوة ترد عليها.....

"مع احترامي ليكي ياجيداء يمكن عندك حق 
في ان كمال الموجي واحد مش هيتكرر...

ثم التفتت إلى أيوب تتابع حديثها بثقة كبيرة
أمام عينين رماديتين تشتعلان بالغيرة.....

"لكن كمان أيوب عبدالعظيم موهبته بتتكلم عنه وأنا متأكده انه هينجح وبقيادته هنصمم أفضل تصاميم تبهر حكام اللجنة كلهم وعلى رأسهم جاسر واتباعه....."  

"يمكن انتي أدرى......" التوى فم جيداء في إبتسامة صغيرة ماكرة وعينيها على صديقتها بنظرة تحمل لؤمًا خفيًا

"ويا ترى نغم رايها من راي ليان؟....." 

اخفت نـغـم عاصفة مشاعرها بنظرة حازمة
جادةثم التفتت للجميع وقالت بثبات....

"انا من رايي نركز في النقطة الأهم...."

ثم نظرت الى أيوب بعينين تغليان بالغضب وكأنها تحمله ذنب كلمات ليان ومدحها المبالغ فيه عنه...وكأن صمته شراكة في الجريمة !...

"القماش هنجيبوا منين؟!...."

هتف تيم خلفها....

"والأهم من القماش الخامة والجودة...." 

قالت ليان بحرارة....

"والسعر المعروف مش اللي سمعناه ده..." 

هتف أيوب أخيرًا متحدثًا بعد أن ظلّ صامتًا طيلة الجلسة يراقب ويستمع منتظر دوره
بصبرٍ......

"انا أعرف تاجر جملة عنده القماش اللي تطلبوا مستورد كمان.... وبسعر السوق لا
هيغلي عليكم ولا هينقص...."

ضاقت عينا نغم بتساؤل.....

"والخامة  والجودة؟!..." 

ابتسم في وجهها قائلا بمرح طفيف....

"دي نقطة متتحكاش....تعالي بنفسك وشوفي.." 

تهللت أسارير تيم بعد هذا الإنجاز فقال
بجذل.....

"طب خلاص ياجماعة كده محلوله..... أيوب حلها...." 

هتفت ليان بسعادة وفخر وهي تنظر إلى أيوب.....

"مش قولتلكم أيوب عبد العظيم حالة استثنائية يا جماعة !"

ابتسمت جيداء بسخرية فيما جزَّت نغم على أسنانها تكبح جماح غضبها وهي تنظر إليه بينما كانت عيناه الحزينتان معلَّقتين بعينيها الرماديتين شتاء يأتي في كل الفصول...

متأكدًا هو أنه لا يوجد شيء استثنائي سوى هاتين العينين وصاحبتهما !...

...............................................................
ترجّلت نغم من السيارة برفقة أيوب، الذي أشار إلى أحد المقاهي الشعبية القديمة...

تلك التي تحمل عبق الماضي وتعلّق على جدرانها صورٌ لبعض الفنانين القدامى. مقهى شعبي عتيق تختلط فيه رائحة القهوة الثقيلة بدخان المعسّل...

عقدت نغم حاجبيها بتوجس وهي تراه يقترب من رجل بعينه يجلس هناك.

كان يرتدي جلبابًا كحليًا وطاقية بيضاء وبين يديه خرطوم الشيشة يسحب من المبسم وينفث الدخان ببطء ومزاجٍ عالٍ...

بينما عيناه تتأملان حجارة الدومينو كمن 
يقرأ كتابًا مألوفًا. على الطاولة أمامه صفٌ 
من الأحجار المتراصّة وبين أصابعه حجرٌ منها...

"أحلى مسا على أحلى تاجر قماش فيكي يا إسكندرية..."

رفع الرجل عينيه نحو أيوب ثم زمّ شفتيه مقتضبًا...

"إيه اللي فكرك بيا يا بن عبد العظيم؟"

هتف أيوب بمحبة...

"الدنيا لما بتضيق بيا... ما بلاقيش غيرك في وشي... عامل إيه يا عمنا؟"

أشار الرجل بيده بتململ...

"بلاش رغي كتير... هات كرسي والعب دور معايا... مش لاقي حد أغلِبه."

رد عليه أيوب بزهوٍ....

"قصدك يغلبك... إنت ناسي إني حريف زي أبويا؟ ولا إيه؟ والدومينو دي لعبتي!"

أشار له مجددًا لكن بابتسامة باردة...

"طب اقعد وورينا..."

سحب أيوب مقعدين واحدًا له والآخر لنغم التي أشار لها بالجلوس هامسًا...

"اقعدي يا نغم..."

نظرت إلى المكان من حولها بقرف ثم إلى الطاولة أمامهما وقالت بتهكُّم...

"نقعد فين؟ إحنا جايين نلعب دومينو؟!"

عقّب الرجل وعيناه لا تفارقان أحجار الدومينو يتفحّصها كما لو كانت أطفاله الصغار...

"الآنسة خُلقها ضيق وهتتعبك... خد بالك على قلبك الحب زي الطُعم لو كلته يبقى الجاي  مبقاش بتاعك..."

التوى فكُّها مستهجنة...

"وده تاجر قماش ولا شاعر؟! يلا نمشي..."

أوقفها أيوب هامسًا بنظرة حازمة غير
متهاونة...

"اسمعي الكلام... هو ده اللي هيساعدنا. اقعدي..."

أطبقت على شفتيها بعصبية وجلست على مضض تتابع لعبهما بحنق نادمة على ذهابها معه....

بينما بدأ أيوب اللعب قائلاً...

"ابدأ اللعب يا عم حميد... وورينا شطارتك..."

سأله حميد بعد دقيقتين من الصمت بينما كانت الأحجار تصدر الصوت الوحيد بينهما..

"إيه اللي فكرك بيا يا واد؟"

رد أيوب بتركيز شديد على اللعب...

"محتاج قماش... واللي تطلبه..."

ارتفع حاجب حميد بدهشة حقيقية..

"إنت رجعت تشتغل تاني؟!"

رد أيوب باختصار...

"يعني... مش بظبط.. شغال عند ناس فترة..."

قال حميد وهو يرفع عينيه إلى نغم...

"والحلوة من ضمن الناس..."

وحين التقت عيناه  بعينيها الرماديتان رأى الكثير واكتشف ما لم تقع عليه عيناها بعد !

هتفت نغم بعجرفة...

"إيه حلوة دي؟! اسمي نغم... نغم الموجي."

ابتسم حميد ساخرًا...

"الموجي؟!.. أول مرة أسمع عنه... بس واضح إنه معاه فلوس... عشان كده نافشة ريشك على الخلق..."

امتقع وجهها عابسة بشدة ونوت المغادرة فورًا...

"إيه نافشة ريشك دي؟! أيوب يلا بينا... 
واضح إننا بنضيع وقتنا هنا.."

عقب حميد وهو يتابع اللعب بنشوة...

"خُلقك ضيق وده مش صح في اللي جاي عليكي..."

قالت نغم بامتعاض...

"إنت مخاوي ولا إيه؟ كلامك كله ألغاز..."

أجابها أيوب مبتسمًا...

"عم حميد كلامه كله حِكم... خدي النصيحة منه واعملي بيها..."

طالت نظراتها حول هذا الرجل... بدا مسنًّا لم يكن يلفت النظر من بعيد رجل هادئ ملامحه يكسوها الوقار وعيناه تنظران بلا رغبة في الجدال...

لكن حين يتكلم تتبدد الملامح ويتحوّل الحديث إلى ألغاز تُفجع من يصغي إليها...
لكنها توقظ رغبة في الفهم...فسألته بصبر باحثة عن خيط البداية....

"وإيه هي نصيحتك يا عم حميد؟"

تحدث الرجل بنفس اللهجة المبهمة...

"شايفِك واقفة في نُص البحر... طوق نجاتك في إيدِك بس سايبة نفسك للموج ياخدك ويرميكي... ومستنيّة حد ينجدك..."

قطّبت جبينها أكثر في شك....

"إنت غريب أوي... وفين طوق النجاة ده وأنا في نص البحر؟"

أجابها بإيجاز....

"نفسك... بتعرفي تعومي ولا لأ؟"

أكدت نغم بتردد...

"أكيد بعرف أعوم..."

رد عليها الرجل بحزم دون أن ينظر إليها...

"يبقى ما تستنيش حد وانجدي نفسك بنفسك...وبلاش تثقي في حد ولا حتى ابن عبد العظيم... لأنه بشر مش ملاك..."

رفع أيوب عينيه إلى حميد مضطربًا وهو يصيح معترضًا...

"دي مش نصيحة... ده خراب بيوت!.. ليه يا عمّنا... ده أنا بحبك حتى..."

ابتسم حميد معلنًا عن خسارة أيوب في جولتين الأولى على طاولة الدومينو
والثانية مبهمة...

"كسبتك عشان خوفت...خوفت أكشفك..."

تأفف أيوب قائلاً...

"خلصنا... هتجيب القماش ولا؟!"

نظر حميد إلى نغم الصامتة والتي كانت تعيد ترتيب الحديث في رأسها كلمةً كلمة لعلّها تفهم. ومع ذلك لا تجد حلاً لفك شفرات هذا اللغز سوى أنها لا يجب أن تثق بأحد... حتى هو.... كيف؟!

"عايزة تشوفي القماش يا بنت الموجي؟"

أجابته بهزة خفيفة من رأسها...

"ياريت..."

قال بهدوء...

"تعالوا معايا..."

نهض حميد مشيرًا إلى أحد الأركان البعيدة التي تحوي مخزنًا مغلقًا يُفتح في الطوارئ... يُفتح لكل من يأتي إلى هنا مطالبًا بالبداية... بالقماش !....

فتح الباب الحديدي مُصدرًا صوتَ صريرٍ معدني حادٍّ وهو يفتح ببطء. غمرت أنفَها رائحةُ القماشِ المميزة ومعها أبصرت عيناها المكان الشاسعَ المكتظَّ بالبضائع..

رفوف خشبية تراصت على الجانبين  رُصّت فوقها رُزم من القماش ملفوفة بإحكام بألوان مختلفة زاهية وأخرى داكنة....وانواع متنوعة
فلكل قطعة قماش غرضها.... وينفذ تصميمها 
بما يناسب هذا الغرض تحديدًا..

خطَت خطواتها داخل المكان وهو خلفها ينظر إلى لفائف القماش المرصوصة بنظرة مختلفة عنها نظرةٍ تحمل تقديرًا لكل قطعة ثمينة ولكل لونٍ ملهم....

تنحّى حميد مبتعدًا خارج المخزن وترك لهما حرية التنقّل والمشاهدة...

استدارت نغم إلى أيوب بابتسامة رقيقة
كنغمة ناعمة تَغمُرك بقوة وتَسحرك بشدة.

"كأني أول مرة أشوف قماش... غريب المكان والإحساس اللي حساه حاليًا... كأني لقيت كنز كنز محدّش وصله قبلي..."

أومأ أيوب وهو يدسّ يده في جيبه وعيناه تتنقلان بين القماش خلفها وعينيها... وكأنها لوحة طبيعية تستحق التأمل....

"دا نفس إحساسي كل ما بدخل المخزن هنا.."

مطت نغم شفتيها قائلة....

"ليك حق تمسك فيه... مع انه غريب شوية.." 

سألها أيوب بغموض....

"عشان قالك بلاش تثقي فيا؟!..." 

سألته بريبة....

"وانت شايف انه عنده حق؟...." 

سألها هو بصوتٍ أجش....

"المفروض انا اللي اسألك السؤال ده..." 

قالت نغم مشددة على الكلمات....

"مش هنكر ان كلامه هزني.... بس مهزش ثقتي فيك...." 

بلمحة حزينة من عيناه عقب....

"وتفتكري استحق الثقة دي؟!..." 

عقدت حاجبيها وبملامح مضطربة
سألته....

"انت مخبي عني حاجة يا أيوب؟...." 

لم يطيل النظر إليها بل أشاح بعينيه عنها
مستنكرًا.....

"هخبي عنك إيه.... مجرد سؤال...."

توقف لوهلة يعيد ترتيب أفكاره ثم استرد
قائلا.....

"تعالي شوفي خامة القماش... عشان متشتريش سمك في ماية...."

نفضت نغم وساوس الشك مجيبة عليه 
بعملية.....

"انا خلاص اشتريت وهشتري كل اللي في المخزن...." 

"مش شايفه انهم كتير؟...." 

هزت نغم رأسها نفيًا ثم اتبعت ذلك بتوضيح 
أدق.....

"بالعكس إحنا محتاجين الفترة الجاية لكل لفة
قماش عشان المسابقة وعشان الشغل اللي هيجالنا بعد المسابقة...." 

ثم القت نظرة سريعة بعينين تومضان بالغيرة 
وقالت بنبرة يملؤها البغض...

"إحنا كلنا منتظرين منك نجاح ساحق... بذات
ليان...." 

عقب أيوب جافلا..... "ليان؟!..." 

هزت راسها بعصبية مؤكده...

"قالت ان أيوب عبدالعظيم استثنائي...." 

شقّ شفتيه ابتسامة صغيرة ما لبثت أن اتسعت ببطء حتى شملت وجهه والسعادة تُشرق في صدره كأنها تفتح نوافذ الربيع بغيرتها النارية.

ولكن كيف يأتي من خلف النار ربيع؟ هكذا هي الغيرة طرفٌ يلتوي على جمارها وطرفٌ آخر ينعم بإحساسٍ فريد كأن الربيع زاره وحده... دون غيره !....

"وانتي شايفه إيه؟!..." 

سألها وعيناه تلتقطان بلهفة أول ردة فعل منها
راها تتبرم مجيبة على مضض...

"عندها حق... انت فعلا مميز بطريقتك وبموهبتك... ودي حاجة صعب اختلف
عليها حتى مع ليان...." 

سالها بخبث....

"إيه مشكلتك مع ليان ؟!.." 

قالت بسرعة دون تفكير وهي ترمقه شزرٍ

"المشكلة مش فيها.... المشكلة فيك انت..." 

تسمّرت عيناه عليها بلمعان لا تخطئه عيناها تلك التي ترددت أمام نظراته الملتهمة لغضبها وتهورها وأخيرًا خجلها مما تفوّهت به للتو...

"احنا بنغير ولا إيه؟!..."

بابتسامة ذكورية لا تخلو من الزهو طرح السؤال دون أن يبدو متلهفًا لإجابة صادقة منها فكلّ الصدق قد رآه في ردود أفعالها وذلك كافٍ جدًا.... على الأقل الآن

"اغير عليك انت..... انت بتحلم...." 

ارتبكت بشدة وهي تهز رأسها نفيا بوجه محتقن بالاحمرار....

فقال أيوب بصوت عميق....

"ساعات الحلم بيبقا حقيقه لما نصدقه..." 

خفق قلبها بشدة وهي ترجع خصلة من شعرها
خلف اذنها بحركة عصبية وقالت والمرارة تملأ 
صوتها....

"بس انا معنديش وقت أحلم... او أصدق... 
حياتي اكبر من كده بكتير..." 

ثم إضافة بحسرة....

"عايشة فيلم أكشن زي ما قولتلي قبل كده.." 

رد عليها بتلميح ذكي....

"ساعات الفيلم بيحتاج بطل صعب البطلة
تقوم بدور لوحدها...." 

هتفت بنبرة مثقلة بالجراح...

"مش لو كانت فعلا بطلة... واضح ان عم
حميد عنده حق يمكن فعلا طوق نجاتي
في ايدي وانا اللي مش واخده بالي..." 

سألها بعدم فهم.... "تقصدي إيه...." 

سحبت نفسًا طويلًا ثم قالت بصلابة عازمة
النية.....

"لازم أدور ورا موت اسر العزبي... أكيد هلاقي
دليل يوصلني للحقيقة بدل ما انا غرقانه في ذنب مش ذنبي....." 

هتف ايوب بحرارة وعيناه تحتويها قبل
كلماته....

"معاكي في كل خطوة واي قرار... قوليلي
نبدأ منين....." 

تسارع نبض قلبها بجنون وكأنه يجيب على نداء صوته متفاعلًا معه بكل جوارحه...ابتلعت نغم ريقها في اضطراب وهمست بخفوت....

"هنأجل إي حاجة دلوقتي.. ونركز على شغلنا والمسابقة اللي قربت وبعدها.... هشوف..." 

عقب أيوب بنظرة نافذة تكاد تبتلعها 
في ظلام لا نهاية له....

"هنشوف.... مش هتعملي حاجة لوحدك...." 

زمت نغم شفتيها معترضة رافضة تلك السطوة التي يفرضها عليها منذ أن التقيا.

"أفهم ليه حاشر نفسك معايا؟"

ردّ عليها بصرامة...

"عشان ده بقى أمر واقع بينا."

نظرت إليه ولم تعقب لكن التمرد انتشر على ملامح وجهها وفي عينيها كإجابة واضحة 
على أنها لا تقبل تلك السيطرة منه.

هتف أيوب على نحوٍ مفاجئ...

"أنا معاكي... لو لآخر الدنيا. معاكي يا بنت الذوات....."

غاب التمرّد عنها وحلّ مكانه الصدمة...صدمة جميلة....صدمة الحب تلك التي تأتينا بلا
موعد وتُسعدنا بلا استعداد !

تعلقت عيناها بعينيه والصدمة لا تزال تملأ نظرتها والصمت بينهما... نغمة تلامس الأذنين وتُطرب قلبين يخفقان بلهفة....
..............................................................
من قال إن المراقبة من بعيد تكون فقط للتلصص على عدوك. أحيانًا كثيرة تكون ناتجة عن حرمانٍ كبير هي نظرة تسرقها ممن تحب..

تخطف كل لمحة تصدر منه وتحفظها عن ظهر قلب لتظل تلك المقتطفات هي ما تحيا عليه كل يوم....

في الترام كان يجلس في الجهة المقابلة لها
على بُعد ثلاثة مقاعد بالضبط خلفها يراقبها بصمت.كالعادة كانت تجلس إلى جوار النافذة
لم تضع السماعتين في أذنيها
واكتفت بقراءة كتاب… لكنها لم تُكمل القراءة.
كان قد استقر على ساقيها بعد أن غفت.

لقد غفت بعد دقيقتين من صعودها.. وهذه أول مرة تفعلها هو يضبط مواعيده عليها
ينتظرها كل يوم في الترام يخطف النظرات كالمحروم وينعم في شرودها يشاركها الشرود بتأملها....

يبدو على ملامحها الإرهاق…ربما الدراسة تجهدها كثيرًا والركض خلف تحقيق الحلم ليس سهلًا....

وهو يعرف أنها طموحة ومجتهدة وتعبت كثيرًا حتى دخلت كلية الطب...

يعرف أنها فخر عائلتها يعلّقون عليها الأماني في مستقبلٍ باهر ينتظرها.لذلك مراقبتها من بعيد عذاب لكنه أرحم من الاقتراب منها وتهديد مستقبلها الامع...

فهو على درايةٍ كاملة إن أصبحت معه ضاع كل شيء ولن تأخذ خطوة واحدة إلى الأمام.

علاقتهما ليست فقط معقدة كما يظن من يراها من بعيد هي علاقةً تعجيزية ستدمّر شخصًا حتى تشيّد الآخر ! …

عقد حاجبيه مرتابًا وهو يرى الترام يتوقّف لاستقبال الركّاب من محطة جديدة...

نظر إليها فرآها لا تزال تغفو في سباتٍ عميق والمقعد المجاور لها ما زال فارغًا لم تضع حقيبة أو أي شيء يشغله..... 

رأى من بين الركّاب شابًا قد تعلّقت عيناه بها
وقد لانت شفتاه في ابتسامةٍ تحمل لمحة من الإعجاب يتأملها في نومتها التي تُشبه نومة الأميرة النائمة في قصص الأطفال...

امتلأ صدره بالغضب والغيرة ونهض من مقعده ما إن لمح نيّة الشاب في الجلوس بجوارها.

وقبل أن يخطو الشاب نحو المقعد سبقه سلامة وجلس ببساطة ناظرًا إلى عينيه
مباشرة بظفر…وكأنه انتصر في أعظم 
المعارك !...

امتقع وجه الشاب ورمق سلامة بنظرة تقزز
ثم راح يبحث عن مقعدٍ آخر بإحباط بعد أن ضاعت عليه فرصة الجلوس بجوار الأميرة النائمة....

أخرج تنهيدة ارتياح وهو ينظر إلى جانب وجهها المائل قليلاً على الزجاج... مدّ يده وحاول أن يعدّل رأسها فتحرّكت معه ببساطة ثم انزعجت مائلة إلى الجهة الأخرى حيث كتفه... سندت عليه في غفوتها العميقة...

تيبس جسده جافلًا وتسارعت خفقات قلبه معلنةً عن انهزامه أمام لمستها البريئة. نسي كيف يكون التنفّس وربما نسي من هو ولماذا هو هنا... نسي العالمَ ومن فيه مستحوذةٌ هي عليه بسندةٍ من رأسها على كتفه ويا له من شعور...

شعور بأنه امتلك ما لم يصل إليه غيره بأنه لمس النجوم بلمستها له...

آه يا نهاد... لو أجد مخرجًا من هذا الحب ما وقفتُ مقيَّدًا مكاني... لو أجد فكاكًا من الهوى ما جلستُ بجوارك أستجدي النظرة من بعيد كجائعٍ لا يملك ثمن الطعام !...

أغمض عينيه مستمتعًا بتلك اللحظة الخائنة بينهما بينما تتوغّل رائحتها العطرة إلى أنفه بمداعبة صريحة.

نهاد لا تستخدم العطور النفّاذة بل تكتفي بالغسول والمرطّبات فتُصبح نظافتها هي العطر… دون تكلّف.

اقتربت المحطة ومعها انتهت لحظة لن تتكرّر بينهما. شدّ طرف القبعة التي يرتديها على وجهه أكثر ليُخفي ملامحه عنها.

ثم خبط على كتفها برفق مرتين هامسًا

"مش المفروض تنزلي هنا؟"

انتفضت نهاد مفزوعة وهي تفتح عينيها كمن لدغتها حيّة في نومها… ليتها كانت حيّة
سامة لا أن تغفو في المواصلات العامة…

وفي الترام ؟!...

أي حماقة ارتكبت؟!...

ضمّت كتابها إلى صدرها وهي تستعيد تركيزها فركت عينيها ونظرت من النافذة حيث اقتربت محطتها بالفعل. ثم التفتت نحو صاحب الهمسة… إلى ذلك الصوت المألوف… أو ربما توهّمت فهي لم تجد أحدًا.

لم يكن يجاورها أحد....

رفعت عينيها إلى باب الترام فرأته من الخلف.
خفق قلبها بتوتر… ظنّت أنه هو... نفس القامة نفس حجم الجسد الشعر الأسود الفوضوي يلامس مؤخرة عنقه والانحناءة الخفيفة في الكتف...

اتّسعت عيناها بصدمة وهي تربط الأحداث ببعضها... هل كان يجلس بقربها وهي نائمة كخبلاء إلى جانبه؟

وهمس أيضًا بالقرب من أذنها ينبهها أن محطتها اقتربت؟

عضّت على شفتيها بقوة كادت أن تُدميها وهي تلملم أغراضها بسرعة وعصبية ثم ضمّتها إلى صدرها ونهضت وقد توقّف الترام عند محطتها.

كان قد نزل قبلها… ولم ترَ وجهه فكانت القبعة تخفي ملامحه عنها. لحقت به...

وحين نزلت من الترام ضرب الهواء صفحة وجهها بقوة ورفرفت أطراف وشاحها.
ضبطت حجابها وهي تسرع الخطى نحوه لاحقة به...

ثم توقّفت فجأة بعد أن غاب عن بصرها في لمح البصر... التفتت برأسها يَمنة ويَسرة، تبحث عنه بعينيها وحين تمكّن منها اليأس عادت أدراجها إلى الطريق المعاكس… إلى حيث منزلها.

بينما كان سلامة يُسنِد ظهره إلى سورٍ عالٍ مرت نهاد عليه من الجهة الأخرى بملامح حانقة… محبطة إلى أبعد حد.

كلّ ضفاف الهوى قادت الأحبة إلا ضفّة لقائنا المجهول...
تعليقات