رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والثانى و السبعون 172 بقلم اسماء حميدة


 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والثانى و السبعون



كان أنس لا يزال يتشبث بخيط مهترئ من الأمل... اسمه دينا حتى بعد أن التهمته أذرع رجال كارم عند موقع الحادث ظل عقله يهمس له بأن دينا ستنقذه... بأنها لن تخذله الآن.
ولأن الرجاء أعمى بعث إليها موقعه الحالي معتقدا أنها ستفعل المستحيل لتخرجه مما أوقعته فيه وبإرادته لكنه لم يكن يعلم أن من ظنها حبه الأول والأخير قد أرسلت عنوانه بدم بارد إلى الشرطة.
وحين لمحت عيناه رجالا بثياب مدنية يختبئون بين الشجيرات وأخرى ترقبه من خلف زجاج قاتم جلس في المقعد الخلفي للسيارة السوداء كمن ابتلع الحقيقة ولم تهضمها روحه بعد.
كان في عينيه شيء أقرب إلى الطفولة... تلك اللحظة التي يدرك فيها الطفل أن أمه لم تكن بطلة خارقة بل امرأة أنانية اختارت نفسها أولا ووضعت مالها تحت قدميها لتنجو.
أدار أحد رجال كارم رأسه نحوه وقال بصوت مغطى بسخرية متعمدة
أرأيت تلك المرأة لم تكن سوى ستار واه من دخان... هي لم تكن تنوي إنقاذك ولم تحبك قط..

. كل ما فعلته كان لاستغلالك واستخدمتك كحطب في معركتها الصغيرة.
كان أنس كمن لم يسمع شيئا وأخذ يهز رأسه نافيا كأن عقله يحاول تفنيد الواقع ذاته... يدافع عنها باستماتة مغيب أعماه الحب
لا... لا ربما كان هاتفها مراقبا... نعم هذا ممكن! دينا لن تفعل بي ذلك.
تبادل الرجال نظرات محتقرة كأنما أمامهم طفل في جسد رجل ينكر الغرق رغم أن الموج ابتلع صوته.
أحدهم تنهد وقال هامسا لزميله
كارم لم يرد بنا أن نؤذيه... فقط أراد أن يرى هذا المغفل بنفسه اللحظة التي تنهار فيها أسطورته عن دينا.
لم يكن أنس قد رأى الحقيقة بعد لا بكامل وجهها القبيح لكن رجال كارم شعروا أن الشك بدأ يتسلل إليه كالسم في الأوردة وذلك كان كافيا في الوقت الراهن.
انطلقت السيارة مخترقة عتمة الليل كرصاصة بلا ضجيج وفي الخلف جلس أنس في صمت لا يرى شيئا من الطريق لكن داخل رأسه كانت مئات الصور تتساقط وتنكسر.
أما فرقة الشرطة التي هرعت لاصطياده فعادت كما ذهبت بأيد فارغة
وأوهام مثقوبة.
في الجهة الأخرى جلست دينا وحيدة عيناها تلهثان بين شاشة الهاتف وسقف الغرفة إذ ظنت أن النهاية قد كتبت وستقبض عليه الشرطة وستغلق تلك الصفحة البالية من حياتها لكن أنس فر من الشرك كظل لا يمسك وذلك بفضل كارم ورجاله.
بدأ القلق ينهش عقلها فلم تعد قادرة على قراءة المشهد القادم وصار سؤالها الوحيد
ما الذي يتوجب علي فعله الآن
أما عن سيرين فقد عادت إلى قصر آل نصران مكرهة كما يعاد الأسير إلى سجن لم ينفك يخنقه في أحلامه.
رمقت المكان حولها بأعين حزينة إذ بدت الحديقة باهتة والزوايا التي كانت تثير فيها شعورا بالمهابة أصبحت ثقيلة كأجنحة طائر مكسور وما إن دخلت إلى جناحها حتى دوى رنين الهاتف كأنه يمزق هذا الصمت المصنوع من الرضا المزيف.
رفعت سيرين الهاتف وإذا بصوت صغير ينساب إلى أذنيها... صوت يحمل كل معان البراءة وكل الغصة في آن معا.
أمي... كيف حالك مؤخرا
كان صوت زكريا متوهجا بقلق لا يليق بطفل.
شعرت سيرين بارتعاشة
في صدرها لكنها تماسكت تجيبه
أنا بخير يا صغيري لا تقلق. وأنت كيف حال المدرسة هل كنت فتى شقيا وأرهقت كوثر
رد زكريا بجدية أكبر من سنه كأن الأيام انتزعت منه براءته باكرا
أمي لم أعد طفلا في الثالثة من عمري...
في الجهة الأخرى من المكالمة كان زكريا يحدق في فوضى المنزل بأوراق كوثر المبعثرة وبالعبء الذي بدا أنه بات يحمله بصمت.
نظر زكريا إلى كوثر التي كانت تتظاهر بالتركيز على كتاب قانوني ومن ثم تنهد داخله... فقط لو تعلم سيرين أنه هو من يعتني بكوثر وليس العكس... وفيما كانت هذه الفكرة تعبر ذهنه رأى كوثر تبتسم له ابتسامة غبية وهي تلوح له بكتاب صغير.
هز رأسه ببرود... أوزة حمقاء فكر لكنه لم يقل شيئا.
بعد لحظات من حديث الأم والابن طلبت سيرين أن تتحدث إلى كوثر فناولها زكريا الهاتف على مضض وهو يهمس باستياء طفولي
كوثر أمي تريدك.
هتفت كوثر بحماس فارغ
طبعا! سيرين! لا تقلقي بشأن زاك إنه بخير... أقول لك لقد صار نجم الروضة وكل
الأطفال يطيعونه كأنه قائد
 

كتيبة صغيرة!
ثم انطلقت تحكي بإسهاب عن مغامرات زكريا في الأيام الماضية.
كانت سيرين تصغي لكن كلمات كوثر عبرت خلالها كما تعبر الريح في بيت بلا نوافذ... لم تقل شيئا فقط شعرت بوخزة خفيفة من الذنب.
كيف لها أن ترى أبناءها يكبرون من خلف زجاج الوقت فكل لحظة تقضيها بعيدة عنهم كانت طعنة ناعمة في قلبها الأمومي.
استمر الحديث وانساب الوقت مثل نهر يهمس بين ضفتي غياب.
أما كوثر بعفويتها التي لا تعرف الكتمان خططت لرحلة تنزهية بعد انتهاء الدعوى القضائية... حيث قالت كوثر بمرح
انتهى كل شيء... بعد المحكمة سنهرب مع الأولاد إلى البحر... صفاء بحر وحرية ما رأيك
سيرين لم تكن واثقة إن كانت النهاية قريبة كما تتخيل كوثر لكنها ابتسمت رغما عنها وقالت
موافقة.
وقبل أن ينهيا المكالمة
عاد زكريا إلى الخط صوته صغير ومرهف كصدى قلب طري
لا تنسي الحليب وتذكري تأخذي الفيتامينات وممنوع السهر يا ماما...
عندها فقط شعرت سيرين بأن هناك حبا في هذا العالم لا يطالبها بشيء... فقط يحبها كما هي وسمحت لدمعة دافئة أن تنزلق بهدوء وتسكن خدها بلا خجل.
غادر ظافر القصر عصرا بصمته المعتاد وظهره المستقيم دون أن يترك وراءه وعدا بعودة ولا حتى لمحة عين تخبر سيرين متى سيعود.
أما هي فقد شعرت أن اليوم ليس صالحا للجدل أو الحسابات فآثرت أن تهرب إلى شيء يشبه السكينة... إلى الحديقة.
كانت الحديقة ذات يوم مملكة صغيرة لسيرين فقد زرعت فيها زهورا ملونة كطفرة أمل حاولت أن تنبتها وسط هذا القصر البارد لكن ظافر الذي لطالما آمن بالصرامة حتى في الألوان لم يعجبه الزخم الزاهي وبلسان
خال من المشاعر أمر فور أن أزهرت بتحويلها إلى مساحة خالية تكتفي بالخضرة الصامتة وهكذا تحولت الحديقة إلى مرآة لروحه... أنيقة لكنها عقيمة لا حياة فيها ولا عطر.
سارت سيرين بخطى بطيئة وكأنها تبحث عن شظايا ذاكرة سقطت منها ذات وجع وفجأة توقف قلبها لوهلة حين لمحت في إحدى الزوايا باقة خجولة من زهور الأقحوان البرية شقت طريقها رغم القسوة كأنها ابتسامة ولدت في جنازة.
وقفت أمامها صامتة كمن يرى معجزة صغيرة لا يجوز لمسها.
وفي ذات اللحظة كان ظافر قد عاد وأخذ يتجول في أروقة القصر باحثا عنها ولم يجدها في غرفة المعيشة ولا في أي من الردهات الفارغة.. فخرج مسرعا ينوي أن يتتبع أي أثر لها بعد أن كاد نابضه يتوقف عن الهدر وهناك رآها... كانت واقفة لا تتحرك فقط تحدق في زهور الأقحوان
كأنها تخاف أن تختفي إن رمشت.
مشهدها هذا أعاده بسنوات إلى الوراء...
إلى تلك الليلة التي كانت فيها سيرين تركض في الحديقة يداها ملوثتان بالطين ووجهها يلمع بالحماس تقول له
أنظر! زرعت بنفسجا وزنبقا وياسمين... أليست جميلة
حينها لم ينطق سوى بجملة واحدة باردة كصفعة ماء في ليلة شتوية
أعيدي الحديقة إلى حالتها الأولى.
ولما أتى الليل نزعت الزهور بيديها الزهور واحدة تلو الأخرى بينما الدموع كانت تنزل دون صوت تذوب في الطين.
لم يرد أن يوقظ ذلك الحزن مرة أخرى فعاد إلى الداخل دون أن ينطق بكلمة واتصل بحسن كبير الخدم في قصر آل نصران وجاء صوته هادئ لكنه يحمل شيئا يشبه الندم
حسن... أحضر بعض البستانيين الليلة ليزرعوا زهورا في الحديقة... زهورا كثيرة... ليكن المكان ساحة مليئة
بالألوان والأزهار.
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1