رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل السادس عشر
بعد أن نفض الزمن غباره فوق قلبيهما وترك خلفه شقوقا لا ترمم قررت إيفرلي و سارة أن تفرا من رماد الذكريات إلى مساحة مختلفة من الحياة صالون تجميل يعد النساء بوجه جديد كلما انهار وجه قديم
اختارت إيفرلي مصففين بعناية كأنها تنتقي أطباء لجراحات القلب المفتوح جلستا أمام المرآة وكل واحدة منهما تحمل خلف انعكاسها قصة طويلة لا تحكى بسهولة
اقتربت إحدى مصففات الشعر نظرت إلى سارة وكأنها ترى لوحة كلاسيكية اكتشفها الزمن متأخرا ثم قالت بحماسة
عزيزتي ملامحك تحتمل عشرات التسريحات الرائجة ما رأيك في ضفائر ناعمة أو طبقات تنساب بخفة حول وجهك
لكن سارة قاطعتها بنبرة لم تحتمل جدلا
أريده قصيرا أقصر ما يمكن
ارتبكت المصففة لكنها لم تفقد ابتسامتها المهنية وقالت بلطف مشوب بالحذر
أدرك أن القصات القصيرة رائجة لكنها قد تحد من اختياراتك في تنسيق إطلالاتك ما رأيك بطول يصل إلى الأكتاف سيمنحك مظهرا أصغر سنا وسيليق بك في كل مناسبة
أجابت سارة ببرود يحجب تحته لهبا صامتا
لا بأس
كان شعرها طويلا كأنه امتداد لذاكرة امرأة أحبت ذات يوم ولم تنس راقبه المصفف وكأنه يود أن يعتذر منه ثم قال بأسى
هذا الشعر جميل حقا يبدو أنك اعتنيت به طويلا من المؤسف أن يقص
لكن
سارة كانت تحدق في المرآة لا فيه ترى ما لا يراه أحد كان انعكاسها يقول شيئا آخر شيئا داخليا شيئا يشبه العزم الذي لا يعلن عن نفسه إلا بالصمت
ذلك الشعر الذي امتد كأغنية قديمة على ظهرها لم يقص منذ سنوات لأن أحمد كان يحبه هكذا لكن أحمد رحل تاركا وراءه ظله متدليا في خصلاتها
فجأة ومن دون استئذان انتزعت المقص من يد المصفف وقالت بصوت مجرد من التردد
سأقصه بنفسي
بيد ثابتة قطعت أول خصلة ثم الثانية وسقط الشعر الطويل على الأرض كما تسقط أوراق الخريف بعد موسم ناضج لم تكن تقص شعرها فحسب بل كانت تنتزع فصلا كاملا من حياتها تمزق صفحة البراءة وتودع فتاة كانتها ذات يوم
مدت المقص للمصفف وقالت
حسنا أكمل أنت الآن
في الزاوية الأخرى خرجت إيفرلي من مقصورتها تتهادى بخصلات وردية مشاغبة لكنها حين رأت سارة توقفت كما لو أن الزمن تعثر شهقت بإعجاب
يا إلهي تبدين كتحفة فنية أعيد نحتها هذا دليل آخر على أنك جميلة بكل حال حتى القصير لم يقلل من بهائك بل كشفه أكثر
ضحكت سارة بخفة للمرة الأولى منذ زمن ابتسامة لم تكن على الشفاه فحسب بل في العمق في روح بدأت تصدق أنها خرجت من أنقاض الماضي حية
كانت إيفرلي تعلم أن المظهر الجديد يحتاج لمسة ختامية هرعت إلى متجر
قريب واشترت لسارة ملابس حيادية اللون تنتمي إلى كل جنس ولا تصنف كأنها إعلان تمرد أنيق على كل ما هو موروث
في المساء مرتا في شوارع المدينة مثل نسختين متجددتين من ذاتيهما والعيون تلاحقهما بإعجاب وفضول
أمام واجهة متجر مضاءة بألوان النيون التقطت إيفرلي صورة سيلفي معها ثم نشرتها على حسابها في إنستغرام وكتبت تحتها
ولادة جديدة
ذلك المساء كان مختلفا جلستا في مطعم أنيق وتناولا عشاء فخما طالما حلمتا به دون أن تفكرا في عد السعر أو حساب السعرات
سارة التي كانت تلوك الحزن صامتة أغمضت عينيها وهي تتذوق قطعة من اللذة وقالت
ربما كان علي أن أبدأ بهذه الخطوة منذ وقت طويل
ابتسمت إيفرلي ورفعت كأسها الزجاجي وقالت
لأجل البدايات التي لا ننتظرها لكنها تنقذنا
تمتمت إيفرلي وهي تتأمل الفراغ الممتد أمامها كجدار من العجز ثم قالت بصوت مكسور تخللته مرارة التجربة
اللعنة على الرجال ما الذي نجنيه منهم سوى خيبة تتغلغل حتى نخاع الروح
سارة التي هجرت الكؤوس منذ زمن ثم ابتسمت بسخرية شفافة وقالت
ذلك لأنك ببساطة سيئة في الحساب لم أتصور يوما أن التفاضل والتكامل سيكون بهذه الصعوبة
ضحكت إيفرلي بخفة ممزوجة باستدعاء لذكريات قديمة وقالت
آه
العبقرية لم يستطع أحد أن ينافسك يوما كنت في الثالثة عشرة حين انضممت إلينا في المدرسة الثانوية ظننتك تائهة من المرحلة الإعدادية لم أتوقع أن يكون ذلك الطفل النحيل موهوبا بهذا الشكل
بإمكاني أخيرا أن أشتري ما أشاء بعد أن طردت ذلك الوغد من حياتي
لكن كلماتها لم تكن أكثر من قناع هش إذ سرعان ما سالت الدموع على وجنتيها تنزلق كخيوط من الندم لم تجد لها طريقا سوى السقوط
أكملت وهي تختنق بنصف الحقيقة ونصف الألم
هل تعلمين يا سارة كنت أشتري شرائح اللحم الأرخص من رفوف السوبرماركت فقط لأوفر كل قرش من أجل دراسته فعلت المستحيل لأصنع مستقبلا لنا وأنا لم أتجاوز الرابعة والعشرين بعد ومع ذلك لم أشتر لنفسي حتى فستانا يليق بي فستان واحد فقط كيف يمكن لإنسان أن يرد الجميل بهذا الشكل
كان الغضب في صوتها كحطب يشعل نيران الخذلان وسارة رغم همومها التي لا تقل وطأة لم تجد كلمات مواساة أكثر دفئا من تلك التي تقال همسا حين لا يعود للمنطق فائدة نظرت إليها بنظرة تشبه ضوء القمر الذي لا يداوي لكنه يضيء وقالت
انظري إلى الأمام فما مضى لن يعود والحياة لا تهب فرصها إلا لمن يجرؤ على النهوض
أرادت إيفرلي أن تعود إلى المنزل أن تتكور تحت بطانية النسيان وتغلق كل أبواب الحنين لكن
سارة التي بدا التعب في عينيها كمرآة روح مكسورة أمسكت بيدها وسحبتها إلى الخارج
تنهدت سارة في صمت عالمة أن هذه الليلة ليست للهو بل لتفريغ عاطفة امتلأت حتى فاضت
هي تعرف أن أمامها عاما بأكمله لتعيد ترميم ما هدمه الطلاق لتجمع شظاياها واحدة تلو الأخرى وتعيد تشكيل ذاتها كما تشتهي أما إيفرلي فقد كانت تركض في سباق مع الوقت تملك فقط لحظات خاطفة لترمم جرحا طازجا ثم تغادر إلى الخارج إلى البعد إلى حيث لا يمكن البكاء فيه بحرية
ولعلها كانت تحتاج إلى أكثر من الوقت كانت تحتاج أن تسامح نفسها أولا
لم تعترض سارة على التغيير المفاجئ في الخطة لم تكن تملك رفاهية الرفض كانت تعلم من دون أن تنطق أن لحظاتها مع إيفرلي باتت تعد كأنفاس على وشك أن تختنق فالعلاج الكيميائي ذاك العدو الصامت الذي يتربص بجسدها لا يمنح ضمانات بالنجاة الليلة قد تكون الأخيرة من نوعها ليلة حياة قبل أن تبدأ مرحلة الموت المؤجل
ضوء أزرق ناعم ينسكب من السقف كأنما هو ماء سماوي موسيقى تنبض من الجدران وكل زاوية تحكي قصة رغبة لا تقال
صرخت إيفرلي وهي تمسك بكف سارة بحماس طفولي يشبه برقا اخترق قلبها
أنظري إلى المرافق ألا تظنين أنه وسيم كأنما خرج لتوه من لوحة رومانية
لكن سارة لم تجب عيناها علقتا على لوحة ضخمة لحصان أسود تتوسط الردهة مجسدا بحركات مجنونة وانفعالات جامحة
كأنما هو مرآة لما في داخلها من خوف وشوق وغضب دفين
همهمت إيفرلي شاردة الذهن بدورها
أجل حصان أسود مدهش
قالت سارة تحاول التماهي مع الحاضر رغم اضطراب قلبها
انطلقي واستمتعي لو كتب علي أن أدفع ثمن رجل فسأختار رجلا وسيما يتقن لعبة الكلمات الحلوة كما يتقن الشاعر انتقاء قصيدته ألا تظنين ذلك
ضحكت إيفرلي وردت بنبرة كلها تأييد
أنت على حق تماما
لقد تغيرت لم تعد تلك الفتاة التي تتردد أمام عداد سيارة الأجرة تحسب نقودها بإصبع مرتجف تحولت في ومضة إلى امرأة تنفق كما لو كانت الحياة ستمضي في دقائق ربما لأنها بالفعل شعرت أنها كذلك
أمسكت بذراع سارة وقادتها إلى صالة فسيحة حيث تراقصت الأضواء على الزجاج المعلق كأنها شظايا نيازك تناثرت في فضاء زمردي التي حاولت باحتشام أن تضع حدا لهذا الترف العابر همست
كفى لا حاجة لكل هذا
لكن كلماتها اختنقت في فمها أمام سطوة إيفرلي التي قالت بنظرة صارمة مغلفة بالدموع
دعيني أضيء لك الليل ربما لا أملك الغد لكن الليلة ملكي
دخل المدير بخطى أنيقة كأنه نجم على خشبة مسرح وقدم لهما عشرة رجال كأنهم خرجوا من كتالوج مجلة كل واحد منهم يحمل طيفا مختلفا من الفتنة ذاك أنيق كنبلاء البندقية وآخر لطيف كنسيم ربيع لا يزعج
تقدم الشابان بخفة يبدوان
كمراهقين في حي هادئ لا يحملان من الوقار شيئا بل حضرا بجاذبية رخيصة لا تشبه أحمد أحمد الذي كان يشبه المكتبات العتيقة هادئا عميقا صامتا كالتاريخ
جلس أحدهما بجانب سارة والآخر استقر على ذراع الأريكة كأنهما يحاولان احتلال مساحة روحها لكن أصابعها ارتعشت لم يكن القلق فقط ما يسكنها بل شيء أشد رغبة في الهرب رغبة في الصراخ
لكن قبل أن تنطق صفعت إيفرلي فخذها بخفة مقصودة وقالت بنبرة فيها سخط وغضب مكتوم
ما بك أحقا ما زلت تحفظين نفسك لأحمد لما القلق الآن وقد رمى بك خلف ظهره انسيه استمتعي دعي الأمر لي سأدفع الثمن
صمتت سارة وأذناها تترجمان كل كلمة كطعنة وقلبها يتأرجح بين نداء العقل ودماء الذكرى
أما إيفرلي فكانت تعرف جيدا كيف تصنع البذخ من رماد الألم شابة تتقن الحديث كما يتقنه بائعو الأحلام تعمل في بيع الفلل الفاخرة وتجمع عمولات لا تصدق كان وكلاء العقارات يبالغون في الأسعار أما هي فكانت تقنع الزبائن بأن الغلاء رفاهية وأن الواجهة الزجاجية تساوي حياة كاملة
لو لم تكن قد أنفقت ثروتها على رجل خذلها لربما صنفت ضمن النساء العصاميات لكنها لم تندم والليلة قررت أن تنفق كما لو أن الغد لا يحمل إلا الغياب
في الجهة الأخرى من المدينة في خليج كولينغتون انخفضت حرارة الطفل أخيرا بعد يوم طويل من القلق
والترقب كان الطبيب قد أشرف على حالته بعناية والهدوء عاد يسكن المنزل تنهد أحمد بارتياح وهو يغطي الطفل بلحاف خفيف ثم خرج من الغرفة متثاقلا كمن فقد نصف روحه داخلها
استقبلته مارينا بابتسامة دافئة تحاول أن تخفي ارتباكها
أحمد الوقت تأخر لم لا تبيت الليلة هنا أخشى أن يستيقظ الطفل مجددا وهو لا يهدأ إلا حين تكون بجانبه
فرك صدغيه والتعب ينهش ملامحه وقال ببرود مهذب
لدي ارتباط سيكون الدكتور غارسيا موجودا اتصلي به إذا احتجت لأي شيء
كأنها أرادت أن تقول شيئا أن تعلن حاجتها له أن تطلب البقاء لكنها التزمت الصمت تعرف أنه لا يمكن إجباره على المكوث ولا الحب يفرض
كانت قد ظنت حين اتصلت به في العاشرة والنصف مساء أنه سيأتي ليعلن الطلاق لينهي ما تبقى لكن الأمور لم تسر كما تخيلت
قالت أخيرا بنبرة حاولت أن تخفي فيها انكسار الأمل
بالطبع فقط كن حذرا في طريق العودة
أومأ برأسه وخرج إلى السيارة هناك سلمه برنت مفتاحا قائلا
السيدة إيفرلي أعادت مفتاح الفيلا
تجمدت نظرة أحمد زفر طويلا ثم تمتم
إنها تتحرك بسرعة فور حصولها على أجرها
لم يرغب برنت في متابعة الحديث لكن صورة إيفرلي
التي رآها في إنستغرام كانت تلسعه كشوكة في ذاكرته
وبعد صمت تردد خلاله مرتين نطق بتردد
لكن
سيد أحمد يبدو أنها تخلت عنك تماما