رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الخامس عشر 15 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الخامس عشر

حدَّد باسل موعد الجولة الأولى من العلاج الكيميائي لسارة، على عَجلٍ لا يحتمل التأجيل؛ فحال جسدها كانت تنحدر بسرعة، كما لو أن الزمن نفسه يوشك أن ينقلب عليها.

كان يعلم، كما تعلم هي، أن العلاج الكيميائي ليس مجرّد خطة علاج، بل معركة كاملة، تبدأ من أول أسبوعين فيها يشعر المريض وكأن طاقته قد سُحبت خلسةً من عروقه، ويبدأ الشعر في التساقط كما تتساقط أوراق الخريف من غصون شجرة هرمها الشتاء.

ولهذا، أرادت سارة أن تُنهي كل ما تبقّى من الفصول المفتوحة قبل أن تبدأ رحلتها مع السُمّ العلاجي.

رغم أن "جيف" لا يزال غارقًا في غيبوبته كجسد بلا زمن، إلا أن سارة لم تعد بحاجة إلى القلق بشأن فواتيره التي كانت تزداد كجبلٍ لا يُقهر؛ فقد سدّدت كل المستحقات في المستشفى، ثم عادت إلى المنزل الذي جمعها يومًا بأحمد... المنزل الذي لم يعد يُشبهها، ولا يشبه قلبها.

كان القلق يأكلها بصمت... خشيت أن تصبح هشّة، أن تُكسر بسهولة بعد الجلسات القادمة، كورقة ذابلة بين أصابع الريح. فحجزت خدمة نقل مسبقًا، عزمت على الرحيل، أن تنسحب من هذا المكان الذي أصبح شاهدًا على وجعها أكثر مما هو مأوى لها.

ثم جاءت "إيفرلي هيلتون"، صديقتها المقرّبة، تدخل المشهد كعاصفةٍ أنيقة؛ بكعبٍ عالٍ يُعلن قدومها، وحقيبة كروس

بودي تتمايل معها، وكيسين من رقائق البطاطس يمتلئان بالصخب أكثر من التغليف نفسه.
وسُمِع صوتها قبل أن تُرى، صوتٌ يعرف كيف يخترق اللحظات الثقيلة ليزرع ضحكة.
صرخت من بعيد:
ــ "سارة! أخيرًا تخلّصتِ من العذاب! خمنّي ماذا؟ لقد استلمتُ عمولة بيع عقاري الشهر الماضي

لم تكن "إيفرلي" تعرف شيئًا عن تشخيص سارة، إذ كانت في رحلة إلى حبيبها البعيد حينما انهارت سارة واختبأت من الجميع. ظنّت ببساطة أن سارة، بعد طول تفكير، قررت أن تُطلق سراح قلبها 

ابتسمت سارة، بسخرية ناعمة، ثم قالت:
ــ "لا أظن أن خطتكِ ستنجح... أخشى أن يظهر حبيبكِ ويقرع بابي في اللحظة ذاتها التي يعلم فيها بالأمر."

تأوّهت إيفرلي، ورفعت عينيها إلى السماء:
ــ "آه، لا تذكّرينني به! لا أؤمن بالعلاقات عن بُعد بعد اليوم. أردتُ أن أفاجئه، أتخيلين؟ حملتُ له قلبي وعمولتي على طبق من ذهب، فوجدته قد أنفقها على فتاة أخرى! وغد بلا ضمير!"

ورغم أن ملامحها كانت تحاول التماسك، إلا أن عينيها فضحتا الوجع؛ وجع سبع سنوات انكسرت في غمضة غدر، وذابت كما تذوب القصص في المسافات.

أرادت سارة أن تقول شيئًا، أن تُمسك بوجع صديقتها وتُحنّطه بكلمات عزاء، لكن قلبها المثقل بزواجٍ هشّ لا يعرف الحب، أسكتها. لم تشعر أن لها حقًّا في مواساة

أحد.
فاكتفت بأن تميل برأسها قائلة:
ــ "إن كنتُ أعرفكِ جيدًا، فلا شك أنكِ تركتِ ورائكِ عاصفة."

ضحكت إيفرلي، وأخذت بيد سارة نحو مقعد خشبي محاذٍ لحديقةٍ غارقةٍ في تفتّح الزهور، جلستا معًا، وكأنهما تحاولان سرقة لحظة هدوء من فوضى الحياة.

ناولتها كيسًا من رقائق البطاطس، وفتحت هي الآخر وبدأت في التهامها...
وكأن الأمل، رغم كل شيء، لا يزال يعرف الطريق إلى أيديهما.

قالت "إيفرلي" وهي تسحب نفسًا ثقيلًا من صدر أنهكته السنوات:
ــ "لقد هدأتُ... هدأت طباعي بعد سنواتٍ طويلة من علاقةٍ كانت بعيدةً حدَّ الاغتراب. ورغم ذلك، ظلّ في داخلي شيءٌ لا يطمئن، إحساسٌ داكنٌ كالضباب الذي يخنق السماء قبل المطر. قد تقع في الحبّ لألف سبب، لكنّك لا تحتاج سوى لسببٍ واحد لتغادر، وتُطفئ النور، وتمضي."

كانت عيناها معلّقتين بأفقٍ رمادي لا يُبشّر سوى بالمزيد من الغياب، ثم تابعت، كمن ينبش قبراً دفن فيه قلبه ذات يوم:
ــ "في البداية، كان يطير حول العالم ليصل إليّ في *عيد الحب*، حتى لو كانت إجازته لا تتجاوز ثلاثة أيام. واليوم... مضت ثلاث سنوات لم تطأ فيها قدماه أرض الوطن.

كان يهمس لي بـ"صباح الخير" قبل أن يغفو، حتى وهو في أقصى الأرض. أما الآن، فقلّما يتذكرني، وقلّما يردُّ على رسائلي. ظننته منشغلاً

بدراسته، فبدأتُ أعمل بدوامٍ جزئي كوكيلة عقارات، فقط لأعيله ماديًّا، رغم أنني كنت أدرس بدوامٍ كامل. كنتُ أؤمن به أكثر مما آمنت بنفسي."
كانت الكلمات تتهاوى من شفتيها كما تتهاوى أوراق الخريف عن غصنٍ قديم، وكل جملة منها تجرّ خلفها تنهيدة.

تنهّدت، كأنها تعترف لنفسها للمرة الأولى:
ــ "ما الذي لم أفعله من أجله؟! اشتريتُ له منزلًا في الخارج من عمولاتي... كل ما جنيته،  كأنني أرمي قلبي في بئر بلا قاع."

نظرت إليها سارة بذهول ممزوجٍ بشفقة، وهمست:
ــ "ما حكيتهِ لي... يصلح أن يكون مسلسلًا دراميًا من النوع الثقيل."

هزّت إيفرلي رأسها، وشردت قليلًا قبل أن تكمل:
ــ "في لحظةٍ ما، شعرتُ أنّني على وشك أن أجنّ. أتخيلين؟ وجدته معها 

ابتسمت، لكنها كانت ابتسامة مشقوقة الحواف، تمزقها دموعٌ بدأت تتساقط بهدوء على كيس رقائق البطاطس الذي كانت تمسكه كما يمسك الطفل لعبته المفضّلة بعد الخذلان.

ــ "كنتُ أُفكر كثيرًا قبل أن أشتري كوب قهوة! عشتُ في اقتصادٍ خانقٍ فقط لأدفع له، لأُعينه، لأكون ظله، ودعمه، وأمانه... وأنا طالبة طبّ، أتنقل بين عروض الشقق كأنني سمسارة محترفة. كل ذلك من أجل رجلٍ لا يستحق

امتدّت يد سارة، بخفّة من يعرف الوجع، صديقتها في صمتٍ يضجُّ بالمعاني. ثم همست:
ــ

"رجاءً... لا تبكي. مثل هذا لا يستحق دمعةً من عينيكِ."
 
مسحت إيفرلي دموعها بسرعة كمن يزيل لطخةً لا تليق بجمالها، وقالت بنبرةٍ مُصطنعة الصلابة:
ــ "أعلم. هل تعلمين كم كنتُ طيّبة معه؟ لم أصرخ. لم أفتح فمي. أشعلتُ سيجارةً، وبدأتُ أحسب بالدولار ما كان يجب عليه أن يُعيده لي. لكن حمدًا لله... كنتُ ذكيّة بما يكفي وسجّلت المنزل باسمي. طردته، وطردتها ، في الليلة نفسها."

فغرت سارة فاها، مندهشة من هذه القسوة اللاذعة التي لم تكن تعهدها في صديقتها:
ــ "هل... هل وافق؟!"

ضحكت "إيفرلي"، ضحكةً من يرى الظلم يركع أمامه:
ــ "وافق؟! سقط على ركبتيه كالأطفال، ترجّاني أن أسامحه. بكى كالمساكين، وقال إنه نادم. وعندها فقط نظرتُ إليه وسألت نفسي... كيف وقعتُ في حبّ رجلٍ مثله؟ كيف سمحت له أن ينهش سنواتي بهذا الشكل؟"

ثم تابعت، وهي تُبعد خصلة من شعرها المبتلّ بالدموع عن وجهها:
ــ "بقيت يومين فقط لبيع المنزل، وقَطعت كل الخيوط. ثم عدتُ إلى هنا... دون رجعة."

مسحت وجهها سريعًا، وأكملت بابتسامة مشوبة بالمرارة:
ــ "سارة، لقد تجاوزنا مرحلة الإيمان بالحب الرومانسي. نحن في عصر نُجبر فيه على الاختيار بين الحب والخبز. أتذكرين حين رفضتِ طلاقي؟ كنتِ خائفة عليّ... لكنّي الآن سعيدة لأنكِ فكّرتِ أخيرًا في الأمر. حين تنتهي إجراءات طلاقك من أحمد، ستصمدين لأعمارٍ قادمة دون أن تنكسري."

ثم قفزت ابتسامتها إلى خفة المزاح، وقالت وهي تلوّح بآخر رقاقاتها في الهواء:
ــ "صدقيني... حتى لو خسرنا الحب، يمكننا إنفاق

ثرواتنا على عشرة رجال جذابين، نربّيهم كما نريد. أليس هذا أفضل؟"
ضحكت سارة بخجل، وسعلت سعالًا خفيفًا لتخفي حرجها:
ــ "هممم... الحقيقة أنني حصلت منه فقط على عشرة ملايين دولار."

شهقت إيفرلي، وانتصبت في مكانها كأن الصدمة صفعتها:
ــ "عشرة ملايين فقط؟! ما هذه الجرأة؟ ألم يكن كريمًا من قبل؟ هل أصبح بخيلًا فجأة؟! ليس كأنه يعاني من نقصٍ في المال!"

هزّت سارة رأسها بأسى:
ــ "حين يُحبّك الرجل... يمنحكِ الكون. وحين يتوقّف عن ذلك... تصبحين عنده أقلّ من قمامة. دعينا لا نُضيّع وقتنا في الحديث عنه. أريدكِ هنا لمساعدتي على الانتقال."

ابتسمت إيفرلي على الفور، وقالت:
ــ "بالطبع! وبعدها... أدعوكِ إلى عشاء لذيذ، يحتفل بخروجك من قفصٍ صدئ."

ابتسمت سارة، وتنفّست بعمق.
ربما... كانت هذه أول مرة، منذ زمن، تشعر فيها أن للحياة رائحة جديدة.

لم تكن زيارة الفيلا تلك سوى عبورٍ عابر... ليست وداعًا حقيقيًّا، ولا عودةً مشتاقَة، بل أشبه بعملية انتزاعٍ جراحي لجزء من الروح. لم يكن هناك الكثير لتحزمه. كل ما يخصّ "أحمد" ظلّ في الداخل، وكأن الجدران تحفظه أكثر من ذاكرته هو، أما سارة، فلم تكن تأتي لتحمل أشياء... بل لتدفن أشياء.

توقفت أمام صورة الزفاف المعلّقة على الحائط، إطارها الفضي لم يبهت بعد، لكن ما داخله صار باهتًا، كابتسامةٍ مصطنعة في وجه من تحبّه ولم يعُد يُشبهه. في الصورة، كانت تضحك هي... ضحكةً دافئةً تشبه الربيع، وحتى أحمد، بملامحه

الصارمة التي قلّما رخُصت، بدا مبتسمًا. يا لسخرية الأطر! إنها تحفظ أكثر اللحظات زيفًا في أجمل إطاراتها.
تنهّدت "إيفرلي"، ثم رمقت الصورة بازدراءٍ صاخب:
ــ "ما الذي ستفعلينه بكل تلك الصور؟ أعني، يمكنكِ بيعها بالكيلو وإعادة تدوير الذكريات... أو ربما إشعالها، وترك الدخان يخبر السماء أنكِ قد انتهيتِ."

ضحكت سارة بمرارة خافتة، ثم قالت:
ــ "كل شيء يجب أن يُقسم بالنصف، كما يقول القانون. حتى الذكريات... نصف لي، ونصف له."

ثم التفتت إلى مدبرة المنزل، بصوتٍ هادئ لكنه حاسم:
ــ "أخرجي كل الصور من إطاراتها. قصِّي وجهي منها، وأعيدي ما تبقى إلى أماكنه."

كان في صوتها نوعٌ من العدالة الباردة، كأنها تقسم قلبها إلى أجزاء قابلة للتدوير.

لكن ثمّة غرفة واحدة، وقفت عند بابها طويلًا، تردّدت، كما يتردّد الجاني عند مسرح الجريمة التي لم يرتكبها بيده، بل بقلبه. كانت غرفة الأطفال التي صممتها ذات حلم، ملأتها بضحكة المستقبل، ونسّقها أحمد بيده، يومًا ما، كأنه يشاركها بناء وطن صغير.

لم تكن تحتمل أن ينام طفل "مارينا" في هذا المكان... في حلمٍ كان لها وحدها.

وبعد عامٍ من إنشاء الغرفة، قررت أخيرًا أن تنهي الفُصام. أمرت بنقل سرير الطفل إلى الخارج، وطلبت من عمّال النقل تفكيك الزخارف، وسحب كل ما هو عالق على الجدران. كانت تحرّر الجدران من أحلامٍ فشلت في البقاء.

وللمفارقة... كل ما استغرق منها شهورًا من انتقاء الألوان، وتركيب الرفوف، وتعليق

النجوم الصغيرة على السقف، لم يحتج إلا لبضع ساعات ليزول. وكأن الذكريات، مهما طال عمرها، لا تُقاوم يدًا اتخذت القرار بالمغادرة.
وها هي تقف عند المدخل، عيناها تُنقّب في الفراغ، كأنها تفتّش عن نفسها القديمة في أركان المنزل. تذكّرت أول يوم وطأت فيه قدماها هذا المكان... يومٌ كانت فيه الفرحة تسابق خطواتها، واليوم تقف بنفس الجسد، لكن القلب منهك، والفرحة متحجرة. لم يخطر لها حينها أن يكون الزواج نهاية، لا بداية.

استدارت، وألقت نظرة أخيرة... ثم أغلقت الباب كما يُغلق نعش قديم على حكاية لم تكتمل.

قالت وهي تمسك يد صديقتها:
ــ "إيف، تعالي معي إلى الصالون..."

أجابت إيفرلي، وقد أشرق وجهها فجأة:
ــ "فكرة رائعة! لنحتفل ببداية جديدة بشعرٍ جديد! حان الوقت لدفن الأوغاد وراءنا. سأصبغ شعري باللون الوردي الفاقع! وردي صارخ لا يعرف الحزن! وأنتِ، ماذا ستفعلين؟"

أجابت سارة، بنبرةٍ هادئة لا تتردّد:
ــ "أريد شعري قصيرًا. أقصر ما يمكن."

اتسعت عينا إيفرلي، وعلّقت بتردد:
ــ "أنتِ جميلة كيفما كنتِ... لكن لا تقصّيه كثيرًا. أخشى أن تندمي لاحقًا."

لم تكن تعلم... أن القرار لم يكن عن مظهر، بل عن استعداد. سارة كانت تهيّئ نفسها لليوم الذي سيبدأ فيه شعرها بالتساقط، خُصلة تلو الأخرى، كأن جسدها يُعلن الحرب على ذاته.

ابتسمت سارة، ابتسامةً صغيرة، لكنها ممتلئة بالعزم:
ــ "لا، لن أندم."

كانت القصّة لا تبدأ بشَعرٍ يُقص، بل بأنثى قررت أخيرًا

أن تُقصّ من نفسها كل من خانها، وتترك فقط ما تستحق أن تحتفظ به: عزّتها
 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1