رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والثالث و السبعون
أعيدي الحديقة إلى حالتها الأولى.
ولما أتى الليل نزعت الزهور بيديها الزهور واحدة تلو الأخرى بينما الدموع كانت تنزل دون صوت تذوب في الطين.
لم يرد أن يوقظ ذلك الحزن مرة أخرى فعاد إلى الداخل دون أن ينطق بكلمة واتصل بحسن كبير الخدم في قصر آل نصران وجاء صوته هادئ لكنه يحمل شيئا يشبه الندم
حسن... أحضر بعض البستانيين الليلة ليزرعوا زهورا في الحديقة... زهورا كثيرة... ليكن المكان ساحة مليئة
بالألوان والأزهار.
لم يكن ظافر يعلم على وجه الدقة لماذا أصدر ذلك الأمر فجأة.
هل أراد أن يبهج سيرين بعد الحادث
أم أن أصابع الندم التي أيقظها مشهدها بين الزهور قد بدأت تعبث بأوتار قلبه
ربما كانت محاولة بائسة لغسل ماض لطالما آلمها أو لعله مناورة غير مباشرة لإقناعها بسحب دعواها القضائية.
كل ما يعرفه أنه حين رآها تحدق في الأقحوان البري بعينين مليئتين بذكريات مقموعة شعر بشيء يتحرك بداخله... شيء لم يكن يعرف أنه لا يزال على قيد الحياة.
على الطرف الآخر كان كبير الخدم مذهولا من الطلب فخرج صوته مرتبكا عبر الهاتف
هل الأمر عاجل يا سيدي ما نوع الزهور التي ترغب بها هل ننتظر ضيوفا مهمين
وقف ظافر عند النافذة يراقب ظل سيرين المتكئ على سكون الحديقة كأنها قطعة من شوق تجسد على هيئة امرأة.
قال بصوت منخفض لكنه مشحون
بعاطفة لا يجيد الإفصاح عنها
ازرعوا كل ما تجدونه كلما زاد كان أفضل.
صمت الخادم لبرهة غير واثق إن كان ظافر يعني ما يقول فعلا... كلما زاد
... ما المقصود بذلك... هل يريد أن تزهر الحديقة كما تزهر القصائد على ورق الغائبين... لكنه وبحكم سنوات طويلة من خدمة هذا الرجل الغامض علم أن في صمته دائما معنى عميقا لا يحتمل السؤال.
رد أخيرا بانحناءة صوتية خافتة
مفهوم سيدي.
اتصل كبير الخدم بجميع موردي الزهور في المدينة وطلب كل ما هو متاح زنابق الماء أقحوان بري أزهار الكرز الموسمية وأي لون ينتمي للربيع حتى لو كانت الليلة تنتمي للخريف.
في وقت متأخر من الليل بدأت الشاحنات تصل تباعا إلى البوابة الرئيسية للقصر.
كان الليل نفسه يفتح عينيه بدهشة يرى عشرات العمال وهم يفرغون صناديق مملوءة بالعطر واللون كأن حديقة
آل نصران التي جردت من روحها ذات زمن تستعد لتولد من جديد.
أما سيرين فكانت قد خلدت إلى النوم لا تعلم أن الزهور تنبت خارج نوافذها بأمر لم يكن منها بل من قلب كان يظنه الجميع قد تحجر.
وفي صباح لم يشبه أي صباح مضى استيقظت سيرين على ضوء خافت يتسلل من شرفتها لكنه لم يكن كأي ضوء اعتادته من قبل فشيء ما في الأفق بدا مختلفا كأن العالم قد قرر فجأة أن يصالحها.
سحبت الستائر ببطء وفي اللحظة التي فتحت فيها النافذة كاد قلبها أن يتوقف.
بحر من الزهور... زحف من الألوان والعطر امتد أمام ناظريها كحلم لم تطلبه لكنها اشتاقت له... ولو لم تكن الغرفة حولها كما تركتها ليلا لظنت أنها انتقلت إلى عالم مواز أثناء نومها أو أن ملاكا مر في المساء ونفخ في أرض الحديقة حياة جديدة.
اندفعت سيرين من باب غرفتها شعرها مسدول على
كتفيها وقدماها الحافيتان تلامسان الأرض وكأنها تمشي على سحابة... هبطت الدرج بخفة تبحث عن ظافر لكن القصر كان فارغا من حضوره.
خرجت إلى الحديقة وبمجرد أن وضعت قدمها على العشب استقبلتها باقة من الزهور كأنها فرقة موسيقية تستعد للعزف في حفل ميلاد قلبها.
يا الله!! الحديقة التي كانت بالأمس صامتة كقبر أصبحت اليوم تعج بالحياة... زهور نادرة وأخرى برية بعضها تعرف اسمها وأخرى تجهله لكنها شعرت بها تتحدث معها بلغتها الخاصة.
على الجهة الأخرى عندما استيقظ ظافر باكرا ليذهب إلى مكتبه بالمجموعة مستقلا سيارته الرياضية وجلس كالعادة بالمقعد الخلفي يراقب انعكاس الأشجار من نافذة سيارته بينما العطاس يقطع سكونه.
كان متجهما مشوش الفكر وكل دقيقة يمضيها في الهواء المفتوح بدت كأنها اختبار لقوته... إذ لم يكن يتوقع أن
يتحول أمره العابر إلى زحف
زهري يجتاح كل زاوية في القصر.
لا يعرف أي حماقة ارتكبها فهو يعاني من حساسية مزمنة تجاه حبوب اللقاح لكنها عادة ما تكون تحت السيطرة... إلا أن ما جرى الليلة الماضية تخطى قدرته على التحمل.
رمقه السائق من المرآة وقال بقلق واضح
سيدي هل ترغب في أن نمر على المستشفى
حتى السائق نفسه حينما جاء ليقله صباحا تجمدت عيناه لبرهة أمام القصر...
لم يكن ذلك بيتا بعد الآن بل كان قطعة من حكاية أليس في بلاد العجائب وفي سره قرر أن يعود في عطلة الأسبوع ليري زوجته هذا السحر دون أن يخبر أحدا.
أما ظافر فاكتفى بأن يخرج هاتفه ويتصل بكبير الخدم فبدا صوته أكثر حدة من المعتاد
استبدل الزهور التي زرعت البارحة.
جاءه الصوت المتردد من الجهة الأخرى
هل تريد إزالتها كلها يا سيدي
كان الخادم يعرف ظافر منذ أن كان طفلا صغيرا وكان يعرف عن تلك الحساسية الغريبة التي ورثها منذ صغره حتى
أنه ظن أن ما جرى كان لعرض مؤقت أو مجاملة ثقيلة لوفد ما.
لكن ظافر بنبرة أقل حدة وأكثر وعيا قال
لا تقتلعها كلها فقط بدل تلك التي تطلق كميات كبيرة من اللقاح بشيء أقل.
صمت على الطرف الآخر للحظة ثم أجاب الخادم
كما تأمر سيدي.
وعلى هذا أغلقت المكالمة وظل ظافر ينظر من النافذة بصمت بينما الزهور التي خانته على غير قصد لا تزال تملأ ذاكرته وتملأ حياة امرأة لم يعد يعرف من هي.
بينما كان كبير الخدم في مأزق لا يحسد عليه فالحديقة التي تمتد كواحة خضراء لم تكن أرضا تروى في ليلة ولكن حدثت المعجزة وما زالت أنفاس فريق البستانيين لاهثة من الليلة الماضية وكفوفهم مثقلة برائحة الطين والبتلات الممزقة والآن سيطلب منهم أن يستبدلوا الزهور مجددا لا لشيء سوى أن حبوب اللقاح أعلنت الحرب على صاحب القصر نفسه ورغم مشقة الأمر قد وافق حسن كبير الخدم بطاعة لكن داخله لم يكن مطمئنا فالمهمة
هذه المرة أشبه بمحاولة طلاء البحر قد قرر أن يشرف بنفسه على استبدال الزهور كمن يكتب اعترافا طويلا باليد في زمن البريد الإلكتروني.
في هذا الوقت كانت سيرين قد عادت لتجوب الحديقة كما لو أنها تقرأ رسالة مكتوبة على الأرض بالألوان لكنها لم تفهم ما الذي دفع ظافر إلى هذا الجنون الزهري... الرجل الذي لطالما رأى الزهور كائنات بلا نفع تستهلك وتذبل سريعا وها هو قد غير جلده الليلة الماضية لكن لماذا
في كل الأحوال الدهشة لم تمنعها من إخراج هاتفها والتقاط الصور واحدة تلو الأخرى وكأنها توثق حلما خائفا أن يستفيق.
أرسلت سيرين الصور إلى كوثر التي كانت في خضم عملها تقلب أوراق المحكمة بنصف وعي وما إن لمحت الصور حتى شهقت كأنها رأت قصر سندريلا وقد انفجر بالعطر.
ساسو هل هربت في نزهة سرية سألتها وهي تضحك.
لا ما ترينه هو قصر ظافر نفسه أجابت سيرين بصوت نصف حي. لسبب لا أعلمه
قد قرر زراعة هذه الزهور ليلة الأمس.
ساد صمت لحظي ثم قالت كوثر بنبرة خبيرة
هل تظنين أنه فعلها لإرضاء دينا
هنا ارتجفت تلك الفكرة الكريهة في أعماق سيرين.
ظافر وزهور
الرجل الذي أجبرها ذات مرة على اقتلاع الأقحوان لأنها تفسد التناسق هل يمكن أن يكون ذلك حقا لأجلها
أم أن دينا هي السر كما خمنت كوثر
استحضرت سيرين حوارهما البارحة حين طلب منها أن تتراجع عن الدعوى القضائية فرفضت.
هل تراه الآن يحاول إصلاح ما تحطم من صورة دينا عبر هذه المسرحية النباتية
فكرت قليلا
ثم أجابت بتنهيدة شبه ساخرة
لم لا ربما يحاول إرضاءها بطريقته بعدما أفسدت عليها مخططاتها.
وكوثر كعادتها لم تجمل الكلمات
يا له من أحمق!
ابتسمت سيرين ابتسامة باهتة كأنها تواسي نفسها أكثر مما تواسي صديقتها وقالت بنبرة فيها قدر من العزم
وفي قلبها كانت تسعى لاسترداد نوح الذي قد يسلبه الموت منها ستسترده
بصمت بإصرار وبزهر ينبت من الرماد.