رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والواحد و السبعون 171 بقلم اسماء حميدة

 

 

 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والواحد و السبعون


استيقظت سيرين كأنها طردت من عالم آخر غارقة في العرق وجسدها يرتجف كورقة في مهب العاصفة أنفاسها متقطعة متسارعة وكأنها لا تزال تفر من شيء لا يرى.
وفي ركن الغرفة وسط الضوء الخافت المنبعث من المصباح الجانبي تحرك ظافر فجأة فقد جلس طوال الليل يحرسها لا يغفو لا يبتعد كظل يرفض أن يتلاشى وما إن رأى توترها حتى اندفع نحوها كأن شيئا في داخله انكسر من رؤيتها بهذا الضعف.
اقترب منها وقد خفت القلق قليلا حين لم ير جراحا أو نزفا... فسألها بصوت يحمل نبرة الخوف المتخفي خلف قناع التماسك
ما الذي حدث
رفعت عينيها إليه وكان فيهما من الحمرة ما يكفي لإشعال فتيل الحزن.
همست وصوتها لا يزال عالقا في حناجر الكوابيس
رأيتني أموت... كأن الموت كان يمر بي حقا... شعرت به يتسلل إلى عنقي.
كانت كلماتها كالسكين تغوص ببطء في صدر ظافر توقظ في قلبه وترا مرهفا لا يعرف له اسما... ربما كان الخوف أو الفقد أو شيئا أقرب إلى الرعب من فكرة أن يخسرها...
اقترب منها أكثر يحتويها ... يحميها من غدر العالم وربت على ظهرها برفق كأن يده تعتذر لجسدها عن الكابوس.
همس في أذنها بنبرة ناعمة
أنت لم تموتي... أنا هنا... وأنت معي... لا مكان للموت.
ثم أضاف بعد لحظة صمت كأنها صلاة
لا تخافي لن أسمح لشيء أن يؤذيك.
استغرق الأمر

من سيرين بعض الوقت لتتخلص من ظلال الكابوس العالقة على جفونها.
لوهلة حالما نظرت إليه إلى وجهه القريب الذي لم تستطع تمييز تفاصيله في عتمة الغرفة بل رأت فقط ملامحه تنساب كضوء مبلل بالحزن انتبهت على حالها.
همست بصوت خافت كاعتراف
شكرا لك.
قالتها ثم ابتعدت بلطف تسل جسدها من بين ذراعيه وعادت للتسطح على السرير كمن يحاول الاحتماء بصمته... لكن تلك الحركة الهادئة المليئة باللباقة آلمت ظافر وكأنها سدت بينهما جدارا غير ملموس... شيء ما فيها كان يبتعد وكأنها لا تزال ترتجف لا من الكابوس... بل من الحقيقة.
وفي لحظة صامتة قرر أن يكسر الحاجز... لم يعد إلى مقعده كعادته بل سحب الغطاء ببطء واستلقى إلى جوارها كأن الأرض لم تعد تعنيه طالما بعيدا عنها.
اقترب منها كأنها الشيء الوحيد الحقيقي وسط عالم يتداعى.
للحظة تشنج جسدها لكنها سمعته يقول بصوته الرخيم كأن كلماته ولدت من أعماق الليل ذاته
إن كان هناك ما يؤلمك أو وقعت في مشكلة ما... أخبريني أنا... أنا دوما هنا لأسمعك.
قالها وهو يشير إلى رأسها وقلبها وأذنها واستكمل
أنا من يتوجب عليك أن تلجئي إليه ولا أحد غيري مفهوم
خنقتها الغصة كانت الكلمات تطرق فمها ولا تجد المخرج.
وفي الخارج...
انقضت العاصفة على المدينة وراح المطر ينهمر كدمع السماء يغسل الأرصفة
والشرفات والذاكرة.
هبت الريح الباردة فبرد الهواء الذي كان يخنق الأجواء من قبل كأنها لحظة تنفس كوني بعد احتباس طويل.
وسيرين
لم تعد خائفة... هي الآن ... ولا تعرف سببا لاستكانتها... كان هناك شيء يشبه الطمأنينة... كأن نبض قلبه لا الكلمات هو من أقنعها أنها باقية وأن الموت لا يجرؤ على دخول تلك الغرفة... طالما هو هناك.
بقيت هكذا لوقت استصاغته وفي ظلال الغرفة التي لم يعد فيها الليل يهمس بل يتنفس بين جدرانها... كانت سيرين نصف مستيقظة نصف غارقة في الدهشة.... شيء ما بين ذراعي ظافر كان غريبا لا يشبهه لا يشبه ما اعتادت عليه منه خلال ثلاث سنوات من زواج تكسرت فيه الأحضان قبل أن تمنح.
تذكرت فجأة كوميض برق وسط الهدوء أن ظافر كان يعاني من رهاب جرثومي خفيف وكانت هذه الذريعة كافية لأن يبني بين جسديهما جدارا من الهواء البارد... لكن الآن ها هو يحتضنها... كان الأمر أقرب إلى معجزة... أو ربما خطيئة.
همست وهي تسند رأسها
ظافر... هل ما زلت تكرهني
تشنج جسده للحظة ثم شد ذراعيه حولها كأن السؤال أيقظ فيه شيئا مخيفا.
لم تنتظر منه جوابا بل تابعت بصوت أكثر خفوتا كأن الحروف تخشى أن تقال
لا أفهم... ما الذي تغير
ضاقت أنفاسه... فابتلع ريثما شعر بجفاف حلقه كأرض لم تعرف المطر منذ دهور ولسانه عاجزا عن صياغة
جملة واحدة... وضج رأسه بتساؤلات أبت شفاهه نطقها
هل كان التغيير حراما
هل من يمسك السكين بالأمس يمكنه أن يمسك وردة اليوم دون أن يشكك في نواياه
لم يكن يدري ما به.. فهو لم يظن يوما أنه يحب سيرين... كان يراها جزءا من معادلة كتبت له لا بها فاعتقد أنه إذا انهارت هذه المعادلة فلن يشعر بشيء.
لكنه شعر.
شعر بالرعب عندما سمع عن الحادث... شعر وكأن قلبه قد توقف وكأن اسمها وحده أصبح بندقية مصوبة إلى صدره.
طالت لحظة الصمت حتى قطعها صوته فجأة هامسا بسؤال أشبه بشفرة
لو طلقنا... هل ستتزوجين كارم
نظرت إليه لكنها ترددت قليلا ثم هزت رأسها وأجابت بصوت متعب
لا أعلم.
لكن في أعماقها كانت تعرف... جل ما كانت تريده هو الحرية... أن تنزع منها هوية امرأة تنتمي لعائلة تكرهها... أن تتحرر من اسم يثقل كتفيها أكثر مما يحميها... فلقد أصبح لديها الآن ما يشبه حياة... عمل تحبه وطفلان يشبهانها... لم تعد تلك المرأة التي كانت تعيش تحت ظل ظافر تكرس نفسها له ككاهنة في معبد... أرادت أن تحب من أحدهم لا أن تفرض لمجرد مصلحة.
لكن ظافر على غير عادته فهو لا يمنح شيئا ببساطة... قال فجأة على عكس المتوقع وصوته فيه شيء من الرضا الغريب
هل علي أن أتركك تذهبين الآن
تأملته بعينين تائهتين لكنها لمحت بداخله بريقا صغيرا... لا
يشبه الاستسلام بل يشبه الإنصاف... ولكن هل صدق حدسها
 
همست سيرين باستجداء كمن يمد يده لمفتاح السجن بعد أن صدر حكم الإفراج
لو فعلت... لكنت شاكرة لك.
رفع يده عنها يحط بقدميه أرضا يبتعد عن السرير يواليها ظهره بصمت ظنت أنه القبول... 
لكن عيناه حين التفت إليها مجددا والتقت بعينيها كانتا كأزان يغلي... ومن ثم قال ساخرا كأن النار خرجت من فمه بدل الكلمات
أنت تفكرين جديا في الأمر!
تجمدت الكلمات في حلقها وقد تهشمت كل الآمال الصغيرة التي بنتها في ثوان... فقد أدركت متأخرة أنه كان يسخر... يلعب معها لعبته القديمة
يعطيك طرف الحبل ثم يخنقك به.
ماذا تظنني سألت كأنها تطلب اعترافا منها لا منه.
سأقبلك كما قبلتني... أجاب لكن صوته كان مرا كطعم الرماد.
تزييف الموت هروبها اختفاؤها والآن... طفل لا يعرف إن كان له أم لسراب
كلها اجتمعت ككأس امتلأت بما لا يشرب فأراقها ظافر على وجه كارم في مخيلته... وها هو يضرب بالخمس سنوات التي اختفت فيها عنه عرض الحائط وسيقبلها بأخطائها التي بناها في خياله فمجرد تخيلها وهي تغادر مع ذاك الكارم كان كافيا ليدفعه إلى الجنون.
اقترب منها وقال بهدوء قاتل كأن كل جملة منه لعنة
تذكري شيئا واحدا فقط...
أنا لم أكن يوما رجلا يلبي رغبات الآخرين.
سقطت كلمات ظافر الأخيرة في صدر سيرين كسقوط خنجر على طاولة من خشب

بال لتستقر بمنتصفها... تلك لم تكن مجرد جملة بل حكما مؤبدا.
حدقت فيه والدم ينسحب من وجهها كأن الحياة قررت أن تخبو فجأة من ملامحها.
لم أطلب منك أن تلبي رغبتي ظافر قالت بصوت ناعم لكنه كالسم في الكؤوس الفضية.
أنا فقط... طلبت أن تنهي هذه المهزلة... أن تحررني منك كما تحرر الغريق من حجر في عنقه.
قهقه ظافر حتى أدمعت عيناه ولكن ضحكاته كانت خالية من أي بهجة بل كانت أقرب إلى صوت صدأ يكشط عن حديد قديم.
وبعد أن هدأت نوبته تقدم منها وعينيه تلمعان بشيء يشبه الجنون
تظنين الأمر بهذه البساطة أن تغادري وتتركي لي هذا الخراب
تتركينني أنا... أنت التي صنعت منك امرأة ترى من كنت قبل أن تصيري في بيتي مجرد شبح امرأة لا يراها أحد إلا أنا!
ارتعش جسدها ليس من الغضب بل من الذهول كأنها تنظر أخيرا إلى مخلوق لم تعرفه يوما رغم أنها نامت بجانبه لسنوات... تقول بصوت أنثى تحطم كبريائها
أنا صنعت نفسي ظافر... أنت فقط كنت المشهد الخلفي الجدار الذي ظننته مأوى فاكتشفته قفصا.
صمت لكن نظراته صارت قاتمة مائلة إلى السواد.
هل تحبينه سأل أخيرا كمن يطلق رصاصة على قلبه عن طريق فمها.
أخفضت عينيها للحظة ثم نظرت إليه بثبات... وقالت بتجبر
لا أعلم إن كنت أحبه... لكني أعلم شيئا واحدا أنا لا أحبك.
تلك الجملة سقطت
عليه كصفعة روحية لم يكن يتوقعها أو أنه كان يتجنب سماعها طوال الوقت.
تراجع خطوة للوراء وكأن الهواء استعصى عليه تنفسه فجأة.
ولأول مرة تتحداه بهذا الشكل فقالت وهي تحمل في عينيها لهبا لا رجفة
ظافر مشكلتك أنك رجل لا يملك إلا الأشياء المصانة فتعتقد أن لا أحد يرغب بها... وعندما تدرك أن ما بين يديك كان ذهبا يكون قد ذاب بين أصابعك.
حدق فيها كأن كل ما فيه يريد أن يرد أن يهجم أن يمزق
لكن ما خرج منه كان صوت مخيف قاطع
هذا ليس وداعا سيرين... أنا لا أطرد من حياة أحد أنا هو من يختار متى أغادر ومتى أعود.
فردت بثقة امرأة تولد من رمادها
ولأول مرة في حياتي... لن أنتظر عودتك.
ثم استدارت عنه وقلبها ينبض ليس بالخوف... بل بالنهاية.
النهاية التي بدت لها أخيرا كخلاص تريده ولا تقدر عليه.
تلك الليلة لم تكن لتمر مرور الساعات العادية لم ينم أحد.
لا ظافر غمض جفنه ولا سيرين هدأ لها نبض.
كان كل منهما أسير فراشه كأن الوسادة صارت ساحة معركة والأغطية قيودا لا تفك بل كان الخدر يجتاح الجسد لكن العقل العقل ظل كمنبه معطوب يدق في كل اتجاه لا يطلب يقظة بل يزرع الحيرة.
وفي الجهة الأخرى من المدينة كانت دينا جالسة في منزلها وجهها مغمور بضوء شاشة هاتفها وعيناها تلاحقان أخبارا تتسرب كالسم من بين الأصابع.

الخبر كان واضحا سيرين نجت.... حادث السيارة لم يكن خاتمة الرواية كما خططت.
عضت دينا شفتها السفلى كأنها تتذوق مرارة نجاة من كانت تتمنى اختفاؤها.
وفجأة اخترق الصمت صوت مألوف متوتر يخرج من أعماق الهاتف في حين أن ضغطت أناملها بشرود زر الإجابة على المكالمة الواردة دون أن تشعر
دينا... دينا اسمعيني... أنا في ورطة... لقد هربت وأنا الآن مختبئ في مكان لا يعرفه أحد.
كان صوت أنس يرتجف مشبعا بالخوف لا يحمل سوى رجاء هش... ولكن الرقم الذي يتواصل من خلاله غير مسجل لديها.
ضاقت عيناها وتلاعبت أطراف فمها بابتسامة أشبه بالشفقة... لا عليه بل على سذاجته.
أين أنت سألت ونبرة صوتها ناعمة كحافة خنجر.
أملى عليها العنوان وكلما نطق رقما أو حرفا كان كمن يكتب شهادة موته بيده.
أنهى المكالمة متوهما الأمان.
ولكن دينا من دون أن ترتجف يدها ودون أن يتردد قلبها فتحت تطبيق الرسائل وأرسلت العنوان إلى الشرطة كما يلقى حجر في بئر دون أن تنظر لما سيفعله صدى السقوط... ثم أغلقت الهاتف وحدقت في الظلام أمامها كمن ينتظر المشهد التالي في مسرحية هو كاتبها... لكنه لا يعلم من سيموت أولا.
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1